باب ذكر الله تَعَالَى قائمًا أَوْ قاعدًا ومضطجعًا ومحدثًا وجنبًا وحائضًا إِلاَّ القرآن فَلاَ يحل لجنب وَلاَ حائض


قَالَ الله تَعَالَى: ﴿إنَّ في خَلْقِ السَّماوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ [آل عمران: 190، 191].
1444 - وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: كَانَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَذْكُرُ اللهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ. رواهُ مسلم.
1445 - وعن ابن عباسٍ - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَوْ أنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أتَى أهْلَهُ قَالَ: بِسْمِ الله، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَقُضِيَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ، لَمْ يَضُرَّهُ». متفق عَلَيْهِ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- (على كل أحيانه) أي على كل الأزمان، في كل زمن يذكر الله، قائمًا، وقاعدًا، ومضطجعًا، حتى أنّ النبي ﷺ ندب الإنسان أن يذكر الله عند جماع أهله.
- في هذا دليل على أنه ينبغي لك أن تكثر من ذكر الله في كل حال، إلا أن العلماء قالوا: "لا ينبغي أن يذكر الله تعالى في الأماكن القذرة، مثل: أماكن قضاء الحاجة، (المراحيض) ونحوها، تكريمًا لذكر الله عن هذه المواضع".
قال ابن باز ﵀:
- الله ﷿ يحثنا على الذكر في جميع الحالات قائماً وقاعداً وعلى جنبه؛ لأنّ الذكر خفيف وميسر لا يشق على الإنسان سواء قائماً أو قاعداً، في أي وقت كان، لجميع المسلمين، الرجل والمرأة والجنب والحائض وغير ذلك، كل ذلك مشروع في جميع الحالات؛ ولهذا قالت عائشة ﵂: "كان النّبِي ﷺ يذكر اللَّه على كلّ أحيانه"، وهو أسبق الناس إلى كل خير ﷺ، مع أنه أكملهم عبادة ومغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومع هذا يسابق إلى الخيرات ﷺ، فالمؤمن يتأسى به ﷺ في الإكثار من الذكر قائماً وقاعداً وعلى جنبه.

باب مَا يقوله عِنْدَ نومه واستيقاظه


1446 - عن حُذَيفَةَ، وأبي ذرٍ رضي الله عنهما، قالا: كَانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أوَى إِلَى فِرَاشِهِ، قَالَ: «بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ أَحْيَا وَأموتُ» وَإذَا اسْتَيقَظَ قَالَ: «الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَحْيَانَا بعْدَ مَا أماتَنَا وإِلَيْهِ النُّشُورُ». رواه البخاري.
قال ابن عثيمين ﵀:
- من نعمة الله علينا أن الله شرع لنا أذكارًا عند النوم، والاستيقاظ، والأكل والشرب ابتداءً وانتهاءً، بل حتى عند دخول الخلاء، وعند اللباس، كل هذا من أجل أن تكون أوقاتنا معمورة بذكر الله، ولولا أن الله شرع لنا ذلك لكان بدعة، ولكن الله شرع لنا هذا من أجل أن تزداد نعمته علينا بفعل هذه الطاعات.
- (إذا أوى) يعني إذا ذهب إلى فراشه، وأراد أن ينام، (باسمك اللهم أحيا وأموت) لأن الله هو المحيي المميت، فهو المحيي: يحيي من شاء، وهو المميت: يميت من يشاء، فتقول باسمك اللهم أحيا وأموت، أي: أموت على اسمك، وأحيا على اسمك.
- مناسبة هذا الذكر عند النوم هو أن النوم موت، لكنه موت أصغر، كما قال تعالى: ﴿وَهُوَ ٱلَّذِى يَتَوَفَّىٰكُم بِٱلَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِٱلنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰٓ أَجَلٌ مُّسَمًّى﴾ [الأنعام: 60]، ولهذا كان رسول الله ﷺ إذا قام من الليل قال: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور، فتحمد الله الذي أحياك بعد الموت، وتذكر أن النشور، يعني من القبور، والإخراج من القبور يكون إلى الله، فتتذكر ببعثك من موتتك الصغرى بعثك من موتتك الكبرى، وتقول الحمد لله الذي أحيانا بعد إذ أماتنا وإليه النشور.
- في هذا دليل على الحكمة العظيمة في هذا النوم، الذي جعله الله راحة للبدن، وتنشيطًا للبدن فيما يستقبل، وأنه يذكر أيضا بالحياة الأخرى، تذكر بذلك إذا قمت من قبرك بعد موتك حيًّا إلى الله، وهذا يزيدك إيمانًا بالبعث، والإيمان بالبعث أمر مهم، لولا أن الإنسان يؤمن بأنه سوف يبعث ويجازى على عمله ما عمل، ولهذا نجد كثيرًا أن الله يقرن الإيمان باليوم الآخر بالإيمان به، كما قال تعالى ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلْـَٔاخِرِ﴾ [التوبة: 44]، وآيات كثيرة في هذا.
قال ابن باز ﵀:
- كان ﷺ إذا استيقظ من نومه ذكر الله، وإذا وضع جنبه ذكر الله، وإذا أخذ مضجعه من اللّيل، وضع يده تحت خده، ثمّ يقول: (اللّهمّ باسمك أموت وأحيا)، وإذا استيقظ قال: (الحمد لِلَّه الّذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النّشور) وله أذكار معروفة في محلها، وهكذا عند اليقظة يقول: (الحمد لِلَّه الّذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النّشور الحمد لِلَّه الّذي عافاني في جسدي، وردّ عليّ روحي وأذن لي بذكره) ويقرأ: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: 190]، كما كان يفعل ﷺ ، فالسنة للمؤمن أن يلازم الذكر، أما الجنب، يمسك عن القرآن لما جاء في الحديث أنّه كان ﷺ لا يقرأ القرآن إذا كان جنباً، ولا يحبسه شيء عن القرآن إلا الجنابة، هذا هو الراجح من أقوال العلماء، أنّ الجنب لا يقرأ القرآن، أما الحائض فالصواب يجوز لها أن تقرأ عن ظهر قلب، ليست كالجنب، ولا يصح القياس، أما مس المصحف فلا، والجنب لا يمس المصحف، لكن عند الحاجة تمسه من وراء حجاب، تمسه من قفازين أو غيره، عند الحاجة.

باب فضل حِلَقِ الذكر والندب إِلَى ملازمتها والنهي عن مفارقتها لغير عذر


قَالَ الله تَعَالَى: ﴿واصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ يُريدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ﴾ [الكهف: 28].

1447 - وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «إنَّ للهِ تَعَالَى مَلائِكَةً يَطُوفُونَ في الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أهْلَ الذِّكْرِ، فإذا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللهَ - عز وجل - تَنَادَوْا: هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ، فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِم إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَسْألُهُمْ رَبُّهُمْ - وَهُوَ أعْلَم: مَا يقولُ عِبَادي؟ قَالَ: يقولون: يُسَبِّحُونَكَ، ويُكبِّرُونَكَ، وَيَحْمَدُونَكَ، ويُمَجِّدُونَكَ، فيقول: هَلْ رَأَوْنِي؟ فيقولونَ: لا واللهِ مَا رَأَوْكَ. فيقولُ: كَيْفَ لَوْ رَأوْني؟! قَالَ: يقُولُونَ: لَوْ رَأوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً، وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا، وأكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا. فَيقُولُ: فماذا يَسْألونَ؟ قَالَ: يقُولُونَ: يَسْألُونَكَ الجَنَّةَ. قَالَ: يقولُ: وَهل رَأَوْها؟ قَالَ: يقولون: لا واللهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا. قَالَ: يقول: فَكيفَ لَوْ رَأوْهَا؟ قَالَ: يقولون: لَوْ أنَّهُمْ رَأوْهَا كَانُوا أشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا، وأشدَّ لَهَا طَلَبًا، وأعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً. قَالَ: فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟ قَالَ: يقولون: يَتَعَوَّذُونَ مِنَ النَّارِ؛ قَالَ: فيقولُ: وَهَلْ رَأوْهَا؟ قَالَ: يقولون: لا واللهِ مَا رَأوْهَا. فيقولُ: كَيْفَ لَوْ رَأوْهَا؟! قَالَ: يقولون: لَوْ رَأوْهَا كانوا أشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا، وأشَدَّ لَهَا مَخَافَةً. قَالَ: فيقولُ: فَأُشْهِدُكُمْ أنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُم، قَالَ: يقولُ مَلَكٌ مِنَ المَلاَئِكَةِ: فِيهم فُلاَنٌ لَيْسَ مِنْهُمْ، إنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ، قَالَ: هُمُ الجُلَسَاءُ لا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ». متفق عَلَيْهِ.
وفي رواية لمسلمٍ عن أَبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إن للهِ مَلاَئِكَةً سَيَّارَةً فُضُلًا يَتَتَبُّعُونَ مَجَالِسَ الذِّكْرِ، فَإذَا وَجَدُوا مَجْلِسًا فِيهِ ذِكْرٌ، قَعَدُوا مَعَهُمْ، وَحَفَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِأجْنِحَتِهِمْ حَتَّى يَمْلَؤُوا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّماءِ الدُّنْيَا، فإذَا تَفَرَّقُوا عَرَجُوا وَصَعدُوا إِلَى السَّمَاءِ، فَيَسْأَلُهُمْ اللهُ - عز وجل - وَهُوَ أعْلَمُ -: مِنْ أيْنَ جِئْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: جِئْنَا مِنْ عِنْدِ عِبادٍ لَكَ في الأرْضِ: يُسَبِّحُونَكَ، ويُكبِّرُونَكَ، وَيُهَلِّلُونَكَ، وَيَحْمَدُونَكَ، وَيَسْألُونَكَ. قَالَ: وَمَاذا يَسْألُونِي؟ قالوا: يَسْألُونَكَ جَنَّتَكَ. قَالَ: وَهَلْ رَأَوْا جَنَّتِي؟ قالوا: لا، أَيْ رَبِّ. قَالَ: فكيْفَ لَوْ رَأَوْا جَنَّتي؟! قالوا: ويستجيرونكَ. قَالَ: ومِمَّ يَسْتَجِيرُونِي؟ قالوا: مِنْ نَارِكَ يَا رَبِّ. قَالَ: وَهَلْ رَأوْا نَاري؟ قالوا: لا، قَالَ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا نَارِي؟! قالوا: وَيَسْتَغفِرُونكَ؟ فيقولُ: قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، وَأَعْطَيْتُهُمْ مَا سَألُوا، وَأجَرْتُهُمْ مِمَّا اسْتَجَارُوا. قَالَ: فيقولون: ربِّ فيهمْ فُلانٌ عَبْدٌ خَطَّاءٌ إنَّمَا مَرَّ، فَجَلَسَ مَعَهُمْ. فيقُولُ: ولهُ غَفَرْتُ، هُمُ القَومُ لاَ يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ».
قال ابن عثيمين ﵀:
- الملائكة عالم غيبي فاضل خلقهم الله من النور، وجعلهم صمدًا لا أجواف لهم، فلا يأكلون ولا يشربون ولا يحتاجون إلى هذا، ليست لهم بطون ولا أمعاء، فهم صمد ولهذا لا يأكلون ولا يشربون، وهم عالم غيبي لا يراهم البشر، ولكن قد يري الله تعالى الناس إياهم أحيانا، كما جاء جبريل ۏ على هيئة رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه أحد من الصحابة وجلس إلى النبي ﷺ وسأله، فهذا يحدث أحيانا ولكن الأصل أن عالم الملائكة عالم غيبي والملائكة كلهم خير، ولهذا لا يدخلون الأماكن التي فيها ما يغضب الله، هؤلاء الملائكة وكلهم الله يسيحون في الأرض، فإذا وجدوا حلق الذكر جلسوا معهم، ثم حفوا هؤلاء الجالسين بأجنحتهم إلى السماء، يعني هؤلاء الملائكة من الأرض إلى السماء، ثم إن الله تعالى يسألهم ليظهر فضيلة هؤلاء القوم الذين جلسوا يذكرون الله، ويسبحونه ويحمدونه ويهللون ويكبرونه ويدعونه.
- فيه دليلٌ على فضيلة مجالسة الصالحين، وأنّ الجليس الصالح ربما يعم الله بجليسه رحمته، وإن لم يكن مثله؛ لأن الله قال قد غفرت لهذا، مع أنه ما جاء من أجل الذكر والدعاء، لكنه جاء لحاجة، وقال: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم).
- يستحب الاجتماع على الذكر وعلى قراءة القرآن وعلى التسبيح والتحميد والتهليل وكل يدعو لنفسه ويسأل الله لنفسه ويذكر لنفسه.
- من الاجتماع أن يجتمع المسلمون على صلاة الفجر وصلاة العصر لأنها ذكر تسبيح وتكبير وتهليل وقراءة قرآن ودعاء وقد ثبت عن النبي ﷺ أن الملائكة الموكلين ببني آدم يجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر.
قال ابن باز ﵀:
- الحث على الذكر، وعلى مجالس العلم وحلق الذكر في المساجد وغيرها، ينبغي للمؤمن أن يحرص على حلقات العلم، وحلقات الذكر في المساجد وغيرها، حتى يستفيد هذا الخير العظيم، منها أن الله ﷿ يعلي شأن هؤلاء، ويباهي بهم ملائكته.
- يدل على عظم شأن الذاكرين وحلقات العلم التي فيها: قال الله، قال رسوله، فيها ذكر الله تحضره الملائكة، فالملائكة سياحون في الأرض يلتمسون مجالس الذكر، فإذا وجدوها تنادوا: "هلموا إلى حاجتكم"، فيحفون بأهل المجلس، يكونون حولهم يسمعون إلى عنان السماء، يسمعون ما يقال وما يؤتى به من الأذكار، إلى آخر الحديث.

1448 - وعنه وعن أَبي سعيدٍ رضي الله عنهما، قالا: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم: «لا يَقْعُدُ قَومٌ يَذكُرُونَ اللهَ - عز وجل - إِلاَّ حَفَّتْهُمُ المَلائِكَةُ وغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ؛ وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ». رواه مسلم.
قال ابن عثيمين ﵀:
- يدل على فضل الاجتماع على ذكر الله، ولا يلزم من هذا أن يذكروا الله بصوت واحد، بل الحديث مطلق، لكن لم يعهد عن السلف أنهم يذكرون ذكرًا جماعيًا كما يفعله بعض أهل الطرق من الصوفية وغيرها.
- فيه أن هؤلاء المجتمعين (تنزل عليهم السكينة)، والسكينة هي: طمأنينة القلب، وخشوعه وإنابته إلى الله، (وتغشاهم الرحمة) أي: تحيط بهم من كل جانب، فيكونون أقرب إلى رحمة الله، (وحفتهم الملائكة) أي: كانوا حولهم يحفون بهم إكرامًا لهم، ورضا بما فعلوا، (وذكرهم الله فيمن عنده) أي: في الملأ الأعلى، وقد مر علينا أن الله تعالى قال: (من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم).

1449 - وعن أَبي واقدٍ الحارث بن عوف - رضي الله عنه: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ في المَسْجِدِ، والنَّاسُ مَعَهُ، إذْ أَقْبَلَ ثَلاثَةُ نَفَرٍ، فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رسُولِ اللهِ
- صلى الله عليه وسلم - وَذَهَبَ واحِدٌ؛ فَوَقَفَا عَلَى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم. فأمَّا أحَدُهُما فَرَأَى فُرْجةً في الحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا، وَأمَّا الآخرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ، وأمَّا الثَّالثُ فأدْبَرَ ذاهِبًا. فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «ألاَ أُخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلاَثَةِ: أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأوَى إِلَى اللهِ فآوَاهُ اللهُ إِلَيْهِ. وَأمَّا الآخَرُ فاسْتَحْيَى فَاسْتَحْيَى اللهُ مِنْهُ، وأمّا الآخَرُ، فَأعْرَضَ، فَأَعْرَضَ اللهُ عَنْهُ». متفقٌ عَلَيْهِ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- أما أحدهم (فأوى إلى الله فأواه الله) وهو الذي جلس فأواه الله إليه؛ لأنه كان صادق النية في الجلوس مع النبي ﷺ، فيسر الله له، وأما الثاني: (فاستحيا فاستحيا الله منه)؛ لأنه ما زاحم ولا تقدم، (وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه) لم يوفقه؛ لأن يجلس مع هؤلاء القوم البررة الأطهار.
- فيه إثبات الحياء لله، ولكنه ليس كحياء المخلوقين بل هو حياء الكمال، يليق بالله وقد قال النبي ﷺ: (إن الله حيي كريم)، وقال الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّۚ﴾ [الأحزاب: 53]، والله يوصف بهذه الصفة لكن ليس مثل المخلوقين؛ لأن الله يقول في القرآن: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11] فكلما مر عليك صفة من صفات الله مشابهة لصفات المخلوقين في اللفظ فاعلم أنهما لا يستويان في المعنى لأن الله ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11]، وكما أننا نوحده في ذاته ونوحده في العبادة كذلك نوحده في صفاته.
قال ابن باز ﵀:
- فيه الحث على الدخول في الحلقة، والحرص على أن يكون فيها، ويلتمس فرجة؛ لأن هذا أكمل في الرغبة، وأكمل في أن يحصل الفائدة، وإن لم يتيسر جلس خلفهم، وهكذا حلقة خلف حلقة يستمع الفائدة سواء في المساجد، أو في الصحراء، أو في إي مكان، الإنسان يحرص على الفائدة، يجتهد في أن يكون في مقدم الحاضرين، حتى يكون استماعه أكمل، والحرص على العلم له فضل عظيم؛ لأن الإنسان خلق غير متعلم لا يعلم شيئاً، جاهلاً، كما قال الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾ [النحل: 78]، فهو بحاجة إلى التعلم، حتى يعلم ما أوجب الله عليه، ما حرم الله عليه، فهو مخلوق للعبادة، لا بد أن يتعلم هذه العبادة التي خلق لها.

1450 - وعن أَبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قَالَ: خرج معاوية - رضي الله عنه - عَلَى حَلْقَةٍ في المَسْجِدِ، فَقَالَ: مَا أجْلَسَكُمْ؟ قالوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللهَ. قَالَ: آللهِ مَا أجْلَسَكُمْ إِلاَّ ذاك؟ قالوا: مَا أجْلَسَنَا إِلاَّ ذَاكَ، قَالَ: أما إنِّي لَمْ اسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ، وَمَا كَانَ أحَدٌ بِمَنْزِلَتِي مِنْ رَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أَقَلَّ عَنْهُ حَديثًا مِنِّي: إنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ أصْحَابِهِ فَقَالَ: «مَا أجْلَسَكُمْ؟» قالوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ الله وَنَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا للإسْلاَمِ؛ وَمَنَّ بِهِ عَلَيْنَا. قَالَ: «آللهِ مَا أجْلَسَكُمْ إِلاَّ ذَاكَ؟» قالوا: واللهِ مَا أجْلَسَنَا إِلاَّ ذَاكَ. قَالَ: «أمَا إنِّي لَمْ أسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ، ولكِنَّهُ أتَانِي جِبرِيلُ فَأخْبَرَنِي أنَّ الله يُبَاهِي بِكُمُ المَلاَئِكَةَ». رواه مسلم.
قال ابن عثيمين ﵀:
- فيه دليلٌ على فضيلة الاجتماع على ذكر الله، وأن الله يباهي بهم الملائكة، وليس هذا الاجتماع أن يجتمعوا على الذكر بصوت واحد ولكن يتذكرون نعمة الله عليهم بما أنعم عليهم من نعمة الإسلام، وعافية البدن والأمن وما أشبه ذلك، فإن ذكر نعمة الله من ذكر الله.
- في هذا دليل على فضل جلوس الناس ليتذاكروا نعمة الله عليهم، ولهذا كان بعض السلف إذا مر بأخيه أو آتاه أخوه قال: "اجلس بنا نؤمن ساعة"، أي اجلس بنا نتذكر نعمة الله علينا حتى يزداد إيماننا.
قال ابن باز ﵀:
- كل من كان أعظم اجتهاداً وأكثر حرصاً، صار أجره مضاعفاً، وينبغي في هذا إخلاص النية، وأن يكون القصد وجه الله والدار الآخرة، وليتفقه في الدين، ويتعلم، والمشروع لكل مؤمن ولكل مؤمنة، الحرص على مجالس الذكر، وعلى حلق الذكر، والسؤال عما أشكل عليه، ليحظى بهذا الخير.