باب في المبادرة إلى الخيرات وحثِّ من توجه لخير على الإقبال عليه بالجد من غير تردد


قَالَ الله تَعَالَى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَات﴾[البقرة: 148]، وَقالَ تَعَالَى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾[آل عمران: 133].
وأما الأحاديث:
87 - فالأولُ: عن أبي هريرة - رضي الله عنه: أن رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «بَادِرُوا بِالأعْمَال فتنًا كقطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِمِ، يُصْبحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، وَيُمْسِي مُؤمِنًا ويُصْبِحُ كَافِرًا، يَبيعُ دِينَهُ بعَرَضٍ مِنَ الدُّنيا». رواه مسلم.
قال ابن عثيمين ﵁:
- العمل الصالح ما بني على أمرين: الإخلاص لله، والمتابعة لرسول الله ﷺ، وهذا تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله.
- أخبر ﷺ أنه ستوجد فتن كقطع الليل المظلم -نعوذ بالله- يعني أنها مدلهمة مظلمة؛ لا يرى فيها النور والعياذ بالله.
- الفتن منها ما يكون من الشبهات، ومنها ما يكون من الشهوات:
1. ففتن الشبهات: كل فتنة مبنية على الجهل، ومن ذلك ما حصل من أهل البدع الذين ابتدعوا في عقائدهم ما ليس من شريعة الله، أو أهل البدع الذين ابتدعوا في أقوالهم وأفعالهم ما ليس من شريعة الله، وأيضاً: ما يحصل في المعاملات من الأمور المشتبهة التي هي واضحة في قلب الموقن، مشتبهة في قلب الضال والعياذ بالله.
2. الشهوات: بمعنى أن الإنسان يعرف أن هذا حرام، ولكن لأن نفسه تدعوه إليه فلا يبالي هذه فتنة شهوة، يعني فتنة إرادة.
قال ابن باز ﵁:
- على الإنسان أن يغتنم حياته وصحته وعقله بالأعمال الصالحات قبل أن يحال بينه وبين ذلك.

88 - الثَّاني: عن أبي سِروْعَة - بكسر السين المهملة وفتحها - عُقبةَ بن الحارث - رضي الله عنه - قَالَ: صَلَّيتُ وَرَاءَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بالمَدِينَةِ العَصْرَ، فَسَلَّمَ ثُمَّ قَامَ مُسْرِعًا، فَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ إِلَى بعْضِ حُجَرِ نِسَائِهِ، فَفَزِعَ النَّاسُ مِنْ سُرْعَتِهِ، فَخَرَجَ عَلَيهمْ، فَرأى أنَّهُمْ قَدْ عَجبُوا مِنْ سُرعَتهِ، قَالَ: «ذَكَرتُ شَيئًا مِنْ تِبرٍ عِندَنَا فَكَرِهتُ أَنْ يَحْبِسَنِي فَأمَرتُ بِقِسْمَتِهِ» رواه البخاري.
وفي رواية لَهُ: «كُنتُ خَلَّفتُ في البَيْتِ تِبرًا مِنَ الصَّدَقةِ فَكَرِهتُ أَنْ أُبَيِّتَهُ». «التِّبْرُ»: قِطَعُ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ.
قال ابن عثيمين ﵁:
- في هذا الحديث دليل على أن رسول الله ﷺ أسرع الناس مبادرة إلى الخير.
- ففي هذا الحديث المبادرة إلى فعل الخير، وألا يتوانى الإنسان عن فعله، وذلك لأن الإنسان لا يدري متى يفاجئه الموت؛ فيفوته الخير، والإنسان ينبغي أن يكون كيساً، يعمل لما بعد الموت ولا يتهاون.
- وفي هذا الحديث دليل على جواز تخطي الرقاب بعد السلام من الصلاة، ولا سيما إذا كان لحاجة، وذلك لأن الناس بعد السلام من الصلاة ليسوا في حاجة إلى أن يبقوا في أماكنهم، بل لهم الانصراف، بخلاف تخطي الرقاب قبل الصلاة، فإن ذلك منهي عنه؛ لأنه إيذاء للناس، ولهذا قطع النبي ﷺ خطبته يوم الجمعة حين رأى رجلاً يتخطى الرقاب، فقال له: (اجلس فقد آذيت).
- وفي هذا الحديث أيضاً دليل على شدة الأمانة وعظمها، وأن الإنسان إذا لم يبادر بأدائها فإنها قد تحبسه.

89 - الثالث: عن جابر - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رجلٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم - يَومَ أُحُد: أَرَأيتَ إنْ قُتِلتُ فَأَيْنَ أَنَا؟ قَالَ: «فِي الجَنَّةِ» فَأَلْقَى تَمَرَاتٍ كُنَّ في يَدِهِ، ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
قال ابن باز ﵁:
- في هذا الحديث الحث على المسابقة إلى الخيرات والمسارعة إلى الطاعات والعزم في كل خير والجد في كل خير وعدم التردد؛ لأن سلعة الله غالية وهي الجنة.
قال ابن عثيمين ﵁:
- وفي هذا دليل على حرص الصحابة ﵃ على معرفة الأمور؛ لأن هذا الرجل سأل النبي عليه ﷺ، وكان هذا من عادتهم؛ أنهم لا يفوتون الفرصة حتى يسألوا النبي ﷺ؛ لأنهم يستفيدون من هذا علماً وعملاً، فإن العالم بالشريعة قد من الله عليه بالعلم، ثم إذا عمل به فهذه منّه أخرى، والصحابة ﵃ كان هذا شأنهم.

90 - الرابع: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: جاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رسولَ الله، أيُّ الصَّدَقَةِ أعْظَمُ أَجْرًا؟ قَالَ: «أنْ تَصَدَّقَ وَأَنتَ صَحيحٌ شَحيحٌ،تَخشَى الفَقرَ وتَأمُلُ الغِنَى، وَلاَ تُمهِلْ حَتَّى إِذَا بَلَغتِ الحُلقُومَ قُلْتَ لِفُلان كذا ولِفُلانٍ كَذا، وقَدْ كَانَ لِفُلانٍ». مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
«الحُلقُومُ»: مَجرَى النَّفَسِ. وَ «المَرِيءُ»: مجرى الطعامِ والشرابِ.
قال ابن عثيمين ﵁:
- إن هذا الرجل سأل النبي ﷺ أي الصدقة أفضل؟ وهو لا يريد أي الصدقة أفضل في نوعها، ولا في كميتها، وإنما يريد ما هو الوقت الذي تكون فيه الصدقة أفضل من غيرها، فقال له: (أن تصدق وأنت صحيح شحيح) يعني صحيح البدن شحيح النفس؛ لأن الإنسان إذا كان صحيحاً كان شحيحاً بالمال؛ لأنه يأمل البقاء، ويخشى الفقر، أما إذا كان مريضاً، فإن الدنيا ترخص عنده، ولا تساوي شيئاً فتهون عليه الصدقة.
- في هذا الحديث دليل على أن الإنسان ينبغي له أن يبادر بالصدقة قبل أن يأتيه الموت، وأنه إذا تصدق في حال حضور الأجل، كان ذلك أقل فضلاً مما لو تصدق وهو صحيح شحيح.
- في هذا دليل على أن الإنسان إذا تكلم في سياق الموت فإنه يعتبر كلامه إذا لم يذهل، فإن أذهل حتى صار لا يشعر بما يقول فإنه لا عبرة بكلامه، لقوله ﷺ: (حتى إذا بلغت الحلقوم).
قال ابن باز ﵁:
- والمقصود من هذا الحث بالصدقة والمسارعة إليها في حال الصحة وحال محبة المال ورجاء الغنى وخوف الفقر، هذا أفضل من الصدقة في حال المرض.

91 - الخامس: عن أنس - رضي الله عنه: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ سيفًا يَومَ أُحُدٍ، فَقَالَ: «مَنْ يَأخُذُ مِنِّي هَذَا؟» فَبَسطُوا أَيدِيَهُمْ كُلُّ إنسَانٍ مِنْهُمْ يقُولُ: أَنَا أَنَا. قَالَ: «فَمَنْ يَأخُذُهُ بحَقِّه؟» فَأَحْجَمَ القَومُ فَقَالَ أَبُو دُجَانَةَ - رضي الله عنه: أنا آخُذُهُ بِحَقِّهِ، فأخذه فَفَلقَ بِهِ هَامَ المُشْرِكِينَ. رواه مسلم.
اسم أبي دجانةَ: سماك بن خَرَشة. قوله: «أحجَمَ القَومُ»: أي توقفوا. وَ «فَلَقَ بِهِ»: أي شق. «هَامَ المُشرِكينَ»: أي رُؤُوسَهم.
قال ابن باز ﵁:
- المقصود من هذا الحث على الجد والقوة، وعدم الكسل، وعدم الضعف وأن المؤمن يعود نفسه الجد والنشاط في العمل الصالح والمسارعة إليه.
قال ابن عثيمين ﵁:
- كثير من الناس ربما يستكثر العبادة، أو يرى أنها عظيمة، يستعظمها، فينكص على عقبيه، ولكن يقال للإنسان: استعن بالله، توكل على الله، وإذا استعنت بالله، وتوكلت عليه، ودخلت فيما يرضيه عز وجل؛ فأبشر.

92 - السادس: عن الزبير بن عدي، قَالَ: أتينا أنسَ بن مالك - رضي الله عنه - فشكونا إِلَيْه مَا نلقى مِنَ الحَجَّاجِ. فَقَالَ: «اصْبرُوا؛ فَإنَّهُ لاَ يَأتِي زَمَانٌ إِلاَّ والَّذِي بَعدَهُ شَرٌّ مِنهُ حَتَّى تَلقَوا رَبَّكُمْ» سَمِعتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ - صلى الله عليه وسلم. رواه البخاري.
93 - السابع: عن أبي هريرة - رضي الله عنه: أن رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «بادِرُوا بِالأَعْمَالِ سَبْعًا، هَلْ تَنْتَظِرُونَ إلاَّ فَقرًا مُنسيًا ، أَوْ غِنىً مُطغِيًا، أَوْ مَرَضًا مُفسِدًا، أَوْ هَرَمًا مُفْندًا، أَوْ مَوتًا مُجْهزًا، أَوْ الدَّجَّالَ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوْ السَّاعَةَ فالسَّاعَةُ أدهَى وَأَمَرُّ» رواه الترمذي، وَقالَ: «حديث حسن».
قال ابن باز ﵁:
- بادر بالأعمال سارع سابق كما قال ﷿:﴿سَابِقُوۤا۟ إِلَىٰ مَغۡفِرَةࣲ مِّن رَّبِّكُمۡ وَجَنَّةٍ ﴾ [الحديد ٢١]، وقال﷿:﴿ فَٱسۡتَبِقُوا۟ ٱلۡخَیۡرَ ٰ⁠تِۚ﴾ [البقرة:148]، وقال﷿: ﴿وَسَارِعُوۤا۟ إِلَىٰ مَغۡفِرَةࣲ مِّن رَّبِّكُمۡ ﴾ [آل عمران:133]، فالمؤمن يسابق أينما كان في أي جهة يسابق لا ينتظر فقد يهجمه الأجل.
قال ابن عثيمين ﵁:
- فبادر يا أخي المسلم بأعمالك الصالحة قبل أن يفوتك الأوان، فأنت الآن في نشاط، وفي قوة، وفي قدرة، لكن قد يأتي عليك زمان لا تستطيع ولا تقدر على العمل الصالح، فبادر وعود نفسك، وأنت إذا عودت نفسك العمل الصالح اعتادته، وسهل عليها وانقادت له، وإذا عودت نفسك الكسل والإهمال؛ عجزت عن القيام بالعمل الصالح.

94 - الثامن: عَنْهُ: أن رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ يَومَ خيبر: «لأُعْطِيَنَّ هذِهِ الرَّايَةَ رَجُلًا يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ يَفتَحُ اللهُ عَلَى يَدَيهِ» قَالَ عُمَرُ - رضي الله عنه: مَا أحبَبْتُ الإِمَارَة إلاَّ يَومَئِذٍ، فَتَسَاوَرتُ لَهَا رَجَاءَ أَنْ أُدْعَى لَهَا، فَدَعا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - فَأعْطَاهُ إيَّاهَا، وَقالَ: «امْشِ وَلَا تَلتَفِتْ حَتَّى يَفْتَح اللهُ عَلَيكَ» فَسَارَ عليٌّ شيئًا ثُمَّ وَقَفَ ولم يلتفت فصرخ: يَا رَسُول الله، عَلَى ماذا أُقَاتِلُ النّاسَ؟ قَالَ: «قاتِلْهُمْ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ، وَأنَّ مُحَمدًا رسولُ الله، فَإِذَا فَعَلُوا ذلك فقَدْ مَنَعوا مِنْكَ دِمَاءهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلاَّ بحَقِّهَا، وحسَابُهُمْ عَلَى الله». رواه مسلم.
«فَتَسَاوَرْتُ» هُوَ بالسين المهملة: أي وثبت متطلعًا.
قال ابن باز ﵁:
- فهذا فيه منقبة كبيرة لعلي ﵁، من جهة أن الله فتح على يديه، ومن جهة أن الرسول ﷺ وصفه بأنه يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله.
- هذا فيه دلالة على فضل الدعوة، وأن الإنسان كونه يهتدي على يديه جماعة، أو أفراد، خير له من الدنيا وما عليها.