باب في التعاون على البر والتقوى


قَالَ الله تَعَالَى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ [المائدة: 2]، وَقالَ تَعَالَى: ﴿وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر: 1 - 2] قَالَ الإمام الشافعي - رَحِمَهُ الله - كلامًا معناه: إنَّ النَّاسَ أَوْ أكثرَهم في غفلة عن تدبر هذِهِ السورة .
177 - وعن أَبي عبد الرحمان زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم: «مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا في سَبيلِ اللهِ فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَفَ غَازيًا في أهْلِهِ بِخَيرٍ فَقَدْ غَزَا». مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
قال ابن عثيمين ﵁:
- أنّ كل من أعان شخصاً في طاعة الله فله مثل أجره، فإذا أعنت طالب علم في شراء الكتب له، أو تأمين السكن، أو النفقة، أو ما أشبه ذلك، فإن لك أجراً مثل أجره، من غير أن ينقص من أجره شيئاً، وهكذا - أيضاً لو أعنت مصلياً على تسهيل مهمته في صلاته في مكانه وثيابه، أو في وضوئه، أو في أي شيء فإنه يكتب لك في ذلك أجر.

178 - وعن أَبي سعيد الخدري - رضي الله عنه: أن رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث بعثًا إِلَى بني لِحْيَان مِنْ هُذَيْلٍ، فَقَالَ: «لِيَنْبَعِثْ مِنْ كُلِّ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا وَالأجْرُ بَيْنَهُمَا». رواه مسلم.
قال ابن باز﵁ :
- أمرهم أن يخرجوا في الجهاد، وأن يكون من كل رجلين واحد، إذا كان في البيت رجلان يخرج منهما واحد، والأجر بينهما، وإذا كان فيه أربعة يخرج اثنان، والأجر بين الجميع، من باب التعاون على البر والتقوى.

179 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنَّ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - لَقِيَ رَكْبًا بالرَّوْحَاءِ ، فَقَالَ: «مَنِ القَوْمُ؟» قالوا: المسلمون، فقالوا: من أنتَ؟ قَالَ: «رَسُول الله»، فرفعت إِلَيْه امرأةٌ صبيًا، فَقَالَتْ: ألِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَلَكِ أجْرٌ». رواه مسلم.
قال ابن عثيمين ﵁:
- في هذا الحديث من الفوائد أن الإنسان ينبغي له أن يسأل عما يجهله إذا دعت الحاجة إلى ذلك؛ لأن الرسول ﷺ سأل: (من القوم؟) يخشى أن يكونوا من العدو فيخونوا أو يغدروا، أما إذا لم تدع الحاجة إلى ذلك فلا.
- في هذا الحديث دليلٌ على أن وصف الإنسان نفسه بالصفات الحميدة إذا لم يقصد الفخر وإنما يقصد التعريف لا بأس به؛ لأن هؤلاء الصحابة لما سئلوا: من أنتم؟ قالوا: مسلمون، والإسلام لا شك أنه وصف مدح.
- فيه دليلٌ أيضاً على أن الإنسان ينبغي له أن يغتنم وجود العالم؛ لأن هؤلاء القوم لما أخبرهم رسول الله ﷺ أنّه رسول الله، جعلوا يسألونه، فينبغي للإنسان أن يغتنم فرصة وجود العالم من أجل أن يسأله عما يشكل عليه.
- الصبي إذا حج به وليه فله أجر.

180 - وعن أَبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قَالَ: «الخَازِنُ المُسْلِمُ الأمِينُ الَّذِي يُنفِذُ مَا أُمِرَ بِهِ فيُعْطيهِ كَامِلًا مُوَفَّرًا طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ فَيَدْفَعُهُ إِلَى الَّذِي أُمِرَ لَهُ بِهِ، أحَدُ المُتَصَدِّقين». مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية: «الَّذِي يُعْطِي مَا أُمِرَ بِهِ» وضبطوا «المُتَصَدِّقَينِ» بفتح القاف مَعَ كسر النون عَلَى التثنية، وعكسه عَلَى الجمعِ وكلاهما صحيح.
قال ابن عثيمين ﵁:
- في هذا الحديث دليلٌ على فضل الأمانة، وعلى فضل التنفيذ فيما وُكل فيه وعدم التفريط فيه، ودليلٌ على أن التعاون على البر والتقوى يكتب لمن أعان مثل ما يكتب لمن فعل، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، والله الموفق.
سئل ابن باز ﵁:
- كذلك الوكيل؟ الشيخ: الوكيل نعم، إذا أدى ما عليه طيبة بها نفسه لم يؤذ المعطى ولم يتعتع.

باب في النصيحة


قَالَ الله تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10]، وَقالَ تَعَالَى: إخبارًا عن نوحٍ - صلى الله عليه وسلم: ﴿وَأنْصَحُ لَكُمْ﴾ [الأعراف: 62]، وعن هود - صلى الله عليه وسلم - : ﴿وَأنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أمِينٌ﴾ [الأعراف: 68].
وأما الأحاديث:
181 - فالأول: عن أَبي رُقَيَّةَ تَمِيم بن أوس الداريِّ - رضي الله عنه: أنَّ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الدِّينُ النَّصِيحةُ» قلنا: لِمَنْ؟ قَالَ: «لِلهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ ». رواه مسلم.
قال ابن عثيمين ﵁:
- النصيحة لله ﷿ تكون بالإخلاص لله تعالى، والتعبد له محبة وتعظيماً؛ لأن الله ﷿ يتعبد له العبد محبة، فيقوم بأوامره طلباً للوصول إلى محبته ﷿، وتعظيماً فينتهي عن محارمه خوفاً منه ﷿.
- من النصيحة لله: أن يكون الإنسان دائماً ذاكراً لربه بقلبه ولسانه وجوارحه، أما القلب فإنه لا حدود لذكره، والإنسان يستطيع أن يذكر الله بقلبه على كل حال، وفي كل ما يشاء، وفي كل ما يسمع؛ لأن في كل شيء لله تعالى آية تدل على وحدانيته وعظمته وسلطانه، فيفكر في خلق السماوات والأرض، ويفكر في الليل والنهار، ويفكر في آيات الله من الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وغير ذلك، فيحدث هذا ذكراً لله ﷿ في قلبه.
- من النصيحة لله أن تكون غيرته لله فيغار لله ﷿ إذا انتهكت محارمه، كما كان النبي ﷺ هكذا، فإنه عليه الصلاة والسلام كان لا ينتقم لنفسه أبداً، مهما قال الناس فيه، لا ينتقم لنفسه، ولكنه إذا انتهكت محارم الله صار أشد الناس انتقاماً ممن ينتهك حرمات الله تعالى.
- قوله ولكتابه يشمل كتاب الله الذي نزل على محمد ﷺ، والذي أُنزل من قبل، والنصيحة لهذه الكتب بتصديق أخبارها، أي أن ما أخبرت به يجب أن نصدقه.
- من النصيحة لكتاب الله أن ينشر الإنسان معناه بين المسلمين؛ المعنى الصحيح الموافق لظاهره، بحيث لا يكون فيه تحريف ولا تغيير، فإذا جلس مجلساً فإن من الخير والنصيحة لكتاب الله أن يأتي بآية من كتاب الله ﷿ يبينها للناس، ويوضح معناها، ولا سيما الآيات التي تكثر قراءتها بين المسلمين؛ مثل الفاتحة، فإن الفاتحة ركن من أركان الصلاة في كل ركعة؛ للإمام والمأموم والمنفرد، فيحتاج الناس إلى معرفتها، فإذا فسرها بين يدي الناس وبيّنها لهم؛ فإن هذا من النصيحة لكتاب الله ﷿.
- من النصيحة لكتاب الله ﷿ أن يقوم الإنسان باحترام هذا القرآن العظيم، فمن ذلك أن لا يمس القرآن إلا وهو طاهر من الحدثين: الأصغر والأكبر، لقول النبي ﷺ: (لا يمسّ القرآن إلا طاهر) أو من وراء حائل؛ لأن من مس من وراء حائل فإنه لم يمسه في الواقع.
- من النصيحة لكتاب الله ﷿: أن لا تضعه في موضع يمتهن فيه، ويكون وضعه فيه امتهاناً له، كمحل القاذورات وما أشبه ذلك، ولهذا يجب الحذر مما يصنعه بعض الصبيان إذا انتهوا من الدروس في مدارسهم، ألقوا مقرراتهم والتي من بينها الأجزاء من المصحف في الطرقات أو في الزبالة أو ما أشبه ذلك، والعياذ بالله. أما وضع المصحف على الأرض الطاهرة الطيبة، فإن هذا لا بأس به ولا حرج فيه؛ لأن هذا ليس فيه امتهان للقرآن، ولا إهانة له، وهو يقع كثيراً من الناس إذا كان يصلي ويقرأ من المصحف وأراد السجود يضعه بين يديه، فهذا لا يعد امتهاناً ولا إهانة للمصحف فلا بأس به، والله أعلم.
- من النصيحة لرسول الله ﷺ: صدق الاتباع له، بحيث لا تتجاوز شريعته ولا تنقص عنها، فتجعله إمامك في جميع العبادات، فإن الرسول ﷺ هو إمام هذه الأمة وهو متبوعها، ولا يحل لأحد أن يتبع سواه.
- من النصيحة لرسول الله ﷺ: تصديق خبره، وأنه صادق مصدوق صادق فيما يخبر به، مصدوق فيما أخبر به من الوحي، فما كذب ولا كذَّب.
- من النصيحة لرسول الله ﷺ: الذب عن شريعته وحمايتها، فالذب عنها بأن لا ينتقصها أحد، والذب عنها بأن لا يزيد فيها أحد ما ليس منها، فتحارب أهل البدع القولية والفعلية والعقدية؛ لأن البدع كلها باب واحد كلها حقل واحد، كلها ضلالة، كما قال الرسول ﷺ: ( كل بدعة ضلالة) لا يستثنى من هذا بدعة قولية ولا فعلية ولا عقدية، كل ما خالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به في العقيدة أو في القول أو في العمل فهو بدعة.
- النصيحة لعامة المسلمين بأن تحب لهم ما تحبُ لنفسك، وأن ترشدهم إلى الخير، وأن تهديهم إلى الحق إذا ضلوا عنه، وأن تذكرهم به إذا نسوه، وأن تجعلهم لك بمنزلة الأخوة؛ لأن الرسول ﷺ قال: (المسلم أخو المسلم)، وقال: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُ بعضه بعضا).
- ليُعلم أن النصيحة هي مخاطبة الإنسان سراً بينك وبينه؛ لأنك إذا نصحته سراً بينك وبينه أثرت في نفسه، وعلم أنك ناصح، لكن إذا تكلمت أمام الناس عليه؛ فإنه قد تأخذه العزة بالإثم فلا يقبل النصيحة، وقد يظن أنك إنما تريد الانتقام منه وتوبيخه وحطّ منزلته بين الناس فلا يقبل، لكن إذا كانت النصيحة بينك وبينه صار لها ميزانٌ كبير عنده وقيمة، وقَبِلَ ذلك، والله المسؤول أن يوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه.

182 - الثاني: عن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - قَالَ: بَايَعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عَلَى إقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، والنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
قال ابن عثيمين ﵁:
- معنى (إقام الصلاة) أن يأتي بها الإنسان مستقيمة على الوجه المطلوب، فيحافظ عليها في أوقاتها، ويقوم بأركانها وواجباتها وشروطها، ويتمم ذلك بمستحباتها.
- من إقامة الصلاة: الخشوع فيها، والخشوع هو حضور القلب وتأمله بما يقوله المصلي وما يفعله، وهو أمر مهم؛ لأن الصلاة بلا خشوع كالجسد بلا روح، فأنت إذا صليت وقلبك يدور في كل وادٍ فإنك تصلي حركات بدنية فقط، فإذا كان قلبك حاضراً تشعر كأنك بين يدي الله ﷿، تناجيه بكلامه، وتتقرب إليه بذكره ودعائه، فهذا هو لبُّ الصلاة وروحها.
- كيفية النصح لكل مسلم هي ما ذكره في حديث أنس ﵁: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) هذه هي النصيحة أن تحب لإخوانك ما تحب لنفسك، بحيث يسرك ما يسرهم، ويسوءك ما يسوؤهم، وتعاملهم بما تحب أن يعاملوك به، وهذا الباب واسع كبير جداً.
قال ابن باز رحمه ﵁:
- الإنسان في بذله النصيحة، والدعوة إلى الله، والتوجيه؛ له خيرٌ عظيمٌ، وله أجرٌ عظيمٌ، وله مثل أجور مَن يهديه الله على يديه، وإن كثروا، إن هدى الله على يديه مئةً له مثل أجورهم، هدى الله على يديه ألفًا له مثل أجورهم، هدى الله على يديه ألوفًا له مثل أجورهم، إذا قال لهذا: يا عبدالله، بلغني أنَّك عاقٌّ لوالديك، يا عبدالله، اتَّقِ الله، برّ والديك، حقّهم عظيم، اتَّقِ الله في الإحسان إليهم، فإذا نفعت النصيحةُ صار له مثل أجره، وإذا قال له: يا عبدالله، لا تتكاسل عن الصَّلوات، بادر إليها، حافظ عليها في الجماعة، لا تكن مثل المنافقين الذين يتكاسلون عنها، كما قال عنهم سبحانه: ﴿إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى﴾ [النساء:142]، يحذره: لا تكن مثلهم، بادر إلى الصلاة في جماعةٍ في المساجد، فإذا هداه الله على يديه صار له مثل أجره، وإذا رآه يُدَخِّن أو يشرب الخمر أو يحلق لحيته ينصحه ويقول له: اتَّقِ الله يا عبدالله، هذا لا يجوز، أنا والله لك ناصح، الرسولُ ﷺ نهى عن هذا، الله حرَّم هذا"، فإذا هداه الله وتاب على يديه صار له مثل أجره، وهكذا إذا كان يبخل بالزكاة أو يُتَّهم بذلك، يُنْصَح ويُوَجَّه إلى الخير، فإذا قَبِلَ النَّصيحةَ صار للناصح مثل أجره في أدائه الزكاة، وهكذا إذا كان في صيام رمضان يُخِلُّ به أو ببعضه، ونصحه، ثم هداه الله على يديه له مثل أجره، وهكذا إذا كان يستطيع الحجَّ ولم يحج، ثم نصحه وشجَّعه على الحج، فحجَّ بسببٍ من أسباب النصيحة؛ صار له مثلُ أجره، وهكذا.
- النصح لكلِّ مسلمٍ، عاهد النبيَّ ﷺ أن ينصح لكل مسلمٍ، هكذا ينبغي للمؤمن: أن ينصح لإخوانه في كل شيءٍ، ومن ذلك المعاملة: إذا كان يبيع ويشتري معهم لا يكذب، ولا يخون في المعاملة، ولا يغُشّ في المعاملة، ويكون أمينًا في المعاملة، لا كذب، ولا غشّ، ولا خيانة، ولا أيمان كاذبة، بيعٌ لا خِلابَ فيه، بيع المحبِّ لمحبوبه، لا يغشه، ولا يخونه، ولا يكذب عليه، هذه النصيحة في المعاملة. وهكذا في جميع الأمور: ينصح في الشركة، كونه شريكًا له ينصحه، كونه وكيلًا له ينصحه، كونه عاملًا عنده ينصحه، هكذا في جميع الأحوال.
بايعتُ النبيَّ ﷺ على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلمٍ، سواء كنت تعرفه أو ما تعرفه، كل مسلم عربي، أعجمي، بدوي، حضري، فقير، غني، ذكر، أنثى، أنت ناصحٌ لكل مسلمٍ في أي معاملةٍ.

183 - الثالث: عن أنس - رضي الله عنه - عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يُؤمِنُ أحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحبُّ لِنَفْسِهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.