كِتابُ الإيمانِ


باب: تَفْسِيرُ الإيمانِ


١. (خ م) (٩) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁ قالَ: كانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَوْمًا بارِزًا لِلنّاسِ فَأَتاهُ رَجُلٌ فَقالَ: يا رَسُولَ اللهِ؛ ما الإيمانُ؟ قالَ: «أنْ تُؤمِنَ بِاللهِ، ومَلائِكَتِهِ، وكِتابِهِ، ولِقائِهِ، ورُسُلِهِ، وتُؤْمِنَ بِالبَعْثِ الآخِرِ». قالَ: يا رَسُولَ اللهِ؛ ما الإسْلامُ؟ قالَ: «الإسْلامُ أنْ تَعْبُدَ اللهَ ولا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وتُقِيمَ الصَّلاةَ المَكْتُوبَةَ، وتُؤَدِّيَ الزَّكاةَ المَفْرُوضَةَ، وتَصُومَ رَمَضانَ». قالَ: يا رَسُولَ اللهِ؛ ما الإحْسانُ؟ قالَ: «أنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَراهُ، فَإنَّكَ إنْ لا تَراهُ فَإنَّهُ يَراكَ». قالَ: يا رَسُولَ اللهِ؛ مَتى السّاعَةُ؟ قالَ: «ما المَسْؤُولُ عَنْها بِأَعْلَمَ مِنَ السّائِلِ، ولَكِنْ سَأُحَدِّثُكَ عَنْ أشْراطِها؛ إذا ولَدَتِ الأمَةُ رَبَّها فَذاكَ مِن أشْراطِها، وإذا كانَتِ العُراةُ الحُفاةُ رُؤُوسَ النّاسِ فَذاكَ مِن أشْراطِها، وإذا تَطاوَلَ رِعاءُ البَهَمِ فِي البُنْيانِ فَذاكَ مِن أشْراطِها، فِي خَمْسٍ لا يَعْلَمُهُنَّ إلا اللهُ»، ثُمَّ تَلا ﷺ: ﴿إنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السّاعَةِ ويُنَزِّلُ الغَيْثَ ويَعْلَمُ ما فِي الأَرْحامِ وما تَدْرِي نَفْسٌ مّاذا تَكْسِبُ غَدًا وما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أرْضٍ تَمُوتُ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [لقمان: ٣٤]. قالَ: ثُمَّ أدْبَرَ الرَّجُلُ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «رُدُّوا عَلَيَّ الرَّجُلَ». فَأَخَذُوا لِيَرُدُّوهُ فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا. فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «هَذا جِبْرِيلُ جاءَ لِيُعَلِّمَ النّاسَ دِينَهُمْ».
وفي رواية (م): قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «سَلُونِي». فَهابُوهُ أنْ يَسألُوهُ، فَجاءَ رَجُلٌ فَجَلَسَ عِنْدَ رُكْبَتَيْهِ، وفيها: «وتُؤْمِنَ بِالبَعْثِ، وتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ كُلِّهِ»، وفيها: «أنْ تَخْشى اللهَ كَأنّكَ تَراهُ»، وفِيها: «وإذا رَأَيْتَ الحُفاةَ العُراةَ الصُّمَّ البُكْمَ مُلُوكَ الأرْضِ فَذاكَ مِن أشْراطِها ... فِي خَمْسٍ مِنَ الغَيْبِ لا يَعْلَمُهُنَّ إلا اللهُ»، ثُمَّ قَرَأَ ...
ورَوى (خ) عَن ابْنِ عُمَرَ ﵄ قالَ: قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مَفاتِحُ الغَيْبِ خَمْسٌ»، ثُمَّ قَرَأَ الآيَةَ.
ورَوى (م) عَنْ يَحْيى بْنِ يَعْمَرَ قالَ: كانَ أوَّلَ مَن قالَ فِي القَدَرِ بِالبَصْرةِ مَعْبَدٌ الجُهَنِيُّ، فانْطَلَقْتُ أنا وحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الحِمْيَرِيُّ حاجَّيْنِ أوْ مُعْتَمِرَيْنِ، فقلنا: لَوْ لَقِينا أحَدًا مِن أصْحابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ فَسَألناهُ عَمّا يَقُولُ هَؤُلاءِ في القَدَرِ، فَوُفِّقَ لَنا عَبْدُ اللهِ بنُ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ داخِلًا المَسْجِدَ، فاكتَنَفْتُهُ أنا وصاحِبِي، أحَدُنا عَن يَمِينهِ والآخَرُ عَن شِمالِهِ، فَظَنَنتُ أنّ صاحِبِي سَيَكِلُ الكلامَ إليَّ، فقلتُ: أبا عبدِ الرَّحمن؛ إنّهُ قَد ظَهَرَ قِبَلَنا ناسٌ يَقرَؤُونَ القُرآنَ ويَتَقَفّرُون العِلمَ، وذَكَرَ مِن شَأنِهِم، وأنهم يَزعُمُونَ أن لا قَدَرَ وأن الأمْرَ أُنُفٌ. قال: فإذا لَقِيتَ أولئكَ فأخبِرهُم أنّي بَرِيء مِنهُم، وأنّهم بُرَآءُ مِنِّي، والذي يَحلِفُ بهِ عبدُ اللهِ بنُ عُمرَ: لو أنّ لأحَدِهِم مِثلَ أُحدٍ ذهبًا فأَنفَقَهُ ما قَبِلَ اللهُ منهُ حتّى يُؤمِنَ بالقَدَرِ، ثمَّ قالَ: حَدَّثَنِي أبي عمرُ بنُ الخطابِ قالَ: بَينما نَحنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ ذاتَ يَومٍ؛ إذْ طَلَعَ عَلَينا رَجَلٌ شَدِيدُ بَياضِ الثِّيابِ، شَدِيدُ سَوادِ الشَّعرِ، لا يُرى عَليهِ أثرُ السَّفَرِ، ولا يَعرِفُهُ مِنّا أحدٌ، حتّى جَلَسَ إلى النَّبِيِّ ﷺ، فأَسْنَدَ رُكبَتَيهِ إلى رُكبَتَيِهِ، ووَضَعَ كَفَّيهِ عَلى فَخِذَيهِ، وقالَ: يا محمدُ؛ أخبِرنِي عَنِ الإسلامِ. فقال رَسُولُ اللهِ ﷺ: «الإسلامُ: أن تَشْهَدَ أن لا إلَهَ إلا اللهُ وأنّ مُحَمَّدًا رسُولُ اللهِ، وتُقِيمَ الصَّلاةَ، وتُؤتِي الزَّكاةَ، وتصُومَ رَمضانَ، وتَحُجَّ البيتَ إن استَطَعتَ إليهِ سَبِيلًا». قال: صَدَقتَ. قالَ: فَعَجِبنا لَهُ يَسألُهُ ويُصدِّقُهُ، قالَ: فأخبِرنِي عن الإيمانِ. قالَ: «أن تُؤمِنَ بِاللهِ ومَلائكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ واليومِ الآخرِ، وتُؤمِنَ بِالقَدَرِ خَيرِهِ وشَرِّهِ». قال: صَدَقتَ. قال: فأخبِرنِي عَنِ الإحسانِ. قالَ: «أن تَعبُدَ اللهَ كَأنّكَ تَراهُ؛ فإن لم تَكُن تَراهُ فإنّهُ يَراكَ». قال: فأخبِرنِي عن السّاعَةِ. قالَ: «ما المسؤُولُ عَنها بِأعلَمَ مِن السّائلِ». قالَ: فأخبِرنِي عَن أمارَتِها. قالَ: «أن تَلِدَ الأَمَةُ ربَّتَها، وأن تَرى الحُفاةَ العُراةَ العالَةَ رِعاءَ الشّاءِ يَتَطاوَلُونَ فِي البُنيانِ». قالَ: ثمَّ انطلَقَ، فَلَبِثتُ مَلِيًّا، ثُمَّ قالَ لِي: «يا عُمرُ؛ أتَدرِي مَن السّائلِ؟» قلتُ: اللهُ ورسولُهُ أعلَمُ، قالَ: «فَإنّهُ جِبرِيلُ، أتاكُم يُعلِّمُكُم دِينَكُم».
-هذا الحديث قد اشتمل على شرح جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة، من عقود الإيمان، وأعمال الجوارح، وإخلاص السرائر، والتحفظ من آفات الأعمال، حتى إن علوم الشريعة كلها راجعة إليه (القاضي عياض).
-إن من عقيدة أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، وأن الإحسان من أعلى مراتب الطاعات، بل هو لب الطاعات.
-قوله: "وأن تلد الأمة ربتها" أي مولاتها، قيل: معناه: أن يكثر أولاد السراري حتى تكون الأم كأنها أمة لابنتها، لما كانت ملكا لأبيها، وقيل: يحمل على أنه يكثر بيع أمهات الأولاد في آخر الزمان، حتى يملك المشتري أمه وهو لا يعلم، لكثرة تداول الأملاك لها، وفى بعض طرق الحديث: "تلد الأمة بعلها" وهو من هذا المعنى؛ لأنه إذا كثر بيعهن قد يقع الإنسان في تزويج أمه وهو لا يعلم، وقيل: المراد به فشوّ العقوق، وأن يكون الولد في الصول على أمه وقلة بره بها كأنه مولاها (القاضي عياض)
النواحي البيانية:
-في قوله ﷺ في بيان الإيمان: "أن تؤمن بالله وملائكته"؛ أتى بأركان الإيمان متعاطفة بحرف الواو، لكنه حين أتى إلى الإيمان باليوم الآخر أعاد الفعل ولم يكتف بالواو العاطفة فقال: (وتؤمن بالبعث الآخر) تنبيها لأهميته وتأكيدا لضرورة الإيمان به.
-قوله: "ليس المسؤول عنها بأعلم من السائل" الباء في (بأعلم) زائدة لتأكيد غياب علم الساعة عنهما معا، ومثله قول الله تعالى (ليس كمثله شيء).
-في قوله ﷺ: "يا عمر، أتدري من السائل؟" خرج الاستفهام عن الغرض الأساسي وهو الاستعلام إلى غرض بلاغي وهو تشويق السامع وجذبه.

٢. (خ م) (١٧) عَنْ أبِي جَمْرَةَ قالَ: كُنتُ أُتَرجِمُ بَينَ يَدَي ابْنِ عَبّاسٍ وبَينَ النّاسِ، (فَأَتَتهُ امرَأَةٌ تَسأَلُهُ عَن نَبِيذِ الجَرِّ) فَقالَ: إنَّ وفدَ عَبْدِ القَيسِ أتَوا رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَن الوَفدُ، أو مَن القَومُ؟» قالُوا: رَبِيعَةُ. قالَ: «مَرحَبًا بِالقَومِ أو بِالوَفدِ غَيرَ خَزايا ولا النَّدامى». قالَ: فَقالُوا: يا رَسُولَ اللهِ؛ إنّا نَأتِيكَ مِن شُقَّةٍ بَعِيدَةٍ، وإنَّ بَينَنا وبَينَكَ هَذا الحَيَّ مِن كُفّارِ مُضَرَ، وإنّا لا نَستَطِيعُ أن نَأتِيَكَ إلا فِي شَهرِ الحَرامِ، فَمُرنا بِأَمرٍ فَصلٍ نُخبِر بِهِ مَن وراءَنا نَدخُلُ بِهِ الجَنَّةَ. قالَ: فَأَمَرَهُم بِأَربَعٍ ونَهاهُم عَن أربَعٍ. قالَ: أمَرَهُم بِالإيمانِ بِاللهِ وحدَهُ، وقالَ: «هَل تَدرُونَ ما الإيمانُ بِاللهِ؟» قالُوا: اللهُ ورَسُولُهُ أعلَمُ. قالَ: «شَهادَة أن لا إلَهَ إلا اللهُ وأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله، وإقامُ الصَّلاةِ، وإيتاءُ الزَّكاةِ، وصَومُ رَمَضانَ، وأَن تُؤَدُّوا خُمُسًا مِن المَغنَمِ». ونَهاهُم عَنِ الدُّبّاءِ والحَنتَمِ والمُزَفَّتِ، قالَ شُعبَةُ: ورُبَّما قالَ: النَّقِيرِ، وقالَ: «احفَظُوهُ، وأَخبِرُوا مَن وراءَكُم». زادَ (م) فِي رِوايَةٍ: قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِلأَشَجِّ أشَجِّ عبدِ القَيسِ: «إنّ فِيكَ لَخَصلَتَينِ يُحِبُّهما اللهُ: الحِلمُ والأَناةُ».
وفي رواية: «الإيِمانُ بِاللهِ، ثُمَّ فَسَّرَها لَهُم فَقالَ: شَهادةُ أن لا إلهَ إلا اللهُ ...».
ورَوى (م) عن أبي سعيد نحوه وفيه: «آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ وأَنْهاكُمْ عَنْ أرْبَع: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا ..»، وزاد فيه: قالوا: يا نبي اللهِ؛ ما علمك بالنَّقِير؟ قال: «بلى؛ جِذْعٌ تَنقُرُونَهُ فتقذِفُون فيه من القُطَيْعاء -قال سعيدٌ:- أو قال: من التمر، ثم تَصبُّونَ فيه من الماء حتى إذا سَكَنَ غَلَيانُهُ شربتموه، حتى إن أحدَكُم أو إن أحَدَهُم ليضربُ ابنَ عمِّه بالسيف». قال: وفي القوم رجلٌ أصابتهُ جِراحَةٌ كذلك، قال: وكنت أخْبَؤُها حياءً من رَسُولِ اللهِ ﷺ، فقلت: فيم نشرب يا رسول الله؟ قال: «في أسقِيَةِ الأدَمِ التي يُلاثُ على أفواهِها». قالوا: يا رسول الله، إن أرضنا كثيرة الجِرْذانِ، ولا تبقى بها أسقِيَةُ الأدَمِ. فقال نَبِيُّ اللهِ ﷺ: «وإن أكلتها الجِرْذانُ، وإن أكلتها الجِرذان ..».
-قوله: "مرحبا" استعملته العرب في البر وحسن اللقاء، ومعناه: صادف رحبا وسعة وبرا (القاضي عياض).
-مشروعية الترحيب والاستبشار بقدوم الضيف، والدعاء له.
-أن المفتي يجوز له أن يذكر الدليلَ مستغنيًا به عن النصِّ على الفُتيا إذا كان السائلُ بصيرًا بموضع الحُجَّة (القرطبي).
-وإنما حضهم ﷺ على الشراب في آنية الأدم - وهي الأسقية- لرقة جلودها، لا يمكن أن يتم فيها فساد الأشربة، وتخميرها حتى تنشق ويظهر فيها، بخلاف غيرها من الأواني (القاضي عياض).
-من الصفات التي هي مفتاح للخير مغلاق للشر الحلم والأناة.
النواحي البيانية:
-قوله ﷺ: "إنّ فيك لخصلتين" العرب تقدم وتؤخر، فتقدم ما حقه الاهتمام أكثر، فكأنه يقول له: فيك خاصة وليست في غيرك تلكم الخصلتان.

باب: أوَّلُ الإيمانِ قَوْلُ: لا إلَهَ إلّا اللهُ


٣. (خ م) (٢٤) عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ عَنْ أبِيهِ ﵁ قالَ: لَمّا حَضَرَت أبا طالِبٍ الوَفاةُ جاءَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَوَجَدَ عِندَهُ أبا جَهلٍ وعَبدَ اللهِ بنَ أبِي أُمَيَّةَ بْنِ المُغِيرَةِ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «يا عَمِّ؛ قُل لا إلَهَ إلا اللهُ، كَلِمَةً أشهَدُ لَكَ بِها عِنْدَ اللهِ». فَقالَ أبُو جَهلٍ وعَبدُ اللهِ بنُ أبِي أُمَيَّةَ: يا أبا طالِبٍ؛ أتَرغَبُ عَن مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ؟ فَلَم يَزَل رَسُولُ اللهِ ﷺ يَعرِضُها عَلَيهِ، ويُعِيدُ لَهُ تِلكَ المَقالَةَ، حَتّى قالَ أبُو طالِبٍ آخِرَ ما كَلَّمَهُم: هُوَ عَلى مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وأَبى أن يَقُولَ لا إلَهَ إلا اللهُ. فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أما واللهِ لأستَغفِرَنَّ لَكَ ما لَم أُنهَ عَنكَ». فَأَنزَلَ اللهُ ﷿: ﴿ما كانَ لِلنَّبِيِّ والَّذِينَ آمَنُواْ أن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ ولَوْ كانُواْ أُولِي قُرْبى مِن بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أنَّهُمْ أصْحابُ الجَحِيمِ﴾ [التوبة: ١١٣]. وأَنزَلَ اللهُ تَعالى فِي أبِي طالِبٍ فَقالَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ: ﴿إنَّكَ لا تَهْدِي مَن أحْبَبْتَ ولَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشاءُ وهُوَ أعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ﴾ [القصص: ٥٦].
-كون الرسول ﷺ استأذن أن يستغفر لأمه فلم يؤذن له يدل على أنها ماتت كافرة، وكذلك أبوه مات كافراً، وجده مات كافراً الذي هو عبد المطلب، وكذلك أبو طالب.
-أن يعلم الناس أن النبي ﷺ بشر، وأنه ليس بيده شيء من هداية القلوب، بل هداية القلوب بيد الله، ولو كان يستطيع أن يهدي أحداً لهدى عمه الذي يأويه وينصره.
-أن الخوف من الناس قد يكون مانعا من قبول الحق وعمل الخير.
-وفيه دليل على قبول الأعمال الظاهرة والحكم بما يقتضيه الظاهر (ابن حجر).
-ويؤخذ منه ترك تكفير أهل البدع المقرين بالتوحيد الملتزمين للشرائع وقبول توبة الكافر من كفره من غير تفصيل بين كفر ظاهر أو باطن.
-أن الغرض من ضرب الجزية اضطرارهم إلى الإسلام وسبب السبب سبب؛ فكأنه قال: حتى يسلموا أو يلتزموا ما يؤديهم إلى الإسلام.
النواحي البيانية:
-قوله: "أترغب عن ملة عبدالمطلب؟" استفهام غرضه البلاغي الاستنكار.
-قوله: "هو على ملة عبدالمطلب": أبدل الرواة ضمير الغائب بضمير المتكلم؛ لأنهم لا يستسيغون أن ينطقوا بمثل هذا الكلام القبيح، وهذا من باب الأدب في الكلام وعدم نسبة الكلام القبيح إلى النفس.
-(أما والله لأستغفرنّ لك): أسلوب قسم وتوكيد، (أما) للاستفتاح لإثارة انتباه السامعين، ثم حرف القسم الواو مع المقسم به (الله) ثم توكيد الفعل بنون التوكيد (لأستغفرنّ).

ورَوى (م) عَن أبي هُرَيْرَةَ؛ أنَّه ﷺ قالَ لِعمِّه: «قُل لا إلَه إلا اللهُ؛ أشهَدُ لَكَ بِها يومَ القِيامةِ». قالَ: لَولا أن تُعَيِّرني قُريشٌ، يَقُولُون: إنَّما حَمَلَه عَلى ذَلكَ الجَزَعُ، لَأَقرَرتُ بِها عَينَكَ. فَأَنزَلَ اللهُ ....
٤. (خ م) (٢٠) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁ قالَ: لَمّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، واستُخلِفَ أبُو بَكرٍ بَعدَهُ، وكَفَرَ مَن كَفَرَ مِن العَرَبِ، قالَ عُمَرُ بنُ الخَطّابِ لأبِي بَكرٍ ﵄: كَيفَ تُقاتِلُ النّاسَ وقَد قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أُمِرتُ أن أُقاتِلَ النّاسَ حَتّى يَقُولُوا لا إلَهَ إلا اللهُ، فَمَن قالَ لا إلَهَ إلا اللهُ فَقَد عَصَمَ مِنِّي مالَهُ ونَفسَهُ إلا بِحَقِّهِ وحِسابُهُ عَلى اللهِ». فَقالَ أبُو بَكرٍ: واللهِ لأُقاتِلَنَّ مَن فَرَّقَ بَينَ الصَّلاةِ والزَّكاةِ، فَإنَّ الزَّكاةَ حَقُّ المالِ، واللهِ لَو مَنَعُونِي عِقالًا كانُوا يُؤَدُّونَهُ إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ لَقاتَلتُهُم عَلى مَنعِهِ. فَقالَ عُمَرُ بنُ الخَطّابِ: فَواللهِ ما هُوَ إلا أن رَأَيتُ اللهَ ﷿ قَد شَرَحَ صَدرَ أبِي بَكرٍ لِلقِتالِ فَعَرَفتُ أنَّهُ الحَقُّ.
وفي رواية (م) زادَ: «ويُؤمِنُوا بِي وبِما جِئتُ بِهِ».
ورَوى (م) عَنْ جابِرٍ نَحْوَهُ، وفِي آخِرِهِ: ثُمَّ قَرَأَ: ﴿فَذَكِّرْ إنَّما أنتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ﴾ [الغاشية: ٢١-٢٢]..
ورَوى (م) عَنْ طارِقِ بْنِ أشْيَمَ؛ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «مَن قالَ لا إلهَ إلا اللهُ وكَفَرَ بِما يُعبَدُ مِن دُونِ اللهِ حَرُم مالُهُ ودمُهُ، وحِسابُهُ عَلى اللهِ».
٥. (خ م) (٢٢) عَنِ ابْنِ عُمَرَ ﵄ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أُمِرتُ أن أُقاتِلَ النّاسَ حَتّى يَشهَدُوا أن لا إلَهَ إلا اللهُ وأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، ويُقِيمُوا الصَّلاةَ، ويُؤتُوا الزَّكاةَ، فَإذا فَعَلُوا عَصَمُوا مِنِّي دِماءَهُم وأَموالَهُم إلا بِحَقِّها وحِسابُهُم عَلى اللهِ».
ورَوى (خ) عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أُمِرْتُ أنْ أُقاتِلَ النّاسَ حَتّى يَقُولُوا: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، فَإذا قالُوها، وصَلَّوْا صَلاتَنا، واسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنا وذَبَحُوا ذَبِيحَتَنا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْنا دِماؤُهُمْ وأَمْوالُهُمْ إلّا بِحَقِّها وحِسابُهُمْ عَلى اللَّهِ».
-قال عمر ﵁: "فو الله ما هو إلا أن رأيت أن الله شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق"، أي عرفت أنه على الحق بما بينه أبو بكر من استدلاله على ذلك (ابن بطال).
-إن الحق يعرف بالدليل الصحيح.
النواحي البيانية:
-كيف تقاتل الناس..؟ استفهام بلاغي غرضه الاستنكار.
-"والله لأقاتلنّ": خبر إنكاري جمع القسم واللام والنون المشددة للتوكيد.

٦. (خ م) (٩٥) عَنِ المِقْدادِ بْنِ الأَسْوَدِ ﵁؛ أنَّهُ قالَ: يا رَسُولَ الله؛ أرَأَيتَ إن لَقِيتُ رَجُلًا مِن الكُفّارِ فَقاتَلَنِي، فَضَرَبَ إحدى يَدَيَّ بِالسَّيفِ فَقَطَعَها، ثُمَّ لاذَ مِنِّي بِشَجَرَةٍ فَقالَ: أسلَمتُ لله. أفَأَقتُلُهُ يا رَسُولَ اللهِ بَعدَ أن قالَها؟ قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لا تَقتُلهُ». قالَ: فَقُلتُ: يا رَسُولَ اللهِ؛ إنَّهُ قَد قَطَعَ يَدِي ثُمَّ قالَ ذَلكَ بَعدَ أن قَطَعَها؛ أفَأَقتُلُهُ؟ قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لا تَقتُلهُ، فَإن قَتَلتَهُ فَإنَّهُ بِمَنزِلَتِكَ قَبلَ أن تَقتُلَهُ، وإنَّكَ بِمَنزِلَتِهِ قَبلَ أن يَقُولَ كَلِمَتَهُ الَّتِي قالَ».
٧. (خ م) (٩٦) عَنْ أُسامَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ حارِثَةَ ﵄ قالَ: بَعَثَنا رَسُولُ اللهِ ﷺ إلى الحُرَقَةِ مِن جُهَينَةَ، فَصَبَّحنا القَومَ فَهَزَمناهُم، ولَحِقتُ أنا ورَجُلٌ مِن الأنصارِ رَجُلًا مِنهُم، فَلَمّا غَشِيناهُ قالَ: لا إلَهَ إلا اللهُ. فَكَفَّ عَنهُ الأَنْصارِيُّ، وطَعَنتُهُ بِرُمحِي حَتّى قَتَلتُهُ، قالَ: فَلَمّا قَدِمنا بَلَغَ ذَلكَ النَّبِيَّ ﷺ فَقالَ لِي: «يا أُسامَةُ؛ أقَتَلتَهُ بَعدَ ما قالَ لا إلَهَ إلا اللهُ؟!» قالَ: قُلتُ: يا رَسُولَ اللهِ؛ إنَّما كانَ مُتَعَوِّذًا. قالَ: فَقالَ: «أقَتَلتَهُ بَعدَ ما قالَ لا إلَهَ إلا اللهُ؟!» قالَ: فَما زالَ يُكَرِّرُها عَلَيَّ حَتّى تَمَنَّيتُ أنِّي لَم أكُن أسلَمتُ قَبلَ ذَلكَ اليَومِ.
وفي رواية (م): قالَ: قلتُ: يا رسُولَ اللِه؛ إنّما قالها خَوفًا مِن السِّلاحِ. قال: «أفَلا شَقَقتَ عَن قَلبِهِ حَتّى تَعلَمَ أقالَها أم لا؟»
ورَوى (م) عَن جُنْدَبٍ نَحوَهُ، وفِيهِ: قالَ: «فَكيفَ تَصنَعُ بِلا إلهَ إلا الله إذا جاءتَ يومَ القِيامةِ؟».
وفي رواية (م): قالَ: فَقالَ سَعدٌ: وأَنا واللهُ لا أقتُلُ مُسلِمًا حَتى يَقتُلَهُ ذُو البُطَين؛ يَعنِي أُسامَة. قالَ: قالَ رَجُلٌ: ألَم يَقُلِ اللهُ: ﴿وقاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ويَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه﴾ [الأنفال: ٣٩]؟ فَقالَ سَعدٌ: قَد قاتَلنا حَتى لا تَكُونَ فِتنةٌ، وأَنتَ وأَصحابُكَ تُرِيدُونَ أن تُقاتِلُوا حَتى تَكُونَ فِتنةٌ.
ورَوى (خ): عَن ابْنِ عُمَرَ، أنَّ رَجُلًا جاءَهُ فَقالَ: يا أبا عَبدِ الرحمن، ألا تَسمَعُ ما ذَكَرَ اللهُ فِي كِتابِهِ: ﴿وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا﴾ إلى آخرِ الآيةِ؛ فَما يَمنَعُكَ أن لا تُقاتِلَ كَما ذَكَرَ اللهُ فِي كِتابِهِ؟ فَقالَ: يا ابنَ أخِي؛ أغترُّ بِهذِهِ الآية ولا أُقاتِلُ أحَبُّ إليَّ مِن أن أغتَرَّ بِهذِهِ الآيةِ الَّتِي يَقُولُ اللهُ تَعالى: ﴿ومَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا﴾ [النساء: ٩٣] ...
وفي رواية (خ): فَقالَ رَجلٌ: كَيفَ تَرى فِي قِتالِ الفِتنةِ؟ فَقالَ: وهَل تَدرِي ما الفِتنةُ؟ كانَ مُحمدٌ ﷺ يُقاتِلُ المشرِكِينَ، وكانَ الدُّخُولُ عَلَيهِم فِتنةً، ولَيسَ كَقِتالِكُم عَلى المُلك.
-شدة الإنكار وتكراره، مع عظم الذنب، ولايلزم من إعادة الاعتذار الوقوف عن الإنكار .
-وجوب العمل بالظواهر وإيكال السرائر لله.
-كانت هذه القصة سبب تخلف أسامة أن لا يقاتل مسلما بعد ذلك ومن ثمة تخلف عن علي ﵁ في الجمل وصفّين (ابن بطال).
-فيه مشروعية الندم عن اقتراف الذنب، بتمني عدم اقترافه، والعزم على تجنب مثله أو ماشابهه.
النواحي البيانية:
-(أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله؟) استفهام بلاغي غرضه الاستنكار، وتكرار هذا السؤال يدل على غضب النبي ﷺ وشدة استنكاره.
-(فكيف تصنع بلا إله إلا الله؟) استفهام بلاغي غرضه التوبيخ.
-(وهل تدري ما الفتنة؟) أجاب السائل بسؤال لتنبيهه أنه ينبغي أن يعرف الفتنة قبل السؤال عنها.

باب: مَن لَقِيَ اللهَ بِالإيمانِ دَخَلَ الجَنَّةَ


٨. (م) (٢٧) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁ أو عَن أبِي سَعِيدٍ ﵁ شَكَّ الأَعمَشُ قالَ: لَمّا كانَ غَزوَةُ تَبُوكَ أصابَ النّاسَ مَجاعَةٌ قالُوا: يا رَسُولَ اللهِ؛ لَو أذِنتَ لَنا فَنَحَرنا نَواضِحَنا فَأَكَلنا وادَّهَنّا. فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «افعَلُوا». قالَ: فَجاءَ عُمَرُ فَقالَ: يا رَسُولَ الله؛ إن فَعَلتَ قَلَّ الظَّهرُ، ولَكِن ادعُهُم بِفَضلِ أزوادِهِم ثُمَّ ادعُ اللهَ لَهُم عَلَيها بِالبَرَكَةِ، لَعَلَّ اللهَ أن يَجعَلَ فِي ذَلكَ. فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «نَعَم». قالَ: فَدَعا بِنِطَعٍ فَبَسَطَهُ، ثُمَّ دَعا بِفَضلِ أزوادِهِم، قالَ: فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِكَفِّ ذُرَةٍ، قالَ: ويَجِيءُ الآخَرُ بِكَفِّ تَمرٍ، قالَ: ويَجِيءُ الآخَرُ بِكِسرَةٍ حَتّى اجتَمَعَ عَلى النِّطَعِ مِن ذَلكَ شَيءٌ يَسِيرٌ، قالَ: فَدَعا رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَيهِ بِالبَرَكَةِ، ثُمَّ قالَ: «خُذُوا فِي أوعِيَتِكُم». قالَ: فَأَخَذُوا فِي أوعِيَتِهِم حَتّى ما تَرَكُوا فِي العَسكَرِ وِعاءً إلا مَلَؤُوهُ، قالَ: فَأَكَلُوا حَتّى شَبِعُوا، وفَضَلَت فَضلَةٌ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أشهَدُ أن لا إلَهَ إلا اللهُ وأَنِّي رَسُولُ اللهِ (لا يَلقى اللهَ بِهِما عَبدٌ غَيرَ شاكٍّ فَيُحجَبَ عَنِ الجَنَّةِ)».
لَفظُ (خ): عَن سَلَمَةَ بْنِ الأَكوَع قالَ: خَفَّت أزوادُ القومِ وأَمْلَقُوا ... بِمَعناهُ.
ورَوى (م) عَن سَلَمَةَ بْنِ الأَكوَع قالَ: خَرَجنا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي غَزوةٍ، فَأَصابَنا جَهْدٌ ... نَحوَهُ، وفِيهِ: ونَحنُ أربَعَ عَشرَةَ مِائةَ، قالَ: فَأَكلنا حَتى شَبِعنا جَمِيعًا، ثُمَّ حَشَونا جُرُبَنا، فَقالَ نَبِيُّ اللهِ ﷺ: «فَهَل مِن وضوءٍ؟» قالَ: فَجاءَ رَجُلٌ بِإداوَةٍ لَه فِيها نُطْفَةٌ فَأَفرَغَها فِي قَدَحٍ، فَتَوَضَّأنا كُلُّنا، نُدَغْفِقُهُ دَغْفَقَةً، أربعَ عَشرَةَ مِائةً، قالَ: ثُمَّ جاءَ بَعدَ ذَلكَ ثمانِيَةٌ فَقالُوا: هَل مِن طَهُورٍ؟ فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «فَرَغَ الوَضُوءُ».
-في هذا الحديث من الفقه أن نحر الظهر عند اشتداد الضرورة جائز، لإذن رسول الله ﷺ في ذلك (ابن هبيرة).
-فيه جواز أن يشير على الإمام ذو الرأي والكلمة المسموعة من أصحابه كإشارة عمر على رسول الله ﷺ.
-وفيه أيضا دليل على جواز الرجوع إلى قول الصاحب عن معاينة الأولى والأجدر، وترك العزم الأول.
-وفيه دليل واضح على صحة نبوته ﷺ، ومن معجزاته تكثير الطعام والماء بين يديه.
-وفيه دليل على أنه يستحب تجديد الشهادة عند تجديد كل نعمة أو ظهور آية.
-وفيه أن كل من لقي الله غير شاك في الكلمة لم يحجب عن الجنة.
النواحي البيانية:
‐(ندغفقه دغفقة) هذا اللفظ يدل على كثرة صب الماء واستعماله على الأمر الواسع، ثم أكّده بالمفعول المطلق.

٩. (خ م) (١٣) عَنْ أبِي أيُّوبَ ﵁ قالَ: جاءَ رَجُلٌ إلى النَّبِيِّ ﷺ فَقالَ: دُلَّنِي عَلى عَمَلٍ أعمَلُهُ يُدنِينِي مِن الجَنَّةِ ويُباعِدُنِي مِن النّارِ. قالَ: «تَعبُدُ اللهَ لا تُشرِكُ بِهِ شَيئًا، وتُقِيمُ الصَّلاةَ، وتُؤتِي الزَّكاةَ، وتَصِلُ ذا رَحِمِكَ». (فَلَمّا أدبَرَ قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إن تَمَسَّكَ بِما أُمِرَ بِهِ دَخَلَ الجَنَّةَ»).
١٠. (خ م) (١٤) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁؛ أنَّ أعرابِيًّا جاءَ إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقالَ: يا رَسُولَ اللهِ؛ دُلَّنِي عَلى عَمَلٍ إذا عَمِلتُهُ دَخَلتُ الجَنَّةَ. قالَ: «تَعبُدُ اللهَ لا تُشرِكُ بِهِ شَيئًا، وتُقِيمُ الصَّلاةَ المَكتُوبَةَ، وتُؤَدِّي الزَّكاةَ المَفرُوضَةَ، وتَصُومُ رَمَضانَ». قالَ: والَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لا أزِيدُ عَلى هَذا (شَيئًا أبَدًا ولا أنقُصُ مِنهُ). فَلَمّا ولّى قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مَن سَرَّهُ أن يَنظُرَ إلى رَجُلٍ مِن أهلِ الجَنَّةِ فَليَنظُر إلى هَذا».
-وفي قوله "دُلّنِي عَلَى عَمَلٍ"؛ ما يشعر أن الصحابي فقه أن دخول الجنة يكون بالعمل، وهذا خلاف ما يدعيه بعضهم أنه يُكتفي بما يقوم في القلب.
النواحي البيانية:
-(يدنيني من الجنة ويباعدني عن النار) فيه مقابلة تضاد بين كلمتين وأكثر.
-الطباق -التضاد بين كلمتين- بين (أزيد وأنقص).
-(من سره أن ينظر إلى رجل....) أسلوب شرط غايته التشويق والتشجيع.

١١. (خ م) (٣٠) عَنْ مُعاذِ بْنِ جَبَلٍ ﵁ قالَ: كُنتُ رِدفَ النَّبِيِّ ﷺ، لَيسَ بَينِي وبَينَهُ إلا مُؤخِرَةُ الرَّحلِ، فَقالَ: «يا مُعاذَ بنَ جَبَلٍ». قُلتُ: لَبَّيكَ رَسُولَ اللهِ وسَعدَيك، ثُمَّ سارَ ساعَةً ثُمَّ قالَ: «يا مُعاذَ بنَ جَبَلٍ». قُلتُ: لَبَّيكَ رَسُولَ اللهِ وسَعدَيكَ، ثُمَّ سارَ ساعَةً ثُمَّ قالَ: «يا مُعاذَ بنَ جَبَلٍ». قُلتُ: لَبَّيكَ رَسُولَ اللهِ وسَعدَيكَ. قالَ: «هَل تَدرِي ما حَقُّ اللهِ عَلى العِبادِ؟» قالَ: قُلتُ: اللهُ ورَسُولُه أعلَمُ. قالَ: «فَإنَّ حَقَّ اللهِ عَلى العِبادِ أن يَعبُدُوهُ ولا يُشرِكُوا بِهِ شَيئًا». ثُمَّ سارَ ساعَةً، ثُمَّ قالَ: «يا مُعاذَ بنَ جَبَلٍ». قُلتُ: لَبَّيكَ رَسُولَ اللهِ وسَعدَيكَ. قالَ: «هَل تَدرِي ما حَقُّ العِبادِ عَلى اللهِ إذا فَعَلُوا ذَلكَ؟» قالَ: قُلتُ: اللهُ ورَسُولُهُ أعلَمُ. قالَ: «أن لا يُعَذِّبَهُم».
١٢. (خ م) (٣٢) عَنْ أنَسِ بنِْ مالِكٍ ﵁؛ أنَّ نَبِيَّ اللهِ ﷺ ومُعاذُ بنُ جَبَلٍ رَدِيفُهُ عَلى الرَّحلِ قالَ: «يا مُعاذُ». قالَ: لَبَّيكَ رَسُولَ اللهِ وسَعدَيكَ. قالَ: «يا مُعاذُ». قالَ: لَبَّيكَ رَسُولَ اللهِ وسَعدَيكَ. قالَ: «يا مُعاذُ». قالَ: لَبَّيكَ رَسُولَ اللهِ وسَعدَيكَ. قالَ: «ما مِن عَبدٍ يَشهَدُ أن لا إلَهَ إلا اللهُ وأَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ ورَسُولُهُ إلا حَرَّمَه اللهُ عَلى النّارِ». قالَ: يا رَسُولَ اللهِ؛ أفَلا أُخبِرُ بِها النّاسَ فَيَستَبشِرُوا. قالَ: «إذًا يَتَّكِلُوا». فَأَخبَرَ بِها مُعاذٌ عِنْدَ مَوتِهِ تَأَثُّمًا. زادَ (خ): «صِدقًا مِن قَلبِهِ إلّا حَرَّمَهُ اللهُ على النّار».
ورَوى (م) عَنِ الصُّنابِحيِّ؛ عَن عُبادَةَ بْنِ الصّامِتِ، أنَّهُ قالَ: دَخَلتُ عَلَيهِ وهُوَ فِي المَوتِ فَبَكَيتُ، فَقالَ: مَهلًا؛ لِمَ تَبكِي؟ فَواللهِ لَئِن استُشهِدتُ لَأَشهَدَنَّ لَكَ، ولَئِن شُفِّعْتُ لَأَشفَعَنَّ لَكَ، ولَئِن استَطَعتُ لَأَنْفَعَنَّكَ، ثُمَّ قالَ: واللهِ ما مِن حَدِيثٍ سَمعتُهُ مِن رَسُولِ اللهِ ﷺ لَكُم فِيهِ خَيرٌ إلا حَدَّثتُكُمُوهُ إلّا حَدِيثًا واحِدًا، وسَوفَ أُحَدِّثكُمُوهُ اليومَ، وقَد أُحِيطَ بِنَفسِي، سَمعتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «مَن شَهِدَ أن لا إلَه إلا اللهُ وأَنَّ مُحمدًا رَسُولُ الله حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ النّار».
-جاء التعليم بصيغة الاستفهام ليكون أوقع في النفس، وأبلغ في التعليم؛ لأن الإنسان إذا سئل عن شيء لا يعلمه، ثم أخبر به بعد الامتحان بالسؤال صار ذلك أدعى لفهمه وحفظه.
-قوله: " الله ورسوله أعلم" يؤخذ منه حسن الأدب في التعلم، وأنه لا ينبغي لمن سئل عما لا يعلمه أن يتكلف الجواب بدون يقين، ولكن يكل العلم إلى عالمه.
-من الأساليب النبوية في التعليم تكرار السؤال على المتعلم والسكوت قبل تقديم الجواب لإثارة انتباهه .
-قال القاضي عياض: فيه دليل على أنَّه كتم ما خشي الضرر فيه والفتنة مما لا يحتمله عقل كل أحد، وذلك فيما ليس تحته عمل ولا فيه حد من حدود الشريعة، ومثل هذا عن الصّحابة ﵃ كثير في ترك الحديث بما ليس تحته عمل، ولا تدعوا إليه ضرورة، ولا تحمله عقول العامة أو خشيت مضرته على قائله أو سامعه لا سيما ما يتعلق بأخبار المنافقين والأمراء وتعيين قوم وصفوا بأوصاف غير مستحسنة وذم آخرين ولعنهم والله أعلم.
-ويستفاد من هذه الرِّواية وجوب رواية حديث فيه منفعة ومصلحة للناس، إما في الدين أو في الدُّنيا.
النواحي البيانية:
-تكرار النداء بالاسم أكثر من مرة مع الفصل بزمن؛ لشد الانتباه وتشويق السامع.
-(ما مِن عبد..) النفي مع التنكير مع حرف الجر (مِن): يفيد العموم.

١٣. (خ م) (٩٤) عَنْ أبِي ذَرٍّ ﵁ قالَ: أتَيتُ النَّبِيَّ ﷺ وهُوَ نائِمٌ عَلَيهِ ثَوبٌ أبيَضُ، ثُمَّ أتَيتُهُ فَإذا هُوَ نائِمٌ، ثُمَّ أتَيتُهُ وقَد استَيقَظَ، فَجَلَستُ إلَيهِ فَقالَ: «ما مِن عَبدٍ قالَ: لا إلَهَ إلا اللهُ، ثُمَّ ماتَ عَلى ذَلكَ إلا دَخَلَ الجَنَّةَ». قُلتُ: وإن زَنى وإن سَرَقَ؟ قالَ: «وإن زَنى وإن سَرَقَ». قُلتُ: وإن زَنى وإن سَرَقَ؟ قالَ: «وإن زَنى وإن سَرَقَ»، ثَلاثًا، ثُمَّ قالَ فِي الرّابِعَةِ: «عَلى رَغمِ أنفِ أبِي ذَرٍّ». قالَ: فَخَرَجَ أبُو ذَرٍّ وهُوَ يَقُولُ: وإن رَغِمَ أنفُ أبِي ذَرٍّ.
-تكرار الاستفهام (وإن زنى وإن سرق؟) غرضه البلاغي الاستغراب والاندهاش، والجواب عن هذا السؤال بتكرار لفظه دليل على تأكيد المفهوم لديهم.

١٤. (خ م) (٣٣) عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ؛ عَن عِتبانَ بْنِ مالِكٍ ﵁، وهُوَ مِن أصحابِ النَّبِيِّ ﷺ مِمَّن شَهِدَ بَدرًا مِن الأَنصارِ؛ أنَّهُ أتى رَسُولَ اللهِ ﷺ فَقالَ: يا رَسُولَ اللهِ؛ إنِّي قَد أنكَرتُ بَصَرِي، وأَنا أُصَلِّي لِقَومِي، وإذا كانَت الأمطارُ سالَ الوادِي الَّذِي بَينِي وبَينَهُم ولَم أستَطِع أن آتِيَ مَسْجِدَهُم فَأُصَلِّيَ لَهُم، ودِدتُ أنَّكَ يا رَسُولَ اللهِ تَأتِي فَتُصَلِّي فِي مُصَلّىً فَأَتَّخِذَهُ مُصَلّىً، قالَ: فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «سَأَفعَلُ إن شاءَ اللهُ». قالَ عِتبانُ: فَغَدا رَسُولُ اللهِ ﷺ وأَبُو بَكرٍ الصِّدِّيقُ حِينَ ارتَفَعَ النَّهارُ، فاستَأذَنَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَأَذِنتُ لَهُ، فَلَم يَجلِس حَتّى دَخَلَ البَيتَ، ثُمَّ قالَ: «أينَ تُحِبُّ أن أُصَلِّيَ مِن بَيتِكَ؟» قالَ: فَأَشَرتُ إلى ناحِيَةٍ مِن البَيت، فَقامَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَكَبَّر، فَقُمنا وراءَهُ، فَصَلّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، قالَ: وحَبَسناهُ عَلى خَزِيرٍ صَنَعناهُ لَهُ، قالَ: فَثابَ رِجالٌ مِن أهلِ الدّارِ حَولَنا حَتّى اجتَمَعَ فِي البَيتِ رِجالٌ ذَوُو عَدَدٍ، فَقالَ قائِلٌ مِنهُم: أينَ مالِكُ بنُ الدُّخشُنِ؟ فَقالَ بَعضُهُم: ذَلكَ مُنافِقٌ لا يُحِبُّ اللهَ ورَسُولَهُ. فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لا تَقُل لَهُ ذَلكَ؛ ألا تَراهُ قَد قالَ لا إلَهَ إلا اللهُ يُرِيدُ بِذَلكَ وجهَ اللهِ». قالَ: قالُوا: اللهُ ورَسُولُهُ أعلَمُ. قالَ: فَإنَّما نَرى وجهَهُ ونَصِيحَتَهُ لِلمُنافِقِينَ. قالَ: فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «فَإنَّ اللهَ قَد حَرَّمَ عَلى النّارِ مَن قالَ لا إلَهَ إلا اللهُ يَبتَغِي بِذَلكَ وجهَ اللهِ».
وفي رواية (خ): كانَ يَؤُمُّ قَومَهُ وهُو أعمى ... وفِيها: إنَّها تَكُونُ الظُّلْمَةُ والسَّيْلُ وأَنا رَجُلٌ ضَرِيرُ البَصَر ...
ورَوى (م) عَن أنَسٍ عَن مَحمُود عَن عِتبانَ نَحوَهُ، وفِيهِ: ثُمَّ أسنَدُوا عُظْمَ ذَلكَ وكُبْرَهُ إلى مالِكِ بْنِ دُخْشُم، قالَ: ودُّوا أنَّه دَعا عَلَيهِ فَهَلَكَ، ووَدُّوا أنَّهُ أصابَهُ شَرٌّ، فَقَضى رَسُولُ اللهِ ﷺ الصَّلاةَ، وقالَ: «ألَيسَ يَشهَدُ أن لا إلهَ إلّا اللهُ وأَنِّي رَسُولُ الله؟» قالُوا: إنَّه يَقُولُ ذَلكَ، وما هُوَ فِي قَلبِهِ. قالَ: «لا يَشهَدُ أحَدٌ أن لا إلهَ إلا اللهُ وأَنّي رَسُولُ اللهِ فَيَدخُلُ النّارَ أو تَطعَمَهُ». قالَ أنَسٌ: فَأَعجَبَني هَذا الحَديثُ، فَقُلتُ لِابني: اكتُبهُ، فَكَتَبَهُ. زادَ (م) فِي رِوايَةٍ: قالَ الزُّهري: ثُمَّ نَزَلَت بَعدَ ذَلكَ فَرائِضُ وأُمُورٌ نَرى أنَّ الأَمرَ انتَهى إلَيها، فَمَن استَطاعَ أن لا يَغتَرَّ فَلا يَغترَّ. ورَوى (م) عَن أنَسٍ عَن عِتبانَ أنَّه عَمِيَ، فَأَرسَلَ إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقالَ: تَعالَ فَخُطَّ لِي مَسْجِدًا ...
- قال ابن الملقن: فيه إباحة المساجد في البيوت، فإنه لا يخرجه عن ملك صاحبه.
- قال القاضي عياض: فيه جواز إمامة الأعمى.
- قال القاضي عياض: فيه جواز قول الرجل للرجل في الجواب عند دعائه له لبيك وسعديك.
النواحي البيانية:
-(أنكرت بصري) كناية عن ضعف البصر.
-(سال الوادي) مجاز مرسل والمقصود: سال ماء الوادي.
-(فأتيت حائطا) مجاز مقصود به البستان المسوّر بحائط ليس له سقف.
-(فاحتفزت كما يحتفز الثعلب) تشبيه يدل على الهيئة التي حاول فيها أبوهريرة الدخول من المدخل الصغير وشدة تصغيره لنفسه.
-(فخلّهِمْ) فيه إيجاز حذف، والتقدير: فخلِّهم يعملون. وجاز الحذف لدلالة ما قبله عليه.

١٥. (خ م) (٢٨) عَنْ عُبادَةَ بْنِ الصّامِتِ ﵁ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَن قالَ: أشهَدُ أن لا إلَهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وأَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ ورَسُولُهُ، وأَنَّ عِيسى عَبدُ اللهِ (وابنُ أمَتِهِ) وكَلِمَتُهُ ألقاها إلى مَريَمَ ورُوحٌ مِنهُ، وأَنَّ الجَنَّةَ حَقٌّ، وأَنَّ النّارَ حَقٌّ، أدخَلَهُ اللهُ مِن أيِّ أبوابِ الجَنَّةِ الثَّمانِيَةِ شاءَ». لفظُ (خ): «وأَنَّ عِيسى عَبدُ اللهِ ورَسُولُهُ»
وفِي رِوايَةٍ: «أدْخَلَهُ اللهُ الجَنَّةَ عَلى ما كانَ مِن عَمَلٍ».
- قال الإمام النووي: هذا محمول على إدخاله الجنة في الجملة فإن كانت له معاصٍ من الكبائر فهو في المشيئة فإن عذّب ختم له بالجنة.
- فيه إشارةٌ إلى أنَّ عيسى عليه السلام حجَّةُ اللهِ على عبادِه، أبدَعَه مِن غير أبٍ، وأنطَقه في غيرِ أوانِه، وأحيَا الموتى على يدِه، وقيل: لأنَّه قال في صِغَره: إنِّي عبدُ اللهِ.

١٦. (م) (٢٦) عَنْ عُثْمانَ بْنِ عَفّانَ ﵁ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَن ماتَ وهُوَ يَعلَمُ أنَّهُ لا إلَهَ إلا اللهُ دَخَلَ الجَنَّةَ».
-قال النووي: في قوله (وهو يعلم) إشارة إلى الرد على غلاة المرجئة أن مظهر الشهادتين يدخل الجنة وإن لم يعتقد ذلك بقلبه.
- فيه توضيح من النبي ﷺ على فضل التوحيد لمن مات عليه.

١٧. (م) (٣١) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁ قالَ: كُنّا قُعُودًا حَولَ رَسُولِ اللهِ ﷺ مَعَنا أبُو بَكرٍ وعُمَرُ فِي نَفَرٍ، فَقامَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِن بَينِ أظهُرِنا، فَأَبطَأَ عَلَينا، وخَشِينا أن يُقتَطَعَ دُونَنا، وفَزِعنا فَقُمنا، فَكُنتُ أوَّلَ مَن فَزِعَ، فَخَرَجتُ أبتَغِي رَسُولَ اللهِ ﷺ، حَتّى أتَيتُ حائِطًا لِلأَنصارِ لِبَنِي النَّجّارِ، فَدُرتُ بِهِ هَل أجِدُ لَهُ بابًا فَلَم أجِد، فَإذا رَبِيعٌ يَدخُلُ فِي جَوفِ حائِطٍ مِن بِئرٍ خارِجَةٍ -والرَّبِيعُ: الجَدوَلُ- فاحتَفَزتُ كَما يَحتَفِزُ الثَّعلبُ، فَدَخَلتُ عَلى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقالَ: «أبُو هُرَيْرَةَ؟» فَقُلتُ: نَعَم يا رَسُولَ اللهِ، قالَ: «ما شَأنُكَ؟» قُلتُ: كُنتَ بَينَ أظهُرِنا، فَقُمتَ، فَأَبطَأتَ عَلَينا، فَخَشِينا أن تُقتَطَعَ دُونَنا، فَفَزِعنا، فَكُنتُ أوَّلَ مِن فَزِعَ، فَأَتَيتُ هَذا الحائِطَ، فاحتَفَزتُ كَما يَحتَفِزُ الثَّعلَبُ، وهَؤُلاءِ النّاسُ ورائِي، فَقالَ: «يا أبا هُرَيْرَةَ»، وأَعطانِي نَعلَيهِ، قالَ: «اذهَب بِنَعلَيَّ هاتَينِ، فَمَن لَقِيتَ مِن وراءِ هَذا الحائِطِ يَشهَدُ أن لا إلَهَ إلا اللهُ مُستَيقِنًا بِها قَلبُهُ فَبَشِّرهُ بِالجَنَّةِ». فَكانَ أوَّلَ مَن لَقِيتُ عُمَرُ، فَقالَ: ما هاتانِ النَّعلانِ يا أبا هُرَيْرَةَ؟ فَقُلتُ: هاتانِ نَعلا رَسُولِ اللهِ ﷺ، بَعَثَنِي بِهِما مَن لَقِيتُ يَشهَدُ أن لا إلَهَ إلا اللهُ مُستَيقِنًا بِها قَلبُهُ بَشَّرتُهُ بِالجَنَّةِ، فَضَرَبَ عُمَرُ بِيَدِهِ بَينَ ثَديَيَّ، فَخَرَرتُ لاستِي، فَقالَ: ارجِع يا أبا هُرَيْرَةَ. فَرَجَعتُ إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَأَجهَشتُ بُكاءً، ورَكِبَنِي عُمَرُ، فَإذا هُوَ عَلى أثَرِي، فَقالَ لي رَسُولُ اللهِ ﷺ: «ما لَكَ يا أبا هُرَيْرَةَ؟» قُلتُ: لَقِيتُ عُمَرَ فَأَخبَرتُهُ بِالَّذِي بَعَثتَنِي بِهِ، فَضَرَبَ بَينَ ثَديَيَّ ضَربَةً خَرَرتُ لاستِي، قالَ: ارجِع. فَقالَ له رَسُولُ اللهِ ﷺ: «يا عُمَرُ؛ ما حَمَلَكَ عَلى ما فَعَلتَ؟» قالَ: يا رَسُولَ اللهِ؛ بِأَبِي أنتَ وأُمِّي أبَعَثتَ أبا هُرَيْرَةَ بِنَعلَيكَ؛ مَن لَقِيَ يَشهَدُ أن لا إلَهَ إلا اللهُ مُستَيقِنًا بِها قَلبُهُ بَشَّرَهُ بِالجَنَّةِ؟ قالَ: «نَعَم». قالَ: فَلا تَفعَل، فَإنِّي أخشى أن يَتَّكِلَ النّاسُ عَلَيها، فَخَلِّهِم يَعمَلُونَ. قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «فَخَلِّهِم».
-قال ابن هبيرة: فيه أيضا جواز أن يحمل الشفيق إشفاقه على مصحوبه إلى أن يلج عليه في المكان الذي هو فيه من غير بابه؛ كما فعل أبو هريرة ﵁.
- قال ابن هبيرة: وفيه أن رسول الله ﷺ لما أخبره أبو هريرة بشدة إشفاق المسلمين عليه وحذرهم عرف ﷺ أن هذا من إمارة الإيمان، وأراد أن يسر قلوبهم بهذه البشرى، فقال له: اخرج وخذ نعلي، وإنما أعطاه نعليه لتكون أمارة على أنه هو الذي أرسله بتلك الرسالة.

١٨. (م) (١٥) عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ﵄ قالَ: أتى النَّبِيَّ ﷺ النُّعْمانُ بنُ قَوقَلٍ ﵁ فَقالَ: يا رَسُولَ اللهِ؛ أرَأَيتَ إذا صَلَّيتُ المَكتُوبَةَ، وحَرَّمتُ الحَرامَ، وأَحلَلتُ الحَلالَ؛ أأَدخُلُ الجَنَّةَ؟ فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «نَعَم».
وفي رواية: أنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ ﷺ ... وزاد فيها: وصُمتُ رَمَضانَ ... ولَم أزِد عَلى ذَلِكَ شَيئًا؛ أأَدخُلُ الجَنَّةَ؟ قالَ: «نَعَم». قالَ: واللهِ لا أزِيدُ عَلى ذَلِكَ شَيئًا.
-قال الإمام القاضي عياض: وفيه جواز التحليف والتأكيد للأمور المهمة والأخبار الهائلة، وجواز الحلف في ذلك كما قال.
- فيه أن أداء الفرائض واجتناب الحرام ومعرفة الحلال يؤدي إلى دخول الجنة، وهذا من فضل الله تعالى على المسلمين.

١٩. (خ) (٩٩) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁ أنَّهُ قالَ: قِيلَ: يا رَسُولَ اللهِ؛ مَن أسعَدُ النّاسِ بِشَفاعَتِكَ يَومَ القِيامَةِ؟ قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَقَد ظَنَنتُ يا أبا هُرَيْرَةَ أن لا يَسأَلُنِي عَن هَذا الحَدِيثِ أحَدٌ أوَّلُ مِنكَ؛ لِما رَأَيتُ مِن حِرصِكَ عَلى الحَدِيثِ، أسعَدُ النّاسِ بِشَفاعَتِي يَومَ القِيامَةِ مَن قالَ: لا إلَهَ إلا اللهُ خالِصًا مِن قَلبِهِ أو نَفسِهِ».
-قال بدر الدين العيني: فيه الحرص على العلم والخير؛ فإن الحريص يبلغ بحرصه إلى الغوامض ودقيق المعاني، فيكون ذلك سببا للفائدة، ويترتب عليه أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة.
- فيه تفرس العالم في متعلمه وتنبيهه على ذلك؛ لكونه أبعث على اجتهاده في العلم
- فيه سكوت العالم عن العلم إذا لم يسأل حتى يسأل ولا يكون ذلك كتما؛ لأن على الطالب السؤال اللهم إلا إذا تعين عليه فليس له السكوت إلا إذا تعذر.

باب: الإيمانُ بِاللهِ أفْضَلُ الأَعْمالِ


٢٠. (خ م) (٨٣) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁ قالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: أيُّ الأَعمالِ أفضَلُ؟ قالَ: «إيمانٌ بِاللهِ». قالَ: ثُمَّ ماذا؟ قالَ: «الجِهادُ فِي سَبِيلِ الله». قالَ: ثُمَّ ماذا؟ قالَ: «حَجٌّ مَبرُورٌ». وفي رواية: قالَ: «إيمانٌ بِاللهِ ورَسُولِهِ».
- فيه أن الصحابة ﵃ لحرصهم على الطاعات وما يقربهم من رضا الله ﷿ كثيرا ما يسألون النبي ﷺ عن أفضل الأعمال، وأكثرها قربة إلى الله تعالى.
- فيه أن إجابات النبي ﷺ تختلف باختلاف أشخاص الصحابة وأحوالهم، وعلمه بما هو أكثر نفعا لكل واحد منهم.

٢١. (خ م) (٨٤) عَنْ أبِي ذَرٍّ ﵁ قالَ: قُلتُ: يا رَسُولَ اللهِ؛ أيُّ الأَعمالِ أفضَلُ؟ قالَ: «الإيمانُ بِاللهِ والجِهادُ فِي سَبِيلِهِ». قالَ: قُلتُ: أيُّ الرِّقابِ أفضَلُ؟ قالَ: «أنفَسُها عِنْدَ أهلِها وأَكثَرُها ثَمَنًا». قالَ: قُلتُ: فَإن لَم أفعَل؟ قالَ: «تُعِينُ صانِعًا أو تَصنَعُ لأخرَقَ». قالَ: قُلتُ: يا رَسُولَ اللهِ؛ أرَأَيتَ إن ضَعُفتُ عَن بَعضِ العَمَلِ؟ قالَ: «تَكُفُّ شَرَّكَ عَنِ النّاسِ فَإنَّها صَدَقَةٌ مِنكَ عَلى نَفسِكَ». وفِي نُسْخَةٍ (م) وهُوَ لَفظُ (خ): «تُعينُ ضائعًا».
-قال ابن هبيرة: في هذا الحديث من الفقه أن رسول الله ﷺ أحسن جواب المسألة فبدأ بالأس، وقدم الأصل، فقال: حين سأله: أي الأعمال أفضل؟ قال: الإيمان بالله، وهذا إن كان قد جاء جوابًا عن أقوال السائل أفضل؟ مع أن العرف ينصرف فيه إلى مفاضلة بين فاضلين، فإن معناها ها هنا ألزم وأوجب لأنه إنما يبتني باقي المسائل عليه.
- فيه تنوع أبواب الخير.
- فيه خير الأعمال هو صحة الإيمان بالله.
- وفيه أجر الفعل يتعلق بنفعه.

باب: مَن رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا ومَنِ اسْتَقامَ عَلى الإيمانِ


٢٢. (م) (٣٤) عَنِ العَبّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ ﵁؛ أنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «ذاقَ طَعمَ الإيمانِ مَن رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا وبِالإسلامِ دِينًا وبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا».
- فيه إثبات أن الإيمان له حلاوة وطعمٌ يتلذّذ به المؤمن الحق.
- وفيه الترغيب في الإيمان التام بالله ورسوله ودينه.
- قال الإمام النووي: فيه أن من كانت هذه صفته فقد خلصت حلاوة الايمان إلى قلبه وذاق طعمه.
النواحي البيانية:
-قوله: (ذاق طعم الإيمان) قدم المفعول به وأخر الفاعل لتشويقهم لمعرفة صاحبه.

٢٣. (م) (٣٨) عَنْ سُفْيانَ بْنِ عَبْدِ اللهِ الثَّقَفِيِّ ﵁ قالَ: قُلتُ: يا رَسُولَ اللهِ؛ قُل لِي فِي الإسلامِ قَولًا لا أسأَلُ عَنهُ أحَدًا بَعدَكَ، قالَ: «قُل: آمَنتُ بِاللهِ ثمَّ استَقِم».
- فيه أن هذا الحديث يعد من جوامع الكلم.
- قال الواسطي: فيه بيان الخصلة التي بها كملت المحاسن وبفقدها قبحت المحاسن، وهي الاستقامة.
النواحي البيانية:
-(قل آمنت بالله ثم استقم) إيجاز قِصَر، حيث العبارة قليلة المبنى كثيرة المعنى.

١ ما الذي منع أبو طالب من قول: (لا إله إلا الله)؟

٥/٠