باب في المجاهدة


قَالَ الله تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِينَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: 69]، وَقالَ تَعَالَى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ [الحجر: 99]، وَقالَ تَعَالَى:﴿ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا﴾ [المزمل: 8]: أي انْقَطِعْ إِلَيْه، وَقالَ تَعَالَى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴾[الزلزلة: 7]، وَقالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا﴾ [المزمل: 20]، وَقالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 273] والآيات في الباب كثيرة معلومة.
95 - وأما الأحاديث: فالأول: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله تَعَالَى قَالَ: مَنْ عادى لي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدي بشَيءٍ أَحَبَّ إلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حَتَّى أحِبَّهُ، فَإذَا أَحبَبتُهُ كُنْتُ سَمعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشي بِهَا، وَإنْ سَأَلَني أعْطَيْتُهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ». رواه البخاري.
«آذَنتُهُ»: أعلمته بأني محارِب لَهُ. «اسْتَعَاذَني» روي بالنون وبالباءِ.
قال ابن عثيمين ﵁:
- فضيلة أولياء الله، وأنّ الله ﷿ يعادي من عاداهم، بل يكونُ حرباً عليهم.
- إثبات المحبة لله ﷿، وأنّ الله تعالى يحبُّ الأعمال بعضها أكثر من بعضٍ، كما أنّه يحبُّ الأشخاص بعضهم أكثر من بعض.
- إثبات عطاء الله ﷿، وإجابة دعوته لوليّه، لقوله: (وإن سألني أعطتيه، ولئن استعاذني لأعيذنه).

96 - الثاني: عن أنس - رضي الله عنه - عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربّه - عز وجل - قَالَ: «إِذَا تَقَربَ العَبْدُ إلَيَّ شِبْرًا تَقَربْتُ إِلَيْه ذِرَاعًا، وَإِذَا تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِرَاعًا تَقَربْتُ مِنهُ بَاعًا، وِإذَا أتَانِي يَمشي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» رواه البخاري.
97 - الثالث: عن ابن عباس رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم: «نِعْمَتَانِ مَغبونٌ فيهما كَثيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ، وَالفَرَاغُ». رواه البخاري.
قال ابن عثيمين ﵁:
- يعني أن هذين الجنسين من النعم مغبون فيهما كثير من الناس، أي مغلوب فيهما، وهما الصحة والفراغ، وذلك أن الإنسان إذا كان صحيحاً كان قادراً على ما أمره الله به أن يفعله، وكان قادراً على ما نهاه الله عنه أن يتركه لأنه صحيح البدن، منشرح الصدر، مطمئن القلب، كذلك الفراغ إذا كان عنده ما يؤويه وما يكفيه من مؤنة فهو متفرغ، فإذا كان الإنسان فارغاً صحيحاً فإنه يغبن كثيراً في هذا؛ لأن كثيراً من أوقاتنا تضيع بلا فائدة ونحن في صحة وعافية وفراغ، ومع ذلك تضيع علينا كثيراً، ولكننا لا نعرف هذا الغبن في الدنيا، إنما يعرف الإنسان الغبن إذا حضره أجله، وإذا كان يوم القيامة والدليل على ذلك قوله تعالى:﴿حَتَّىٰۤ إِذَا جَاۤءَ أَحَدَهُمُ ٱلۡمَوۡتُ قَالَ رَبِّ ٱرۡجِعُونِ﴾ [المؤمنون ٩٩]﴿لَعَلِّیۤ أَعۡمَلُ صَـٰلِحࣰا فِیمَا تَرَكۡتُۚ كَلَّاۤۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَاۤىِٕلُهَاۖ وَمِن وَرَاۤىِٕهِم بَرۡزَخٌ إِلَىٰ یَوۡمِ یُبۡعَثُونَ﴾ [المؤمنون ١٠٠]
- في هذا دليلٌ على أنّ نعم الله تتفاوت، وأنّ بعضها أكثر من بعض، وأكبر نعمةٍ يُنعم الله تعالى بها على العبد: نعمة الإسلام.
- على العبد أن يغتنم فرصة الصحة والفراغ بطاعة الله ﷿ بقدر ما يستطيع.
- مقابلة نعم الله ﷿ بالطاعات والشكر سببٌ لحفظها ودوامها؛ فإنّه بالشكر تزيد النّعم.

98 - الرابع: عن عائشة رَضي الله عنها: أنَّ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يقُومُ مِنَ اللَّيلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ فَقُلْتُ لَهُ: لِمَ تَصنَعُ هَذَا يَا رسولَ الله، وَقدْ غَفَرَ الله لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: «أَفَلا أُحِبُّ أَنْ أكُونَ عَبْدًا شَكُورًا». مُتَّفَقٌ عَلَيهِ، هَذَا لفظ البخاري.
ونحوه في الصحيحين من رواية المغيرة بن شعبة.
قال ابن عثيمين ﵁:
- وفي هذا دليلٌ على أنّ الشكر هو القيام بطاعة الله، وأنّ الإنسان كلّما ازداد في طاعة ربّه ﷿ فقد ازداد شكراً لله ﷿.
- وفي هذا دليلٌ على أنَّ من خصائص الرسول ﷺ أن الله قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
- فكل حديث يأتي بأن من فعل كذا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فإنه حديث ضعيف؛ لأن هذا من خصائص الرسول ﷺ، أما (غفر له ما تقدم من ذنبه)، فهذا كثير، لكن "ما تأخر"، هذا ليس إلا للرسول ﷺ فقط، وهو من خصائصهﷺ.
- وفي هذا دليلٌ على فضيلة قيام الليل، وطول القيام.

99 - الخامس: عن عائشة رضي الله عنها، أنَّها قَالَتْ: كَانَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - إِذَا دَخَلَ العَشْرُ أَحْيَا اللَّيلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ وَشَدَّ المِئْزَر. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
والمراد: العشر الأواخر مِنْ شهر رمضان. و «المِئْزَرُ»: الإزار، وَهُوَ كناية عن اعتزالِ النساءِ. وقيلَ: المُرادُ تَشْمِيرُهُ للِعِبَادةِ، يُقالُ: شَدَدْتُ لِهَذَا الأمْرِ مِئْزَري: أي تَشَمَّرْتُ وَتَفَرَّغْتُ لَهُ.
100 - السادس: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم: «المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعيفِ وَفي كُلٍّ خَيرٌ . احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، واسْتَعِنْ بِاللهِ وَلاَ تَعْجَزْ. وَإنْ أَصَابَكَ شَيءٌ فَلاَ تَقُلْ لَوْ أنّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدرُ اللهِ، وَمَا شَاءَ فَعلَ؛ فإنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيطَانِ». رواه مسلم.
قال ابن عثيمين ﵁:
- وهذا حديث عظيم ينبغي للإنسان أن يجعله نبراساً له في عمله الديني والدنيوي، لأن النبي ﷺ قال: (احرص على ما ينفعك) وهذه الكلمة كلمة جامعة عامة (على ما ينفعك)، أي على كل شيء ينفعك سواء في الدين أو في الدنيا، فإذا تعارضت منفعة الدين ومنفعة الدنيا فقدم منفعة الدين؛ لأن الدين إذا صلح صلحت الدنيا، أما الدنيا إذا صلحت مع فساد الدين فإنها تفسد.
- وفي قوله: (احرص على ما ينفعك) إشارة إلى أنه تعارضت منفعتان إحداهما أعلى من الأخرى، فإننا نقدم المنفعة العليا؛ لأن المنفعة العليا فيها المنفعة التي دونها وزيادة، فتدخل في قوله: (احرص على ما ينفعك).
- في قوله ﷺ: (ولا تعجز) أي لا تكسل وتتأخر في العمل إذا شرعت فيه، بل استمر؛ لأنك إذا تركت ثم شرعت في عمل آخر، ثم تركت ثم شرعت ثم تركت، ما تم لك عمل.

101 - السابع: عَنْهُ: أنَّ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «حُجِبَتِ النَّارُ بالشَّهَواتِ، وَحُجِبَتِ الجَنَّةُ بِالمَكَارِهِ». مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية لمسلم: «حُفَّتْ» بدل «حُجِبَتْ» وَهُوَ بمعناه: أي بينه وبينها هَذَا الحجاب فإذا فعله دخلها.
102 - الثامن: عن أبي عبد الله حُذَيفَةَ بنِ اليمانِ رضي الله عنهما، قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ لَيلَةٍ فَافْتَتَحَ البقَرَةَ، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ المئَةِ، ثُمَّ مَضَى. فَقُلْتُ: يُصَلِّي بِهَا في ركعَة فَمَضَى، فقُلْتُ: يَرْكَعُ بِهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا، يَقرَأُ مُتَرَسِّلًا: إِذَا مَرَّ بآية فِيهَا تَسبيحٌ سَبَّحَ، وَإذَا مَرَّ بسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإذَا مَرَّ بتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ، ثُمَّ رَكَعَ، فَجَعَلَ يَقُولُ: «سُبْحَانَ رَبِّيَ العَظِيمِ» فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحوًا مِنْ قِيَامِهِ، ثُمَّ قَالَ: «سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا لَكَ الحَمْدُ» ثُمَّ قَامَ طَويلًا قَريبًا مِمَّا رَكَعَ، ثُمَّ سَجَدَ، فَقَالَ: «سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى» فَكَانَ سُجُودُهُ قَريبًا مِنْ قِيَامِهِ. رواه مسلم.
103 - التاسع: عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لَيلَةً، فَأَطَالَ القِيامَ حَتَّى هَمَمْتُ بأمْرِ سُوءٍ! قيل: وَمَا هَمَمْتَ بِهِ؟ قَالَ: هَمَمْتُ أَنْ أجْلِسَ وَأَدَعَهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
قال ابن عثيمين ﵁:
- أنّ النبيّ ﷺ كان يعمل عمل المجاهد الذي يجاهد نفسه على الطاعة؛ لأنّه يعمل هذا العمل الشاق؛ كل هذا ابتغاء وجه الله ورضوانه.
- جواز إقامة الجماعة في صلاة الليل، لكن هذا ليس دائماً، إنّما يفعل أحيانًا في غير رمضان، أمّا في رمضان فإنَّ من السنة أن يقوم الناس في جماعة.
- ينبغي للإنسان في صلاة الليل إذا مرَّ بآية رحمةٍ أن يقف ويسأل، وإذا مرّ بآية تسبيح؛ يقف ويسبح الله ويعظمه.
- فيه جواز تقديم السور بعضها على بعض.

104 - العاشر: عن أنس - رضي الله عنه - عن رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يَتْبَعُ المَيتَ ثَلاَثَةٌ: أهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَملُهُ، فَيَرجِعُ اثنَانِ وَيَبْقَى وَاحِدٌ: يَرجِعُ أهْلُهُ وَمَالُهُ، وَيَبقَى عَملُهُ». مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
قال ابن عثيمين ﵁:
- في هذا الحديث دليل على أن الدنيا تزول، كل زينة الحياة الدنيا ترجع ولا تبقى معك في قبرك، المال والبنون زينة الحياة الدنيا ترجع، من الذي يبقى؟.. العمل فقط، فعليك يا أخي أن تحرص على مراعاة هذا الصاحب الذي يبقى ولا ينصرف مع من ينصرف، وعليك أن تجتهد حتى يكون عملك عملاً صالحاً يؤنسك في قبرك إذا انفردت به عن الأحباب والأهل والأولاد.
- مناسبة هذا الحديث للباب ظاهرة؛ لأن كثرة العمل يوجب مجاهدة النفس، فإن الإنسان يجاهد نفسه على الأعمال الصالحة التي تبقى بعد موته.

105 - الحادي عشر: عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم: «الجَنَّةُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ، وَالنَّارُ مِثلُ ذلِكَ». رواه البخاري.
قال ابن عثيمين ﵁:
- هذا الحديث يتضمن ترغيباً وترهيباً يتضمن ترغيباً في الجملة الأولى، وهي قوله ﷺ: (الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله)، وشراك النعل هو السير الذي يكون على ظهر القدم، وهو قريب من الإنسان جداً، ويضرب به المثل في القرب، وذلك لأنه قد يتكلم الإنسان بالكلمة الواحدة من رضوان الله ﷿ لا يظن أنها تبلغ ما بلغت، فإذا هي توصله إلى جنة النعيم.

106 - الثاني عشر: عن أبي فِراسٍ ربيعةَ بنِ كعبٍ الأسلميِّ خادِمِ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن أهلِ الصُّفَّةِ رضي الله عنه - قَالَ: كُنْتُ أبِيتُ مَعَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فآتِيهِ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ، فَقَالَ: «سَلْنِي» فقُلْتُ: اسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ في الجَنَّةِ. فَقَالَ: «أَوَ غَيرَ ذلِكَ»؟ قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ، قَالَ: «فأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ». رواه مسلم.
قال ابن عثيمين ﵁:
- في الحديث دليل على جواز استخدام الرجل الحر، وأن ذلك لا يعد من المسألة المذمومة، فلو أنك قلت لشخص من الناس ممن يقومون بخدمتك: أعطني كذا، وأعطني كذا، فلا بأس، وكذلك لو قلت لصاحب المنزل: أعطني ماء، صب لي فنجان قهوة، أو ما أشبه ذلك، فلا بأس؛ لأن هذا لا يعد من السؤال المذموم، بل هذا من تمام الضيافة، وقد جرب العادة بمثله.
- فيه دليلٌ أيضاً على أنّ الرسول ﷺ لا يملك أن يُدخِل أحداً الجنة، ولهذا لم يضمن لهذا الرجل أن يعطيه مطلوبه، ولكنه قال له: (فأعني على نفسك بكثرة السجود).
- فضل هذا الصحابي الجليل وعُلوّ همته؛ حيث سأل عَنْ شيءٍ من أمور الآخرة.
- فضل السجود على باقي هيئات الصلاة، فإنّ أقرب ما يكون العبد من ربِّه وهو ساجد.

107 - الثالث عشر: عن أبي عبد الله، ويقال: أَبُو عبد الرحمان ثوبان - مولى رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ؛ فَإِنَّكَ لَنْ تَسْجُدَ للهِ سَجْدَةً إلاَّ رَفَعَكَ اللهُ بِهَا دَرجَةً، وَحَطَّ عَنكَ بِهَا خَطِيئةً». رواه مسلم.
108 - الرابع عشر: عن أَبي صَفوان عبد الله بنِ بُسْرٍ الأسلمي - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم: «خَيرُ النَّاسِ مَنْ طَالَ عُمُرهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ». رواه الترمذي، وَقالَ: «حديث حسن».
«بُسْر» بضم الباء وبالسين المهملة.
قال ابن عثيمين ﵁:
- في هذا دليلُ على أنّ مجرد طول العمر ليس خيراً للإنسان إلا إذا أحسن عمله.
- ومن ثمّ كره بعض العلماء أن يُدعى للإنسان بطول البقاء؛ قال: لا تقل: أطال الله بقاءك إلا مقيداً، قل: أطال الله بقاءك على طاعته.

109 - الخامس عشر: عن أنس - رضي الله عنه - قَالَ: غَابَ عَمِّي أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ - رضي الله عنه - عن قِتالِ بدرٍ، فَقَالَ: يَا رسولَ الله، غِبْتُ عَنْ أوّل قِتال قَاتَلْتَ المُشْرِكِينَ، لَئِن اللهُ أشْهَدَنِي قِتَالَ المُشركِينَ لَيَرَيَنَّ اللهُ مَا أصْنَعُ. فَلَمَّا كَانَ يَومُ أُحُدٍ انْكَشَفَ المُسْلِمونَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ أعْتَذِرُ إلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هؤُلاءِ - يعني: أصْحَابهُ - وأبْرَأُ إلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هؤُلاءِ - يَعني: المُشركِينَ - ثُمَّ تَقَدَّمَ فَاسْتَقْبَلهُ سَعدُ بْنُ مُعاذٍ، فَقَالَ: يَا سعدَ بنَ معاذٍ، الجَنَّةُ وربِّ النّضْر إنِّي أجِدُ ريحَهَا منْ دُونِ أُحُدٍ. قَالَ سعدٌ: فَمَا اسْتَطَعتُ يَا رسولَ الله مَا صَنَعَ! قَالَ أنسٌ: فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعًا وَثَمانينَ ضَربَةً بالسَّيفِ، أَوْ طَعْنةً بِرمْحٍ، أَوْ رَمْيَةً بسَهْمٍ، وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ وَمَثَّلَ بِهِ المُشْرِكونَ فما عَرَفهُ أَحَدٌ إلاَّ أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ. قَالَ أنس: كُنَّا نَرَى أَوْ نَظُنُّ أن هذِهِ الآية نزلت فِيهِ وفي أشباهه: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ﴾ [الأحزاب: 23] إِلَى آخِرها. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
قوله: «لَيُرِيَنَّ اللهُ» روي بضم الياء وكسر الراء: أي لَيُظْهِرَنَّ اللهُ ذلِكَ للنَّاس، وَرُويَ بفتحهما ومعناه ظاهر، والله أعلم.
110 - السادس عشر: عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري - رضي الله عنه - قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ آيةُ الصَّدَقَةِ كُنَّا نُحَامِلُ عَلَى ظُهُورِنَا، فَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِشَيءٍ كَثيرٍ، فقالوا: مُراءٍ، وَجَاءَ رَجُلٌ آخَرُ فَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ، فقالُوا: إنَّ اللهَ لَغَنيٌّ عَنْ صَاعِ هَذَا! فَنَزَلَتْ: ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ﴾ [التوبة: 79]. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ، هذا لفظ البخاري .
وَ «نُحَامِلُ» بضم النون وبالحاء المهملة: أي يحمل أحدنا عَلَى ظهره بالأجرة ويتصدق بِهَا.
قال ابن عثيمين ﵁:
- الواجب على كل مؤمن؛ إذا بلغه عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم شيء أن يبادر بما يجب عليه؛ من امتثال هذا الأمر، أو اجتناب هذا النهي.
- في هذا دليلٌ على أنّ الله ﷿ يدافع عن المؤمنين.
- في هذا دليلٌ على شدة العداوة من المنافقين للمؤمنين، وأنّ المؤمنين لا يسلمون منهم.

111 - السابع عشر: عن سعيد بن عبد العزيز، عن ربيعة بن يزيد، عن أَبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر جندب بن جُنادة - رضي الله عنه - عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي، عن اللهِ تَبَاركَ وتعالى، أنَّهُ قَالَ: «يَا عِبَادي، إنِّي حَرَّمْتُ الظُلْمَ عَلَى نَفْسي وَجَعَلْتُهُ بيْنَكم مُحَرَّمًا فَلا تَظَالَمُوا. يَا عِبَادي، كُلُّكُمْ ضَالّ إلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ فَاستَهدُوني أهْدِكُمْ. يَا عِبَادي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلاَّ مَنْ أطْعَمْتُهُ فَاستَطعِمُوني أُطْعِمْكُمْ. يَا عِبَادي، كُلُّكُمْ عَارٍ إلاَّ مَنْ كَسَوْتُهُ فاسْتَكْسُونِي أكْسُكُمْ. يَا عِبَادي، إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ باللَّيلِ وَالنَّهارِ وَأَنَا أغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُوني أغْفِرْ لَكُمْ. يَا عِبَادي، إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغوا ضُرِّي فَتَضُرُّوني، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفعِي فَتَنْفَعُوني. يَا عِبَادي، لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذلِكَ في مُلكي شيئًا. يَا عِبَادي، لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذلِكَ من مُلكي شيئًا. يَا عِبَادي، لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجنَّكُمْ قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَألُوني فَأعْطَيتُ كُلَّ إنْسَانٍ مَسْألَتَهُ مَا نَقَصَ ذلِكَ مِمَّا عِنْدِي إلاَّ كما يَنْقصُ المِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ البَحْرَ. يَا عِبَادي، إِنَّمَا هِيَ أعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيرًا فَلْيَحْمَدِ الله وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إلاَّ نَفْسَهُ».
قَالَ سعيد: كَانَ أَبُو إدريس إِذَا حَدَّثَ بهذا الحديث جَثا عَلَى رُكبتيه. رواه مسلم.
وروينا عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، قَالَ: لَيْسَ لأهل الشام حديث أشرف من هَذَا الحديث .
قال ابن عثيمين ﵁:
- في قوله تعالى: (إني حرمت الظلم على نفسي) دليل على أنه ﷿ يحرم على نفسه، ويوجب على نفسه، فمما أوجب على نفسه: الرحمة، قال تعالى:﴿كَتَبَ رَبُّكُمۡ عَلَىٰ نَفۡسِهِ ٱلرَّحۡمَةَ ﴾ [الأنعام:54]، ومما حرم على نفسه: الظلم؛ وذلك لأنه فعال لما يريد، يحكم بما يشاء، فكما أنه يوجب على عباده ويحرم عليهم؛ يوجب على نفسه ويحرم عليها ﷾ لأن له الحكم التام المطلق.
- الظلم بالنسبة للعباد فيما بينهم يكون في ثلاثة أشياء بينها رسول الله ﷺ في قوله وهو يخطب الناس في حجة الوداع: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: اللهم فأشهد) . فهذه ثلاثة أشياء: الدماء، والأموال، والأعراض.
- واستطعام الله ﷿ يكون بالقول وبالفعل؛ بالقول: بأن تسأل الله ﷿ أن يطعمنا وأن يرزقنا، وأما بالفعل، فله جهتان:
الجهة الأولى: العمل الصالح، فإن العمل الصالح سبب لكثرة الأرزاق وسعتها، قال ﷿ : ﴿وَلَوۡ أَنَّ أَهۡلَ ٱلۡقُرَىٰۤ ءَامَنُوا۟ وَٱتَّقَوۡا۟ لَفَتَحۡنَا عَلَیۡهِم بَرَكَـٰتࣲ مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلَـٰكِن كَذَّبُوا۟ فَأَخَذۡنَـٰهُم بِمَا كَانُوا۟ یَكۡسِبُونَ﴾ [الأعراف ٩٦].
الجهة الثانية: من جهة الاستطعام الفعلي: أن نحرث الأرض، ونحفر الآبار، ونستخرج المياه، ونزرع الحبوب، ونغرس الأشجار، وما أشبه ذلك.
- ثم قال تعالى: (يا عبادي لو أن أولكم وأخركم، وأنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر)، هذه الجملة تدل على سعة ملك الله ﷿ وعلى كمال غناه تبارك وتعالى، لو أن الأولين والآخرين، والأنس والجن، قاموا كلهم في صعيد واحد، فسألوا الله ما تبلغه نفوسهم، من أي مسألة وإن عظمت، فأعطي الله كل إنسان ما سأل، بل أعطي الله كل سائل ما سأل، فإن ذلك لا ينقص من ملك الله شيئاً؛ لأن الله جواد، واجد، عظيم الغنى، واسع العطاء ﷿