تابع باب فضل الجوع وخشونة العيش والاقتصار عَلَى القليل من المأكول والمشروب والملبوس وغيرها من حظوظ النفوس وترك الشهوات


501 - وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: وَاللهِ الَّذِي لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ، إنْ كُنْتُ لأَعْتَمِدُ بِكَبِدِي عَلَى الأَرْضِ مِنَ الجُوعِ، وَإنْ كُنْتُ لأَشُدُّ الحَجَرَ عَلَى بَطنِي مِنَ الْجُوعِ. وَلَقَدْ قَعَدْتُ يَومًا عَلَى طَرِيقِهِمُ الَّذِي يَخْرُجُونَ مِنْهُ، فَمَرَّ بِي النبي - صلى الله عليه وسلم - فَتَبَسَّمَ حِيْنَ رَآنِي، وَعَرَفَ مَا فِي وَجْهِي وَمَا فِي نَفْسِي، ثُمَّ قَالَ: «أَبَا هِرٍّ» قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رسول الله، قَالَ: «الْحَقْ» وَمَضَى فَاتَّبَعْتُهُ، فَدَخَلَ فَاسْتَأذَنَ، فَأَذِنَ لِي فَدَخَلْتُ، فَوَجَدَ لَبَنًا في قَدَحٍ، فَقَالَ: «مِنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ؟» قَالُوا: أهْدَاهُ لَكَ فُلانٌ - أَو فُلانَةٌ - قَالَ: «أَبَا هِرٍّ» قلتُ: لَبَّيْكَ يَا رسول اللهِ، قَالَ: «الْحَقْ إِلَى أهْلِ الصُّفَّةِ فَادْعُهُمْ لِي» قَالَ: وَأهْلُ الصُّفَّة أضْيَافُ الإِسْلاَمِ، لاَ يَأوُونَ علَى أهْلٍ وَلاَ مَالٍ وَلاَ عَلَى أحَدٍ، إِذَا أتَتْهُ صَدَقَةٌ بَعَثَ بِهَا إلَيْهِمْ، وَلَمْ يَتَنَاوَلْ مِنْهَا شَيْئًا، وَإِذَا أتَتْهُ هَدِيَّةٌ أرْسَلَ إلَيْهِمْ، وَأصَابَ مِنْهَا، وأشْرَكَهُمْ فِيهَا. فَسَاءنِي ذَلِكَ، فَقُلْتُ: وَمَا هَذَا اللَّبَنُ في أهْلِ الصُّفَّةِ! كُنْتُ أحَقُّ أَنْ أُصِيبَ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ شَرْبَةً أتَقَوَّى بِهَا، فَإذَا جَاءُوا أمَرَنِي فَكُنْتُ أنَا أُعْطِيهِمْ؛ وَمَا عَسَى أَنْ يَبْلُغَنِي مِنْ هَذَا اللَّبَنِ. وَلَمْ يَكُنْ مِنْ طَاعَةِ اللهِ وَطَاعَةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بُدٌّ، فَأَتَيْتُهُمْ فَدَعَوْتُهُمْ، فَأقْبَلُوا وَاسْتَأذَنُوا، فَأَذِنَ لَهُمْ وَأخَذُوا مَجَالِسَهُمْ مِنَ الْبَيْتِ، قَالَ: «يَا أَبَا هِرٍّ» قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رسول الله، قَالَ: «خُذْ فَأعْطِهِمْ» قَالَ: فَأخَذْتُ القَدَحَ، فَجَعَلْتُ أُعْطِيهِ الرَّجُل فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ، فَأُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ، فَأُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ رَوِيَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ، فَأخَذَ الْقَدَحَ فَوضَعَهُ عَلَى يَدِهِ، فَنَظَرَ إليَّ فَتَبَسَّمَ، فَقَالَ: «أَبَا هِرٍّ» قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رسول الله، قَالَ: «بَقيتُ أنَا وَأنْتَ» قُلْتُ: صَدَقْتَ يَا رسول الله، قَالَ: «اقْعُدْ فَاشْرَبْ» فَقَعَدْتُ فَشَرِبْتُ، فَقَالَ «اشْرَبْ» فَشَرِبْتُ، فَمَا زَالَ يَقُولُ: «اشْرَبْ» حَتَّى قُلْتُ: لا، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ لاَ أجِدُ لَهُ مَسْلكًا! قَالَ: «فَأرِنِي» فَأعْطَيْتُهُ الْقَدَحَ، فَحَمِدَ الله تَعَالَى، وَسَمَّى وَشَرِبَ الفَضْلَةَ. رواه البخاري.
قال ابن باز ﵀:
- فيه إكرام الضيف، والدلالة على صدق رسول ﷺ، وأنّه رسول الله حقًا، والدلالة على قدرة الله العظيمة، وأنّه يقول للشيء: كن، فيكون، والدلالة على أنّ ساقي القوم يكون في الآخر، يسقيهم ثم يشرب.
- فيه دليلٌ على أنّه ينبغي للمؤمن التصبر والتحمل فيما يُصيبه من الشدائد، وأن الله سبحانه يأتي بالفرج لمن صبر واحتسب.

502 - وعن محمد بن سيرين، عن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: لَقَدْ رَأيْتُنِي وَإنِّي لأَخِرُّ فِيمَا بَيْنَ مِنْبَرِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إِلَى حُجْرَةِ عائِشَةَ رضي الله عنها مَغْشِيًّا عَلَيَّ، فَيَجِيءُ الجَائِي، فَيَضَعُ رِجْلَهُ عَلَى عُنُقِي، وَيَرَى أنِّي مَجْنُونٌ وَمَا بِي مِنْ جُنُونٍ، مَا بِي إِلاَّ الْجُوعُ. رواه البخاري.
قال ابن باز ﵀:
- فيه دليلٌ على أنّهم أصابهم من الشدائد ما أصابهم، ولكنهم صبروا وأفلحوا.
- كان إسلام أبي هريرة ﵁ في السنة السابعة من الهجرة، أدرك من حياة النبي ﷺ أربع سنين، فهذا يدل على أنّ الشدة استمرت إلى عام سبع أو ثمان، حتى فتح الله مكة، ثم جاءت الخيرات، ثم فتحت الفتوح على يد الصحابة ﵃.

503 - وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: تُوُفِّي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِي في ثَلاثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِير. متفق عَلَيْهِ.
قال ابن باز ﵀:
- هذا يدل على أنّه مات ﷺ وهو محتاج ليس عنده مال، ليس عنده شيء لأهله إلا ما استدانه لإطعامهم وحاجتهم.
- فيه دلالة على صبره ﷺ على شدة الحال وخشونة العيش، وأنّه لم يتمتع بالنعيم الذي يتمتع به كثير من الناس الذين يتولون أمور المسلمين، وصبر على الشدة وأنفق الأموال في سبيل الله، وفي مواساة عباد الله وفي الإحسان إليهم، وربما حصل لأهله نفقة سنة، ولكن بسبب الضيوف وكثرة النفقة لا يبقى، بل ينفد قبل ذلك، فيحصل له الحاجة والاستدانة والقرض ﷺ.
- فيه حث للمؤمنين والمؤمنات على التأسي بالرسول ﷺ في الصبر والإحسان والإنفاق مع الحاجة.
- ينبغي للمؤمن ألا يجزع مما يصيبه، وألا ييأس ويتصبر ويتحمل ويحسن الظن بربه.
- القرض والاستدانة عند الحاجة لا بأس بها.

504 - وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: رَهَنَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - دِرْعَهُ بِشَعِيرٍ، وَمَشَيْتُ إِلَى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بخُبْزِ شَعِيرٍ وَإهَالَة سَنِخَةٍ، وَلَقَدْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «مَا أصْبَحَ لآلِ مُحَمّدٍ صَاعٌ وَلاَ أمْسَى» وَإنَّهُمْ لَتِسْعَةُ أبيَات. رواه البخاري.
«الإهالَةُ» بكسر الهمزة: الشَّحْمُ الذَّائِبُ. وَ «السَّنِخَةُ» بالنون والخاء المعجمة: وَهِيَ المُتَغَيِّرَةُ.
قال ابن باز ﵀:
- هكذا ينبغي للمؤمن: أن يكون صبورًا عند الشدائد، لا يجزع ولا تأخذه الأهواء ولا تجره الشهوات إلى ما حرم الله، بل يصبر على خشونة العيش وشظف العيش حتى يفتح الله، وحتى يسهل الله، ولا تحمله محبة شهوته ومراد نفسه بما تميل إليه النفوس من الطعام والشراب وغير ذلك، لا يحمله ذلك إلى أن يتناول الحرام أو يقع في الحرام، هكذا المؤمن يكون عنده الصبر على ما قد يصيبه من شدة وحاجة حتى يفتح الله.

505 - وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ، مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ عَلَيْهِ ردَاءٌ، إمَّا إزَارٌ وَإمَّا كِسَاءٌ، قَدْ رَبَطُوا في أعْنَاقِهِم مِنْهَا مَا يَبْلُغُ نِصْفَ السَّاقَيْن، وَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ الكَعْبَيْنِ فَيَجْمَعُهُ بِيَدِهِ كَرَاهِيَةَ أَنْ تُرَى عَوْرَتُهُ. رواه البخاري.
قال ابن باز ﵀:
- وصف أبو هريرة ﵁ حال أهل الصفة: من قلة المال، وقلة ذات اليد. فصبروا حتى نجحوا وأفلحوا، وصاروا بعد ذلك ملوك الناس وأمراء الناس في المدن والقرى والأقاليم، بصبرهم وطاعتهم لله، وجهادهم في سبيله.

506 - وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: كَانَ فِرَاشُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أدم حَشْوُهُ لِيفٌ. رواه البخاري.
قال ابن باز ﵀:
- هذا من غاية تواضعه ﷺ فمرة نام على الحصير حتى يؤثر في جنبه، فهذا فيه الصبر، وتارة على فراشٍ من أدم من جلد حشوه ليف لا يتكلف ﷺ، بل ما تيسّر له استعمله؛ لأنّه ليس تهمه الدنيا، إنّما همه الآخرة وإبلاغ رسالة الله، وتعليم عباد الله، ولهذا قال ﷺ: (ما لي وما للدّنيا، ما أنا في الدّنيا إلّا كراكبٍ استظلّ تحت شجرةٍ ثمَّ راح وتركها).

507 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِذْ جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أدْبَرَ الأَنْصَاريُّ، فَقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «يَا أخَا الأنْصَارِ، كَيْفَ أخِي سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ؟» فَقَالَ: صَالِحٌ، فَقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يَعُودُهُ مِنْكُمْ؟» فَقَامَ وَقُمْنَا مَعَهُ، وَنَحْنُ بضْعَةَ عَشَرَ، مَا عَلَيْنَا نِعَالٌ، وَلاَ خِفَافٌ، وَلاَ قَلاَنِسُ ، وَلاَ قُمُصٌ، نَمْشِي في تِلك السِّبَاخِ، حَتَّى جِئْنَاهُ، فَاسْتَأْخَرَ قَوْمُهُ مِنْ حَوْله حَتَّى دَنَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَأصْحَابُهُ الَّذِينَ مَعَهُ. رواه مسلم.
قال ابن باز ﵀:
- يعجز أحدهم من وجود النعلين أو الخفين التي تقيه شر الأرض وحرارتها أو برودتها، صبروا على هذا حتى يسّر الله لهم الفتوحات، وغنموا الغنائم، فصاروا قادة الناس بعد ذلك، صبروا قليلا وأفلحوا كثيرًا ﵃.
- المؤمن يتحمل في سبيل الله الفقر والحاجة وما يُصيبه من الشدائد حتى يجد الطريق السوي، وحتى ينهج المنهج السديد إلى الرزق الحلال، وحتى يستعين بذلك على طاعة الله عزوجل، ولا يجوز له أن تحمله محبة الراحة والتلذذ بالشهوات على معصية الله عزوجل، وترك الوقوف عند حدوده عزوجل، بل يتصبر ويتحمل حتى يقف عند حدود الله، وحتى يبتعد عن محارم الله، وحتى يكتفي بالقيل إلى أن يفتح الله.

508 - وعن عِمْرَان بنِ الحُصَيْنِ رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه قَالَ: «خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» قَالَ عِمْرَانُ: فَمَا أدْري قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم - مَرَّتَيْنِ أَو ثَلاَثًا «ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلاَ يُؤْتَمَنُونَ، وَيَنْذِرُونَ وَلاَ يُوفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهمُ السَّمَنُ». متفقٌ عَلَيْهِ.
قال ابن باز ﵀:
- المحفوظ قرنان بعد قرنه ﷺ.
- الغالب عليهم ظهور السمن بسبب غفلتهم وإعراضهم وتمتعهم بالشهوات وليس كل سمين يكون غير صالح، قد يكون سمينًا وقد يكون صالحًا مستقيمًا لقيامه بأمر الله، وتركه محارم الله، لكن الغالب على الناس إذا تمتعوا بالشهوات وأعرضوا عن الآخرة الغالب عليهم السمن، وعدم الوفاء بالعهود، وعدم الوفاء بالنذور، والخيانة في الأمانات، والكذب في الشهادات، فالغالب على الناس عند قلة الدين والإقبال على الدنيا والركون إليها، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

509 - وعن أَبي أُمَامَة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «يَا ابْنَ آدَمَ، إنَّكَ أَنْ تَبْذُلَ الفَضْلَ خَيرٌ لَكَ، وَأنْ تُمسِكَهُ شَرٌ لَكَ، ولاَ تُلاَمُ عَلَى كَفَافٍ، وَابْدأ بِمَنْ تَعُولُ». رواه الترمذي، وقال: «حديث حسن صحيح».
قال ابن باز ﵀:
- الحث على البذل والجود والكرم والإحسان، والإنفاق في وجوه الخير ومشاريع الخير، إذا كان عنده سعة.
- الإنسان ما يلام على الكفاف، كونه يمسك حاجته ويقضي حاجته وحاجة عائلته فهو مأمور بها.
- ابدأ بالنفقة بمن هم تحت يدك، الأولاد والزوجة والأيتام والخادم، ثم الناس البعيدين، فإذا كان لديك فضل وزيادة تصدقت هاهنا وهاهنا وهاهنا، ترجو ثواب الله.

510 - وعن عُبيْدِ الله بنِ محْصن الأَنصَارِيِّ الخطميِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا في سربِهِ، مُعَافَىً في جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا ». رواه الترمذي، وقال: «حديث حسن».
«سِربه»: بكسر السين المهملة: أي نَفْسه، وَقِيلَ: قَومه.
قال ابن باز ﵀:
- المسلم إذا عافاه الله في بدنه، وأسبغ عليه الصحة، ورزقه الأمن في بلاده، ومع ذلك عنده قوت يومه وليلته، فالذي بعد ذلك يأتي به الله، عليه أن يتسبب ويأخذ بما ينفعه، والله يأتي بالزرق.

511 - وعن عبد الله بن عَمْرو بنِ العاص رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «قَدْ أفْلَحَ مَنْ أسْلَمَ، وَكَانَ رِزْقُهُ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللهُ بِمَا آتَاهُ». رواه مسلم.
512 - وعن أَبي محمدٍ فضَالَة بن عبيدٍ الأنصاريِّ - رضي الله عنه: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «طُوبَى لِمَنْ هُدِيَ لِلإسْلاَمِ، وَكَانَ عَيْشُهُ كَفَافًا وَقَنِعَ». رواه الترمذي، وقال: «حديث حسن صحيح».
قال ابن باز﵀:
- من رزقه الله القناعة بما آتاه طيب النفس فهو غني عظيم الغنى وإن قل ماله، المصيبة العظيمة والفقر العظيم فقر القلب، وإن كانت عنده الأموال، افتقر القلب هذا هو الفقر العظيم، فإنه لا يشبع من الدنيا إذا افتقر قلبه لا يشبع لاهٍ فقط في لهو من الدنيا والبخل والشح، أما إذا رزقه الله الغنى في قلبه والقناعة، والغنى فهو على خير.

513 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قَالَ: كَانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَبيتُ اللَّيَالِيَ الْمُتَتَابِعَةَ طَاوِيًا، وَأهْلُهُ لاَ يَجِدُونَ عَشَاءً، وَكَانَ أكْثَرُ خُبْزِهِمْ خُبزَ الشَّعيرِ. رواه الترمذي، وقال: «حديث حسن صحيح».
قال ابن باز ﵀:
- الأخيار من الأنبياء والرسل وأتباعهم تصيبهم الشدائد تصيبهم الحاجة والفقر فيصبرون، هكذا ينبغي لكل مؤمن ولكل مؤمنة الصبر على ما يبتلى به من الشدائد والفقر والحاجة، ولكن لا يمنعه ذلك من تعاطي الأسباب، الفقير يطلب الأسباب في طلب الرزق، فالصحابة ﵃ فعلوا الأسباب، اتجروا وطلبوا الرزق حتى يسَّر الله لهم ما يعينهم، ثم فتح الله لهم الفتوح فصاروا بعد ذلك قادة الناس وأئمة الناس في الخير، وسَّع الله عليهم في الأموال، فأحسنوا وتصدقوا وأعتقوا، فالفقير عليه تعاطي الأسباب، أي: كسب حلال تجارة صناعة عمل يعمله، من يحتاج للعمل يطلب الرزق، النبي ﷺ قال: (احرص على ما ينفعك واستعن بالله).

514 - وعن فُضَالَةَ بن عبيدٍ - رضي الله عنه: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا صَلَّى بِالنَّاسِ، يَخِرُّ رِجَالٌ مِنْ قَامَتِهِمْ في الصَّلاةِ مِنَ الخَصَاصَةِ - وَهُمْ أصْحَابُ الصُّفَّةِ - حَتَّى يَقُولَ الأعْرَابُ: هؤُلاء مَجَانِينٌ. فَإذَا صلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انْصَرَفَ إلَيْهِمْ، فَقَالَ: «لَوْ تَعْلَمُونَ مَا لَكُمْ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، لأَحْبَبْتُمْ أَنْ تَزْدَادُوا فَاقَةً وَحَاجَةً». رواه الترمذي، وقال: «حديث صحيح».
«الخَصَاصَةُ»: الفَاقَةُ وَالجُوعُ الشَّدِيدُ.
قال ابن باز ﵀:
- أهل الصّفة أصابتهم شدة عظيمة، ولكنهم صبروا وأفلحوا فكانت لهم العاقبة الحميدة، فالفقراء والمحاويج وأهل المصائب لهم أسوة في هؤلاء الأخيار، وهم قدوة لهم في الصبر والاحتساب مع طلب الرزق، والأخذ بالأسباب التي شرعها الله، حتى يسد حاجته، وحتى يستغني عن سؤال الناس.

515 - وعن أَبي كريمة المقدام بن معدي كرِبَ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «مَا مَلأَ آدَمِيٌّ وِعَاء شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، بِحَسْبِ ابنِ آدَمَ أُكُلاَتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فإنْ كانَ لا مَحالةَ فثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسه». رواه الترمذي، وقال: «حديث حسن».
«أكُلاَتٌ» أيْ: لُقَمٌ.
قال ابن باز ﵀:
- إذا ملئ فهو على خطر بالتخمة والأمراض، فينبغي له التوقي وأن يأكل بالاقتصاد ويشرب بالاقتصاد، حتى لا يصاب بمصائب من أكثروا واتخموا بسبب كثرة الأكل وعدم تحري الكفاية، فإذا كان لابد فليتحرَّ، يأكل الثلث ويشرب الثلث ويدع الثلث للنفس والراحة، هذا هو أصل ما يكون في الاقتصاد، ولا بأس بالشبع ولا بأس بالري، ولكن إذا تحرى الاقتصاد في أكله وشربه حتى يبقى له نفس وراحة هذا أولى وأفضل.

516 - وعن أَبي أُمَامَة إياسِ بن ثعلبةَ الأَنْصَارِيِّ الحارثي - رضي الله عنه - قَالَ: ذَكَرَ أصْحَابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَومًا عِنْدَهُ الدُّنْيَا، فَقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «ألاَ تَسْمَعُونَ؟ ألاَ تَسْمَعُونَ؟ إنَّ البَذَاذَةَ مِنَ الإِيمَانِ، إنَّ البَذَاذَةَ مِنَ الإِيمَانِ» يَعْنِي: التَّقَحُّلَ. رواهُ أَبو داود.
«البَذَاذَةُ» - بالباءِ الموحدةِ والذالين المعجمتين - وَهِيَ رَثَاثَةُ الهَيْئَةِ وَتَرْكُ فَاخِرِ اللِّبَاسِ. وَأَمَّا «التَّقَحُّلُ» فبالقافِ والحاء: قَالَ أهْلُ اللُّغَةِ: المُتَقَحِّلُ هُوَ الرَّجُلُ اليَابِسُ الجِلْدِ مِنْ خُشُونَةِ العَيْشِ وَتَرْكِ التَّرَفُّهِ.