باب الكرم والجود والإنفاق في وجوه الخير ثقةً بالله تعالى


قَالَ الله تَعَالَى: ﴿وَمَا أنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ﴾ [سبأ: 39]، وقال تَعَالَى: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 272]، وقال تَعَالَى: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فإنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 273].
543 - وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا حَسَدَ إِلاَّ في اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالًا، فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ في الحَقّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ حِكْمَةً، فَهُوَ يَقْضِي بِهَا ويُعَلِّمُهَا». متفقٌ عَلَيْهِ.
ومعناه: يَنْبَغي أَنْ لاَ يُغبَطَ أحَدٌ إِلاَّ عَلَى إحْدَى هَاتَيْنِ الخَصْلَتَيْنِ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- لا غبطة، ولا أحد يغبط على ما أعطاه الله ﷿ من مال وغيره إلا في اثنتين فقط، الأولى: رجلٌ أعطاه الله مالاً، فسلطه على هلكته في الحق، صار لا يبذله إلا فيما يرضي الله، هذا يحسد؛ لأنك الآن تجد التجار يختلفون، منهم من ينفق أمواله في سبيل الله، في الخيرات، في أعمال البر، إعانة فقير، بناء مساجد، بناء مدارس، طبع كتب، إعانة على الجهاد، وما أشبه ذلك. فهذا سلط على هلكته في الحق، ومنهم من يسلطه على هلكته في اللذائذ المحرمة والعياذ بالله، يسافر إلى الخارج فيزني، ويشرب الخمر، ويلعبب القمار، ويُتلف ماله فيما يغضب الرب ﷿، فالذي سلطه الله على هلكة ماله في الحق هذا يغبط؛ لأن الغالب أن الذي يستغني يبطر ويمرح ويفسق، فإذا رؤي أن هذا الرجل الذي أعطاه الله المال ينفقه في سبيل الله؛ فهو يغبط. والثانية: رجل آتاه الله الحكمة يعني العلم، الحكمة هنا العلم كما قال الله تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾.
- يقضي بها في نفسه وفي أهله، وفيمن تحاكم عنده، ويعلمها الناس أيضاً، ليس يقتصر على أن يأتيه الناس فيقول: إذا جاءوني حكمت وقضيت، بل يقضي ويعلم، ويبدأ الناس بذلك، فهذا لا شك أنه مغبوط على ما آتاه الله ﷿ من الحكمة.
- الناس في الحكمة ينقسمون إلى أقسام:
• قسم آتاه الله الحكمة فبخل بها حتى على نفسه، لم ينتفع بها في نفسه، ولم يعمل بطاعة الله، ولم ينته عن معصية الله، فهذا خاسر والعياذ بالله، وهذا يشبه اليهود الذين علموا الحق واستكبروا عنه.
• قسم آخر أعطاه الله الحكمة فعمل بها في نفسه، لكن لم ينفع بها عباد الله، وهذا خيرٌ من الذي قبله، لكنه ناقص.
• قسم آخر أعطاه الله الحكمة فقضي بها وعمل بها في نفسه وعلمها الناس، فهذا خير الأقسام.
• قسم رابع لم يؤت الحكمة إطلاقاً فهو جاهل، وهذا حُرم خيراً كثيراً، لكنه أحسن حالاً ممن أوتي الحكمة ولم يعمل بها؛ لأن هذا يُرجى إذا علم أن يتعلم ويعمل، بخلاف الذي أعطاه الله العلم، وكان علمه وبالاً عليه والعياذ بالله نسأل الله تعالى أن يرزقنا وإياكم الحكمة والعلم النافع والعمل الصالح.
قال ابن باز ﵀:
- هذا من نعم الله العظيمة على العبد، فيوفق في إنفاق المال وتعليم العلم، فيجمع بين الخيرين: مواساة الفقير، والتعليم والتوجيه، فيحصل بذلك الأجر العظيم، والخلف من الله ﷿ مع فضل التعليم وما فيه من الخير.

544 - وعنه، قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم: «أيُّكُم مَالُ وَارِثِهِ أَحبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ؟» قالوا: يَا رسول اللهِ، مَا مِنَّا أحَدٌ إِلاَّ مَالُهُ أحَبُّ إِلَيْهِ. قَالَ: «فإنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ وَمَالَ وَارِثِهِ مَا أخَّرَ». رواه البخاري.
قال ابن عثيمين ﵀:
- هذه حكمة عظيمة ممن أوتي جوامع الكلم ﷺ، فمالك الذي تقدمه لله ﷿ تجده أمامك يوم القيامة، ومال الوارث ما يبقى بعدك من الذي ينتفع به ويأكله هو الوارث، فهو مال وارثك على الحقيقة. فأنفق مالك فيما يرضي الله، وإذا أنفقت فإن الله يخلفه وينفق عليك، كما قال رسول الله ﷺ: (قال الله تعالى: يا ابن آدم أنفق ينفق عليك).
قال ابن باز ﵀:
- مالك في الحقيقة ما قدمته لله وأنفقته، هذا ينفعك يوم القيامة، هذا مالك، أما ما أخرته بعدك هو للورثة، ليس لك، فلهذا ينبغي أن تقدم ما ينفعك، وأن تحسن وأن تكرم بهذا الخير، فإن ساق الله ﷿ لك الخير فلا تبخل، البخل عاقبته وخيمة، لكن يصرفه على حسب حاله، فاتقوا الله ما استطعتم، خير الصدقة ما كان على ظهر غنى، يبدأ بنفسه، ومن يعول وما زاد يتصدق منه ويحسن على وجوه الخير.

545 - وعن عَدِيِّ بن حَاتِمٍ - رضي الله عنه: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ». متفقٌ عَلَيْهِ.
قال ابن باز ﵀:
- حث للناس على الإنفاق والإحسان ولو بالقليل، ليس بشرط أن يكون كثيرًا.
- الإحسان والرحمة والمواساة فيه خير عظيم، والله يقول: ﴿وَأَحْسِنُوٓا إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ﴾، وقال ﷺ: (من لا يَرحم لا يُرحم)، وفي الإنفاق رحمة وإحسان وجود ولطف وعطف، وصاحبها على خير من الأجر العظيم والخلف الجزيل من الرب ﷿.

546 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: مَا سُئِلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شَيْئًا قَطُّ، فقالَ: لاَ. متفقٌ عَلَيْهِ.
547 - وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصبحُ العِبَادُ فِيهِ إِلاَّ مَلَكَانِ يَنْزلانِ، فَيَقُولُ أحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا». متفقٌ عَلَيْهِ.
قال ابن عثيمين :
- التلف نوعان:
• تلف حسي، وتلف معنوي: فالتلف الحسي: أن يتلف المال نفسه، بأن يأتيه آفة تحرقه أو يُسرق أو ما أشبه ذلك.
• والتلف المعنوي: أن تنزع بركته، بحيث لا يستفيد الإنسان منه في حسناته.
قال ابن باز ﵀:
- هذا حث على فتح باب الإنفاق، وأنّ الله ﷿ سخر الملكين يدعوان للمنفق بالخلف، وللممسك بالتلف، والجدير بالمؤمن أن يحظى بدعوة الملك، وينفق ويحسن، يرجو ما عند الله من المثوبة وما عنده من الخلف، هكذا المؤمن يتحرى الخير، ويتحرى وجوه الخير، ويرجو ما عند الله من المثوبة، مع رجاء قبول دعوة الملك.
- الإنفاق في وجوه الخير والبر والإحسان من أفضل القربات ومن أفضل الطاعات، فينبغي لك يا عبد الله أن تجاهد نفسك في هذا الخير العظيم.
- الإنفاق من الكسب الحلال في وجوه الخير وأعمال الخير من صفات الأخيار، ومن أخلاق الرسل ﵈، ومن أخلاق أتباعهم بإحسان؛ ليواسوا الفقير ويقيموا المشاريع الخيرية، وليتألفوا الناس على الإسلام، وليدفعوا عن الإسلام أيضًا شر الأعداء بسبب المال، فالمال له شأن كبير في جلب الخير ودفع الشر إذا أحسن أهله التصرف فيه.

548 - وعنه: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «قَالَ الله تَعَالَى: أنفِق يَا ابْنَ آدَمَ انفق عَلَيْكَ». متفقٌ عَلَيْهِ.
قال ابن باز ﵀:
- المؤمن يلتمس الأجر والفضل من الله والخلف منه، في دعم المشاريع الخيرية، في مواساة الفقراء، صلة الرحم، تعمير المساجد، إلى غير هذا من وجوه الخير.

549 - وعن عبد اللهِ بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أنَّ رَجُلًا سَألَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم: أيُّ الإسلامِ خَيْرٌ؟ قَالَ: «تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ». متفقٌ عَلَيْهِ.
550 - وعنه، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «أرْبَعُونَ خَصْلَةً: أعْلاهَا مَنِيحةُ العَنْزِ، مَا مِنْ عَامِلٍ يَعْمَلُ بخَصْلَةٍ مِنْهَا؛ رَجَاءَ ثَوَابهَا وَتَصْدِيقَ مَوْعُودِهَا، إِلاَّ أدْخَلَهُ الله تَعَالَى بِهَا الجَنَّةَ». رواه البخاري. وقد سبق بيان هَذَا الحديث في باب بَيَانِ كَثْرَةِ طُرُقِ الخَيْرِ.
قال ابن باز ﵀:
- أن تُعطي أخاك عنزًا يمتنحها يأخذ لبنها وقتًا ما ثم يعيدها إليك، وكيف إذا منحته بقرة أو من الإبل يكون أفضل وأعظم، وكيف إذا منحته ثنتين أو ثلاثا، كيف إذا أعطيته إياه عطاء هبة لا منيحة يكون الفضل أكثر، إذا كان أعلاه منيحة العنز، هناك خصائل كثيرة تحت هذه المنيحة من الصدقة بالدرهم والدينار، وعيادة المريض، الشفاعة لصاحب الحاجة، نصر المظلوم، رد السلام، تشميت العاطس، كلها خصال خير، فإذا تأمل الإنسان خصال الخير تجد مع أولئك الشيء الكثير من هذه الأربعين يرجو فضلها، ويرجو ما فيها من الخير العظيم.
- ينبغي للمؤمن أن يسارع في الخيرات، وأن ينافس في أنواع الخير، وألا يحتقر الشيء القليل، كما قال ﷺ: (لا تحقرن من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق)، وكل خصلة يحبها الله وشرعها الله وأمر بها ودعا إليها، فينبغي لك أن تنافس فيها وأن تحرص عليها رجاء فضلها وموعودها، وتصديقًا بما أخبر الله عنها من فضل، وما شرع الله فيها من عمل، فالمؤمن هكذا يتبع ما شرعه الله من قول وعمل ويعمل حسب طاقته يرجو ثوابه وعظيم إحسانه كما وعد سبحانه تعالى.

551 - وعن أَبي أُمَامَة صُدّيِّ بن عَجْلانَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «يَا ابْنَ آدَمَ، إنَّكَ أن تَبْذُلَ الفَضْلَ خَيْرٌ لَكَ، وَأَن تُمْسِكَه شَرٌّ لَكَ، وَلاَ تُلاَمُ عَلَى كَفَافٍ، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَاليَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى». رواه مسلم.
قال ابن باز ﵀:
- احرص يا عبد الله أن تكون يدك عليا منفقة محسنة، ولا تكن سفلى تأخذ وتسأل.

552 - وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: مَا سُئِلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الإسْلاَمِ شَيْئًا إِلاَّ أعْطَاهُ، وَلَقَدْ جَاءهُ رَجُلٌ، فَأعْطَاهُ غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ، فَرجَعَ إِلَى قَوْمِهِ، فَقَالَ: يَا قَوْمِ، أسْلِمُوا فإِنَّ مُحَمَّدًا يُعطِي عَطَاءَ مَن لاَ يَخْشَى الفَقْرَ، وَإنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيُسْلِمُ مَا يُريدُ إِلاَّ الدُّنْيَا، فَمَا يَلْبَثُ إِلاَّ يَسِيرًا حَتَّى يَكُونَ الإسْلاَمُ أحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا. رواه مسلم.
قال ابن عثيمين ﵀:
- يؤخذ من هذا الحديث أنّه لا ينبغي لنا أن نبتعد عن أهل الكفر وعن أهل الفسوق، وأن ندعهم للشياطين تلعب بهم، بل نؤلفهم، ونجذبهم إلينا بالمال واللين وحسن الخلق حتى يألفوا الإسلام، فها هو الرسول ﷺ يعطي الكفار، يعطيهم حتى من الفيء، بل إنّ الله جعل لهم حظاً من الزكاة، نعطيهم لنؤلفهم على الإسلام، حتى يدخلوا في دين الله، والإنسان قد يسلم للدنيا، ولكن إذا ذاق طعم الإسلام رغب فيه، فصار أحب شيء إليه. فإذا كان هذا دأب الإسلام فيمن يُعطى على الإسلام ويُولف، فإنه ينبغي لنا أن ننظر إلى هذا نظرة جدية، فنعطي من كان كافراً إذا وجدنا فيه قرباً من الإسلام، ونهاديه ونحسن له الخلق، فإذا اهتدى فلئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمر النعم.
- هكذا أيضاً الفساق انصحهم باللين، وبالتي هي أحسن، ولا تقل: أنا أبغضهم لله، ابغضهم لله وادعهم إلى الله، بغضك إياهم لله لا يمنعك أن تدعوهم إلى الله، بل ادعهم إلى الله عز وجل وإن كنت تكرههم فلعلهم يوماً من الأيام يكونون من أحبابك في الله.
قال ابن باز﵀:
- لا يسأل شيئا في الدخول في الإسلام والترغيب في الإسلام والتأليف على الإسلام إلا أعطاه عليه ﷺ فهو يرغّب الناس ويؤلفهم، ولهذا جعل الله للمؤلفة حظا في الزكاة وفي بيت المال؛ ليدخلوا في الإسلام وليقوى إسلامهم، وليسلم من نظرائهم، وليكفوا شرهم أيضًا، فالمال فيه مصالح كثيرة إذا صرف في محله.
- الحث والتحريض على الجود والكرم والإحسان في محله، للفقراء والمساكين، وتأليف الأعراب، وتأليف الرؤساء والكبار حتى يكونوا قدوة في الخير وقادة في الخير، وحتى يسلم أمثالهم ونظراؤهم، وحتى يدفع شرهم وشر نظرائهم عن المسلمين.

553 - وعن عمر - رضي الله عنه - قَالَ: قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَسْمًا، فَقُلْتُ: يَا رسولَ الله، لَغَيْرُ هؤلاَءِ كَانُوا أحَقَّ بِهِ مِنْهُمْ؟ فَقَالَ: «إنَّهُمْ خَيرُونِي أنْ يَسألُوني بالفُحْشِ، أَوْ يُبَخِّلُونِي، وَلَسْتُ بِبَاخِلٍ». رواه مسلم.
554 - وعن جبير بن مطعم - رضي الله عنه - قَالَ: بَيْنَمَا هُوَ يَسِيرُ مَعَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مَقْفَلَهُ مِنْ حُنَيْن، فَعَلِقَهُ الأعْرَابُ يَسْألُونَهُ، حَتَّى اضْطَرُّوهُ إِلَى سَمُرَة، فَخَطِفَت رِدَاءهُ، فَوَقَفَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أعْطُوني رِدَائي، فَلَوْ كَانَ لِي عَدَدُ هذِهِ العِضَاهِ نَعَمًا، لَقَسَمْتُهُ بَينَكُمْ، ثُمَّ لا تَجِدُونِي بَخِيلًا وَلاَ كَذّابًا وَلاَ جَبَانًا». رواه البخاري.
«مَقْفَلَهُ» أيْ: حَال رُجُوعِه. وَ «السَّمُرَةُ»: شَجَرَةٌ. وَ «العِضَاهُ»: شَجَرٌ لَهُ شَوْكٌ.
قال ابن باز ﵀:
- الحاصل أنّ أولياء الأمور والأغنياء والأثرياء ينبغي لهم أن يجودوا ويحسنوا، وأن ينفقوا مما أعطاهم الله في وجوه البر والخير؛ لتأليف القلوب ونصر الدين وجمع الناس على الخير.

555 - وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَال، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلاَّ عِزًّا، وَمَا تَواضَعَ أحَدٌ لله إِلاَّ رَفَعَهُ اللهُ - عز وجل». رواه مسلم.
قال ابن عثيمين ﵀:
- الإنسان إذا تصدق فإن الشيطان يقول له: أنت إذا تصدقت نقص مالك، عندك مائة ريال إذا تصدقت بعشرة لم يكن عندك إلا تسعون، إذا نقص المال فلا تتصدق، كلما تصدقت ينقص مالك. ولكن من لا ينطق عن الهوى يقول: إن الصدقة لا تنقص المال، لا تنقصه لماذا؟ قد تنقصه كمّا، لكنها تزيده كيفا وبركة، وربما هذه العشرة يأتي بدلها مائة، كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ﴾، أي يجعل لكم خلفاً عنه عاجلاً، وأجراً وثواباً آجلاً.
- المسلمون اليوم مقبلون على شهر رمضان، وشهر رمضان مقبل عليهم، فهو شهر الجود والكرم، كان النبي ﷺ أكرم الناس، وكان أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، فلرسول الله ﷺ أجود بالخير من الريح المرسلة، الريح المرسلة التي أمرها الله وأرسلها فهي عاصفة سريعة، ومع ذلك فالرسول ﷺ أسرع بالخير في رمضان من هذه الريح المرسلة، فينبغي لنا إن كانت زكاة فزكاة، وإن كانت تبرعاً فتبرع؛ لأنه شهر الخير والبركة والإنفاق.
- يزيد العامة على قوله ﷺ: (ما نقصت صدقة من مال) قولهم: (بل تزده)، وهذه زيادة لا صحة لها، فلم تصح عن الرسول ﷺ، وإنما الذي صح عنه ﷺ قوله: (ما نقصت صدقة من مال).
- الزيادة التي تحصل بدل الصدقة إما كمية وإما كيفية.
• مثال الكمية: أنّ الله تعالى يفتح لك باباً من الرزق ما كان في حسابك.
• والكيفية: أن ينزل الله لك البركة فيما بقي من مالك.
- إذا جنى عليك أحد وظلمك في مالك، أو في بدنك، أو في أهلك، أو في حق من حقوقك، فإن النفس شحيحة تأبى إلا أن تنتقم منه، وأن تأخذ بحقك، وهذا لك. قال تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾. ولا يلام الإنسان على ذلك، لكن إذا هم بالعفو وحدث نفسه بالعفو قالت له نفسه الأمارة بالسوء: إن هذا ذل وضعف، كيف تعفو عن شخص جنى عليك أو اعتدى عليك؟!. العز ضد الذل، والذي تحدثك به نفسك أنك إذا عفوت فقد ذللت أمام من اعتدى عليك، فهذا من خداع النفس الأمارة بالسوء ونهيها عن الخير، فإن الله تعالى يثيبك على عفوك هذا، فالله لا يزيدك إلا عزاً ورفعة في الدنيا والآخرة.
- هذه الرفعة تكون بسبب التواضع والتضامن، والتهاون، ولكن الإنسان يظن أنه إذا تواضع نزل، ولكن الأمر بالعكس، إذا تواضعت لله، فإن الله تعالى يرفعك.
- (تواضع لله) لها معنيان:
• المعنى الأول: أن تتواضع لله بالعبادة وتخضع لله وتنقاد لأمر الله.
• المعنى الثاني: أن تتواضع لعباد الله من أجل الله، وكلاهما سبب للرفعة، وسواء تواضعت لله بامتثال أمره واجتناب نهيه وذللت له وعبدته، أو تواضعت لعباد الله من أجل الله لا خوفاً منهم، ولا مداراة لهم، ولا طلباً لمال أو غيره، إنما تتواضع من أجل الله عز وجل، فإن الله تعالى يرفعك في الدنيا أو في الآخرة.
- فيه دلالة على فضل الصدقة والتبرع، وبذل المعروف والإحسان إلى الغير.
قال ابن باز ﵀:
- المال الذي ينفق به في وجوه البر عن نية صالحة وإخلاص لله، ينزل فيه البركة وتزيده الصدقات نموًا وخيرًا وبركة.
- العفو قد يظن بعض الناس أنه ضُعف، ولكنه عزّ في الحقيقة، والله يريد بهذا العفو عزًا ورفعه في مقابل تواضعهم وعدم تكبرهم على إخوانهم.
- ينبغي للمؤمن أن يكون كثير الصدقة، كثير الإحسان، حسن النية، عظيم الإخلاص لله عزوجل، مع أخذه بالأسباب، وعنايته بالأسباب الشرعية، وصرف الصدقة في محلها، مع بمن يعول، ولا يلام على كفاف.
- الحث على التواضع لله، وعدم التكبر، وأنه ينبغي للمؤمن أن يكون متواضعًا في سائر أحواله، وأن الله يزيد به عزاً لتواضعه.

556 - وعن أَبي كبشة عمرو بن سعد الأنماري - رضي الله عنه: أنّه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ثَلاَثَةٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ، وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ: مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ، وَلاَ ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلَمَةً صَبَرَ عَلَيْهَا إِلاَّ زَادَهُ اللهُ عِزًّا، وَلاَ فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسألَةٍ إِلاَّ فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقرٍ - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - وَأُحَدِّثُكُمْ حَديثًا فَاحْفَظُوهُ»، قَالَ: «إنَّمَا الدُّنْيَا لأرْبَعَةِ نَفَرٍ: عَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ مَالًا وَعِلمًا، فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ للهِ فِيهِ حَقًّا، فَهذا بأفضَلِ المَنَازِلِ. وَعَبْدٍ رَزَقهُ اللهُ عِلْمًا، وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا، فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ، يَقُولُ: لَوْ أنَّ لِي مَالًا لَعَمِلتُ بِعَمَلِ فُلانٍ، فَهُوَ بنيَّتِهِ، فأجْرُهُمَا سَوَاءٌ. وَعَبْدٍ رَزَقَهُ الله مَالًا، وَلَمَ يَرْزُقْهُ عِلْمًا، فَهُوَ يَخبطُ في مَالِهِ بغَيرِ عِلْمٍ، لاَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَلاَ يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَلاَ يَعْلَمُ للهِ فِيهِ حَقًّا، فَهذَا بأَخْبَثِ المَنَازِلِ. وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللهُ مَالًا وَلاَ عِلْمًا، فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ فِيهِ بعَمَلِ فُلاَنٍ، فَهُوَ بنِيَّتِهِ، فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ». رواه الترمذي، وقال: «حديث حسن صحيح».
قال ابن باز﵀:
- دلت الشريعة على أنّ العاجز عن العمل مع النية الصادقة يكون له مثل حقوق العاملين، من تأخر عن صلاة الجماعة لمرض له أجر المصلي في الجماعة وهكذا.
- هذا يفيد المؤمن، الحرص على النية الطيبة والإخلاص لله في أعماله، وأنه متى عجز عن العمل الطيب وله نية صالحة لولا العجز لفعل العمل الطيب، يكون شريكًا في ذلك، شريكًا في العمل الطيب من صلاة وصوم وجهاد وغير ذلك.

557 - وعن عائشة رضي الله عنها: أنَّهُمْ ذَبَحُوا شَاةً، فَقَالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم: «مَا بَقِيَ مِنْهَا؟» قالت: مَا بَقِيَ مِنْهَا إِلاَّ كَتِفُها. قَالَ: «بَقِيَ كُلُّهَا غَيْرُ كَتِفِهَا». رواه الترمذي، وقال: «حديث صحيح».
ومعناه: تَصَدَّقُوا بِهَا إِلاَّ كَتِفَها. فَقَالَ: بَقِيَتْ لَنَا في الآخِرَةِ إِلاَّ كَتِفَهَا.
558 - وعن أسماء بنت أَبي بكرٍ الصديق رضي الله عنهما، قالت: قَالَ لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «لاَ تُوكِي فَيُوكى عَلَيْكِ».
وفي رواية: «أنفقي أَوِ انْفَحِي، أَوْ انْضَحِي، وَلاَ تُحصي فَيُحْصِي اللهُ عَلَيْكِ، وَلاَ تُوعي فَيُوعي اللهُ عَلَيْكِ». متفقٌ عَلَيْهِ.
وَ «انْفَحِي» بالحاء المهملة، وَهُوَ بمعنى «أنفقي» وكذلك «انْضحي».
قال ابن باز ﵀:
- حثها على النفقة والإحسان، وأن من أنفق وسَّع الله عليه، ومن بخل ضيَق عليه، فالجزاء من جنس العمل، فالذي يخشى الفقر لا ينفعه البخل يضره البخل، ولكن ينبغي الإنفاق والإحسان والجود مع مراعاة حاجته والبداءة بالأقرب فالأقرب، والبداءة بمن يعول فلا ينسى نفسه، ﴿وَٱبْتَغِ فِيمَآ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلْـَٔاخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ﴾، يترك لأهله وحاجتهم ولأيتامه من تحت يده، وينفق مما يسر الله مما زاد من الفضل، هكذا المؤمن بصير بأمر دينه ودنياه، ينفق في محل الإنفاق ويبقي لأهله حاجتهم، العبد لا يلام على الكفاف لكن يبذل الفضل فهو خير له، وإن يترك الفضل فهو شر له.

559 - وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه: أنَّه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقولُ: «مَثَل البَخِيل وَالمُنْفِقِ، كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُنَّتَانِ مِنْ حَديدٍ مِنْ ثُدِيِّهِمَا إِلَى تَرَاقِيهِمَا، فَأَمَّا المُنْفِقُ فَلاَ يُنْفِقُ إِلاَّ سَبَغَتْ - أَوْ وَفَرَتْ - عَلَى جِلْدِهِ حَتَّى تُخْفِيَ بَنَانَهُ، وَتَعْفُو أثرَهُ، وأمَّا البَخِيلُ، فَلاَ يُريدُ أَنْ يُنْفِقَ شَيْئًا إِلاَّ لَزِقَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا، فَهُوَ يُوسِّعُهَا فَلاَ تَتَّسِعُ». متفقٌ عَلَيْهِ.
وَ «الجُنَّةُ»: الدِّرْعُ؛ وَمَعنَاهُ أنَّ المُنْفِقَ كُلَّمَا أَنْفَقَ سَبَغَتْ، وَطَالَتْ حَتَّى تَجُرَّ وَرَاءهُ، وَتُخْفِيَ رِجْلَيْهِ وَأثَرَ مَشْيِهِ وَخطُوَاتِهِ.
قال ابن باز ﵀:
- كهذا صدره وقلبه ضيق في الإنفاق لما جبل عليه من البخل، ولما استقر في قلبه البخل، كلما أراد الإنفاق شحت نفسه وضاق صدره، وضاق قلبه حتى لا ينفق.
- المنفق عنده انشراح صدر، وراحة القلب، وعنده ثقة بالله حسن ظن بالله، وعنده رغبة في الإنفاق وفرح به، والعكس بالعكس البخيل يعكس ذلك، فينبغي للمؤمن أن يحاسب نفسه ويجاهدها في الإنفاق حتى ينشرح صدره، حتى لا تكون له صفة البخيل يجاهد نفسه ﴿ومَن جَٰهَدَ فَإِنَّمَا يُجَٰهِدُ لِنَفْسِهِ﴾، فإذا جاهد نفسه في الله وأنفق وأحسن وخالف هواه حمد العاقبة.

560 - وعنه، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَصَدَّقَ بعَدلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلاَ يَقْبَلُ اللهُ إِلاَّ الطَّيبَ، فَإنَّ اللهَ يَقْبَلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِّي أحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ». متفقٌ عَلَيْهِ.
«الفَلُوُّ» بفتح الفاء وضم اللام وتشديد الواو، ويقال أيضًا: بكسر الفاء وإسكان اللام وتخفيف الواو: وَهُوَ المُهْرُ.
قال ابن باز ﵀:
- الله يربي هذه الصدقة وينميها له حتى تكون مثل الجبل في ميزان حسناته يوم القيامة، فينبغي للمؤمن أن يحرص على الصدقة من الكسب الطيب، يبتغي ما عند الله من المثوبة، في أعمال الخير في الفقراء والمساكين وفي المشاريع الخيرية، وفي صلة الرحم وغير هذا من وجوه الخير، وبذلك يجد ثوابها عند الله قد نُمي وثُمر له حتى يجد شيئًا كبيرًا وعظيمًا في ميزان حسناته وفي كتاب أعماله.

561 - وعنه، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «بَيْنَمَا رَجُلٌ بِفَلاَةٍ مِنَ الأَرْضِ، فَسَمِعَ صَوْتًا في سَحَابَةٍ، اسقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ، فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ فَأَفْرَغَ مَاءَهُ فِي حَرَّةٍ، فإِذَا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ قَدِ اسْتَوْعَبَت ذَلِكَ الماءَ كُلَّهُ، فَتَتَبَّعَ المَاءَ، فإذَا رَجُلٌ قَائمٌ في حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الماءَ بِمسَحَاتِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللهِ، ما اسمُكَ؟ قال: فُلانٌ للاسم الذي سَمِعَ في السَّحابةِ، فقال له: يا عبدَ الله، لِمَ تَسْألُنِي عَنِ اسْمِي؟ فَقَالَ: إنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا في السَّحابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ، يقولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلاَنٍ لاسمِكَ، فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا، فَقَالَ: أمَا إذ قلتَ هَذَا، فَإنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ، وَآكُلُ أنَا وَعِيَالِي ثُلُثًا، وَأَردُّ فِيهَا ثُلُثَهُ». رواه مسلم.
«الحَرَّةُ» الأَرْضُ المُلَبَّسَةُ حِجَارَةً سَوْدَاءَ. وَ «الشَّرْجَةُ» بفتح الشين المعجمة وإسكان الراءِ وبالجيم: هي مَسِيلُ الماءِ.
قال ابن باز ﵀:
- هذا يدل على أن الإنسان إذا أنفق وأحسن فالله يعينه ويجود ويخلف عليه، ويشهد له الأرض، ﴿وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُۥ مَخْرَجًا﴾، فالجزاء من جنس العمل، ﴿هَلْ جَزَآءُ ٱلْإِحْسَٰنِ إِلَّا ٱلْإِحْسَٰنُ﴾.

باب النهي عن البخل والشح


قَالَ الله تَعَالَى: ﴿وَأَمَا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى﴾ [الليل: 8 - 11]، وقال تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفسِهِ فَأولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [التغابن: 16].
وأما الأحاديث فتقدمت جملة مِنْهَا في الباب السابق.
562 - وعن جابر - رضي الله عنه: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «اتَّقُوا الظُّلْمَ؛
فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ القِيَامَةِ. وَاتَّقُوا الشُّحَّ؛ فَإنَّ الشُّحَّ أهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ»
. رواه مسلم.
قال ابن عثيمين ﵀:
- الظلم: هو العدوان على الغير، وأعظم الظلم وأشده بالله ﷿، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾، ويشمل الظلم ظلم العباد، وهو نوعان: ظلم بترك الواجب لهم، وظلم بالعدوان عليهم بأخذ أو بانتهاك حرماتهم. فمثال الأول ما ذكره النبي ﷺ في قوله: (مطل الغني ظلم)، يعني ممانعة الإنسان الذي عليه دين عن الوفاء وهو غني قادرٌ على الوفاء ظلم، وهذا منع ما يجب؛ لأنّ الواجب على الإنسان أن يبادر بالوفاء إذا كان له قدرة، ولا يحل له أن يؤخر، فإن أخر الوفاء وهو قادر عليه؛ كان ظالماً والعياذ بالله. ومن الظلم أيضًا اقتطاع شيء من الأرض، قال النبي ﷺ: (من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً، طُوقه يوم القيامة من سبع أرضين). ومن الظلم الاعتداء على الناس في أعراضهم بالغيبة أو النميمة أو ما أشبه ذلك، فإن الغيبة ذكرك أخاك بما يكره في غيبته، فإن كان في حضرته، فهو سب وشتم. وعلى كل حال، اتقوا الظلم بجميع الأنواع، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، يكون على صاحبه والعياذ بالله ظلمات بحسب الظلم الذي وقع منه.
- قال تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾، في هذا دليلٌ على أن الظلم من كبائر الذنوب؛ لأنه لا وعيد إلا على كبيرة من كبائر الذنوب، فظلم العباد وظلم الخالق ﷿ رب العباد؛ كله من كبائر الذنوب.