باب فضل الدعاء بظهر الغيب


قَالَ تَعَالَى: ﴿والَّذِينَ جَاءوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ولإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بالإيمَانِ﴾ [الحشر:10]، وقال تَعَالَى: ﴿واسْتَغْفِرْ لِذنْبِكَ وَلِلْمُؤمِنِينَ والمؤْمِنَاتِ﴾ [محمد:19]، وقال تَعَالَى إخْبَارًا عَن إبْرَاهِيمَ - صلى الله عليه وسلم: ﴿رَبَّنا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤمِنِينَ يَومَ يَقُومُ الحِسَابُ﴾ [إبراهيم: 41].

1494 - وعن أَبي الدرداء - رضي الله عنه: أنَّه سَمِعَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلمٍ يدعُو لأَخِيهِ بِظَهْرِ الغَيْبِ إِلاَّ قَالَ المَلَكُ: وَلَكَ بِمِثْلٍ». رواه مسلم.

1495 - وعنه: أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يقول: «دَعْوَةُ المَرْءِ المُسْلِمِ لأَخيهِ بِظَهْرِ الغَيْبِ مُسْتَجَابَةٌ، عِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ كُلَّمَا دَعَا لأَخِيهِ بِخَيْرٍ قَالَ المَلَكُ المُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ، وَلَكَ بِمِثْلٍ». رواه مسلم.
قال ابن عثيمين ﵀:
- (ولك مثله) يعني لك بمثل ذلك، فالملك يؤمن على دعائك إذا دعوت لأخيك بظهر الغيب، ويقول لك مثله. وهذا يدل على فضيلة هذا، لكن هذا فيمن لم يطلب منك أن تدعو له، أما من طلب منك أن تدعو له فدعوت له، فهذا كأنه شاهد؛ لأنه يسمع كلامك؛ لأنه هو الذي طلب منك، لكن إذا دعوت له بظهر الغيب بدون أن يخبرك، بدون أن يطلب منك، فهذا هو الذي فيه الأجر، وفيه الفضل.
قال ابن باز ﵀:
- فيه دلالة على شرعية الدعاء للمؤمنين بظهر الغيب، وأن المؤمن يدعو لأخيه في غيبته سواء حياً أو ميتا؛ لأن المؤمن أخو المؤمن يحب له الخير ويكره له الشر، فيستحب للمؤمن أن يدعو لإخوانه المؤمنين بالمغفرة والرحمة والصلاح والاستقامة والتوفيق والهداية، المؤمن أخو المؤمن؛ ولهذا قال ﷺ في الحديث الصحيح: (مثل المُؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّى) والله يقول في كتابه العظيم: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [التوبة: 71].
- أنت يا أخي على خير في دعوتك لأخيك تنفعه وتنفع نفسك، الملك يؤمن ويدعو لك يقول: لك بمثله، إذا قلت: اللهم اغفر لفلان، اللهم أصلح قلبه وعمله، اللهم يسر أموره، اللهم ارزقه الذرية الصالحة، الزوجة الصالحة، العلم النافع، تدعو لأخيك ما تراه مناسباً، والملك الموكل يقول: آمين ولك بمثل، وهذا في الحقيقة إّنما يقع من أصحاب القلوب السليمة الراغبة في الخير المحبة للخير، فإنها تعتني بهذه المسائل لما في قلوبها من الرقة والمحبة والرغبة فيما عند الله، والنصح لعباد الله، فيدعو لنفسه، ويدعو لإخوانه المسلمين.
- (ولك بمثلٍ) مثل دعوتك لوالديك، أو لإخوانك المسلمين، أو لشخص معين بالتوفيق، والهداية، وصلاح الحال، قال الملك الموكل: آمين ولك مثل، فأنت على خير في دعائك لنفسك ولوالديك ولولاة الأمور بالتوفيق والهداية وللمسلمين جميعاً أنت على خير، فادع لوالديك المسلمين، وادع لولاة الأمور بالتوفيق والهداية وصلاح البطانة في جوف الليل، أنت على خير تؤجر وتثاب، حتى ولو لم يستجب لك، أنت على خير، قد تؤجل الإجابة، ولكن الأجر جار لك ، ولك الحسنات في هذا الدعاء، والضراعة إلى الله، أنت مأجور، حتى ولو لم يستجب لك أنت على خير.

باب في مسائل من الدعاء


1496 - وعن أسَامة بن زيد رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ، فَقَالَ لِفاعِلهِ: جَزَاكَ اللهُ خَيرًا، فَقَدْ أبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ». رواه الترمذي، وقال: «حديث حسن صحيح».
قال ابن عثيمين ﵀:
- إذا صنع إليك إنسان معروفًا، بمال، أو مساعدة، أو علم، أو جاه، يعني توجه لك، أو غير ذلك، فإن النبي ﷺ أمر أن تكافئ صانع المعروف، فقال: (من صنع إليكم معروفاً فكافئوه)، والمكافأة تكون بحسب الحال، من الناس من تكون مكافأته أن تعطيه مثل ما أعطاك أو أكثر، ومن الناس من تكون مكافأته أن تدعو له، ولا يرضى أن تكافئه بمال، فإن الإنسان الكبير الذي عنده أموال كثيرة، وله جاه وشرف في قومه، إذا أهدى إليك شيئا فأعطيته مثل ما أهدى إليك، رأى في ذلك قصورًا في حقه، لكن مثل هذا ادع الله له، (فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له، حتى تروا أنكم قد كافأتموه)، ومن ذلك أن تقول له: "جزاك الله خيرا" إذا أعطاك شيئاً، أو نفعك بشيء، فقل له: "جزاك الله خيرا" فقد أبلغت في الثناء؛ وذلك لأن الله تعالى إذا جزاه خيرا ،كان ذلك سعادة له في الدنيا والآخرة.
قال ابن باز ﵀:
- إذا صنع لك معروف من بعض إخوانك تكافئ إما بالمال أو بالكلام الطيب، فإن صنع لك معروفاً أحسن إليك بمواساته عند الحاجة، قضى دينك، فرج كربتك، أرشدك إلى الطريق المطلوب، دافع عنك العدو إلى غير هذا، تشكره على ذلك، تكافئه على ذلك ما تستطيع من العلم الطيب والكلام الطيب والفعل الطيب وتدعو له: جزاك الله خيراً، فرج الله كربتك، يسر الله أمرك، أحسن الله إليك، كل هذا من الثناء الحسن، كل هذا من المكافأة؛ ولهذا في الحديث (من صنع إليكم معروفاً فكافئوه)، هذا يدل على الوجوب، حتى تروا ؛ يعني: حتى تظنوا (أنّكم قد كافأتموه) هكذا المؤمن يكافئ، ما يكون لئيماً، متى صنع إليه معروف كافأ بالمال، إن كان معروف مال بالثناء الحسن، والدعاء، إن كان المعروف شيئاً آخر، ومن الدعاء: "جزاك الله خيراً، أحسن الله إليك، فرج الله كربتك، شكر الله سعيك، غفر الله لك"، من الدعاء الطيب هكذا المؤمن.

1497 - وعن جابر - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم: «لا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ؛ وَلاَ تَدعُوا عَلَى أوْلادِكُمْ، وَلاَ تَدْعُوا عَلَى أموَالِكُمْ، لا تُوافِقُوا مِنَ اللهِ سَاعَةً يُسألُ فِيهَا عَطَاءً فَيَسْتَجِيبَ لَكُمْ». رواه مسلم.
قال ابن عثيمين ﵀:
- فهذا يقع كثيراً عند الغضب، إذا غضب الإنسان ربما يدعو على نفسه، وربما يدعو على ولده، ويقول: "قاتلك الله، قتلك الله" وما أشبه ذلك، حتى إنّ بعضهم يدعو على ولده باللعنة، نسأل الله العافية، وكذلك نجد بعضهم يدعو على أهله، على زوجته، على أخته، ربما دعا على أمه، والعياذ بالله، مع الغضب، وكذلك أيضًا يدعو على ماله، يقول مثلا على سيارة اختلفوا عليها "الله لا يبارك في هذه السيارة، أو في هذه الدار، أو هذا الفراش" وما أشبه ذلك، كل ذلك نهى النبي ﷺ أن ندعو عليه؛ لأنه ربما صادف ساعة إجابة، فإذا صادف ساعة إجابة فإنه يستجاب، لكن قل: "اللهم يسر الأمر، اللهم سهل، حتى يحصل التسهيل والتيسير".
قال ابن باز ﵀:
- الإنسان يحذر شر لسانه، فلا يدعو على نفسه يقول: "اللهم أهلكني" عند الغضب يقع من الإنسان أشياء كثيرة فليحذر، يتقي الله ولا يدعو على نفسه إلا بالخير، أو أولاده، أو زوجته، أو أمواله، سياراته، غنمه، أو غير ذلك، لا يدعو إلا بخير، يجاهد يحفظ لسانه، إذا دعا فيجعله خيراً، "اللهم بارك لي في أهلي، اللهم أصلح ذريتي، اللهم بارك لي في مالي، اللهم اكفني شره" فيدعو عليه، هكذا الآداب الشرعية.

1498 - وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أقْرَبُ مَا يكونُ العَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأكْثِرُوا الدُّعَاءَ». رواه مسلم.
قال ابن عثيمين ﵀:
- الإنسان إذا كان يدع الله تعالى فإنه قريب من الله، والله تعالى قريب منه كما قال ﷿: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّى فَإِنِّى قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِى وَلْيُؤْمِنُوا بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ [البقرة: 186].
- أقرب ما يكون الإنسان من ربه وهو ساجد؛ وذلك لأن في السجود كمال الخضوع لله عزوجل، لأنك تضع أشرف أعضائك، وأعلى أعضائك، تضعها في الأسفل، في موضع الأقدام تعظيما للرب ﷿، فيأبى الله تعالى إلا أن يقرب منك في هذا الحال، وأنت تقرب من ربك، فأكثروا من الدعاء، وأنتم سجود في الفرائض والنوافل، أكثروا من الدعاء في أمور الدنيا، وأمور الآخرة، كله خير.
- اعلم أنّك إذا سألت الله فإنك رابح في كل حال؛ لأنّه إما أن يعطيك ما تسأل، أو يصرف عنك من السوء ما هو أعظم، أو يدخر ذلك لك عنده يوم القيامة أجرًا، فمن دعا الله تعالى فإنه لا يخيب، فأكثر من الدعاء، أكثر من دعاء الله، أكثر من الاستغفار إلى الله، والتوبة إليه، فإن الرسول ﷺ يقول: (إنه ليغان على قلبي، وإنّي أستغفر الله وأتوب إليه مائة مرة).
قال ابن باز ﵀:
- الدعاء في حال السجود من أسباب الإجابة، والحديث الآخر: (أمّا الرّكوع فعظموا فيه الرّبّ، وأمّا السّجود فاجتهدوا في الدّعاء، فقمنٌ أن يستجاب لكم)، يعني: حري أن يستجاب لكم فاجتهدوا في الدعاء، فيستحب الإكثار من الدعاء في السجود ولا سيما مهمات الدعاء، يسأل ربه خيري الدنيا والآخرة.

1499 - وعنه: أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يُسْتَجَابُ لأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ: يقُولُ: قَدْ دَعْوتُ رَبِّي، فَلَمْ يسْتَجب لِي» متفق عَلَيْهِ.
وفي روايةٍ لمسلمٍ: «لا يَزالُ يُسْتَجَابُ لِلعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بإثْمٍ، أَوْ قَطيعَةِ رحِمٍ، مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ» قيل: يَا رسولَ اللهِ مَا الاستعجال؟ قَالَ: «يقول: قَدْ دَعوْتُ، وَقَدْ دَعَوْتُ، فَلَمْ أرَ يسْتَجِبُ لي، فَيَسْتحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ».
قال ابن عثيمين ﵀:
- الإنسان حري أن يستجيب الله دعاءه، إلا إذا عجل، ومعنى العجلة فسرها النبي ﷺ بأن يقول: (دعوت ودعوت، فلم أر من يستجيب لي)، فحينئذ يستحسر ويدع الدعاء، وهذا من جهل الإنسان؛ لأن الله لا يمنعك ما دعوته به إلا لحكمة، أو لوجود مانع يمنع من إجابة الدعاء، ولكن إذا دعوت الله، فادع الله تعالى وأنت مغلب للرجاء على اليأس، حتى يحقق الله لك ما تريد، ثم إن أعطاك الله ما سألت فهذا المطلوب، وإن لم يعطك ما سألت فإنه يدفع عنك من البلاء أكثر، وأنت لا تدري، أو يدخر ذلك لك عنده يوم القيامة، فلا تيأس ولا تستحسر، ادع ما دام الدعاء عبادة، فلماذا لا تكثر منه!
قال ابن باز ﵀:
- يدل على شرعية الإكثار من الدعاء، والاستمرار في الدعاء، ولو لم يرَ الاستجابة، فإن الله سبحانه له الحكمة البالغة، قد يؤجل الدعوة إلى أمد ليجتهد العبد في الدعاء، وليلح في الدعاء، ويستقيم على الحق، ويحاسب نفسه، ويجاهدها لله، فتكون هذه الحاجة من أسباب صلاحه، ومن أسباب توفيق الله له، فينبغي له أن يلح في الدعاء، ويجتهد، ويحاسب نفسه، قد تكون الدعوة أجلت لأنه مقيم على المعصية ما تاب منها، أجلت لمصلحة له في الآخرة، فربك أعلم وأحكم.

1500 - وعن أَبي أمامة - رضي الله عنه - قَالَ: قيل لِرسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم: أيُّ الدُّعاءِ أَسْمَعُ؟ قَالَ: «جَوْفَ اللَّيْلِ الآخِرِ، وَدُبُرَ الصَّلَواتِ المَكْتُوباتِ». رواه الترمذي، وقال: «حديث حسن».
قال ابن عثيمين ﵀:
- (أي الدعاء أسمع) يعني أي الدعاء أقرب إجابة.
- (جوف الليل الآخر) يعني آخر الليل؛ وذلك لأن الله تعالى ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير، فيقول من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له، فينبغي للإنسان أن يجتهد بالدعاء في هذا الجزء من الليل، رجاء الإجابة.
- (ودبر الصلوات المكتوبات) يعني أواخرها، وهذا قد أرشد إليه النبي ﷺ حين ذكر التشهد، ثم قال بعد ذلك: (ثم ليتخير من الدعاء ما يشاء)، وليس المراد بأدبار الصلوات هي ما بعد السلام؛ لأن ما بعد السلام في الصلوات هو ليس محل دعاء، إنما هو محل ذكر، لقول الله تعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱذْكُرُوا ٱللَّهَ قِيَٰمًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ﴾ [النساء 103]، ولكن المراد بأدبار الصلوات المكتوبة أواخرها.
قال ابن باز ﵀:
- من ساعات الاستجابة جوف الليل، ولا سيما في الثلث الرابع، والخامس هو محل صلاة داود عليه الصلاة والسلام، وهكذا الثلث الأخير كلها محل إجابة، الثلث الرابع والخامس تنزل الله ﷿: قال ﷺ: (ينزل ربّنا تبارك وتعالى كلّ ليلةٍ إلى السّماء الدنيا حين يبقى ثلث اللّيل الآخر يقول: من يدعوني ، فأستجيب له من يسألني فأعطيه، من يستغفرنِي فأغفر له)، والثلث الرابع محل قيام داود ﷺ، قال ﷺ :(أحبّ الصّلاة إلى اللَّه صلاة داود، وأحبّ الصّيام إلى اللَّه صيام داود، وكان ينام نصف اللّيل ويقوم ثلثه، وينام سدسه، ويصوم يوماً، ويفطر يوماً، ويقول: إنّ في اللّيل لساعةً لا يوافقها رجلٌ مسلمٌ، يسأل اللَّه خيراً من أمر الدّنيا والآخرة، إلّا أعطاه إيّاه، وذلك كلّ ليلةٍ).
- اغتنم التهجد بالليل، والدعاء، والضراعة إلى الله في ساعات الليل، ولا سيما ساعات النصف الأخير، لعلك تنجح، ثم على الأقل أنت على أجر، تؤجر تكتب لك حسنات حتى ولو لم يستجب لك، فنفس الدعاء عمل صالح، تؤجر عليه، ولك فيه ثواب.

1501 - وعن عُبَادَةَ بنِ الصامت - رضي الله عنه: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا عَلَى الأرْضِ مُسْلِمٌ يَدْعُو الله تَعَالَى بِدَعْوَةٍ إِلاَّ آتَاهُ اللهُ إيَّاها، أَوْ صَرفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا، مَا لَمْ يَدْعُ بإثْمٍ، أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ»، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَومِ: إِذًا نُكْثِرُ قَالَ: «اللهُ أكْثَرُ». رواه الترمذي، وقال: «حديث حسن صحيح».
ورواه الحاكم من روايةِ أَبي سعيدٍ وزاد فِيهِ: «أَوْ يَدخِرَ لَهُ مِن الأَجْرِ مثْلَها» .
قال ابن عثيمين ﵀:
- لا يخيب من يسأل الله، بل لابد أن يحدث له واحد من هذه الأمور الثلاثة إلا أن يدعو بإثم أي بشيء محرم فإنّه لا يستجاب له لأن الدعاء بالإثم ظلم وقد قال الله تعالى: ﴿إِنَّهُۥ لَا يُفْلِحُ ٱلظَّٰلِمُونَ﴾ [الأنعام: 21].

1502 - وعن ابنِ عباس رضي الله عنهما: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يقولُ عِنْدَ الكَرْبِ: «لاَ إلهَ إِلاَّ اللهُ العَظِيمُ الحَليمُ، لاَ إلهَ إِلاَّ اللهُ رَبُّ العَرْشِ العَظيمِ، لاَ إلهَ إِلاَّ اللهُ رَبُّ السَّمَاواتِ، وَرَبُّ الأَرْضِ، وَرَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ» متفق عَلَيْهِ.

باب كرامات الأولياء وفضلهم


قَالَ الله تَعَالَى: ﴿ألا إنَّ أوْلِيَاءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ البُشْرَى في الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ﴾ [يونس: 62 - 64]، وقال تَعَالَى: ﴿وَهُزِّي إلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فكُلِي وَاشْرَبِي﴾ [مريم: 25، 26]، وقال تَعَالَى: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكرِيّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قالت هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [آل عمران: 37]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَإذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ فَأْوُوا إِلَى الكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّيءْ لَكُمْ مِنْ أمْرِكُمْ مِرْفَقًا وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ اليَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ﴾ [الكهف: 16 - 17].
1503 - وعن أَبي محمد عبد الرحمان بن أَبي بكرٍ الصديق رضي الله عنهما: أنَّ أَصْحَابَ الصُّفّةِ كَانُوا أُنَاسًا فُقَرَاءَ وَأَنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ مَرَّةً: «مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ، فَلْيَذْهَبْ بثَالِثٍ، وَمنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ أرْبَعَةٍ، فَلْيَذْهَبْ بِخَامِسٍ بِسَادِسٍ» أَوْ كما قَالَ، وأنَّ أَبَا بكرٍ - رضي الله عنه - جَاءَ بِثَلاَثَةٍ، وانْطَلَقَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بعَشَرَةٍ، وأنَّ أَبَا بَكرٍ تَعَشَّى عِنْدَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ لَبِثَ حَتَّى صَلَّى العِشَاءَ، ثُمَّ رَجَعَ، فجاءَ بَعْدَ مَا مَضَى مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللهُ. قالت امْرَأتُهُ: مَا حَبَسَكَ عَنْ أضْيَافِكَ؟ قَالَ: أوَمَا عَشَّيْتِهمْ؟ قالت: أَبَوْا حَتَّى تَجِيءَ وَقَدْ عَرَضُوا عَلَيْهِمْ، قَالَ: فَذَهَبتُ أَنَا فَاخْتَبَأْتُ، فَقالَ: يَا غُنْثَرُ، فَجَدَّعَ وَسَبَّ، وقالَ: كُلُوا لاَ هَنِيئًا وَاللهِ لا أَطْعَمُهُ أَبَدًا، قَالَ: وايْمُ اللهِ مَا كُنَّا نَأخُذُ مِنْ لُقْمَةٍ إلا ربا من أسفلِها أكثرَ منها حتى شبعوا، وصَارَتْ أكثرَ مما كانَتْ قبلَ ذلكَ، فنظرَ إليها أبو بكر فقالَ لامرأتِهِ: يا أختَ بني فراسٍ ما هذا؟ قالت: لا وقُرَّةِ عيني لهي الآنَ أكثرُ منها قبلَ ذلكَ بثلاثِ مراتٍ! فأكل منها أبو بكرٍ وقال: إنَّما كانَ ذلكَ مِنَ الشيطانِ، يعني: يمينَهُ. ثم أكلَ منها لقمةً، ثُمَّ حَمَلَهَا إِلَى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَصْبَحَتْ عِنْدَهُ. وَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ، فَمَضَى الأجَلُ، فَتَفَرَّقْنَا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، مَعَ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أُنَاسٌ، اللهُ أعْلَمُ كَمْ مَعَ كُلِّ رَجُلٍ فَأَكَلُوا مِنْهَا أَجْمَعُونَ.
وَفِي رِوَايةٍ: فَحَلَفَ أَبُو بَكْرٍ لا يَطْعَمُهُ، فَحَلَفَت المَرْأَةُ لا تَطْعَمُهُ، فَحَلَفَ الضَّيْفُ. - أَو الأَضْيَافُ - أَنْ لاَ يَطْعَمُهُ أَوْ يَطْعَمُوهُ حَتَّى يَطْعَمَهُ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هذِهِ مِنَ الشَّيْطَانِ! فَدَعَا بالطَّعَامِ فَأكَلَ وأكَلُوا، فَجَعَلُوا لا يَرْفَعُونَ لُقْمَةً إِلاَّ رَبَتْ مِنْ أسْفَلِهَا أَكْثَرُ مِنْهَا، فَقَالَ: يَا أُخْتَ بَني فِرَاسٍ، مَا هَذَا؟ فَقَالَتْ: وَقُرْةِ عَيْنِي إنَّهَا الآنَ لأَكْثَرُ مِنْهَا قَبْلَ أَنْ نَأكُلَ، فَأكَلُوا، وَبَعَثَ بِهَا إِلَى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَ أنَّهُ أكَلَ مِنْهَا.
وَفِي رِوايَةٍ: إنَّ أَبَا بكْرٍ قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمانِ: دُونَكَ أضْيَافَكَ، فَإنِّي مُنْطلقٌ إِلَى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَافْرُغْ مِنْ قِراهُم قَبْلَ أَنْ أَجِيءَ، فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحْمانِ، فَأَتَاهُمْ بما عِنْدَهُ، فَقَالَ: اطْعَمُوا؛ فقالوا: أين رَبُّ مَنْزِلِنا؟ قَالَ: اطْعَمُوا، قالوا: مَا نحنُ بِآكِلِينَ حَتَّى يَجِيءَ رَبُّ مَنْزِلِنَا، قَالَ: اقْبَلُوا عَنْا قِرَاكُمْ، فَإنَّهُ إنْ جَاءَ وَلَمْ تَطْعَمُوا، لَنَلْقَيَنَّ مِنْهُ فأبَوْا، فَعَرَفْتُ أنَّهُ يَجِدُ عَلَيَّ، فَلَمَّا جَاءَ تَنَحَّيْتُ عَنْهُ، فَقَالَ: مَا صَنَعْتُمْ؟ فَأخْبَرُوهُ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ الرَّحمانِ، فَسَكَتُّ: ثُمَّ قَالَ: يَا عَبْدَ الرَّحْمنِ، فَسَكَتُّ، فَقَالَ: يَا غُنْثَرُ أقْسَمْتُ عَلَيْكَ إنْ كُنْتَ تَسْمَعُ صَوتِي لَمَا جِئْتَ! فَخَرَجْتُ، فَقُلْتُ: سَلْ أضْيَافَكَ، فقالُوا: صَدَقَ، أتَانَا بِهِ، فَقَالَ: إنَّمَا انْتَظَرْتُمُونِي والله لا أَطْعَمُهُ اللَّيْلَةَ. فَقَالَ الآخَرُونَ: واللهِ لَا نَطْعَمُهُ حَتَّى تَطْعَمَهُ فَقَالَ: وَيْلَكُمْ مَا لَكُمْ لا تَقْبَلُونَ عَنَّا قِرَاكُمْ؟ هَاتِ طَعَامَكَ، فَجَاءَ بِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ فَقَالَ: بِسْمِ اللهِ، الأولَى مِنَ الشَّيْطَانِ، فَأَكَلَ وَأَكَلُوا. متفق عَلَيْهِ.
قَوْله: «غُنْثَرُ» بغينٍ معجمةٍ مَضمُومَةٍ ثُمَّ نُونٍ ساكِنَةٍ ثُمَّ ثاءٍ مثلثةٍ وَهُوَ: الغَبِيُّ الجَاهِلُ. وقولُهُ: «فَجَدَّعَ» أَيْ شَتَمَهُ، والجَدْعُ القَطْعُ. قولُه «يَجِدُ عَليّ» هُوَ بكسرِ الجِيمِ: أيْ يَغْضَبُ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- أقسم ﵁ أن لا يأكل، قال: والله ما آكل، يعني أنكم تأخرتم من أجلي إذن أنا لا آكل، فأقسم الأضياف أن لا يأكلوا، إكراماً له، فصار عندنا الآن قسمان، قسم أبي بكر ﵁ أن لا يأكل، وقَسَمَ الأضياف أن لا يأكلوا، فأيهم أولى؟ أن نُبر بقسم أبي بكر ويأكل الأضياف؟ أم بقسم الأضياف ولا يأكلون، الثاني أولى، فقال ﵁:"إنّما ذلك من الشيطان"، يعني كونه يحلف أن لا يأكل هذا من الشيطان، ثم أكل وأكل الأضياف.
- الكرامة التي حصلت أن الواحد منهم إذا أخذ لقمة من الإناء ارتفع الإناء، صار بدل اللقمة أكثر منها في نفس الإناء، من أين جاء هذا؟ من الله ﷿ كرامة لأبي بكر ﵁؛ لأنه أفضل أولياء هذه الأمة على الإطلاق؛ لأنّه خير هذه الأمة بعد نبيها، ثم انتهوا فبقي في الإناء أكثر مما كان فيه من قبل، فأخذه أبو بكر ﵁ وذهب به إلى النبي ﷺ ، ودعا النبي ﷺ إليه أقواماً فأكلوا.
- الشاهد من هذا الحديث: هذه الكرامة لولي من أولياء الله وهو أبو بكر ﵁ ونحن نشهد أنّه ولي من أولياء الله، وأنّه أفضل أولياء الله على الإطلاق ما عدا النبيين والمرسلين؛ لأنه ﵁ من الصديقين، يعني في المرتبة الثانية من صالح الأمم، قال الله تعالى: ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ﴾ [النساء: 69]، فهو ﵁ أفضل الصديقين منذ خلق الله آدم إلى يوم القيامة، وهو من أولياء الله، وهذه من كرامته ﵁.
- الإنسان إذا غضب بسبب يقتضي الغضب فإنه لا يلام عليه؛ لأنّ أبا بكر ﵁ غضب فسب وجدع، وحتى أنّ ابنه عبد الرحمن اختفى منه خوفاً منه، وجعل ينادي ويقول: "يا غنثر" والغنثر هو الغبي الجاهل، فهذا دليلٌ على أنّ الإنسان إذا غضب لسبب يقتضي الغضب فإنّه لا يُلام عليه، ولا يخدش من فضله ولا مرتبته.
- فيه أنّه لا بأس أن الإنسان يصف ابنه، أو من له ولاية عليه، بالغباوة، والجهل، إذا فعل فعلاً يقتضي أنّه غبي جاهل.
- فيه أنّ من عادة الناس، حتى في العهد القديم، أنّ الضيف والمضيف يحصل منهم الحلف والأيمان، مثل: "والله تأكل، والله ما آكل، والله تدخل، والله ما أدخل"، ولكنهم يحلفون بالله، أما ما يفعله كثير من الجهلة اليوم، يحلفون بالطلاق فهذا غلط، كثير من أهل البادية إذا نزل به ضيف، وخاف الضيف أن صاحب البيت يذبح له ذبيحة، قال: علي الطلاق، وعلي الحرام، وامرأتي كأمي، والعياذ بالله، إن ذبحت لي ذبيحة، وهذا حرام، لا يجوز، (من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت)، أما الحلف بالله فهذا قد جرت به العادة قديمًا، وهو من عادات العرب وشيمهم، ومع هذا الأفضل أنك إذا حلفت على إنسان أن تقرنها بكلمة "إن شاء الله" تقول: والله إن شاء الله، لأنك إذا قلت ذلك استفدت فائدتين عظيمتين: الفائدة الأولى: أن الله ييسر لك الأمر، الفائدة الثانية أنه إذا لم يتيسر، لم يكن عليك كفارة، فاقرن يمينك دائما، بقول: "إن شاء الله" حتى تسلم من الحنث، وحتى يتيسر لك الأمر.
- فيه أن الإنسان إذا حلف على شيء، ثم رأى غيره خيرًا منه، فإنه يكفر عن يمينه ويفعل ما هو خير، وهذا قد دل عليه حديث صريح عن النبي ﷺ فقال: (إني، والله، إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني) أو قال: (إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير).
- إذا قال قائل: أبو بكر ﵁ هو الذي حلف أولاً، وكان على الضيوف أن يبروا بيمينه، ولكنهم حلفوا، فإذا تحالف اثنان، أحدهم يقول كذا، والثاني يقول كذا، فأيهما أولى؟ قلنا: الأولى أن يكون الذي حلف الأول هو الذي تُبر يمينه؛ لأنه أسبق وقد أمر النبي ﷺ بإبرار القسم، فعلى هذا فيكون الثاني هو الذي حصل منه نوع الخطأ، لكن أبا بكر ﵁ من تواضعه، أكل من أجل إكرام الضيوف.
- فيه أن الإنسان ينبغي له أن يكرم الضيف، بل إن إكرام الضيف من تمام الإيمان، لقول النبي ﷺ: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)، وحق الضيافة الواجب يوم وليلة، وثلاثة أيام سُنة، وما زاد على ذلك فهو أمر مباح، لكن الواجب يوم وليلة.
قال ابن باز ﵀:
- هذه من الدلائل على أن الله ﷿ يبارك فيما يشاء، يعطي الكرامة من يشاء، بشرط أن يكون صاحبها على الطريقة الشرعية، وإلا هي خرافة، الكرامات توزن بميزان الشرع، فإن كان صاحبها من المستقيمين على الشرع فهي كرامة، وإن كان على خلاف ذلك، فهي من خوارق الشياطين والسحرة والتلبيس.

1504 - وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ كَانَ فيما قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ نَاسٌ مُحَدَّثُونَ، فَإنْ يَكُ في أُمَّتِي أحدٌ فإنَّهُ عُمَرُ». رواه البخاري.
ورواه مسلم من رواية عائشة.
وفي روايتهما قَالَ ابن وهب: «محَدَّثُونَ» أيْ مُلْهَمُونَ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- (محدثون) يعني: ملهمون للصواب، يقولون قولًا فيكون موافقًا للحق، وهذا من كرامة الله للعبد أن الإنسان إذا قال قولًا، أو أفتى بفتوى، أو حكم بحكم تبين له بعد ذلك أنه مطابق للحق، فعمر ﵁ من أشد الناس توفيقًا للحق.
- يحتمل قوله ﷺ: إن يكن فيكم إنه خطاب لقوم مجتمعين ليس فيهم أبو بكر ﵁، ويحتمل أنّه خطاب إلى الأمة كلها، ومن بينهم أبو بكر ﵁، فإن كان الأول فلا إشكال، وإن كان الثاني فقد يقول قائل: كيف يكون عمر ملهمًا وأبو بكر ليس كذلك؟ فيقال: إن أبا بكر ﵁ يوفق للصواب بدون إلهام، بمعنى أنه ﵁ من ذات نفسه بتوفيق الله يوفق للصواب، ويدل على أنّ أبا بكر أشد توفيقًا للصواب من عمر عدة مسائل: في صلح الحديبية، وموت النبي ﷺ، وحروب الردة.
- كلما كان الإنسان أقوى إيمانًا بالله، وأكثر طاعة لله، وفقه الله تعالى إلى الحق بقدر ما معه من الإيمان، والعلم، والعمل الصالح، تجده مثلًا يعمل عملًا يظنه صوابًا بدون ما يكون معه دليل من الكتاب والسنة فإذا راجع أو سأل، وجد أن عمله مطابق للكتاب والسنة، وهذه من الكرامات.

1505 - وعن جابر بنِ سُمْرَةَ رضي الله عنهما، قَالَ: شَكَا أهْلُ الكُوفَةِ سَعْدًا يعني: ابنَ أَبي وقاص - رضي الله عنه - إِلَى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فَعَزَلَهُ، واسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَمَّارًا، فَشَكَوا حَتَّى ذَكَرُوا أنَّهُ لا يُحْسِنُ يُصَلِّي، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا إسْحَاقَ، إنَّ هَؤُلاَءِ يَزْعَمُونَ أنَّكَ لا تُحْسِنُ تُصَلِّي، فَقَالَ: أَمَّا أنا واللهِ فَإنِّي كُنْتُ أُصَلِّي بِهِمْ صَلاَةَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لا أُخْرِمُ عَنْها، أُصَلِّي صَلاَتَي العِشَاءِ فَأَرْكُدُ فِي الأُولَيَيْنِ، وَأُخِفُّ في الأُخْرَيَيْنِ. قَالَ: ذَلِكَ الظَّنُّ بِكَ يَا أَبَا إسْحَاقَ، وأَرْسَلَ مَعَهُ رَجُلًا - أَوْ رِجَالًا - إِلَى الكُوفَةِ يَسْأَلُ عَنْهُ أهْلَ الكُوفَةِ، فَلَمْ يَدَعْ مَسْجِدًا إِلاَّ سَأَلَ عَنْهُ، وَيُثْنُونَ مَعْرُوفًا، حَتَّى دَخَلَ مَسْجِدًا لِبَنِي عَبْسٍ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، يُقالُ لَهُ أُسَامَةُ بْنُ قَتَادَةَ، يُكَنَّى أَبَا سَعْدَةَ، فَقَالَ: أمَا إذْ نَشَدْتَنَا فَإنَّ سَعْدًا كَانَ لا يَسِيرُ بالسَّرِيَّةِ وَلاَ يَقْسِمُ بالسَّوِيَّةِ، وَلاَ يَعْدِلُ في القَضِيَّةِ. قَالَ سَعْدٌ: أمَا وَاللهِ لأَدْعُونَّ بِثَلاَثٍ: اللَّهُمَّ إنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا كَاذِبًا، قَامَ رِيَاءً، وَسُمْعَةً، فَأَطِلْ عُمُرَهُ، وَأَطِلْ فَقْرَهُ، وَعَرِّضْهُ لِلْفِتَنِ. وَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا سُئِلَ يَقُولُ: شَيْخٌ كَبيرٌ مَفْتُونٌ، أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ. قَالَ عَبدُ الملكِ بن عُمَيْرٍ الراوي عن جابرِ بنِ سَمُرَةَ: فَأنا رَأَيْتُهُ بَعْدُ قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ مِنَ الكِبَرِ، وإنَّهُ لَيَتَعَرَّضُ لِلْجَوارِي فِي الطُّرُقِ فَيَغْمِزُهُنَّ. متفق عَلَيْهِ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- فيه أنّ من تولى أمرًا في الناس فإنّه لا يسلم منهم مهما كانت منزلته، لابد أن يناله السوء.
- فيه جواز دعاء المظلوم على ظالمه بمثل ما ظلمه، كما دعا سعد بن أبي وقاص ﵁ هذه الدعوات على من ظلمه.
- فيه أنّ الله تعالى يستجيب دعاء المظلوم، ولهذا قال النبي ﷺ لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن وأمره أن يأخذ الزكاة من أموالهم، قال: (إياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)، فالمظلوم يستجيب الله دعاءه حتى ولو كان كافرًا، فلو كان كافرًا وظلم ودعا على من ظلمه أجاب الله دعاءه؛ لأنّ الله حكم عدل، يأخذ بالإنصاف والعدل، لمن كان مظلومًا، ولو كان كافرًا، فكيف إذا كان مسلمًا.
- فيه أنّه يجوز للإنسان أن يستثني في الدعاء، إذا دعا على شخص يستثني فيقول: "اللهم إن كان كذا فافعل به كذا، اللهم إن كان ظلمني فأنصفني منه أو قابتله بكذا وكذا"، تدعو بمثل ما ظلم.
- فيه حرص أمير المؤمنين عمر ﵁ على الرعية وتحمله المسئولية، والإحساس بها، وشعوره بها، ولهذا اشتهر بعدالته وحسن سياسته في الأمور كلها، الحربية والسلمية والدينية والدنيوية، فهو في الحقيقة خير الخلفاء بعد أبي بكر ﵁ ، بل حسنة من حسنات أبي بكر ﵁ ؛ لأن الذي ولاه على المسلمين هو أبو بكر ﵁.
قال ابن باز ﵀:
- دعوة أولياء الله ولا سيما إذا ظلموا مستجابة، وإن كان دعوة المظلوم مستجابة ودعوة كل مؤمن يرجى إجابتها؛ لكن هذا مظلوم، فدعا دعوته المشهورة فأجاب الله دعوته، وأظهرها للناس؛ لكذب هذا الرجل، نسأل الله العافية.
- هذا فضل أولياء الله، وأن لهم كرامات وأن دعوتهم تجاب؛ لأنهم أهل عدل، إنما يدعون على من ظلم، وإذا دعت الحاجة إلى شيء يسر الله لهم حاجتهم، وإن أرادوا إقامة العدل يسر الله لهم حاجة، فهم تخرق لهم العادة عند الحاجة، وعند الحجة، عند الحاجة: كالفقر ونحوه والظمأ والجوع، وعند إقامة الحجة: على الأعداء تخرق لهم العادة أيضاً.

1506 - وعن عروة بن الزبير: أنَّ سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفَيلٍ - رضي الله عنه - خَاصَمَتْهُ أَرْوَى بِنْتُ أوْسٍ إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الحَكَمِ، وادَّعَتْ أنَّهُ أخَذَ شَيْئًا مِنْ أرْضِهَا، فَقَالَ سعيدٌ: أنا كُنْتُ آخُذُ شَيئًا مِنْ أرْضِهَا بَعْدَ الَّذِي سَمِعْتُ مِنْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم!؟ قَالَ: مَاذَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «مَنْ أخَذَ شِبْرًا مِنَ الأرْضِ ظُلْمًا، طُوِّقَهُ إِلَى سَبْعِ أرْضِينَ» فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ: لا أسْألُكَ بَيِّنَةً بَعْدَ هَذَا، فَقَالَ سعيد: اللَّهُمَّ إنْ كَانَتْ كاذِبَةً، فَأعْمِ بَصَرَها، وَاقْتُلْهَا في أرْضِها، قَالَ: فَما ماتَتْ حَتَّى ذَهَبَ بَصَرُهَا، وَبَيْنَما هِيَ تَمْشِي في أرْضِهَا إذ وَقَعَتْ في حُفْرَةٍ فَماتَتْ. متفق عَلَيْهِ.
وفي روايةٍ لِمُسْلِمٍ عن محمد بن زيد بن عبد الله بن عُمَرَ بِمَعْنَاهُ، وأنه رآها عَمْيَاءَ تَلْتَمِسُ الجُدُرَ تقولُ: أصابَتْنِي دَعْوَةُ سَعيدٍ، وأنَّها مَرَّتْ عَلَى بِئرٍ في الدَّارِ الَّتي خَاصَمَتْهُ فِيهَا، فَوَقَعَتْ فِيهَا، وكانتْ قَبْرَها.
قال ابن عثيمين ﵀:
- (من اقتطع شبرًا من الأرض ظلمًا طوقه الله به يوم القيامة من سبع أرضين، أو طوقه يوم القيامة من سبع أرضين) كل مؤمن يؤمن بالله ورسوله إذا سمع مثل هذا الخبر الصادر عن الصادق المصدوق ﷺ فإنه لا يمكن أن يظلم أحدًا من أرضه ولا شبرًا، فالرسول ﷺ يخبر أنك لو أخذت شبرًا من الأرض، وقيّده بالشبر من باب المبالغة، وإلا فإن أخذ أقل من ذلك ولو سنتيمتر واحدًا فإنه يطوق به يوم القيامة من سبع أرضين؛ لأن الأرضين سبع طباق، والإنسان إذا ملك أرضًا، ملك قعرها إلى أسفل السافلين، إلى الأرض السابعة، وإذا ملكها أيضًا ملك هواءها إلى الثريا، لا أحد يستطيع أن يبني فوقه جسرًا، أو أن يحفر تحته خندقًا، فإذا كان يوم القيامة وهذا قد اقتطع شبرًا من الأرض بغير حق، فإنه يأتي مطوق به عنقه نسأل الله العافية.
- في هذا دليلٌ على أنّ قصف الأرض، أو أخذ شيء بغير الحق من كبائر الذنوب؛ لأن عليه هذا الويل العظيم، اللعن وأنه يحمل به يوم القيامة، فما بالك بقوم اليوم يأخذون أميالًا بل أميال الأميال، والعياذ بالله بغير الحق.
- هذا من كرامة الله لسعيد بن زيد، أن الله أجاب دعوته وشاهدها حيًا قبل أن يموت، وقد سبق لنا أن المظلوم تجاب دعوته ولو كان كافرًا، إذا كان مظلومًا؛ لأنّ الله تعالى ينتصر للمظلوم من الظالم؛ لأنّ الله تعالى حكم عدل لا يظلم، ولا يُمكّن أحدًا من الظلم، وقد قال الله تعالى: ﴿ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ [الأنعام: 21].
قال ابن باز ﵀:
- هذا فيه الشهادة لسعيد بأنه من أولياء الله، وهو من العشرة المشهود لهم بالجنة من قبل أن تأتي هذه الرواية؛ ولكن هذه شاهد؛ لأن أولياء الله إذا تعدى عليهم أحد ينتقم الله منهم، إما في العاجل وإما في الأجل.

1507 - وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ أُحُدٌ دعَانِي أَبي من اللَّيلِ فَقَالَ: مَا أُرَاني إِلاَّ مَقْتُولًا في أوْلِ مَنْ يُقْتَلُ من أصْحَابِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وإنِّي لا أَتْرُكُ بَعْدِي أَعَزَّ عَلَيَّ مِنْكَ غَيْرَ نَفْسِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنَّ عَلَيَّ دَيْنًا فَاقْضِ، وَاسْتَوْصِ بِأَخَوَاتِكَ خَيْرًا، فَأصْبَحْنَا، فَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ، وَدَفَنْتُ مَعَهُ آخَرَ في قَبْرِهِ، ثُمَّ لَمْ تَطِبْ نَفْسِي أَنْ أتْرُكَهُ مَعَ آخَرَ، فَاسْتَخْرَجْتُهُ بَعْدَ سِتَّةِ أشْهُرٍ، فإذا هُوَ كَيَوْمِ وَضَعْتُهُ غَيْرَ أُذنِهِ، فَجَعَلْتُهُ في قَبْرٍ عَلَى حِدَةٍ. رواه البخاري.
قال ابن عثيمين ﵀:
- في هذا الحديث كرامة لأبي جابر وهو عبد الله بن حرام أنّه ﵁ صدق الله رؤياه، فصار أول قتيل في أحد، ودفن ولم تأكل الأرض منه شيئًا إلا يسيرًا، وقد مضى عليه ستة أشهر وهذا من كراماته.
قال ابن باز ﵀:
- هذا من كرامة الله له، كون الله حفظ جسمه وبقي على حاله لم يتغير شيء، كون الله حقق ما رأى من موته شهيداً والله قضى دينه، النبي ﷺ قال لجابر: قسم الثمار، وأجمعها كل نوع على حدة، ثم أحضر الغرماء، وكان الغرماء أبوا يقبلون ثمر الحائط، يعني: يرونه قليلاً ما يكفيهم عن دينهم، فجاء النبي ﷺ ودعا فيه البركة، فقضى دينهم من بعضه، وبقي لجابر خير كثير من هذا الثمر، مما جعل الله ذلك على يدي النبي ﷺ ، وأجاب الله دعوته، حيث دعا فيه بالبركة عليه ﷺ.

1508 - وعن أنس - رضي الله عنه: أنَّ رجلين مِنْ أصحاب النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَا مِنْ عِنْدِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ وَمَعَهُمَا مِثْلُ المِصْبَاحَيْنِ بَيْنَ أَيْديهِمَا. فَلَمَّا افْتَرَقَا، صَارَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَاحِدٌ حَتَّى أتَى أهْلَهُ. رواهُ البُخاري مِنْ طُرُقٍ؛ وفي بَعْضِهَا أنَّ الرَّجُلَيْنِ أُسَيْدُ بنُ حُضير، وَعَبّادُ بنُ بِشْرٍ رضي الله عنهما.
قال ابن عثيمين ﵀:
-من كرامة الله تعالى أنه يضيء للعبد الطريق، الطريق الحسي وفائدته الحسية، فإن هذين الرجلين ﵄ وأرضاهما مشياً في إضاءةٍ ونورٍ، بينما الأسواق ليس فيها إضاءة ولا أنوار والليلة مظلمة، فقيض الله لهما هذا النور. وهناك أيضًا نور معنوي يقذفه الله تعالى في قلب المؤمن كرامة له، تجد بعض العلماء يفتح الله عليه من العلوم العظيمة الواسعة في كل فن ويرزقه الفهم والحفظ والمجادلة، ومن هؤلاء العلماء شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه.

1509 - وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَشْرَة رَهْطٍ عَيْنًا سَرِيَّة، وأمَّرَ عَلَيْهَا عاصِمَ بنَ ثَابِتٍ الأنْصَارِيَّ - رضي الله عنه - فانْطلقوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بالهَدْأةِ؛ بَيْنَ عُسْفَانَ وَمَكَّةَ؛ ذُكِرُوا لِحَيٍّ مِنْ هُذَيْل يُقالُ لَهُمْ: بَنُو لحيانَ، فَنَفَرُوا لَهُمْ بِقَريبٍ مِنْ مِئَةِ رَجُلٍ رَامٍ، فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ، فَلَمَّا أحَسَّ بِهِمْ عَاصِمٌ وأصْحَابُهُ، لَجَأُوا إِلَى مَوْضِعٍ، فَأَحاطَ بِهِمُ القَوْمُ، فَقَالُوا: انْزِلُوا فَأَعْطُوا بِأيْدِيكُمْ وَلَكُمُ العَهْدُ وَالمِيثَاقُ أَنْ لا نَقْتُلَ مِنْكُمْ أحَدًا. فَقَالَ عَاصِمُ بنُ ثَابِتٍ: أَيُّهَا القَوْمُ، أَمَّا أنا، فَلاَ أنْزِلُ عَلَى ذِمَّةِ كَافِرٍ: اللَّهُمَّ أَخْبِرْ عَنَّا نَبِيَّكَ - صلى الله عليه وسلم - فَرَمُوهُمْ بِالنّبْلِ فَقَتلُوا عَاصِمًا، وَنَزَلَ إلَيْهِمْ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ عَلَى العَهْدِ والمِيثاقِ، مِنْهُمْ خُبَيْبٌ، وَزَيدُ بنُ الدَّثِنَةِ وَرَجُلٌ آخَرُ. فَلَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ أطْلَقُوا أوْتَارَ قِسِيِّهِمْ، فَرَبطُوهُمْ بِهَا. قَالَ الرَّجُلُ الثَّالِثُ: هَذَا أوَّلُ الغَدْرِ واللهِ لا أصْحَبُكُمْ إنَّ لِي بِهؤُلاءِ أُسْوَةً، يُريدُ القَتْلَى، فَجَرُّوهُ وعَالَجُوهُ، فأبى أَنْ يَصْحَبَهُمْ، فَقَتَلُوهُ، وانْطَلَقُوا بِخُبَيبٍ، وزَيْدِ بنِ الدَّثِنَةِ، حَتَّى بَاعُوهُما بِمَكَّةَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ؛ فابْتَاعَ بَنُو الحارِثِ بن عامِرِ بنِ نَوْفَلِ بنِ عبدِ مَنَافٍ خُبيبًا، وكان خُبَيْبٌ هُوَ قَتَلَ الحَارِثَ يَوْمَ بَدْرٍ. فَلِبثَ خُبَيْبٌ عِنْدَهُمْ أسيرًا حَتَّى أجْمَعُوا عَلَى قَتْلِهِ، فاسْتَعَارَ مِنْ بَعْضِ بَنَاتِ الحَارثِ مُوسَى يَسْتَحِدُّ بِهَا فَأعَارَتْهُ، فَدَرَجَ بُنَيٌّ لَهَا وَهِيَ غَافِلَةٌ حَتَّى أَتَاهُ، فَوَجَدتهُ مُجْلِسَهُ عَلَى فَخْذِهِ وَالموسَى بِيَدِهِ، فَفَزِعَتْ فَزْعَةً عَرَفَهَا خُبَيْبٌ. فَقَالَ: أَتَخَشَيْنَ أن أقْتُلَهُ مَا كُنْتُ لأَفْعَلَ ذَلِكَ! قالت: واللهِ مَا رَأيْتُ أسيرًا خَيرًا مِنْ خُبَيْبٍ، فواللهِ لَقَدْ وَجَدْتُهُ يَومًا يَأكُلُ قِطْفًا مِنْ عِنَبٍ في يَدِهِ وإنَّهُ لَمُوثَقٌ بِالحَدِيدِ وَمَا بِمَكَّةَ مِنْ ثَمَرَةٍ، وَكَانَتْ تَقُولُ: إنَّهُ لَرِزْقٌ رَزَقَهُ اللهُ خُبَيْبًا. فَلَمَّا خَرَجُوا بِهِ مِنَ الحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ في الحِلِّ، قَالَ لَهُمْ خُبَيْبٌ: دَعُونِي أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، فَتَرَكُوهُ، فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ فَقَالَ: واللهِ لَوْلاَ أَنْ تَحْسَبُوا أنَّ مَا بِي جَزَعٌ لَزِدْتُ: اللَّهُمَّ أحْصِهِمْ عَدَدًا، وَاقْتُلهُمْ بِدَدًا، وَلاَ تُبْقِ مِنْهُمْ أَحَدًا. وقال:
فَلَسْتُ أُبَالِي حِيْنَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا ... عَلَى أيِّ جَنْبٍ كَانَ للهِ مَصْرَعِي
وَذَلِكَ في ذَاتِ الإلَهِ وإنْ يَشَأْ ... يُبَارِكْ عَلَى أوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
وكان خُبَيبٌ هُوَ سَنَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ قُتِلَ صَبْرًا الصَّلاَةَ. وأخْبَرَ - يعني: النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أصْحَابَهُ يَوْمَ أُصِيبُوا خَبَرَهُمْ، وَبَعَثَ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى عَاصِمِ بنِ ثَابتٍ حِيْنَ حُدِّثُوا أَنَّهُ قُتِلَ أن يُؤْتَوا بِشَيءٍ مِنْهُ يُعْرَفُ، وكَانَ قَتَلَ رَجُلًا مِنْ عُظَمائِهِمْ، فَبَعَثَ الله لِعَاصِمٍ مِثْلَ الظُّلَّةِ مِنَ الدَّبْرِ فَحَمَتْهُ مِنْ رُسُلِهِمْ، فَلَمْ يَقْدِروا أَنْ يَقْطَعُوا مِنْهُ شَيْئًا. رواه البخاري.
قولُهُ: «الهَدْأَةُ»: مَوْضِعٌ، «والظُّلَّةُ»: السَّحَابُ. «والدَّبْرُ»: النَّحْلُ. وَقَوْلُهُ: «اقْتُلْهُمْ بِدَدًا» بِكَسْرِ الباءِ وفتحِهَا، فَمَنْ كَسَرَ قَالَ هُوَ جمع بِدَّةٍ بكسر الباء وهي النصيب ومعناه: اقْتُلْهُمْ حِصَصًا مُنْقَسِمَةً لِكُلِّ واحدٍ مِنْهُمْ نَصيبٌ، وَمَنْ فَتَحَ قَالَ معناهُ: مُتَفَرِّقِينَ في القَتْلِ واحدًا بَعْدَ واحِدٍ مِنَ التَّبْدِيد.
وفي الباب أحاديث كثيرةٌ صَحيحةٌ سَبَقَتْ في مَوَاضِعِها مِنْ هَذَا الكِتَابِ، مِنْهَا حديثُ الغُلامِ الَّذِي كَانَ يأتِي الرَّاهِبَ والسَّاحِرَ، ومنْها حَدِيثُ جُرَيْج، وحديثُ أصْحابِ الغَارِ الذين أطْبِقَتْ عَلَيْهِم الصَّخْرَةُ، وَحديثُ الرَّجُلِ الَّذِي سَمِعَ صَوْتًا في السَّحَابِ يَقُولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلاَنٍ، وَغَيْرُ ذَلِكَ . وَالدلائِل في البابِ كثيرةٌ مشهُورةٌ، وباللهِ التَّوفيقِ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- من الكرامة لهذا الرجل أنّ الله كان يرزقه الفاكهة التي لا توجد في مكة، وأنه كان يأكلها بيده، ويده موثقة بالحديد، وأنه أول من سن الصلاة عند القتل، فإنه فعل ذلك وأقره الله ورسوله ﷺ، وأنّه دعا على هؤلاء القوم، فأجاب الله دعوته.
- عاصم بن ثابت ﵁ الذي قتل، فإنّه شعر به قوم من قريش، وكان قد قتل رجلًا من عظمائهم فأرسلوا إليه جماعة يأتون بشيء من أعضائه يعرف به حتى يطمئنوا أنّه قتل، فلما جاء هؤلاء القوم ليأخذوا شيئًا من أعضائه، أرسل الله عليه شيئًا مثل الظلة من الدبر (أي من النحل) نحل عظيم، يحميه به الله تعالى من هؤلاء القوم، فعجزوا أن يقربوه ورجعوا خائبين، وهذا أيضًا من كرامة الله لعاصم ﵁، أنّ الله حمى جسده بعد موته من هؤلاء الأعداء الذين يريدون أن يمثلوا به.
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "من أصول أهل السنة والجماعة التصديق بكرامات الأولياء وما يجري الله على أيديهم من أنواع العلوم والمكاشفات، والقدرة والتقديرات"، وقال: "الكرامات موجودة قبل هذه الأمة، وفي صدر هذه الأمة إلى يوم القيامة". وذكر شيئًا كثيرًا منها في كتابه الفرقان بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن.

1510 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قَالَ: مَا سَمِعْتُ عمر - رضي الله عنه - يقولُ لِشَيءٍ قَطُّ: إنِّي لأَظُنُّهُ كَذَا، إِلاَّ كَانَ كَمَا يَظُنُّ. رواه البخاري.