باب تحريم العقوق وقطيعة الرحم


قَالَ الله تَعَالَى: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ﴾ [محمد: 22 - 23]، وَقالَ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ
عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾
[الرعد: 25]، وَقالَ تَعَالَى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء: 23 - 24].
336 - وعن أَبي بكرة نُفَيع بن الحارث - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم: «ألا أُنَبِّئُكُمْ بأكْبَرِ الكَبَائِرِ؟» -قالها ثلاثًا - قُلْنَا: بَلَى، يَا رَسُول الله، قَالَ: «الإشْرَاكُ بالله، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ»، وكان مُتَّكِئًا فَجَلَسَ، فَقَالَ: «ألاَ وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ» فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- العقوق مأخوذ من العق وهو القطع، ومنه سميت العقيقة التي تُذبح عن المولود في اليوم السابع؛ لأنها تُعَق: يعني تُقطع رقبتها عِند الذبح.
- هذا الحديث يُوجِبُ للعاقل الحذر من هذه الأمور الأربعة: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقولِ الزورِ، وشهادة الزور.
قال ابن باز ﵀:
- إنّما كرر النبي ﷺ: (ألا أنبّئكم بأكبر الكبائر؟) ثلاثاً، لينتبهوا وليستعدوا لما سيقوله.
- قال الصحابة: ليته سكت، يعني: إشفاقاً عليه لئلا يشّق على نفسه و يتعبها.

337 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الكَبَائِرُ: الإشْرَاكُ بالله، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْس، وَاليَمِينُ الغَمُوسُ». رواه البخاري.
«اليمين الغموس»: التي يحلفها كاذبًا عامدًا، سميت غموسًا؛ لأنها تغمس الحالِفَ في الإثم.
قال ابن باز ﵀:
- اليمين الغموس شرها عظيم، سميت غموساً؛ لأنها تغمس صاحبها في الإثم، ثم في النار إن لم يعف الله عنه، وهي اليمين التي يقطع بها مال أخيه بغير حق، التي يأخذ بها شيئاً بغير حق، يقال لها: يمين غموس.
- الواجب على المسلم أن يتقي الله وألا يحلف إلا بحق، وألا يستغل تفريط أخيه بعدم البينة في جحد ماله أو جحد حقه، بل يجب أن يحذر ذلك ويتقي الله حتى يُقرَّ بالحق فإن أكله بيمينه واستحله بيمينه فله هذا الوعيد، نسأل الله السلامة.

338 - وعنه أن رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مِنَ الكَبَائِر شَتْمُ الرَّجُل وَالِدَيهِ!»، قالوا: يَا رَسُولَ الله، وَهَلْ يَشْتُمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟! قَالَ: «نَعَمْ، يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أبَاه، وَيَسُبُّ أُمَّهُ، فَيَسُبُّ أُمَّهُ». مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية: «إنَّ مِنْ أَكْبَرِ الكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ!»، قِيلَ: يَا رَسُول الله، وكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيهِ؟! قَالَ: «يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ، فَيَسُبُّ أُمَّهُ».
339 - وعن أَبي محمد جبيرِ بن مطعم - رضي الله عنه: أن رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَاطِعٌ» قَالَ سفيان في روايته: يَعْنِي: قَاطِع رَحِم. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
340 - وعن أَبي عيسى المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّ اللهَ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَيْكُمْ: عُقُوقَ الأُمَّهَاتِ، وَمَنْعًا وَهَاتِ، وَوَأْدَ البَنَاتِ، وكَرِهَ لَكُمْ: قِيلَ وَقالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإضَاعَةَ المَالِ». مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .
قوله: «مَنْعًا» مَعنَاهُ: مَنْعُ مَا وَجَب عَلَيهِ، وَ «هَاتِ»: طَلَبُ مَا لَيْسَ لَهُ. وَ «وَأْد البَنَاتِ» مَعنَاهُ: دَفنُهُنَّ في الحَيَاةِ، وَ «قيلَ وَقالَ» مَعْنَاهُ: الحَديث بكُلّ مَا يَسمَعهُ، فيَقُولُ: قِيلَ كَذَا، وقَالَ فُلانٌ كَذَا مِمَّا لا يَعْلَمُ صِحَّتَهُ، وَلا يَظُنُّهَا، وَكَفَى بالمَرْءِ كذِبًا أَنْ يُحَدّثَ بكُلِّ مَا سَمِعَ. وَ «إضَاعَةُ المَال»: تَبذِيرُهُ وَصَرفُهُ في غَيْرِ الوُجُوهِ المأذُونِ فِيهَا مِنْ مَقَاصِدِ الآخِرةِ وَالدُّنْيَا، وتَرْكُ حِفظِهِ مَعَ إمكَانِ الحِفظِ. وَ «كَثْرَةُ السُّؤَال»: الإلحَاحُ فيما لاَ حَاجَة إِلَيْهِ.
وفي الباب أحاديث سبقت في الباب قبله كحديث: «وأَقْطَعُ مَنْ قَطَعَك»، وحديث: «مَنْ قَطَعني قَطَعهُ الله» .
قال ابن عثيمين ﵀:
- الشاهد من هذا الحديث قوله: (عقوق الأمهات) وهو قطع ما يجب لهن في البر، أمَّا وَأد البنات فهو دفنُهُنَّ أحياء؛ وذلك لأنهم في الجاهلية كانوا يكرهون البنات، ويقولونَ: إِنّ بقاء البنت عند الرّجل مسبّةٌ له. فكانوا، والعياذ بالله، يأتون بالبنت فيحفرون لها حفرةً ويدفنونها وهي حيّةٌ. قال الله تعالى: ‏﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ ‎بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ﴾‏ [التكوير: ٨-٩]، فحرّم اللهُ ذلك، وهو لا شك من أكبر الكبائر، وإذا كان قتل الأجنبي المُؤمن سببًا للخلود في النَّار كما قال تعالى: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ [النساء : ٩٣]، فالقرابة أشدّ وأشدّ.
- قوله: (ومنعًا وهات) يعني أن يكون الإنسان جموعًا منوعًا؛ يمنع ما يجب عليه بذله من المال، ويطلب ما ليس له، فهات: يعني أعطوني المال، ومنعا: أي: يمنع ما يجب عليه، فإنَّ هذا أيضًا مما حرّمه اللهُ ﷿؛ لأنَّه لا يجوز للإنسان أن يمنع ما يجب عليه بذله، ولا يجوز أن يسأل ما لا يستحق، فكلاهما حرام؛ ولهذا قال ﷺ: (إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَيْكُمْ .... وَمَنْعًا وهات).
- قوله ﷺ: (وكره لكم: قيل وقال)، يعني: نقل الكلام، وكثرة ما يتكلّم الإِنسان ويثرثر به، وأن يكون ليس له هم إلّا الكلام في النّاس، قالوا كذا وقيل كذا، ولا سيما إذا كان هذا في أعراض أهل العلم، وأعراض ولاة الأمور؛ فإِنّه يكون أشدّ وأشدّ كراهةٌ عند اللهِ ﷿. والإنسان المؤمن هو الذي لا يقول إلّا خيرًا كما قال النَّبِيُّ ﷺ: (من كان يُؤْمِنُ بِاللهِ واليَومِ الآخِرِ؛ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَو لِيَصْمُتُ).
- كثرة السّؤال يحتمل أن يكون المُراد السّؤال عن العلم، ويحتمل أن يكون المراد السُّؤال عن المال.
• أما الأول: وهو كثرة السؤال عن العلم فهذا إنّما يكره إذا كان الإنسان لا يريد إلّا إعنات المسؤول، والإشقاق عليه، وإدخال السامة والملل عليه، أما إذا كان يريد العلم، فإنه لا ينهى عن ذلك، ولا يكره ذلك. وقد كان عبد اللهِ بن عبّاس ﵄ كثير السؤال، فقد قيل له: بم أدركت العلم؟ قال: "أدركت العلم بلسانٍ سؤول، وقلبٍ عقول، وبدنٍ غير مَلُولٍ". لكن إذا كان قصدُ السّائل الإشقاق على المسؤول والإعنات عليه، وإلحاق السَّامة به، أو تلقّط زلّاته لعلّه يزلّ فيكون في ذلك قدح فيه، فإنّ هذا هو المكروه.
• وأما الثاني: وهو سؤال المال؛ فإِنَّ كثرة السّؤال قد تلحق الإنسان بأصحاب الشّح والطّمع؛ ولهذا لا يجوز للإنسان سؤال المال إِلَّا عند الحاجة، أو إذا كان يرى أنَّ المسؤول يمنُّ عليه أن يسأله، كما لو كان صديقا لك قوي الصداقة، أو قريبًا جدًّا، فسألته حاجةً وأنت تعرف أنَّه يكون بذلك ممنونًا، فهذا لا بأس به، أما إذا كان الأمر على خلاف ذلك؛ فلا يجوز أن تسأل إلَّا عند الضرورة.

باب فضل بر أصدقاء الأب والأم والأقارب والزوجة وسائر من يندب إكرامه


341 - عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنّ أَبَرَّ البرِّ أَنْ يَصِلَ الرَّجُلُ وُدَّ أَبيهِ».
342 - وعن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أنَّ رَجُلًا مِنَ الأعْرَابِ لَقِيَهُ بطَريق مَكَّةَ، فَسَلَّمَ عَلَيهِ عبدُ الله بْنُ عُمَرَ، وَحَمَلَهُ عَلَى حِمَارٍ كَانَ يَرْكَبُهُ، وَأَعْطَاهُ عِمَامَةً كَانَتْ عَلَى رَأسِهِ، قَالَ ابنُ دِينَار: فَقُلْنَا لَهُ: أَصْلَحَكَ اللهُ، إنَّهُمُ الأَعرَابُ وَهُمْ يَرْضَوْنَ باليَسِير، فَقَالَ عبد الله بن عمر: إنَّ أَبَا هَذَا كَانَ وُدًّا لِعُمَرَ بنِ الخطاب - رضي الله عنه - وإنِّي سَمِعتُ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إنَّ أبرَّ البِرِّ صِلَةُ الرَّجُلِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ».
وفي رواية عن ابن دينار، عن ابن عمر: أنَّهُ كَانَ إِذَا خَرَجَ إِلَى مَكّةَ كَانَ لَهُ حِمَارٌ يَتَرَوَّحُ عَلَيهِ إِذَا مَلَّ رُكُوبَ الرَّاحِلةِ، وَعِمَامَةٌ يَشُدُّ بِهَا رَأسَهُ، فَبيْنَا هُوَ يَومًا عَلَى ذلِكَ الحِمَارِ إِذْ مَرَّ بِهِ أعْرابيٌّ، فَقَالَ: ألَسْتَ فُلاَنَ بْنَ فُلاَن؟ قَالَ: بَلَى. فَأَعْطَاهُ الحِمَارَ، فَقَالَ: ارْكَبْ هَذَا، والعِمَامَةَ قالَ: اشْدُدْ بِهَا رَأسَكَ، فَقَالَ لَهُ بعضُ أصْحَابِهِ: غَفَرَ الله لَكَ أعْطَيْتَ هَذَا الأعْرَابيَّ حِمَارًا كُنْتَ تَرَوَّحُ عَلَيهِ، وعِمَامةً كُنْتَ تَشُدُّ بِهَا رَأسَكَ؟ فَقَالَ: إنِّي سَمِعتُ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إنَّ مِنْ أَبَرِّ البِرِّ صلة الرَّجُلُ أهْلَ وُدِّ أبيهِ بَعْدَ أَنْ يُولِّيَ» وَإنَّ أبَاهُ كَانَ صَديقًا لعُمَرَ - رضي الله عنه.
رَوَى هذِهِ الرواياتِ كُلَّهَا مسلم.
قال ابن عثيمين ﵀:
- في هذا الحديث دليل على امتثال الصحابة، ورغبتهم في الخير، ومسارعتهم إليه؛ لأنّ ابن عمر استفاد من هذا الحديث فائدةً عظيمة؛ فإنَّه فعل هذا الإكرام بهذا الأعرابي من أجل أنَّ أباه كان صديقًا لعمر ﵁، فما ظنك لو رأى الرَّجل الذي كان صديقاً لعمر؟ لأكرَمه أكثر وأكثر.
- يستفاد من هذا الحديث أنّه إذا كان لأبيك أو أمّك أحدٌ بينهم وبينه ود فأكرمه، كذلك إذا كان هناك نسوةٌ صديقاتٌ لأمّك؛ فأكرم هؤلاء النّسوة، وإذا كان رجال أصدقاء لأبيك؛ فأكرم هؤلاء الرّجال؛ فإنّ هذا من البر.
- في هذا الحديث: سعة رحمة اللهِ ﷿ حيث إنَّ البرَّ بابه واسعٌ لا يختصُّ بالوالد والأم فقط؛ بل حتى أصدقاء الوالد وأصدقاء الأمّ، إِذا أحسنت إليهم؛ فإنَّما بررت والديك فتثاب ثواب البار بوالديه.
- من نعمة اللهِ ﷿، أن وسّع لعباده أبواب الخير، وكثرها لهم، حتى يلِجوا فيها من كلّ جانبٍ، نسأل الله تعالى أن يجعلنا والمسلمين من البررة، إنّه جوادٌ كريم.
قال ابن باز ﵀:
- كان الرسول ﷺ يكرم صديقات خديجة ويحسن إليهن، وربما ذبح الشاة ووزعها بين صديقات خديجة، فيقول: إنّهم كانوا أصدقاء لخديجة، فالمقصود أن هذا من باب البر والإحسان للوالدين والأقارب والأصدقاء يبتغي ما عند الله من المثوبة، ويلاحظ أن يكون هذا في الله لا لأجل أطماع أخرى، إنّما هذا لله وفي الله من أقارب وأصدقاء كانوا أخلة في الله أو أحباباً في الله أو كانوا أقارب يحسن إليهم؛ لأنّهم أقارب يحتسب فيهم صلة الرحم، أو مع ذلك الفقر إذا كانوا فقراء، فيجمع بين أمرين صلة الرحم ومواساة الفقير.

343 - وعن أَبي أُسَيد - بضم الهمزة وفتح السين - مالك بن ربيعة الساعدي - رضي الله عنه - قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جَاءهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ،
فَقَالَ: يَا رسولَ اللهِ، هَلْ بَقِيَ مِنْ برِّ أَبَوَيَّ شَيءٌ أَبِرُّهُما بِهِ بَعْدَ مَوتِهمَا؟ فَقَالَ: «نَعَمْ، الصَّلاةُ عَلَيْهِمَا، والاِسْتغْفَارُ لَهُمَا، وَإنْفَاذُ عَهْدِهِمَا مِنْ بَعْدِهِما، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتي لا تُوصَلُ إلاَّ بِهِمَا، وَإكرامُ صَدِيقهمَا». رواه أَبُو داود.
قال ابن عثيمين ﵀ :
- الصلاة هنا بمعنى الدُّعاء، وهي كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةٌ تُطَهَرُهُمْ وتركهم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة: ١٠٣]، وكان النَّبِيُّ ﷺ إِذا أَتَتْهُ الصَّدَقَةُ قَالَ: اللَّهُمَّ صَلِّ على آل فلان، كما قال عبد الله بن أبي أوفى أنه أتى بصَدَقَةٍ قَوْمِهِ إِلى النَّبِيِّ ﷺ فقال: (اللَّهُمَّ صَلِّ على آل أبي أوفى)، فدعا لهم بالصلاة عليهم. فَقُولُ النَّبِيِّ ﷺ هُنا: (الصّلاة عليهما) يعني: الدعاء لهما بالصّلاة، فيقول: اللّهم صل على أبوي، أو يدعو لهم بدخول الجنة، والنّجاة من النّار، وما أشبه ذلك.
- أما قراءة القرآن لهما، أو الصّلاة، بأن يصلّي الإنسان ركعتين ويقول لوالدي، فهذا لم يأمر به النّبيّ ﷺ ولا أرشد إليه ، بل قال: (إذا مات الإِنسان انقطع عمله إلَا من ثلاثٍ: صدقةٍ جاريةٍ، أو علم ينتفع به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له)، ولم يقل : ولدٍ صالحٍ يتصدّق له، أو يصلّي له، أو يحج له، أو يعتمر له، بل قال: يدعو له، فالدُّعاء خيرٌ من العمل الصّالح للوالدين لكن لو فعل الإنسان ونوى بهذا العمل لوالديه؛ فإنَّ ذلك لا بأس به؛ لأنَّ الرسول ﷺ لم يمنع سعد بن عبادة ﵁ أن يتصدّق لأمّه بل أذن له.

344 - وعن عائشة رضي الله عنها، قَالَتْ: مَا غِرْتُ عَلَى أحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَة رضي الله عنها، وَمَا رَأيْتُهَا قَطُّ، وَلَكِنْ كَانَ يُكْثِرُ ذِكْرَهَا، وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ، ثُمَّ يقَطِّعُهَا أعْضَاء، ثُمَّ يَبْعثُهَا في صَدَائِقِ خَديجَةَ، فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ: كَأَنْ لَمْ يَكُنْ في الدُّنْيَا إلاَّ خَديجَةَ! فَيَقُولُ: «إنَّهَا كَانَتْ وَكَانَتْ وَكَانَ لي مِنْهَا وَلَدٌ». مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية: وإنْ كَانَ لَيَذْبَحُ الشَّاءَ، فَيُهْدِي في خَلاَئِلِهَا مِنْهَا مَا يَسَعُهُنَّ.
وفي رواية: كَانَ إِذَا ذبح الشاة، يقولُ: «أَرْسِلُوا بِهَا إِلَى أَصْدِقَاءِ خَديجَةَ».
وفي رواية: قَالَت: اسْتَأذَنَتْ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِد أُخْتُ خَدِيجَةَ عَلَى رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - فَعرَفَ اسْتِئذَانَ خَديجَةَ، فَارتَاحَ لِذَلِكَ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ هَالةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ».
قولُهَا: «فَارتَاحَ» هُوَ بالحاء، وفي الجمعِ بَيْنَ الصحيحين للحُميدِي : «فارتاع» بالعينِ ومعناه: اهتم بهِ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- الغيرة هو انفعال يكون في الإنسان؛ يحبُّ أن يختص صاحبه به دون غيره؛ ولهذا سميت غيرةً؛ لأنّه يكره أن يكون الغير حبيبا لحبيبه، والنّساء الضَّرَّات هنَّ أشدّ بني آدم غيرةً، وعائشة ﵂ كانت حبيبة رسول الله ﷺ ، ولم يحبُّ أحدًا مثلها في حياته بعد خديجة، وكان ﷺ يحبُّ خديجة؛ لأنّها أمّ أولاده، إلَّا إبراهيم فمن مارية، ولأنّها آزرته وساعدته في أوّل البعثة، وساوته في مالها، فلذلك كان لا ينساها.
قال ابن باز ﵀:
- من شأن الضرائر يغرن حتى ولو من زوجةٍ قبلهم طبيعة النساء.

345 - وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قَالَ: خرجت مَعَ جرير بن عبد الله البَجَليّ - رضي الله عنه - في سَفَرٍ، فَكَانَ يَخْدُمُني، فَقُلْتُ لَهُ: لاَ تَفْعَل، فَقَالَ: إِنِّي قَدْ رَأيْتُ الأنْصَارَ تَصْنَعُ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا آلَيْتُ عَلَى نَفسِي أَنْ لا أصْحَبَ أحَدًا مِنْهُمْ إلاَّ خَدَمْتُهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- هذا من إكرام من يكرم النبي ﷺ، فإكرام أصحاب الرجل إكرام للرجل، واحترامهم احترام له، ولهذا جعل ﵁ إكرام هؤلاء من إكرام النبي ﷺ.
قال ابن باز ﵀:
- كان جرير يخدم أَنسًا؛ لأنَّ أنسًا كان خادم النبي ﷺ، فهذا يدل على أن خدمة الأحباب والأقرباء والأصدقاء خدمة للمحبوب، إذا خدمت حبيب أبيك وأمك وخليلهما وصديقهما فهو خدمة لهما.
- وهكذا الترضي عن أصحاب النبي ﷺ ومحبتهم والوفاء لهم، هي من الوفاء للنبي ﷺ ومن محبة النبي ﷺ، محبة أصحابه والترضي عنهم ومعرفة منازلهم وأقدارهم هو في الحقيقة أيضاً خدمة للنبي ﷺ؛ لأنهم أحبابه وأولياؤه وأنصاره ﵃ وأرضاهم جميعاً.
- وهكذا أنصار أهل العلم في كل زمان ومكان، أنصار العلم النافع. أنصار الخير ودعاة الحق وأعوانهم المنفقون عليهم، ويساعدونهم في الحق، يجب أن يخدموا ويحبوا لأعمالهم الطيبة كما فعل التابعون مع الصحابة، وكما فعل العلماء مع الأخبار في الأمة من الخدمة والتنويه بذكرهم والعناية بهم ومساعدتهم على أعمالهم، في ذات الله وفي سبيل الله.