باب تحريم سماع الغيبة وأمر من سمع غيبةً مُحرَّمةً بِرَدِّها والإنكارِ عَلَى قائلها


فإنْ عجز أَوْ لَمْ يقبل منه فارق ذلك المجلس إن أمكنه
قَالَ الله تَعَالَى: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ﴾ [القصص: 55]، وقال تَعَالَى: ﴿والَّذينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ [المؤمنون: 3]، وقال تَعَالَى: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا﴾ [الإسراء: 36]، وقال تَعَالَى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ في آيَاتِنا فَأعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا في حَدِيثٍ غَيْرِهِ وإمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ القَومِ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام: 68].

1528 - وعن أَبي الدرداء - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أخيهِ، رَدَّ اللهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَومَ القيَامَةِ». رواه الترمذي، وقال: «حديث حسن».
قال ابن عثيمين ﵀:
- لما ذكر رحمه الله النصوص الواردة في تحريم الغيبة، وبيان مضارها ومفاسدها وآثامها، أعقب ذلك بهذا الباب وهو تحريم سماع الغيبة، يعني أن الإنسان إذا سمع شخصًا يغتاب آخر فإنه يحرم عليه أن يستمع إلى ذلك، بل ينهاه عن هذا ويحاول أن ينقله إلى حديث آخر، فإن هذا فيه أجر عظيم كما في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، فإن أصر هذا الذي يغتاب الناس، إلا أن يبقى على غيبته وجب عليه أن يقوم عن المكان؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْۗ﴾ [النساء: 140]، فدل ذلك على أن الإنسان إذا استمع إلى المحرم، فهو مشارك لمن يفعل هذا المحرم فالواجب أن يقوم.
- اللغو هو كل كلام لا فائدة فيه، وقد قال الله تعالى في وصف عباد الرحمن: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ [الفرقان: 72]، يعني سالمين منه لا يلحقهم شيء منه؛ لا يستمعون إليه ولا يقرونه .
قال ابن باز. ﵀ :
- الغيبة هي من المنكرات ومن الكبائر وهي من أسباب الشحناء والعداوة والبغضاء والاختلاف؛ ولهذا حرمها الله لما تجره من الشر بقوله سبحانه: ﴿وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًاۚ﴾ [الحجرات: 12].
- الغيبة من أخبث المعاصي ومن أكبر الكبائر؛ فالواجب الحذر منها والواجب الإنكار على من فعلها، فإذا حضرت مجلس فيها الغيبة فالواجب إنكار ذلك .
- الغيبة ذكرك أخاك بما يكره، هذا الغيبة ذكر الإنسان بما يكره من الخصال التي يُسِر بها، أما من أظهر المعاصي وجاهر بها فلا غيبة له فيما أظهر من المعاصي، لكن المعاصي التي لا يظهرها بل يعلمها الإنسان؛ لكن لا يجوز له أن يغتابه فيها؛ بل يحرم عليه ذلك، والمشروع له المناصحة والتوجيه والدلالة على الخير والوصية بالخير هكذا يقول الله ﷿: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ﴾ [القصص: 55]، واللغو كل شيء باطل من الغيبة والنميمة وسائر المعاصي.
- الانسان إذا جلس مع قوم يظهرون المنكر وجب إنكاره عليهم، فإن أجابوا وكفوا فالحمد الله وإلا وجب فراقهم، وعدم حضور المنكر الذي يتظاهرون به، يقول النبي ﷺ : (من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة).

1529 - وعن عِتبَانَ بنِ مَالكٍ - رضي الله عنه - في حديثه الطويل المشهور الَّذِي تقدَّمَ في بابِ الرَّجاء قَالَ: قام النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي فَقَالَ: «أيْنَ مالِكُ بنُ الدُّخْشُمِ؟» فَقَالَ رَجُلٌ: ذَلِكَ مُنَافِقٌ لا يُحِبُّ اللهَ ولا رَسُولهُ، فَقَالَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَقُلْ ذَلِكَ ألاَ تَراهُ قَدْ قَالَ: لا إلهَ إِلاَّ اللهُ يُريدُ بِذَلكَ وَجْهَ اللهِ! وإنَّ الله قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ: لاَ إلهَ إِلاَّ اللهُ يَبْتَغي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ». متفق عَلَيْهِ.
«وَعِتْبان» بكسر العين عَلَى المشهور وحُكِيَ ضَمُّها وبعدها تاءٌ مثناة مِن فوق ثُمَّ باءٌ موحدة. و «الدُّخْشُم» بضم الدال وإسكان الخاء وضم الشين المعجمتين.
قال ابن عثيمين ﵀:
- هذا يدل على أن الإنسان إذا لم يكن كذلك فإنه لا غيبة له، فالكافر مثلاً ليس محترمًا في الغيبة، لك أن تغتابه، إلا أن يكون له أقارب مسلمون يتأذون بذلك فلا تغتبه وإلا فلا غيبة له.
قال ابن باز ﵀:
- لا يجوز للإنسان أن يتكلم بعرض أخيه إلا عن بصيرة وعن علم، ولما مر بجنازة على النبي ﷺ وأثنى عليها الحاضرون شراً قال: (وجبت) ومر بأخرى فأثنى عليها الحاضرون خيرًا قال: (وجبت) قيل: "يا رسول الله ما وجبت" قال: (هذه أثنيتم عليها شراً فوجبت له النار، والثانية أثنيتم عليها خيراً فوجبت لها الجنة أنتم شهداء الله في الأرض)، فلم ينكر على الذين شهدوا عليها بالشر؛ لأن صاحبها قد أظهر المعاصي، فمن أظهر المعاصي فلا غيبه له؛ ولهذا لم ينكر عليهم شهادتهم عليه بأنه أثنوا عليه شرًا؛ لأنهم شهدوا بما أظهر من المعاصي والشرور.

1530 - وعن كعب بن مالك - رضي الله عنه - في حديثه الطويل في قصةِ تَوْبَتِهِ وَقَدْ سبق في باب التَّوبةِ. قَالَ: قَالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ جالِسٌ في القَومِ بِتَبُوكَ: «مَا فَعَلَ كَعبُ بن مالكٍ؟» فَقَالَ رَجلٌ مِنْ بَنِي سَلمَةَ: يَا رسولَ الله، حَبَسَهُ بُرْدَاهُ والنَّظَرُ في عِطْفَيْهِ. فَقَالَ لَهُ مُعاذُ بنُ جبلٍ - رضي الله عنه: بِئْسَ مَا قُلْتَ، والله يَا رسولَ الله مَا علمنا عَلَيْهِ إِلاَّ خَيْرًا، فَسَكَتَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم. متفقٌ عَلَيْهِ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- أنّ الواجب على الإنسان إذا سمع من يغتاب أحدًا أن يكف غيبته، وأن يسعى في إسكاته، إما بالقوة إذا كان قادراً بأن يقول: اسكت، اتق الله، خاف الله وإما بالنصيحة المؤثرة، فإن لم يفعل فإنه يقوم ويترك المكان؛ لأن الإنسان إذا جلس في مجلس يغتاب فيه الجالسون أهل الخير والصلاح، فإنه يجب عليه أولاً أن يدافع، فإن لم يستطع فعليه أن يغادر وإلا كان شريكًا لهم في الإثم.
قال ابن باز ﵀:
- "حبسه براده، ونظره في عطفه" كلمة قبيحة؛ يعني ما همه إلا ثيابه والتزين.
- في هذا إنكار معاذ ﵁ على صاحب الغيبة، وأقره النبي ﷺ، فالمؤمن مرآة أخيه، وهو أيضاً عزٌ لأخيه، المؤمن أخو المؤمن.

باب مَا يباح من الغيبة


اعْلَمْ أنَّ الغِيبَةَ تُبَاحُ لِغَرَضٍ صَحيحٍ شَرْعِيٍّ لا يُمْكِنُ الوُصُولُ إِلَيْهِ إِلاَّ بِهَا، وَهُوَ سِتَّةُ أسْبَابٍ:
الأَوَّلُ: التَّظَلُّمُ، فَيَجُوزُ لِلمَظْلُومِ أَنْ يَتَظَلَّمَ إِلَى السُّلْطَانِ والقَاضِي وغَيرِهِما مِمَّنْ لَهُ وِلاَيَةٌ، أَوْ قُدْرَةٌ عَلَى إنْصَافِهِ مِنْ ظَالِمِهِ، فيقول: ظَلَمَنِي فُلاَنٌ بكذا.
الثَّاني: الاسْتِعانَةُ عَلَى تَغْيِيرِ المُنْكَرِ، وَرَدِّ العَاصِي إِلَى الصَّوابِ، فيقولُ لِمَنْ يَرْجُو قُدْرَتهُ عَلَى إزالَةِ المُنْكَرِ: فُلانٌ يَعْمَلُ كَذا، فازْجُرْهُ عَنْهُ ونحو ذَلِكَ ويكونُ مَقْصُودُهُ التَّوَصُّلُ إِلَى إزالَةِ المُنْكَرِ، فَإنْ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ كَانَ حَرَامًا.
الثَّالِثُ: الاسْتِفْتَاءُ، فيقُولُ لِلمُفْتِي: ظَلَمَنِي أَبي أَوْ أخي، أَوْ زوجي، أَوْ فُلانٌ بكَذَا فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ؟ وَمَا طَريقي في الخلاصِ مِنْهُ، وتَحْصيلِ حَقِّي، وَدَفْعِ الظُّلْمِ؟ وَنَحْو ذَلِكَ، فهذا جَائِزٌ لِلْحَاجَةِ، ولكِنَّ الأحْوطَ والأفضَلَ أَنْ يقول: مَا تقولُ في رَجُلٍ أَوْ شَخْصٍ، أَوْ زَوْجٍ، كَانَ مِنْ أمْرِهِ كذا؟ فَإنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ الغَرَضُ مِنْ غَيرِ تَعْيينٍ، وَمَعَ ذَلِكَ، فالتَّعْيينُ جَائِزٌ كَمَا سَنَذْكُرُهُ في حَدِيثِ هِنْدٍ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
الرَّابعُ: تَحْذِيرُ المُسْلِمينَ مِنَ الشَّرِّ وَنَصِيحَتُهُمْ، وذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ:
مِنْهَا جَرْحُ المَجْرُوحينَ مِنَ الرُّواةِ والشُّهُودِ وذلكَ جَائِزٌ بإجْمَاعِ المُسْلِمينَ، بَلْ وَاجِبٌ للْحَاجَةِ.
ومنها: المُشَاوَرَةُ في مُصاهَرَةِ إنْسانٍ أو مُشاركتِهِ، أَوْ إيداعِهِ، أَوْ مُعامَلَتِهِ، أَوْ غيرِ ذَلِكَ، أَوْ مُجَاوَرَتِهِ، ويجبُ عَلَى المُشَاوَرِ أَنْ لا يُخْفِيَ حَالَهُ، بَلْ يَذْكُرُ المَسَاوِئَ الَّتي فِيهِ بِنِيَّةِ النَّصيحَةِ.
ومنها: إِذَا رأى مُتَفَقِّهًا يَتَرَدَّدُ إِلَى مُبْتَدِعٍ، أَوْ فَاسِقٍ يَأَخُذُ عَنْهُ العِلْمَ، وخَافَ أَنْ يَتَضَرَّرَ المُتَفَقِّهُ بِذَلِكَ، فَعَلَيْهِ نَصِيحَتُهُ بِبَيانِ حَالِهِ، بِشَرْطِ أَنْ يَقْصِدَ النَّصِيحَةَ، وَهَذا مِمَّا يُغلَطُ فِيهِ. وَقَدْ يَحمِلُ المُتَكَلِّمَ بِذلِكَ الحَسَدُ، وَيُلَبِّسُ الشَّيطانُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، ويُخَيْلُ إِلَيْهِ أنَّهُ نَصِيحَةٌ فَليُتَفَطَّنْ لِذلِكَ.
وَمِنها: أَنْ يكونَ لَهُ وِلايَةٌ لا يقومُ بِهَا عَلَى وَجْهِها: إمَّا بِأنْ لا يكونَ صَالِحًا لَهَا، وإما بِأنْ يكونَ فَاسِقًا، أَوْ مُغَفَّلًا، وَنَحوَ ذَلِكَ فَيَجِبُ ذِكْرُ ذَلِكَ لِمَنْ لَهُ عَلَيْهِ ولايةٌ عامَّةٌ لِيُزيلَهُ، وَيُوَلِّيَ مَنْ يُصْلحُ، أَوْ يَعْلَمَ ذَلِكَ مِنْهُ لِيُعَامِلَهُ بِمُقْتَضَى حالِهِ، وَلاَ يَغْتَرَّ بِهِ، وأنْ يَسْعَى في أَنْ يَحُثَّهُ عَلَى الاسْتِقَامَةِ أَوْ يَسْتَبْدِلَ بِهِ.
الخامِسُ: أَنْ يَكُونَ مُجَاهِرًا بِفِسْقِهِ أَوْ بِدْعَتِهِ كالمُجَاهِرِ بِشُرْبِ الخَمْرِ، ومُصَادَرَةِ النَّاسِ، وأَخْذِ المَكْسِ ، وجِبَايَةِ الأمْوَالِ ظُلْمًا، وَتَوَلِّي الأمُورِ الباطِلَةِ، فَيَجُوزُ ذِكْرُهُ بِمَا يُجَاهِرُ بِهِ، وَيَحْرُمُ ذِكْرُهُ بِغَيْرِهِ مِنَ العُيُوبِ، إِلاَّ أَنْ يكونَ لِجَوازِهِ سَبَبٌ آخَرُ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ.
السَّادِسُ: التعرِيفُ، فإذا كَانَ الإنْسانُ مَعْرُوفًا بِلَقَبٍ، كالأعْمَشِ، والأعرَجِ، والأَصَمِّ، والأعْمى، والأحْوَلِ، وغَيْرِهِمْ جاز تَعْرِيفُهُمْ بذلِكَ، وَيَحْرُمُ إطْلاقُهُ عَلَى جِهَةِ التَّنْقِيصِ، ولو أمكَنَ تَعْريفُهُ بِغَيرِ ذَلِكَ كَانَ أوْلَى، فهذه ستَّةُ أسبابٍ ذَكَرَهَا العُلَمَاءُ وأكثَرُها مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَدَلائِلُهَا مِنَ الأحادِيثِ الصَّحيحَةِ مشهورَةٌ. فمن ذلك:

1531 - عن عائشة رَضِيَ اللهُ عنها: أنَّ رجلًا اسْتَأذَنَ عَلَى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «ائْذَنُوا لَهُ، بِئسَ أخُو العَشِيرَةِ؟». متفق عَلَيْهِ.
احتَجَّ بِهِ البخاري في جوازِ غيبَة أهلِ الفسادِ وأهلِ الرِّيبِ.
1532 - وعنها، قالت: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم: «مَا أظُنُّ فُلانًا وفُلانًا يَعْرِفانِ مِنْ دِينِنَا شَيْئًا». رواه البخاري.
قَالَ: قَالَ اللَّيْثُ بن سعدٍ أحَدُ رُواة هَذَا الحديثِ: هذانِ الرجلانِ كانا من المنافِقِينَ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- كان هذا الرجل من أهل الفساد والريب، فدل هذا على جواز غيبة من كان من أهل الفساد والريب؛ وذلك من أجل أن يحذر الناس فساده حتى لا يغتروا فيه، فإذا رأيت شخصًا ذا فساد وغي لكنه قد سحر الناس ببيانه وكلامه، يأخذ الناس منه ويظنون أنّه على خير، فإنّه يجب عليك أن تبين أنّ هذا الرجل لا خير فيه وأن تثني عليه شرًا؛ لأجل ألا يغتر الناس به.
- كانا من المنافقين فأثنى عليهما شرًا، وأنهما لا يعرفان من الدين شيئاً؛ لأن المنافق لا يعرف من دين الله شيئاً في قلبه، وإن كان يعرف بأذنه، لكن لا يعرف بقلبه والعياذ بالله، فهو منافق يظهر أنّه مسلم ولكنه كافر، قال الله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ ‎٨‏ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: 8-9].
قال ابن باز ﵀:
- لا غيبة فيما أظهر، هذه غيبة لكن هذا مظهر شر؛ ولهذا قال له: (بئس أخو العشيرة ، وبئس ابن العشيرة)، يحذر الناس منه ، (ما أظن فلاناً وفلاناً يعرفان من ديننا شيئاً)، لأنّه قد أظهر الشر كالمنافقين .

1533 - وعن فاطمة بنتِ قيسٍ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: أتيت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقلتُ: إنَّ أَبَا الجَهْم وَمُعَاوِيَةَ خَطَبَانِي؟ فَقَالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم: «أمَّا مُعَاوِيَةُ، فَصُعْلُوكٌ لاَ مَالَ لَهُ، وأمَّا أَبُو الجَهْمِ، فَلاَ يَضَعُ العَصَا عَنْ عَاتِقِهِ» متفق عَلَيْهِ.
وفي رواية لمسلم: «وَأمَّا أَبُو الجَهْمِ فَضَرَّابٌ لِلنِّساءِ» وَهُوَ تفسير لرواية: «لا يَضَعُ العَصَا عَنْ عَاتِقِهِ» وقيل: معناه: كثيرُ الأسفارِ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- ففي هذا دليل على أنّ الإنسان إذا جاء يستشيرك في شخص فذكرت عيوبه فلا بأس؛ لأنّ هذا من باب النصيحة وليس من باب الفضيحة، وفرق بين من يغتاب الناس ليظهر مساوءهم ويكشف عوراتهم وبين إنسان يتكلم بالنصيحة.
قال ابن باز ﵀:
- هذه الأحاديث تتعلق ببيان ما يجوز من الغيبة، تفدم أن الغيبة محرمة من الكبائر؛ لكن تجوز في مواضع ستة كما تقدم بيانها، منها إجابة المستنصح والمستشير، وأنّه ينصح ويوجه إلى الخير ولا يكون ذلك غيبة إذا استنصح واستفتى يوجه إلى الخير، ومن هذا قصة فاطمة بنت قيس ﵂.
- فهذا دليل على أن المستفتي والمستنصح والمستشير يخبر بالحقيقة وليس بغيبة، وهكذا من رأى منكر ظاهر ينكره أو رأى أمراً فيه خطر على المسلمين ينكره ويرفع أمره.

1534 - وعن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - قَالَ: خرجنا مَعَ رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في سَفَرٍ أصَابَ النَّاسَ فِيهِ شِدَّةٌ، فَقَالَ عبدُ اللهِ بن أُبَيّ: لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى يَنْفَضُّوا، وقال: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ، فَأَتَيْتُ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأخْبَرْتُهُ بذلِكَ، فَأرْسَلَ إِلَى عبدِ الله بن أُبَيِّ، فَاجْتَهَدَ يَمِينَهُ: مَا فَعلَ، فقالوا: كَذَبَ زيدٌ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فَوَقَعَ في نَفْسِي مِمَّا قَالُوهُ شِدَّةٌ حَتَّى أنْزلَ اللهُ تَعَالَى تَصْدِيقِي: ﴿إِذَا جَاءكَ المُنَافِقُونَ﴾ ثُمَّ دعاهُمُ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لِيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ فَلَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ. متفق عَلَيْهِ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- فيه دليلٌ على أنّه لا بأس أن الإنسان ينقل كلام المنافق إلى ولي الأمر حتى يتخذ فيه ما ينبغي اتخاذه.
- إذا سمعت من بعض الناس كلاماً يؤدي إلى الشر والفساد وتثبت وجب عليك أن تبلغ به ولي الأمر؛ حتى لا يستشري الشر والفساد.
قال ابن باز ﵀:
- المقصود أنّ الله بين ما صدر من رأس المنافقين وبرأ ساحة زيد، فدل ذلك أنّ إنكار المنكر والنصيحة للمسلمين غير داخل في الغيبة.

1535 - وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: قالت هِنْدُ امْرَأةُ أَبي سفْيَانَ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم: إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وَلَيْسَ يُعْطِينِي مَا يَكْفيني وولَدِي إِلاَّ مَا أَخَذْتُ مِنْهُ، وَهُوَ لا يَعْلَمُ؟ قَالَ: «خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلدَكِ بِالمَعْرُوفِ». متفق عَلَيْهِ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- أما البخل بما يجب فهذا حرام لا يجوز، ومن وقع عليه ذلك فله أن يتظلم إلى شخص يقدر أن يأخذ الحق له، فهذه هند ﵂ تظلمت عند رسول الله ﷺ فأذن لها أن تأخذ من ماله بغير علمه ما يكفيها ويكفي ولدها، لكن بالمعروف يعني لا تزيد على ذلك.
- جواز غيبة الإنسان للتظلم منه، لكن بشرط أن يكون عند من يُمكنه أخذ الحق لصحابه، وأما إذا لم يمّكنه كذلك فلا فائدة من التظلم.
- يجب على الإنسان أن ينفق على أهله، زوجته وولده، بالمعروف، حتى لو كانت الزوجة غنية.
قال ابن باز ﵀:
- قولها "شحيح" دعتها الحاجة إلى هذا، هذا من باب ذكر ما يكره، من باب الغيبة، لكنها جازت لحاجتها إلى الاستفتاء، لحاجتها أن تبين سبب استفتائها .

باب تحريم النميمة وهي نقل الكلام بَيْنَ الناس عَلَى جهة الإفساد


قَالَ الله تَعَالَى: ﴿هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَميمٍ﴾ [ن: 11] وقال تَعَالَى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: 18].

1536 - وعن حُذَيْفَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم: «لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ نَمَّامٌ ».متفق عَلَيْهِ.

1537 - وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بِقَبْرَيْنِ
فَقَالَ: «إنَّهُمَا يُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ في كَبيرٍ! بَلَى إنَّهُ كَبِيرٌ: أمَّا أَحَدُهُمَا، فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ، وأمَّا الآخَرُ فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ». متفق عَلَيْهِ. وهذا لفظ إحدى روايات البخاري.
قَالَ العلماءُ معنى: «وَمَا يُعَذَّبَانِ في كَبيرٍ» أيْ: كَبيرٍ في زَعْمِهِمَا. وقِيلَ: كَبيرٌ تَرْكُهُ عَلَيْهِمَا.
قال ابن عثيمين ﵀:
- قال بعض أهل العلم: من نم إليك الحديث نَمه منك، يعني: من نقل كلام الناس فيك فإنه ينقل كلامك أنت، فاحذره ولا تُطعه، ولاتلتفت إليه.
- في هذا دليلٌ على حُسن تعليم النبي ﷺ، حيث يأتي بالأساليب التي يكون فيها انتباه المخاطب.
قال ابن باز ﵀:
- الشاهد قوله: (أن الآخر كان يمشي بالنميمة) فيه الحذر من النميمة وأنّها من أسباب عذاب القبر مع عذاب النار، نسأل الله العافية.

1538 - وعن ابن مسعود - رضي الله عنه: أن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ مَا العَضْهُ؟ هي النَّمَيمَةُ؛ القَالَةُ بَيْنَ النَّاسِ». رواه مسلم.
«العَضْهُ»: بفتح العين المهملة، وإسكان الضاد المعجمة، وبالهاء عَلَى وزن الوجهِ، ورُوِي «العِضةُ» بكسر العين وفتح الضاد المعجمة عَلَى وزن العِدَة، وهي: الكذب والبُهتان، وعلى الرِّواية الأولى: العَضْهُ مصدرٌ يقال: عَضَهَهُ عَضهًا، أيْ: رماهُ بالعَضْهِ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- هذا من أساليب التعليم الجيد وهي أن يُلقي المعلم السؤال على المخاطبين للتنبيه؛ حتى يستثير أفهامهم ويُعطوا الكلام انتباههم.
- (العضه): من القطع والتمزيق، ومنه قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ﴾ [الحجر: 90]، يعني قِطعا وأجزاء، يؤمنون ببعضه ويكفرون ببعضه.
- فما هي العضة المفرقة للأمة الممزقة لهم، هي النميمة، أن ينقل الإنسان كلام الناس بعضهم في بعض من أجل الإفساد بينهم، وهي من كبائر الذنوب.
قال ابن باز ﵀:
- يعني ما هو السحر، أو ما هو الشر، أو ما هو القطع، يعني ما هو الشيء الضار كثيراً؟ (النميمة، القالة بين الناس)، لأنّها تعمل عمل السحر، التفريق بين الناس والشحناء والعداوة.
- فالعضة تطلق على السحر ويطلق على النميمة ويطلق على الشيء الذي لا خير فيه، فالمعنى ألا أنبئكم عن الشر الكبير أو المنكر العظيم.