باب الإِخلاصِ وإحضار النيَّة


في جميع الأعمال والأقوال والأحوال البارزة والخفيَّة


قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَمَاۤ أُمِرُوۤا۟ إِلَّا لِیَعۡبُدُوا۟ ٱللَّهَ مُخۡلِصِینَ لَهُ ٱلدِّینَ حُنَفَاۤءَ وَیُقِیمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَیُؤۡتُوا۟ ٱلزَّكَوٰةَۚ وَذَ ٰ⁠لِكَ دِینُ ٱلۡقَیِّمَةِ﴾[البينة: 5]، وَقالَ تَعَالَى: ﴿لَن یَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاۤؤُهَا وَلَـٰكِن یَنَالُهُ ٱلتَّقۡوَىٰ مِنكُمۡۚ﴾[الحج: 37]، وَقالَ تَعَالَى: ﴿قُلۡ إِن تُخۡفُوا۟ مَا فِی صُدُورِكُمۡ أَوۡ تُبۡدُوهُ یَعۡلَمۡهُ ٱللَّهُۗ﴾[آل عمران: 29]
١- وعَنْ أَميرِ الْمُؤْمِنِينَ أبي حفْصٍ عُمرَ بنِ الْخَطَّابِ بْن نُفَيْل بْنِ عَبْد الْعُزَّى بن رياح بْن عبدِ اللَّهِ بْن قُرْطِ بْنِ رزاح بْنِ عَدِيِّ بْن كَعْبِ بْن لُؤَيِّ بن غالبٍ القُرَشِيِّ العدويِّ ﵁، قال: سمعْتُ رسُولَ الله ﷺ يقُولُ: «إنَّما الأَعمالُ بالنِّيَّات، وإِنَّمَا لِكُلِّ امرئٍ مَا نَوَى، فمنْ كانَتْ هجْرَتُهُ إِلَى الله ورَسُولِهِ فهجرتُه إلى الله ورسُولِهِ، ومنْ كاَنْت هجْرَتُه لدُنْيَا يُصيبُها، أَو امرَأَةٍ يَنْكحُها فهْجْرَتُهُ إلى ما هَاجَر إليْهِ» متَّفَقٌ على صحَّتِه، رَوَاهُ ‌إمَامَا ‌الْمُحَدّثِينَ، أبُو عَبْدِ الله مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعيلَ بْن إبراهِيمَ بْن المُغيرَةِ بنِ بَرْدِزْبهْ الجُعْفِيُّ البُخَارِيُّ، وَأَبُو الحُسَيْنِ مُسْلمُ بْنُ الحَجَّاجِ بْنِ مُسْلمٍ الْقُشَيريُّ النَّيْسَابُورِيُّ رضي اللهُ عنهما فِي صحيحيهما اللَّذَيْنِ هما أَصَحُّ الكُتبِ المصنفةِ
فوائد الحديث:
قال ابن عثيمين ﵀:
- ما من عامل إلا وله نية، ولكن النيات تختلف اختلافاً عظيماً، وتتباين تباينًا بعيداً كما بين السماء والأرض.
- إنك لترى الرجلين يعملان عملاً واحداً يتفقان في ابتدائه وانتهائه وفي أثنائه، وفي الحركات والسكنات، والأقوال والأفعال، وبينهما كما بين السماء والأرض، وكل ذلك باختلاف النية.
- قال الله تعالى: ﴿مَّن كَانَ یُرِیدُ ٱلۡعَاجِلَةَ عَجَّلۡنَا لَهُۥ فِیهَا مَا نَشَاۤءُ لِمَن نُّرِیدُ﴾[الاسراء: الآية١٨] ما قال: عجلنا له ما يريد؛ بل قال:﴿عَجَّلۡنَا لَهُۥ فِیهَا مَا نَشَاۤءُ،﴾ لا ما يشاء هو؛﴿لِمَن نُّرِیدُ﴾لا لكل إنسان، فقيد المعجل والمعجل له؛ فمن الناس: من يعطي ما يريد من الدنيا ومنهم: من يعطي شيئاً منه، ومنهم: من لا يعطي شيئاً أبدا.
- قال أهل العلم: "هذان الحديثان يجمعان الدين كله، حديث عمر ﵁: (إنما الأعمال بالنيات) ميزان للباطن، وحديث عائشة ﵂: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا) ميزان للظاهر".
- الهجرة تكون للعمل، وتكون للعامل، وتكون للمكان.
- ذكر أهل العلم إنه يجب على الإنسان أن يهاجر من بلد الكفر إلى بلد الإسلام إذا كان غير قادر على إظهار دينه، وأما إذا كان قادراً على إظهار دينه، ولا يعارض إذا أقام شعائر الإسلام؛ فإن الهجرة لا تجب عليه، ولكنها تستحب.
- صاحب المعصية التي دون الكفر إذا لم يكن في هجره مصلحة فإنه لا يحل هجره؛ لأن النبي ﷺ قال: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال...).
قال ابن باز ﵀:
- الواجب اتباع الشريعة التي شرعها الله، وأما ما أحدثه الناس لا؛ ولهذا يقول ﷺ: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)؛ يعني: فهو مردود.
- مدار الأعمال الصالحة على هذه النية، فالإنسان يخرج من بيته إلى المسجد للصلاة، فيؤجر، والآخر يخرج من بيته للفساد فيأثم على حسب النية، وهذا يصلي يرائي فيأثم، وهذا يصلي الله فيؤجر، هذا يقرأ يراني فيأثم، وهذا يقرأ يرجو ثواب الله فيثاب هذا يعظ الناس للرياء فيأثم، وهذا يعظ الناس لقصد وجه الله فيؤجر، وهكذا.

٢ -عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أُمِّ عَبْدِ اللَّهِ عَائشَةَ ﵂ قالت: قال رسول الله ﷺ: «يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ فَإِذَا كَانُوا ببيْداءَ مِنَ الأَرْضِ يُخْسَفُ بأَوَّلِهِم وَآخِرِهِمْ». قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يُخْسَفُ بَأَوَّلِهِم وَآخِرِهِمْ وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ وَمَنْ لَيْسَ مِنهُمْ، قَالَ: «يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِم وَآخِرِهِمْ، ثُمَّ يُبْعَثُون عَلَى نِيَّاتِهِمْ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ: هذا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ.
فوائد الحديث:
قال ابن عثيمين ﵀:
- من شارك أهل الباطل وأهل البغي والعدوان، فإنه يكون معهم في العقوبة؛ الصالح والطالح، العقوبة إذا وقعت تعم الصالح والطالح، والبر والفاجر، والمؤمن والكافر، والمصلي والمستكبر، ولا تترك أحداً، ثم يوم القيامة يبعثون على نياتهم.
قال ابن باز ﵀:
- عند ظهور المعاصي وانتشار المعاصي قد تعم العقوبات فيبعثون على نياتهم وأحوالهم، أهل المعاصي على نياتهم، وأهل الخير على نياتهم، كما في الحديث الصحيح يقول النبي ﷺ: (إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه) في الحديث الآخر: (إن المعصية إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، وإذا ظهرت فلم تنكر، ضرت العامة).

٣ - وعَنْ عَائِشَة ﵂ قَالَت قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلكنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفرِتُمْ فانْفِرُوا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَمَعناهُ: لا هِجْرَةَ مِنْ مَكّةَ ‌لأَنَّهَا ‌صَارَتْ ‌دَارَ إسلَامٍ.
فوائد الحديث:
قال ابن عثيمين ﵀:
- في هذا دليل على أن مكة لن تعود بلاد كفر، بل ستبقى بلاد إسلام إلى أن تقوم الساعة، أو إلى أن يشاء الله.
- إذا حضر بلدة العدو، أي جاء العدو حتى وصل إلى البلد وحصر البلد، صار الجهاد فرض عين، ووجب على كل أحد أن يقاتل، حتى على النساء والشيوخ القادرين في هذه الحال، لأن هذا قتال دفاع. وفرق بين قتال الدفاع وقتال الطلب. فيجب في هذا الحال أن ينفر الناس كلهم للدفاع عن بلدهم.
قال ابن باز ﵀:
- النية الصالحة باقية في أي مكان، في البر، أو في البحر، أو في قرية، أو في مدينة، النية مع صاحبها طيبة أو خبيثة، هذا شأنها.

٤ - عَنْ أبي عَبْدِ اللَّهِ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيِّ ﵄ قَالَ: كُنَّا مَع النَّبِيِّ ﷺ في غَزَاة فَقَالَ: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالاً مَا سِرْتُمْ مَسِيراً، وَلاَ قَطَعْتُمْ وَادِياً إِلاَّ كانُوا مَعكُم حَبَسَهُمُ الْمَرَضُ» وَفِي روايَةِ: «إِلاَّ شَركُوكُمْ في الأَجْرِ» رَواهُ مُسْلِمٌ.
ورواهُ البُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ ﵁ قَالَ: رَجَعْنَا مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: «إِنَّ أَقْوَامَاً خلْفَنَا بالمدِينةِ مَا سَلَكْنَا شِعْباً وَلاَ وَادِياً إِلاَّ وَهُمْ مَعَنَا، حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ».
فوائد الحديث:
قال ابن عثيمين ﵀:
- الإنسان إذا نوى العمل الصالح، ولكنه حبسه عنه حابس فإنه يكتب له أجر ما نوى، أما إذا كان يعمله في حال عدم العذر؛ أي: لما كان قادراً كان يعمله، ثم عجز عنه فيما بعد؛ فإنه يكتب له أجر العمل كاملاً؛ لأن النبي ﷺ قال: (إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا).
- في هذا الحديث: إشارة إلى من يخرج في سبيل الله، في الغزو، والجهاد في سبيل الله، فإن له أجر ممشاه، ولهذا قال النبي ﷺ: (ما سرتم مسيرًا ولا قطعتم واديًا ولا شعبًا إلا وهم معكم)، ويدل لهذا قوله تعالى: ﴿ذَ ٰ⁠لِكَ بِأَنَّهُمۡ لَا یُصِیبُهُمۡ ظَمَأࣱ وَلَا نَصَبࣱ وَلَا مَخۡمَصَةࣱ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَلَا یَطَـُٔونَ مَوۡطِئࣰا یَغِیظُ ٱلۡكُفَّارَ وَلَا یَنَالُونَ مِنۡ عَدُوࣲّ نَّیۡلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِۦ عَمَلࣱ صَـٰلِحٌۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُضِیعُ أَجۡرَ ٱلۡمُحۡسِنِینَ وَلَا یُنفِقُونَ نَفَقَةࣰ صَغِیرَةࣰ وَلَا كَبِیرَةࣰ وَلَا یَقۡطَعُونَ وَادِیًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمۡ لِیَجۡزِیَهُمُ ٱللَّهُ أَحۡسَنَ مَا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ﴾[التوبة: ١٢٠/١٢١] .
قال ابن باز ﵀:
- من رحمة الله ومن فضله جلا وعلا وإحسانه أن الأعمال بالنيات إذا منع المانع.

٥ -عَنْ أبي يَزِيدَ مَعْنِ بْن يَزِيدَ بْنِ الأَخْنسِ ﵃، وَهُوَ وَأَبُوهُ وَجَدّهُ صَحَابِيُّونَ، قَال: كَانَ أبي يَزِيدُ أَخْرَجَ دَنَانِيرَ يَتصَدَّقُ بِهَا فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَجُلٍ في الْمَسْجِدِ فَجِئْتُ فَأَخَذْتُهَا فَأَتيْتُهُ بِهَا. فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا إِيَّاكَ أَرَدْتُ، فَخَاصمْتُهُ إِلَى رسول اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: «لَكَ مَا نويْتَ يَا يَزِيدُ، وَلَكَ مَا أَخذْتَ يَا مَعْنُ» رواه البخاريُّ.
فوائد الحديث:
قال ابن عثيمين ﵀:
- قوله ﷺ: (لك يا يزيد ما نويت) يدل على أن الأعمال بالنيات، وأن الإنسان إذا نوى الخير حصل له، وإن كان يزيد لم ينو أن يأخذ هذه الدراهم ابنه، لكنه أخذها؛ وابنه من المستحقين فصارت له، ولهذا قال النبي ﷺ: (لك يا معن ما أخذت).
- يجوز للإنسان أن يتصدق على ابنه، والدليل على هذا أن النبي ﷺ أمر بالصدقة وحث عليها، فأرادت زينب - زوجة عبد الله بن مسعود ﵂ أن تتصدق بشيء من مالها، فقال لها زوجها أنا وولدك أحق من تصدقت عليه - لأنه كان فقيراً- ﵁ فقالت: لا حتى أسأل النبي ﷺ فقال: (صدق ابن مسعود زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم).
- يجوز أن يعطي الإنسان ولده من الزكاة، بشرط ألا يكون في ذلك إسقاط لواجب عليه.

٦- عَنْ أبي إِسْحَاقَ سعْدِ بْنِ أبي وَقَّاصٍ مَالك بن أُهَيْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهرةَ بْنِ كِلابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كعْبِ بنِ لُؤىٍّ الْقُرشِيِّ الزُّهَرِيِّ ﵁، أَحدِ الْعَشرة الْمَشْهودِ لَهمْ بِالْجَنَّة ﵃ قال: «جَاءَنِي رسولُ الله ﷺ يَعُودُنِي عَامَ حَجَّة الْوَداعِ مِنْ وَجعٍ اشْتدَّ بِي فَقُلْتُ: يا رسُول اللَّهِ إِنِّي قَدْ بلغَ بِي مِن الْوجعِ مَا تَرى، وَأَنَا ذُو مَالٍ وَلاَ يَرثُنِي إِلاَّ ابْنةٌ لِي، أَفأَتصَدَّق بثُلُثَىْ مالِي؟ قَالَ: لا، قُلْتُ: فالشَّطُر يَا رسوُلَ الله؟ فقالَ: لا، قُلْتُ فالثُّلُثُ يا رسول اللَّه؟ قال: الثُّلثُ والثُّلُثُ كثِيرٌ أَوْ كَبِيرٌ إِنَّكَ إِنْ تَذرَ وَرثتك أغنِياءَ خَيْرٌ مِن أَنْ تذرهُمْ عالَةً يَتكفَّفُونَ النَّاس، وَإِنَّكَ لَنْ تُنفِق نَفَقةً تبْتغِي بِهَا وجْهَ الله إِلاَّ أُجرْتَ عَلَيْهَا حَتَّى ما تَجْعلُ في امْرَأَتكَ قَال: فَقلْت: يَا رَسُولَ الله أُخَلَّفَ بَعْدَ أَصْحَابِي؟ قَال: إِنَّك لن تُخَلَّفَ فتعْمَل عَمَلاً تَبْتغِي بِهِ وَجْهَ الله إلاَّ ازْددْتَ بِهِ دَرجةً ورِفعةً ولعَلَّك أَنْ تُخلَّف حَتَى ينْتفعَ بكَ أَقَوامٌ وَيُضَرَّ بك آخرُونَ. اللَّهُمَّ أَمْضِ لأِصْحابي هجْرتَهُم، وَلاَ ترُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهم، لَكن الْبائسُ سعْدُ بْنُ خـوْلَةَ يرْثى لَهُ رسولُ الله ﷺ أَن مَاتَ بمكَّةَ» متفقٌ عليه.
فوائد الحديث:
قال ابن عثيمين ﵀:
- الميت إذا خلف مالاً للورثة فإن ذلك خير له. لا يظن الإنسان أنه إذا خلف المال، وورث منه قهراً عليه، أنه لا أجر له في ذلك! لا بل له أجر، حتى إن الرسول ﷺ قال: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة...) لأنك إذا تركت المال للورثة انتفعوا به، وهم أقارب، وإن تصدقت به انتفع به الأباعد.
- الصدقة على القريب أفضل من البعيد، لأن الصدقة على القريب صدقة وصلة.
- من هدي الرسول ﷺ عيادة المرضى، لأنه عاد سعد بن أبي وقاص ﵁، وفي عيادة المرضى فوائد للعائد وفوائد للمعود:
١- أما العائد فإنه يؤدي حق أخيه المسلم؛ لأن من حق أخيك المسلم أن تعوده إذا مرض.
٢- أما المعود: فإن له فيها فائدة أيضاً، لأنها تؤنسه، وتشرح صدره، ويزول عنه ما فيه من الهم والغم والمرض. وربما يكون العائد موفقاً يذكره بالخير والتوبة والوصية؛ إذا كان يريد أن يوصي بشيء عليه من الديون وغيرها، فيكون في ذلك فائدة كبيرة للمعود.
- إذا رأيت أن المريض يحب أن تطيل المقام عنده، فأطل المقام؛ فأنت على خير وعلى أجر، وأدخل عليه السرور، ربما يكون في دخول السرور على قلبه سبباً لشفائه؛ لأن سرور المريض وانشراح صدره من أكبر أسباب الشفاء، فإذا رأيت أنه يحبك تبقى فابق عنده، وأطل الجلوس عنده حتى تعرف أنه قد مل، أما إذا رأيت أن المريض متكلف ولا يحب أنك تبقى، أو يحب أن تذهب عنه حتى يحضر أهله ويأنس بهم فلا تتأخر، اسأل عن حاله ثم انصرف.
- ينبغي للمستشير أن يذكر الأمر على ما هو عليه حقيقة، وأسبابه، وموانعه وجميع ما يتعلق به، حتى يتبين للمستشار حقيقة الأمر، ويبني مشورته على هذه الحقيقة.
- في قول الرسول ﷺ (لا) دليل على أنه لا حرج أن يستعمل الإنسان كلمة (لا) وليس فيها شيء.
- لا يجوز للإنسان إذا كان مريضاً مرضاً يخشى منه الموت أن يتبرع بأكثر من الثلث من ماله، لا صدقة، ولا مشاركة في بناء مساجد، ولا هبة، ولا غير ذلك. لا يزيد على الثلث لأن النبي ﷺ منع سعد بن أبي وقاص ﵁ أن يتصدق بما زاد عن الثلث.
- إذا كان مال الإنسان قليلاً، وكان ورثته فقراء؛ فالأفضل أن لا يوصي بشيء، لا قليل، ولا كثير؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة) خلافاً لما يظنه بعض العوام أنه لابد من الوصية، فهذا خطأ، والإنسان الذي ماله قليل وورثته فقراء ليس عندهم مال، لا ينبغي له أن يوصي، الأفضل أن لا يوصي.
قال ابن باز ﵀:
- نفقة الإنسان في أولاده وفي أقاربه يؤجر عليها، ويثاب عليها صدقة، هكذا نفقته على زوجته يحتسبها نفقة صدقة، يؤجر عليها لأدائه الواجب الإنفاق على من تحت يده واجب، فإذا احتسب ذلك عند الله صار أجره عظيماً من زوجة وأولاد، وأب عاجز، وأم عاجزة، ونحو ذلك.
- المهاجر ينبغي له أن لا يبقى في محل هجرته، محل التي هاجر منها؛ ولهذا منع المهاجرون أن يرجعوا إلى مكة، بلد تركها الله لا يرجع إليها.

٧ - عَنْ أبي هُريْرة عَبْدِ الرَّحْمن بْنِ صخْرٍ ﵁ قال: قالَ رَسُولُ الله ﷺ: «إِنَّ الله لا يَنْظُرُ إِلى أَجْسامِكْم، وَلا إِلى صُوَرِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعمالِكُمْ» رواه مسلم.
فوائد الحديث:
قال ابن عثيمين ﵀:
- القلوب هي التي عليها المدار، كم من إنسان ظاهر عمله أنه صحيح وجيد وصالح، لكن لما بني على خراب صار خراباً، فالنية هي الأصل، تجد رجلين يصليان في صف واحد، مقتدين بإمام واحد، يكون بين صلاتيهما كما بين المشرق والمغرب؛ لأن القلب مختلف، أحدهما قلبه غافل، بل ربما يكون مرائيا في صلاته- والعياذ بالله - يريد بها الدنيا والآخر قلبه حاضر يريد بصلاته وجه الله واتباع سنة رسول الله ﷺ. فبينهما فرق عظيم، فالعمل على ما في القلب، وعلى ما في القلب يكون الجزاء يوم القيامة؛ كما قال الله تعالى:﴿إِنَّهُۥ عَلَىٰ رَجۡعِهِۦ لَقَادِرࣱ یَوۡمَ تُبۡلَى ٱلسَّرَاۤىِٕرُ﴾ [الطارق: ٨/٩] أي: تختبر السرائر لا الظواهر.
- إذا ألقى الشيطان في قلبك الشك فانظر في آيات الله، انظر إلى هذا الكون من يدبره انظر كيف تتغير الأحوال، كيف يداول الله الأيام بين الناس، حتى تعلم أن لهذا الكون مدبراً حكيمًا ﷿.
قال ابن باز ﵀:
- محل الاعتبار، ومحل النظر من الله ﷻ هو قلبك وعملك، فاحرص على أن يكون قلبك معموراً بحب الله، والإخلاص لله، خوف الله ورجائه والشوق إليه، واحرص على أن يكون عملك الله، خالصاً لله، صدقاتك صلاتك، صومك جهادك غير ذلك يكون الله، لا رياء ولا سمعة تصلي لله، تصوم لله، تتصدق لله، تجاهد لله، تنصح لله، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، تدعو إلى الله، كله لله، لم ترد رياء الناس ولا حمد الناس، تعمل تبتغي وجه الله.
- الواجب على المكلفين من الرجال والنساء من الجن والإنس العناية بالإخلاص لله في العمل والصدق في العمل، وتحري أسباب القبول من الخوف والرجاء، والمحبة والكسب الطيب، والحذر من المعاصي، كل هذه أسباب للقبول والمغفرة.

٨ - عَنْ أبي مُوسَى عبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ الأَشعرِيِّ ﵁ قالَ: سُئِلَ رسول الله ﷺ عَنِ الرَّجُلِ يُقاتِلُ شَجَاعَةً، ويُقاتِلُ حَمِيَّةً ويقاتِلُ رِياءً، أَيُّ ذلِك في سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ رسول الله ﷺ: «مَنْ قاتَلَ لِتَكُون كلِمةُ اللَّهِ هِي الْعُلْيَا فهُوَ في سَبِيلِ اللَّهِ» مُتَّفَقٌ عليه.
فوائد الحديث:
قال ابن عثيمين ﵀:
- عدل النبي ﷺ عن ذكر هذه الثلاثة؛ ليكون أعم وأشمل؛ لأن الرجل ربما يقاتل من أجل الاستيلاء على الأوطان والبلدان، يقاتل من أجل أن يحصل على امرأة بسبيها من هؤلاء القوم، والنيات لا حد لها، لكن هذا الميزان الذي ذكره النبي ﷺ ميزان تام وعدل.
قال ابن باز ﵀:
- من دعا الناس إلى الله وأمرهم بالمعروف أو نهاهم عن المنكر إن أراد رياء أو سمعة صار شركا، وإن أراد وجه الله والدار الاخرة صار فهو في جهاد عظيم، وهكذا الصدقة يخرجها إن أخرجها لله له أجره العظيم، وإن أخرجها رياء فعليه وزر ذلك، هذا يبين لنا عظم شأن النية وأن شأنها عظيم.

٩ - وعن أبي بَكْرَة نُفيْعِ بْنِ الْحارِثِ الثَّقفِي ﵁ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قال: «إِذَا الْتقَى الْمُسْلِمَانِ بسيْفيْهِمَا فالْقاتِلُ والمقْتُولُ في النَّارِ» قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ، هَذَا الْقَاتِلُ فمَا بَالُ الْمقْتُولِ؟ قَال: «إِنَّهُ كَانَ حَرِيصاً عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ» متفقٌ عليه.
فوائد الحديث:
قال ابن عثيمين ﵀:
- فيه دليل على أن الصحابة ﵃ كانوا يوردون على الرسول ﷺ الشبه فيجيب عنها.
- ليس في القرآن والسنة- ولله الحمد - شي مشتبه إلا وجد حله في الكتاب أو السنة؛ إما ابتداء، وإما جواباً عن سؤال يقع من الصحابة﵃ .
قال ابن باز ﵀:
- فينبغي للمؤمن بل يجب عليه أن يعنى بنيته وأن يجتهد دائما بأن تكون نية صالحة طيبة ترضي الله وتقرب إليه.
- أن المسلم إذا قتل أخاه بغير حق، فكل منهما متوعد بالنار إذا كان كل واحد حريصًا على قتل الآخر، فإن كان المقتول ليس له نية في قتل أخيه، فالإثم على القاتل فقط، وهذا في القتال الذي ليس له شبهة وليس له تأويل.

١٠-عَنْ أبي هُرَيْرَةَ ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «صَلاَةُ الرَّجُلِ في جماعةٍ تزيدُ عَلَى صَلاَتِهِ في سُوقِهِ وَبَيْتِهِ بضْعاً وعِشْرينَ دَرَجَةً، وذلِكَ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِد لا يُرِيدُ إِلاَّ الصَّلاَةَ، لا يَنْهَزُهُ إِلاَّ الصَّلاَةُ، لَمْ يَخطُ خُطوَةً إِلاَّ رُفِعَ لَهُ بِها دَرجةٌ، وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطيئَةٌ حتَّى يَدْخلَ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا دخل الْمَسْجِدَ كانَ في الصَّلاَةِ مَا كَانَتِ الصَّلاةُ هِيَ التي تحبِسُهُ، وَالْمَلائِكَةُ يُصَلُّونَ عَلَى أَحَدكُمْ ما دام في مَجْلِسهِ الَّذي صَلَّى فِيهِ، يقُولُونَ: اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ، مالَمْ يُؤْذِ فِيهِ، مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ» متفقٌ عليه، وهَذَا لَفْظُ مُسْلمٍ. وَقَوْلُهُ ﷺ: «ينْهَزُهُ» هُوَ بِفتحِ الْياءِ وَالْهاءِ وَبالزَّاي: أَي يُخْرِجُهُ ويُنْهِضُهُ.
فوائد الحديث:
قال ابن عثيمين ﵀:
- إذا صلى الإنسان في المسجد مع الجماعة كانت هذه الصلاة أفضل من الصلاة في بيته أو في سوقه سبعاً وعشرين مرة؛ لأن الصلاة مع الجماعة قيام بما أوجب الله من صلاة الجماعة.
- لو بقيت منتظراً للصلاة مدة طويلة، وأنت جالس لا تصلي، بعد أن صليت تحية المسجد، وما شاء الله فإنه يحسب لك أجر الصلاة.

١١-عَنْ أبي الْعَبَّاسِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلب ﵄، عَنْ رسول الله ﷺ، فِيما يَرْوى عَنْ ربِّهِ ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ : «إِنَّ الله كتَبَ الْحسناتِ والسَّيِّئاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذلك: فمَنْ همَّ بِحَسَنةٍ فَلمْ يعْمَلْهَا كتبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عِنْدَهُ حسنةً كامِلةً وَإِنْ همَّ بهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عَشْر حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمَائِةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كثيرةٍ، وَإِنْ هَمَّ بِسيِّئَةِ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كامِلَةً ، وَإِنْ هَمَّ بِها فعَمِلهَا كَتَبَهَا اللَّهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً» متفقٌ عليه.
فوائد الحديث:
قال ابن عثيمين ﵀:
- كتابته للحسنات والسيئات تشمل معنيين:
كتابة سابقة: لا يعلمها إلا الله ﷿ فكل واحد منا لا يعلم ماذا كتب الله له من خير أو شر حتى يقع ذلك الشيء.
كتابة لاحقة: إذا عمل الإنسان العمل كتب له حسب ما تقتضيه الحكمة، والعدل، والفضل.
- هذا التفاوت مبني على الإخلاص والمتابعة؛ فكلما كان الإنسان في عبادته أخلص لله كان أجره أكثر، وكلما كان الإنسان في عبادته أتبع للرسول ﷺ كانت عبادته أكمل، وثوابه أكثر، فالتفاوت هذا يكون بحسب الإخلاص لله والمتابعة لرسول الله ﷺ.
- فيه دليل على اعتبار النية؛ وأن النية قد توصل صاحبها الى خير.
- الإنسان إذا نوى الشر، وعمل العمل الذي يوصل إلى الشر، ولكنه عجز عنه؛ فإنه يكتب عليه إثم الفاعل؛ كما سبق فيمن التقيا بسيفهما من المسلمين: (إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار) قالوا: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: (لأنه كان حريصاً على قتل صاحبه).
قال ابن باز ﵀:
- كل شيء مكتوب، عنده ﷻ حسنات العباد وسيئاتهم، حسناتك يا عبد الله مكتوبة وسيئاتك كذلك، فإن هم العبد بالحسنة ولم يفعلها بأن غفل أو عرض عارض كتبها الله له حسنة، فإن هم بها وفعلها كتب الله له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، فأنت إذا هممت أن تذكر الله هممت أن تتصدق، هممت أن تعود مريضًا ثم شغلت، كتب الله لك حسنة بهذا الهم بهذه النية، وإن شغلت عن ذلك هممت أنك تأمر بالمعروف وتنهى عن منكر، هممت أنك تعين إنسانا في خير ثم شغلت عن ذلك، فالله يكتب لك بهذا الهم حسنة تكتب في ميزان حسناتك، فإن فعلت ذلك الشيء كتب الله لك عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة على حسب إخلاصك وصدقك وعملك الطيب، كما قال سبحانه:﴿مَن جَاۤءَ بِٱلۡحَسَنَةِ فَلَهُۥ عَشۡرُ أَمۡثَالِهَاۖ وَمَن جَاۤءَ بِٱلسَّیِّئَةِ فَلَا یُجۡزَىٰۤ إِلَّا مِثۡلَهَا وَهُمۡ لَا یُظۡلَمُونَ﴾ [الأنعام/ ١٦٠]
- الهم بالسيئة في الحرمين أشد وأشد، وفي مكة أشد وأشد، قال تعالى: ﴿وَمَن یُرِدۡ فِیهِ بِإِلۡحَادِۭ بِظُلۡمࣲ نُّذِقۡهُ مِنۡ عَذَابٍ أَلِیمࣲ﴾[الحج: ٢٥]، وفي رمضان كذلك أشد، وفي تسع ذي الحجة أشد.

١٢- عن أبي عَبْد الرَّحْمَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخطَّابِ، ﵄ قال: سَمِعْتُ رسول الله ﷺ يَقُولُ: «انْطَلَقَ ثَلاَثَةُ نفر مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى آوَاهُمُ الْمبِيتُ إِلَى غَارٍ فَدَخَلُوهُ، فانْحَدَرَتْ صَخْرةٌ مِنَ الْجبلِ فَسَدَّتْ عَلَيْهِمْ الْغَارَ، فَقَالُوا: إِنَّهُ لا يُنْجِيكُمْ مِنْ الصَّخْرَةِ إِلاَّ أَنْ تَدْعُوا الله تعالى بصالح أَعْمَالكُمْ.
قال رجلٌ مِنهُمْ: اللَّهُمَّ كَانَ لِي أَبَوانِ شَيْخَانِ كَبِيرانِ، وكُنْتُ لاأَغبِقُ قبْلهَما أَهْلاً وَلا مالاً فنأَى بي طَلَبُ الشَّجرِ يَوْماً فَلمْ أُرِحْ عَلَيْهمَا حَتَّى نَامَا فَحَلبْت لَهُمَا غبُوقَهمَا فَوَجَدْتُهُمَا نَائِميْنِ، فَكَرِهْت أَنْ أُوقظَهمَا وَأَنْ أَغْبِقَ قَبْلَهُمَا أَهْلاً أَوْ مَالاً، فَلَبِثْتُ وَالْقَدَحُ عَلَى يَدِى أَنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُما حَتَّى بَرقَ الْفَجْرُ وَالصِّبْيَةُ يَتَضاغَوْنَ عِنْدَ قَدَمى فَاسْتَيْقظَا فَشَربَا غَبُوقَهُمَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَة، فانْفَرَجَتْ شَيْئاً لا يَسْتَطيعُونَ الْخُرُوجَ مِنْهُ.
قال الآخر: اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانتْ لِيَ ابْنَةُ عمٍّ كانتْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيَّ»
وفي رواية: «كُنْتُ أُحِبُّهَا كَأَشد مَا يُحبُّ الرِّجَالُ النِّسَاءِ ، فَأَرَدْتُهَا عَلَى نَفْسهَا فَامْتَنَعَتْ مِنِّى حَتَّى أَلَمَّتْ بِهَا سَنَةٌ مِنَ السِّنِينَ فَجَاءَتْنِى فَأَعْطَيْتُهِا عِشْرينَ وَمِائَةَ دِينَارٍ عَلَى أَنْ تُخَلِّىَ بَيْنِى وَبَيْنَ نَفْسِهَا ففَعَلَت، حَتَّى إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا» وفي رواية: «فَلَمَّا قَعَدْتُ بَيْنَ رِجْليْهَا، قَالتْ: اتَّقِ الله ولا تَفُضَّ الْخاتَمَ إِلاَّ بِحَقِّهِ، فانْصَرَفْتُ عَنْهَا وَهِىَ أَحَبُّ النَّاسِ إِليَّ وَتركْتُ الذَّهَبَ الَّذي أَعْطَيتُهَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعْلتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، فانفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ غَيْرَ أَنَّهُمْ لا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ مِنْهَا .
وقَالَ الثَّالِثُ: اللَّهُمَّ إِنِّي اسْتَأْجَرْتُ أُجرَاءَ وَأَعْطَيْتُهمْ أَجْرَهُمْ غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ تَرَكَ الَّذي لَّه وذهب فثمَّرت أجره حتى كثرت منه الأموال فجائنى بعد حين فقال يا عبد الله أَدِّ إِلَيَّ أَجْرِي، فَقُلْتُ: كُلُّ مَا تَرَى منْ أَجْرِكَ: مِنَ الإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَم وَالرَّقِيق فقال: يا عَبْدَ اللَّهِ لا تَسْتهْزيْ بي، فَقُلْتُ: لاَ أَسْتَهْزيُ بك، فَأَخَذَهُ كُلَّهُ فاسْتاقَهُ فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْه شَيْئاً، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتغَاءَ وَجْهِكَ فافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ ، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ فخرَجُوا يَمْشُونَ»
متفقٌ عليه..
فوائد الحديث:
قال ابن عثيمين ﵀:
- في قوله: (فانفرجت الصخرة، إلا أنهم لا يستطيعون الخروج)، هذا من آيات الله؛ لأن الله على كل شيء قدير، لو شاء الله تعالي لانفرجت عنهم بأول مرة. ولكنه- سبحانه وتعالى- أراد أن يبقي هذه الصخرة؛ حتى يتم لكل واحد منهم ما أراد أن يتوسل به من صالح الأعمال.
- فيه دليل على فضل الأمانة وإصلاح العمل للغير، فإن هذا الرجل بإمكانه- لما جاءه الأجير- أن يعطيه أجرته، ويبقي هذا المال له، ولكن لأمانته وثقته وإخلاصه لأخيه ونصحه له؛ أعطاه كل ما أثمر أجره.
- بيان قدرة الله ﷿ حيث إنه تعالى أزاح عنهما الصخرة بإذنه، لم يأت آله تزيلها، ولم يأت رجال يزحزحونها، وإنما هو أمر الله ﷿ أمر هذه الصخرة أن تنحدر فتنطبق عليهم ثم أمرها أن تنفرج عنهم.
- أن الإخلاص من أسباب تفريج الكربات؛ لأن كل واحد منهم يقول: (اللهم إن كنت فعلت ذلك من أجلك فأفرج عنا ما نحن فيه)، أما الرياء- والعياذ بالله- والذي لا يفعل الأعمال إلا رياء وسمعة، حتى يمدح عند الناس؛ فإن هذا كالزبد يذهب جفاء، لا ينتفع منه صاحبه.
قال ابن باز ﵀:
- هذه من آيات الله امتحنهم حتى دعوا بهذه الدعوات حتى بينوا هذه الأعمال، والنبي ﷺ قصها علينا للفائدة ليعلم الناس عظم شأن بر الوالدين، وعظم شأن ترك الفواحش والعفة عنها، وعظم شأن أداء الأمانة.
- يشرع التوسل بالأعمال الصالحات، فيشرع التوسل بأسماء الله وصفاته هكذا بالإيمان به وطاعته، والأعمال الصالحة كلها وسائل شرعية من أسباب الإجابة.