باب الورع وترك الشبهات


قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ﴾ [النور: 15]، وقال تَعَالَى: ﴿إنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ [الفجر: 14].
587 - وعن النعمان بن بشيرٍ رضي الله عنهما، قَالَ: سَمِعْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إنَّ الحَلاَلَ بَيِّنٌ، وَإنَّ الحَرامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبَهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ، اسْتَبْرَأَ لِدِينهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ في الحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، ألاَ وَإنَّ لكُلّ مَلِكٍ حِمَىً، ألاَ وَإنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، ألاَ وَإنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَت صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، ألاَ وَهِيَ القَلْبُ». متفقٌ عَلَيْهِ، وروياه مِنْ طرقٍ بِألفَاظٍ متقاربةٍ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- هناك أمور مشتبهات تخفى على الناس، وأسباب الخفاء كثيرة، منها ألا يكون النصُّ ثابتاً عند الإنسان، يعني يتردد: هل يصح عن الرسول ﷺ أو لا يصح، ثم إذا صح قد تشتبه دلالته: هل يدل على كذا أو لا يدل؟ ثم إذا دلّ على شيء معين فقد يشتبه: هل له مخصص إن كان عاماًّ؟ هل له مقيد إن كان مطلقاً؟ ثم إذا تبين قد يشتبه: هل هو باقٍ أو منسوخ، المهم أن أسباب الاشتباه كثيرة، فما هو الطريق إلى حل هذا الاشتباه؟ والجواب: أن الطريق بيَّنه النبي ﷺ فقال: (فمن اتقى الشبهات؛ استبرأ لدينه وعرضه) من اتقاها يعني تجنبها إلى الشيء الواضح البيّن، فقد استبرأ لدينه وعرضه.
- استبرأ لدينه: حيث سلم من الوقوع في المحرم. ولعرضه: حيث سلم من كلام الناس فيه؛ لأنه إذا أخذ الأمور المشتبهة؛ صار عرضة للكلام فيه، كما إذا أتى الأمور البينة الواضح تحريمها.
- الله ﷿ أحاط الشريعة بسياجٍ محكمٍ، حمى كل شيءٍ محرمٍ يضر الناس في دينهم ودنياهم حماه، وإذا كان الشيء مما تدعو النفوس إليه شدد السياج حوله إذا كان مما تدعو النفوس إليه.
- انظر مثلاً إلى الزنى والعياذ بالله، الزنى سببه قوة الشهوة وضعف الإيمان، لكن النفوس تدعوا إليه؛ لأنه جبلة وطبيعة، فجعل حوله سياجاً يبعد الناس عنه فقال: ﴿وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى﴾، لم يقل ولا تزنوا، قال: ﴿وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى﴾ يشمل كل ذريعة توصل إلى الزنى من النظر واللمس والمحادثة وغير ذلك.
- الربا حرمه الله ﷿، ولما كانت النفوس تطلبه لما فيه من الفائدة؛ حرم كل ذريعة إليه فحرم الِحيَل على الربا ومنعها، وهكذا جعل الله ﷿ للمحارم حمى له تمنع الناس من الوقوع فيها.
- (ألا وهي القلب) ليست العين، ولا الأنف، ولا اللسان، ولا اليد، ولا الرجل، ولا الكبد، ولا غيرها من الأعضاء، إنّما هي القلب، ولهذا كان الرسول ﷺ يقول: (اللهم مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك).
- الإنسان مدار صلاحه وفساده على القلب. ولهذا ينبغي لك أيها المسلم أن تعتني بصلاح قلبك، فصلاح الظواهر وأعمال الجوارح طيب، ولكن الشأن كل الشأن في صلاح القلب، يقول الله عن المنافقين: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ﴾، ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ﴾ من الهيئة الحسنة، وحسن عمل الجوارح، وإذا قالوا، قالوا قولاً تسمع له من حسنه وزخرفته، لكن قلوبهم خربة والعياذ بالله ﴿كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ﴾ ليس فيها خير.
- اعتنِ بصلاح القلب، انظر قلبك هل فيه شيء من الشرك؟ هل فيه شيء من كراهة ما أنزل الله؟ هل فيه شيء من كراهة عباد الله الصالحين؟ هل فيه شيء من الميل إلى الكفار؟ هل فيه شيء من موالاة الكفارة؟ هل فيه شيئاً من الحسد، هل فيه شيء من الغل؟ هل فيه شيء من الحقد؟ وما أشبه ذلك من الأمراض العظيمة الكثيرة في القلوب، فطهِّر قلبك من هذا وأصلحه، فإن المدار عليه. ﴿أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِى ٱلْقُبُورِ وَحُصِّلَ مَا فِى ٱلصُّدُورِ‎ إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرُ﴾ هذا يوم القيامة، العلم على الباطن، في الدنيا العمل على الظاهر، مالنا إلا ظواهر الناس، لكن في الآخرة العمل على الباطن، أصلح الله قلوبنا وقلوبكم.
- قال تعالى: ﴿يوْمَ تُبْلَى ٱلسَّرَآئِرُ﴾ ﴿تُبْلَى﴾يعني تختبر السرائر، فمن كان من المؤمنين ظهر إيمانه، ومن كان من أهل النفاق ظهر نفاقه والعياذ بالله.
- أصلح قلبك يا أخي، لا تكره شريعة الله، لا تكره عباد الله الصالحين، لا تكره أي شيء مما نزَّل الله، فإن كراهتك لشيء مما نزَّل الله كفر بالله تعالى، نسأل الله لنا ولكم الهداية والتوفيق والصلاح.
قال ابن باز﵀:
- الملوك لهم حمى في الغالب لخيلهم وإبلهم التي يستعملونها في الحروب والجهاد الشرعي، إذا كانوا مسلمين ولحاجاتهم، ويغضبون إذا انتهك ذلك الحمى ويعاقبون، فملك الملوك أولى وأولى بأن يحفظ حماه سبحانه، وهو الملك العظيم الذي لا شبيه له ولا ند له، وهو القاهر لكل شيء سبحانه، فهو الواجب أن يحذر حماه، وحماه محارمه ما حرَّم علينا، فيجب على المؤمن أن يحذر ذلك الحمى وألا يُقدم عليه وألا ينتهكه من التساهل واتباع الشهوات وطاعة الهوى.
- هذه المضغة التي هي القلب بها صلاحك وبها فسادك، متى صلحت وعمرت بتقوى الله وخشيته وتعظيمه والإخلاص له، صلح العبد واستقام أمره واستقامت أحواله، ومتى خبثت هذه المضغة وساءت وملئت بالشكوك والأوهام والنفاق ساءت أحوال العبد وصار إلى الهلاك، فوجب عليه أن يعتني بهذه المضغة وأن يُغذيها بذكر الله وطاعته والإخلاص له ومحبته وتعظيمه واتباع شريعته، والحذر من محارمه حتى يصلح هذا القلب، وليحذر من معاصي الله التي تسبب مرض هذا القلب أو موته.
- ينبغي للمؤمن أن يحتاط لدينه وأن يحذر الوقوع فيما حرم الله، ومن وسائل ذلك: التساهل في المشتبهات، والتساهل فيها يجر إلى الوقوع في المحرمات، (كالراعي يرعى حول الحمى)، كالذي يرعى إبله أو غنمه وبقره حول حمى الناس، حول زروعهم وربما غفل أو نعس فرتعت سوائبه في حمى الناس، فهكذا هذه الشبهات، فينبغي الحذر.

588 - وعن أنسٍ - رضي الله عنه: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَجَدَ تَمْرَةً فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ: «لَوْلاَ أنِّي أخَافُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَة لأَكَلْتُهَا». متفقٌ عَلَيْهِ.
قال ابن باز ﵀:
- هذا من باب الورع؛ لأن الله حرم عليه الصدقة وأباح له الطيبات، والصدقة أوساخ الناس، وزكواتهم حرمت عليه، وعلى أهل بيته، هذا من ورعه ﷺ.
- هذا فيه الحيطة والبعد عن المشتبهات، وهكذا ينبغي للمؤمن التأسي بالنبي ﷺ وأن يتحرى الطيب الحلال من غير وساوس، بل يتحرى الطيب الحلال في الأدلة الشرعية، ويدع ما اشتبه بالأدلة الشرعية، لا من طريق الوساوس، وسبيل الشيطان، ولكن من جهة الأدلة الشرعية.

589 - وعن النَّواسِ بن سمعان - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «البِرُّ: حُسْنُ الخُلُقِ، وَالإِثْمُ: مَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ». رواه مسلم.
«حَاكَ» بِالحاءِ المهملةِ والكافِ: أيْ تَرَدَّدَ فِيهِ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- حسن الخلق من البر الداخل في قوله تعالى: ﴿وتَعَاوَنُوا۟ عَلَى ٱلْبِرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ﴾ وحسن الخلق يكون في عبادة الله، ويكون في معاملة عباد الله.
- حسن الخلق في عبادة الله: أن يتلقى الإنسان أوامر الله بصدر منشرح، ونفس مطمئنة، ويفعل ذلك بانقياد تام، بدون تردد، وبدون شك، وبدون تسخط. يؤدي الصلاة مع الجماعة منقاداً لذلك، يتوضأ في أيام البرد منقاداً لذلك، يتصدق بالزكاة من ماله منقاداً لذلك، يصوم رمضان منقاداً لذلك، يحجُّ منقاداً لذلك.
- حسن الخلق في معاملة الناس: فإنه يقوم ببر الوالدين، وصلة الأرحام، وحسن الجوار، والنصح بالمعاملة وغير هذا، وهو منشرح الصدر، واسع البال، لا يضيق بذلك ذرعاً، ولا يتضجر منه، فإذا علمت من نفسك أنك في هذه الحال، فإنك من أهل البر.
قال ابن باز﵀:
- ما حاك في نفسك وتردد أن يكون حرامًا فدعه واصبر حتى تجد ما يطمئنك على حله وتحريمه.
- المؤمن يتباعد عن المشتبهات ويتحرى الطيبات ويقف عند الاشتباه حتى يتضح الأمر.

590 - وعن وَابِصَةَ بن مَعبدٍ - رضي الله عنه - قَالَ: أتَيْتُ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «جئتَ تَسْألُ عَنِ البِرِّ؟» قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: «اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، البرُّ: مَا اطْمَأنَّت إِلَيْهِ النَّفسُ، وَاطْمأنَّ إِلَيْهِ القَلْبُ، وَالإثْمُ: مَا حَاكَ في النَّفْسِ، وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ، وَإنْ أفْتَاكَ النَّاسُ وَأفْتُوكَ» حديث حسن، رواه أحمد والدَّارمِيُّ في مُسْنَدَيْهِمَا.
قال ابن عثيمين ﵀:
- الإثم هو أن الإنسان يتردد في الشيء، ويشك فيه، ولا ترتاح له نفسه، وهذا فيمن نفسه مطمئنة راضية بشرع الله. وأما أهل الفسوق والفجور فإنهم لا يترددون في الآثام، تجد الإنسان منهم يفعل المعصية منشرحاً بها صدره والعياذ بالله، لا يبالي بذلك، لكن صاحبَ الخير الذي وُفق للبر هو الذي يتردد الشيء في نفسه، ولا تطمئن إليه، ويحيك في صدره، فهذا هو الإثم.
- موقف الإنسان من هذا أن يدعه، وأن يتركه إلى شيء تطمئن إليه نفسه، ولا يكون في صدره حرج منه، وهذا هو الورع، ولهذا قال النبي ﷺ: (وإن أفتاك الناس وأفتوك)، حتى لو أفتاك مفتٍ بأن هذا جائز، ولكن نفسك لم تطمئن ولم تنشرح إليه فدعه، فإن هذا من الخير والبر، إلا إذا علمت أن في نفسك مرضاً من الوسواس والشك والتردد فيما أحل الله، فلا تلتفت لهذا، والنبي ﷺ إنما يخاطب الناس، أو يتكلم على الوجه الذي ليس فيه أمراض، أي ليس في قلب صاحبه مرض، فإن البر هو ما أطمأنت إليه نفسه، والإثم ما حاك في صدره وكره أن يطلع عليه الناس، والله الموفق.
قال ابن باز﵀:
- اطمأن إليه القلب لوضوح دليله، ما ظهر دليله واطمأن إليه القلب بوضوح الدليل على إباحته وحله، فافعل.
- وكرهت أن يطلع عليه الناس، خوفًا أن يكون حرامًا، فلا تعجل حتى يطمئن قلبك، وحتى يتضح الأمر، حتى تعلم أنه من قسم البر، لا من قسم الإثم، ولو أفتاك الناس، فإن كثيرًا من الناس قد يفتي على غير بيّنة أو لا يفهم كلامه، أو لقلة علمه، فالواجب التثبت في الأمور حتى تطمئن، حتى يتضح الأمر.

591 - وعن أَبي سِرْوَعَةَ - بكسر السين المهملة وفتحها - عُقبَةَ بنِ الحارِثِ - رضي الله عنه: أنَّهُ تَزَوَّجَ ابنَةً لأبي إهَابِ بن عزيزٍ، فَأتَتْهُ امْرَأةٌ، فَقَالَتْ: إنّي قَدْ أرضَعْتُ عُقْبَةَ وَالَّتِي قَدْ تَزَوَّجَ بِهَا. فَقَالَ لَهَا عُقْبَةُ: مَا أَعْلَمُ أنَّك أرضَعْتِنِي وَلاَ أخْبَرْتِني، فَرَكِبَ إِلَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ِ بِالمَدِينَةِ، فَسَأَلَهُ: فَقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «كَيْفَ وَقَد قِيلَ؟» فَفَارَقَهَا عُقْبَةُ وَنَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ. رواه البخاري.
«إهَابٌ» بكسر الهمزة وَ «عَزيزٌ» بفتح العين وبزاي مكررة.
قال ابن باز﵀:
- ينبغي للمؤمن أن يحتاط لدينه، وأن يبتعد عن المشتبهات، وأنّ المؤمن يرتحل لطلب العلم إذا اشتبهت عليه الأمور، يرتحل إذا ما وجد في محله من يكفيه، ولو إلى مسافة تحتمل إلى شد الرحل، كما ارتحل عقبة ﵁ إلى المدينة.

592 - وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما، قَالَ: حَفِظتُ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «دَعْ مَا يَريبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ». رواه الترمذي، وقال: «حديث حسن صحيح».
معناه: اتْرُكْ مَا تَشُكُّ فِيهِ، وَخُذْ مَا لاَ تَشُكُّ فِيهِ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- هذا أصل من أصول الورع.
- إذا كان بينك وبين شخص محاسبة، وحصل زيادة لك من أجل هذه المحاسبة، وشككت فيها فدعها، وإذا شك فيها صاحبك وتركها فتصدق بها، تصدق بها تخلصًا منها، أو تجعلها صدقة معلقة بأن تقول: (اللهم إن كانت لي فهي صدقة أتقرب بها إليك، وإن لم تكن لي فهو مالٌ أتخلص بالصدقة به من عذابه).
- والحاصل أن هذا الحديث حديثٌ عظيمٌ في باب الورع، ما تشك فيه اتركه وخذ بالشيء الذي لا يلحقك به قلق ولا شك ولا اضطراب.
قال ابن باز﵀:
- قال الفقهاء في الشبهات: من تساهل بها وقع في الحرام، جرَّه ذلك إلى الوقوع في الحرام، تضعف الغيرة ويضعف الورع، فيجره ذلك إلى أن يتساهل بالمحارم.
- دع ما اشتبه عليك حِلَّه إلى الشيء الذي هو واضح حتى يتبين لك الأمر، وأنه من قسم الحِل، ولا توقع نفسك فيما حرَّم الله، ولا يخفى على كل ذي لُب أن العبد إذا تساهل في المشتبهات وتساهل فيما يخفى عليه أمره، جرَّه ذلك إلى الوقوع في المحارم؛ لأن القلب يضعف والإيمان يضعف بهذه الأمور، فيقع صاحبها فيما حرَّم الله ﷿ عليه.

593 - وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: كَانَ لأبي بَكر الصديق - رضي الله عنه - غُلاَمٌ يُخْرِجُ لَهُ الخَرَاجَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ، فَجَاءَ يَوْمًا بِشَيءٍ، فَأكَلَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ الغُلامُ: تَدْرِي مَا هَذَا؟ فَقَالَ أَبُو بكر: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لإنْسَانٍ في الجَاهِلِيَّةِ وَمَا أُحْسِنُ الكَهَانَةَ، إِلاَّ أَنّي خَدَعْتُهُ، فَلَقِيَنِي، فَأعْطَانِي لِذلِكَ، هَذَا الَّذِي أَكَلْتَ مِنْهُ، فَأدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ فِي بَطْنِهِ. رواه البخاري.
«الخَرَاجُ»: شَيْءٌ يَجْعَلُهُ السَّيِّدُ عَلَى عَبْدِهِ يُؤدِّيهِ كُلَّ يَومٍ، وَبَاقِي كَسْبِهِ يَكُونُ لِلْعَبْدِ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- فالأجرة على فعل الحرام حرام، لأن الله تعالى قال ﴿وَلَا تَعَاوَنُوا۟ عَلَى ٱلْإِثْمِ وَٱلْعُدْوَٰنِ﴾، وتأجير المحلات لهؤلاء معونة لهم، وقال النبي ﷺ: (إنّ الله إذا حرَّم شيئاً حرَّم ثمنه).
- وفي هذا الحديث دليلٌ على شدة ورع أبي بكر ﵁، فهو جدير بهذا؛ لأنه الخليفة الأول على هذه الأمة بعد نبيها ﷺ، ولهذا كان قول أهل السنة والجماعة إن أبا بكر ﵁ أفضل هذه الأمة؛ لأنه الخليفة الأول، ولأن الرسول ﷺ قد خطب الناس في مرضه وقال: (إن من أمنّ الناس على في نفسه وماله أبو بكر)، ثم قال: (ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر، ولكن خلة الإسلام أفضل).
قال ابن باز﵀:
- هذا من ورع الصديق وحرصه على ألا يدخل جوفه إلا شيء طيب مباح، فلما علم أنه تحصَّل على هذا الكسب من طريق قبيح من طريق الكهانة والخداع، سحبه من بطنه وقاءه؛ لئلا يبقى في قلبه شيء من الكسب الحرام، فالمقصود من هذا الحذر من المكاسب الرديئة التي لا ينبغي تعاطيها، والتحرز من ذلك، وتعاطي الحيطة في أمور دينه.

594 - وعن نافِع: أن عُمَرَ بن الخَطّاب - رضي الله عنه - كَانَ فَرَضَ لِلمُهَاجِرينَ الأَوَّلِينَ أَرْبَعَةَ الآفٍ وَفَرَضَ لابْنِهِ ثَلاَثَة آلافٍ وَخَمْسَمئَةٍ، فَقيلَ لَهُ: هُوَ مِنَ المُهَاجِرينَ فَلِمَ نَقَصْتَهُ؟ فَقَالَ: إنَّمَا هَاجَرَ بِهِ أبُوهُ. يقول: لَيْسَ هُوَ كَمَنْ هَاجَرَ بِنَفْسِهِ. رواه البخاري.
قال ابن عثيمين ﵀:
- هذا يدل دلالة عظيمة على شدة ورع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ﵁.
- هكذا يجب على من تولى شيئاً من أمور المسلمين ألا يحابي قريباً لقربه، ولا غنياً لغناه، ولا فقيراً لفقره، بل ينزل كل أحد منزلته، فهذا من الورع والعدل، ولم يقل عبد الله بن عمر: (يا أبت، أنا مهاجر ولو شئت لبقيت في مكة) بل وافق على ما فرضه له أبوه.

595 - وعن عَطِيَّةَ بن عُروة السَّعْدِيِّ الصحابيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَبْلُغُ الْعَبدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ المُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لاَ بَأسَ بِهِ، حَذَرًا لما بِهِ بَأسٌ» رواه الترمذي، وقال: «حديث حسن».
قال ابن عثيمين ﵀:
- هذا فيما اشتبه مباح بمحرم وتعذر التمييز، فإنه من تمام اليقين والتقوى أن تدع الحلال خوفاً من الوقوع في الحرام. وهذا أمر واجب، كما قال أهل العلم: إنه إذا اشتبه مباح بمحرم وجب اجتناب الجميع؛ لأن اجتناب المحرم واجب، ولا يتم إلا باجتناب المباح، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، لكن لو اضطر إلى أحدهما فله أن يتحرى في هذه الحال ويأخذ بما غلب على ظنه، ولنفرض أنه اشتبه طعام غيره بطعام نفسه، ولكنه مضطر إلى الطعام، ففي هذه الحال يتحرى ويأكل ما يغلب على ظنه أنه طعامه.
قال ابن باز﵀:
- من كمال التقوى ومن كمال الحذر ومن كمال الخوف من الله ومن كمال الحيطة، أن يتحرى الإنسان ترك بعض الأشياء التي يخشى أن تجره إلى ما فيه بأس، فيدعها حرصًا على سلامة دينه، ومن ذلك المشتبهات التي يخشى منها أن تجره إلى باطل، وهكذا أولياء الله خواص عبادة قد يدعون بعض الحلال إذا خشوا أن يجرهم إلى ما حرم الله، كالتوسع في التنعم، التوسع بالحلال، خوفا أن يجرهم إلى ما لا تحمد عقباه.

باب استحباب العزلة عند فساد الناس والزمان أَو الخوف من فتنة في الدين ووقوع في حرام وشبهات ونحوها


قَالَ الله تَعَالَى: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مبِينٌ﴾ [الذاريات: 50].
596 - وعن سعد بن أَبي وقاص - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إنَّ الله يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الغَنِيَّ الْخَفِيَّ». رواه مسلم.
والمُرَادُ بـ «الغَنِيّ» غَنِيُّ النَّفْسِ، كَمَا سَبَقَ في الحديث الصحيح.
قال ابن عثيمين ﵀:
- التقي: الذي يتقي الله ﷿، فيقوم بأوامره، ويجتنب نواهيه؛ يقوم بأوامره من فعل الصلاة وأدائها في جماعة، يقوم بأوامره من أداء الزكاة وإعطائها مستحقيها، يصوم رمضان، ويحج البيت، يبر والديه، يصل أرحامه، يحسن إلى جيرانه، يحسن إلى اليتامى، إلى غير ذلك من أنواع التقى والبر وأبواب الخير.
- لا يعني ذلك أن الإنسان إذا أعطاه الله علماً أن يتقوقع في بيته ولا يُعلم الناس، هذا يعارض التقى، فتعليمه الناس خيرٌ من كونه يقبع في بيته ولا ينفع الناس بعلمه، أو يقعد في بيته ولا ينفع الناس بماله.
- إذا دار الأمر بين أن يلمَّع نفسه ويظهر نفسه ويبين نفسه، وبين أن يخفيها، فحينئذٍ يختار الخفاء، أما إذا كان لا بد من إظهار نفسه فلا بد أن يظهرها، هذا ممن يحبه الله ﷿.
- فيه الحث على أن الإنسان يكون خفياً، يكون غنياً عن غير الله ﷿، يكون تقياً لربه ﷿ حتى يعبد الله ﷿ في خير وعافية.
قال ابن باز﵀:
- الخفي الذي لا يطلب الشهرة ولا يريد الشهرة ولا الرياء فهو يعبد الله ويتقي الله ويسارع إلى مراضيه، ولا يسعى لشهرة أو دخول أمره بين الناس، بل ما يهمه هو طاعة الله ورسوله، فهو خفي بين الناس؛ لأنه لا يتعاطى أسباب الشهرة ولا يطلبها، أما إذا اشتهر بين الناس وعرف بين الناس من غير قصد منه بذلك ولا رياء فلا حرج عليه، ولا سيما إذا كان ظهوره بين الناس وشهرته تنفعهم، ليُسأل عن علمه، وليبذل علمه في الناس وليعينهم على الخير كما فعل الرسل وأتباع الرسل عليهم الصلاة والسلام.

597 - وعن أَبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: أيُّ النَّاسِ أفْضَلُ يَا رسولَ الله؟ قَالَ: «مُؤْمِنٌ مُجَاهِدٌ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ في سَبيلِ اللهِ» قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ رَجُلٌ مُعْتَزِلٌ فِي شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَعْبُدُ رَبَّهُ».
وفي رواية: «يَتَّقِي اللهَ، وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ». متفقٌ عَلَيْهِ.
قال ابن باز﵀:
- هذا محمول على أوقات الفتن الذي يعتزل المدن والقرى لما فيها من الفتن والشرور، إلى شعب من الشعاب يعبد الله فيه ويدع الناس من شره، في زراعة أو غُنيمة أو غير ذلك مما يعينه على طاعة الله، أما إذا كان بقاؤه في المدينة أو في القرية أو في القبيلة ينفعها لعلمه وتوجيهه إلى الخير وإرشاده فلا يسوغ له أن يدعهم وينتقل عنهم ويضيعهم.

598 - وعنه، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ المُسْلِمِ غَنَمٌ يَتَّبعُ بِهَا شَعَفَ الجِبَالِ، وَمَواقعَ الْقَطْر يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الفِتَنِ». رواه البخاري.
وشعف الجبال أعلاها.
قال ابن عثيمين ﵀:
- هذا هو التقسيم؛ العزلة خير إن كان في الاختلاط شر وفتنة في الدين، وإلا فالأصل أن الاختلاط هو الخير، يختلط الإنسان مع الناس فيأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، يدعو إلى حق، يبين السنة للناس، فهذا خير. لكن إذا عجز عن الصبر وكثرت الفتن؛ فالعزلة خير ولو أن يعبد الله على رأس جبل أو في قعر واد.
قال ابن باز﵀:
- يبتعد بدينه عن أسباب الفتنة، فهذا هو المعذور الذي يخشى على دينه؛ لأن أهل البلد لا يقبلون منه ولا يحترمون قوله، بل يضرونه ويؤذونه، فإذا خاف على دينه انتقل إلى شعب من الشعاب، أما مادام ينفع الناس وما دام يقبل منه العلم ما دام الناس في حاجة إليه، فليس له أن ينتقل، بل يجب عليه أن ينفع الناس ويرشدهم وأن يتصبر على ما قد يقع من الأذى، اقتداءً بالرسل عليهم الصلاة والسلام.

599 - وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا بَعَثَ اللهُ نَبِيًّا إِلاَّ رَعَى الْغَنَمَ» فَقَالَ أصْحَابُهُ: وأنْتَ؟ قَالَ: «نَعَمْ، كُنْتُ أرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لأَهْلِ مَكَّةَ». رواه البخاري.
قال ابن عثيمين ﵀:
- قال العلماء: الحكمة من ذلك أن يتمرن الإنسان على رعاية الخلق وتوجيههم إلى ما فيه الصلاح؛ لأن الراعي للغنم تارة يوجهها إلى وادٍ مزهر مخضر، وتارة على وادٍ خلاف ذلك، وتارة إلى أرض ليس فيها هذا ولا هذا، وتارة لا يرعاها أبداً، وتارة يبقيها واقفة، فالنبي ﷺ سيرعى الأمة ويوجهها إلى الخير عن علم وهدى وبصيرة.
- كالراعي الذي عنده علم بالمراعي الحسنة، وعنده نصح وتوجيه للغنم إلى ما فيه خيرها، وما فيه غذاءها وسقاءها.
- اختيرت الغنم؛ لأن صاحبها صاحب سكينة وهدوء واطمئنان، بخلاف الإبل؛ الإبل أصحابها في الغالب عندهم شدة وغلظة؛ لأن الإبل كذلك فيها الشدة والغلظة، فلهذا اختار الله ﷿ لرسله أن يرعوا الغنم، حتى يتعودوا ويتمرنوا على رعاية الخلق.
- رسول الله ﷺ رعاها على قراريط لأهل مكة، وموسى عليه الصلاة والسلام رعاها مهراً لابنة صاحب مدين، فإنه قال: ﴿قَالَ إِنِّىٓ أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ٱبْنَتَىَّ هَٰتَيْنِ عَلَىٰٓ أَن تَأْجُرَنِى ثَمَٰنِىَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ﴾.
قال ابن باز﵀:
- الله شرع للأنبياء أن يقبلوا هذه المهنة من جهة الرعاية حتى يتمرنوا بها أو يتدرجوا منها إلى رعاية بني آدم من المكلفين، فيصبروا على أذاهم، ويخالطوهم ويوجهوهم، كما أن الراعي يصبر على الرعاية ويوجه غنمه إلى المراعي الطيبة، ويسلك بها المسالك الحسنة والدروب الطيبة ويلتمس لها مواضع الماء، فهكذا الرسل عليهم الصلاة والسلام والدعاة إلى الله، يلتمسون للناس الخير ويدعونهم إلى الخير، ويجتهدون في إيصال الخير إليهم بالطرق الممكنة.

600 - وعنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قَالَ: «مِنْ خَيْرِ مَعَاشِ النَّاسِ لهم رَجُلٌ مُمْسِكٌ عِنَانَ فَرَسِهِ في سَبيلِ الله، يَطيرُ عَلَى مَتْنِهِ كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً أَوْ فَزعَةً، طَارَ عَلَيْهِ يَبْتَغِي القَتْلَ، أَوْ المَوْتَ مَظَانَّه، أَوْ رَجُلٌ فِي غُنَيمَةٍ في رَأسِ شَعَفَةٍ مِنْ هذِهِ الشَّعَفِ، أَوْ بَطنِ وَادٍ مِنْ هذِهِ الأَوْدِيَةِ، يُقِيمُ الصَّلاَةَ، وَيُؤتِي الزَّكَاةَ، وَيَعْبُدُ رَبَّهُ حَتَّى يأتِيَهُ اليَقِينُ، لَيْسَ مِنَ النَّاسِ إِلاَّ فِي خَيْرٍ». رواه مسلم.
«يَطِيرُ»: أيْ يُسْرعُ. وَ «مَتْنُهُ»: ظَهْرُهُ. وَ «الهَيْعَةُ»: الصوتُ للحربِ. وَ «الفَزعَةُ»: نحوه. وَ «مَظَانُّ الشَيْءِ»: المواضعُ الَّتي يُظَنُّ وجودُهُ فِيهَا. وَ «الغُنَيْمَة» بضم الغين: تصغير الغنم. وَ «الشَّعَفَةُ» بفتح الشين والعين: هي أعلى الجَبَل.
قال ابن عثيمين ﵀:
- فيه دليلٌ على أن العزلة خير فيكون الإنسان ممسكًا بعنان فرسه، يطير عليه كلما سمع هيعة، يعني أنه بعيد عن الناس يحمي ثغور المسلمين، مهتم بأمور الجهاد منعزل عن الناس، لكنه على أتم استعداد للنفور والجهاد كلما سمع هيعة ركب فرسه فطار به، أي مشى مشياً مسرعاً.
- هذه الأحاديث تُحمل على ما إذا كان في الاختلاط فتنة وشر، وأما إذا لم يكن فيه فتنة وشر؛ فإن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على آذاهم، خيرٌ من المؤمن الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم.