باب في التفكر في عظيم مخلوقات الله تَعَالَى وفناء الدنيا وأهوال الآخرة وسائر أمورهما وتقصير النفس وتهذيبها وحملها عَلَى الاستقامة


قَالَ الله تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا للهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا﴾ [سبأ: 46]،
قال الشيخ ابن عثيمين ﵀:
التفكر: هو أن الإنسان يعمل فكره في الأمر، حتى يصل فيه إلى نتيجة، وقد أمر الله تعالى به وحث عليه في كتابه، لما يتوصل إليه الإنسان به من المطالب العالية والإيمان واليقين.
قال الله تعالى: ﴿ قُلۡ إِنَّمَاۤ أَعِظُكُم بِوَ ٰ⁠حِدَةٍۖ ﴾ (سبأ: 46) قل يا محمد للناس جميعا: ما أعظكم إلا بواحدة: إذا قمتم بها أدركتم المطلوب، ونجوتم من المرهوب، وهي: ﴿أَن تَقُومُوا۟ لِلَّهِ مَثۡنَىٰ وَفُرَ ٰ⁠دَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا۟ۚ﴾ .
(تقوموا لله) أي: مخلصين له، فتقومون بطاعة الله ﷻ على الوجه الذي أمرتم به، مخلصين له، ثم بعد ذلك تتفكروا، فإذا فعلتم ذلك فهذه موعظة، وأي موعظة.

وَقالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ﴾ الآيات [آل عمران: 190 - 191]،
قال الشيخ ابن عثيمين ﵀:
هذه الآية أول الآيات العشر التي كان النبي ﷺ يقرؤها كلما استيقظ من صلاة الليل فينبغي للإنسان إذا استيقظ من صلاة الليل أن يقرأ هذه الآية إلى آخر سورة آل عمران.
قوله: ﴿إِنَّ فِی خَلۡقِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ..﴾ (البقرة: من الآية164) يعني في خلقهما من حيث الحجم والكبر والعظمة، وغير ذلك مما أودع الله فيهما، في هذا الخلق آيات ففي النجوم آية من آيات الله، وفي الشمس آية من آيات الله، وكذا القمر، آية من آيات الله، وكذا الأشجار والبحار والأنهار، وفي كل ما خلق الله في السماوات والأرض آيات عظيمة، تدل على كمال وحدانيته جل وعلا، وعلى كمال قدرته وعلى كمال رحمته وعلى كمال حكمته.
وأولوا الألباب هم أولوا العقول الذين يتفكرون في خلق السماوات والأرض وينظرون في الآيات، ويعتبرون بها.
ثم قال تعالى: في وصف أولي الألباب: ﴿ٱلَّذِینَ یَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ قِیَـٰمࣰا وَقُعُودࣰا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمۡ﴾ (آل عمران: من الآية191) ، أي: يذكرون الله في كل حال قياما وقعودا وعلى جنوبهم.
وذكر الله ﷾نوعان:
الأول: مطلق في كل وقت، وهو الذي يشرع للإنسان دائما، فقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا قال له: إن شرائع الإسلام كثرت علي، فأوصني، فقال: ((لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله)).
الثاني: ذكر مقيد بعدد، أو في حال من الأحوال، وهو كثير، منها أذكار الصلوات في الركوع والسجود وبعد السلام، وأذكار الدخول للمنزل، والخروج منه، وأذكار الدخول للمسجد والخروج منه، وأذكار النوم والاستيقاظ وأذكار الركوب على الدابة وأشياء كثيرة شرعها الله عز وجل لعباده من أجل أن يكونوا دائما على ذكر الله عز وجل.
والذكر أيضا يكون على وجهين:
ذكر تام: وهو ما تواطأ عليه القلب واللسان.
وذكر ناقص: وهو ما كان باللسان مع غفلة القلب، وأكثر الناس -نسأل الله أن يعاملنا جميعا بعفوه- عندهم ذكر الله باللسان مع غفلة القلب، فتجده يذكر الله وقلبه يذهب يمينا وشمالا، في دكانه وسيارته وفي بيعه وشرائه، وهو مأجور على كل حال، ولكن الذكر التام هو الذي يكون ذكرا لله باللسان وبالقلب، يعني أنك تذكر الله بلسانك وتذكر الله بقلبك، وهذا أنفع للعبد من الذكر المجرد

وَقالَ تَعَالَى: ﴿أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ﴾ [الغاشية: 17 - 21].
قال الشيخ ابن عثيمين﵀:
﴿أَفَلَا یَنظُرُونَ﴾ هذا من باب الحث على النظر في هذه الأمور الأربعة:
الأول: (إلى الإبل كيف خلقت) فتتأمل كيف خلقها الله على هذا الجسم الكبير، المتحمل لحمل الأثقال، كما قال تعالى: ﴿وَتَحۡمِلُ أَثۡقَالَكُمۡ إِلَىٰ بَلَدࣲ لَّمۡ تَكُونُوا۟ بَـٰلِغِیهِ إِلَّا بِشِقِّ ٱلۡأَنفُسِۚ ﴾(النحل: من الآية7)
هذه الإبل الكبيرة الأجسام القوية ذللها الله للعبادة، حتى كان الصبي يقودها إلى ما يريد، مع إنها لو عتت ما استطاع الناس أن يدركوها، ولهذا كان من المشروع أن يقول الإنسان إذا استوى على ظهرها راكبا: ﴿سُبۡحَـٰنَ ٱلَّذِی سَخَّرَ لَنَا هَـٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُۥ مُقۡرِنِینَ﴾ (الزخرف: من الآية13) أي: مطيقين، لأن قرين الإنسان من كان على مثله وعلى شاكلته، أي لسنا مطيقين لها لولا أن سخرها الله عز وجل، سخرها الله لعباده، فمنها ركوبهم ومنها يأكلون.
﴿وَإِلَى ٱلسَّمَاۤءِ كَیۡفَ رُفِعَتۡ﴾هذه السماء العظيمة، رفعها الله ﷻ رفعا عظيما باهرا لا يستطيع أن يناله أحد من الخلق، حتى الجن على قوتهم يقولون: ﴿وَأَنَّا كُنَّا نَقۡعُدُ مِنۡهَا مَقَـٰعِدَ لِلسَّمۡعِۖ فَمَن یَسۡتَمِعِ ٱلۡـَٔانَ یَجِدۡ لَهُۥ شِهَابࣰا رَّصَدࣰا﴾ [الجن ٩] يقول الله عز وجل: ﴿وَجَعَلۡنَا ٱلسَّمَاۤءَ سَقۡفࣰا مَّحۡفُوظࣰاۖ ﴾ (الأنبياء: من الآية32) وفي هذه السماوات العظيمة، كيف رفعها الله تعالى بغير عمد: ﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِی رَفَعَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ بِغَیۡرِ عَمَدࣲ تَرَوۡنَهَاۖ﴾ (الرعد: من الآية2) ، أي: ترونها مرفوعة بغير عمد.
﴿وَإِلَى ٱلۡجِبَالِ كَیۡفَ نُصِبَتۡ﴾ هذه الجبال الصم العظيمة الكبيرة، لو أن الخلق اجتمعوا كلهم بقواهم ما كونوا مثلها. يجب أن نتفكر فيها، كيف نصبها الله عز وجل؟ نصبها الله عز وجل على حكمة عظيمة، لأن الله ﷾ جعل في هذه الجبال التي نصبها مصالح عظيمة وكبيرة، منها إنها رواسي ترسي الأرض وتمسكها عن الاضطراب، كما قال الله تعالى: ﴿وَأَلۡقَىٰ فِی ٱلۡأَرۡضِ رَوَ ٰ⁠سِیَ أَن تَمِیدَ بِكُمۡ﴾ (النحل: من الآية15) ، أي: أن تضطرب، فلولا أن الله أرساها بهذه الجبال، لكانت مضطربة كالسفينة على ظهر الماء في شدة الأمواج، ولكن الله جعلها بهذه الجبال ساكنة قارة، لا تضطرب ولا تميد بأهلها.
﴿وَإِلَى ٱلۡأَرۡضِ كَیۡفَ سُطِحَتۡ﴾ فجعلها الله سطحا، وسخرها للعباد، بحيث لم تكن تربتها لينة جدا لا يستقرون عليها، ولا صلبة جدا لا ينتفعون منها

وَقالَ تَعَالَى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا﴾ الآية [القتال: 10]. والآيات في الباب كثيرة.
قال الشيخ ابن عثيمين ﵀:
أمر الله بالسير والسير ينقسم إلى قسمين.
سير بالقدم، وسير بالقلب.
1_ أما السير بالقدم: بأن يسير الإنسان في الأرض على أقدامه، أو على راحلته من بعير أو سيارة، أو طائرة، أو غيرها حتى ينظر ماذا حصل للكافرين، وماذا كانت حال الكافرين.
2_ وأما السير بالقلب: فهذا يكون بالتأمل والتفكير فيما نقل عن أخبارهم.

ومن الأحاديث الحديث السابق: «الكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ»
قال الشيخ ابن عثيمين ﵀:
الكيس: هو الحازم الفطن المتنبه المنتهز للفرص، هو الذي يدين نفسه، أي يحاسبها، فينظر ماذا أهمل من الواجب وماذا فعل من المحرم وماذا أتى به من الواجب، وماذا تجنب من المحرم، حتى يصلح نفسه.
أما العاجز: فهو الذي يتبع نفسه هواها، فما هوت نفسه أخذ به، وما كرهت نفسه لم يأخذ به، سواء وافق شرع الله أم لا.
وقوله: ((تمنى على الله الأماني)) يعني: يقول سيغفر لي، وسوف أستقيم فيما بعد، وسوف أقوم بالواجب فيما بعد، وسوف أترك هذا فيما بعد، وما أشبه ذلك، هذا عاجز.
والكيس: هو الذي يعمل بحزم وجد، ويحاسب نفسه، ويكون عنده قوة في أمر الله، وفي دين الله، وفي شرع الله، حتى يتمكن من ضبط نفسه.