باب فضل الحب في الله والحث عَلَيهِ وإعلام الرجل من يحبه، أنه يحبه، وماذا يقول لَهُ إِذَا أعلمه


قَالَ الله تَعَالَى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح: 29] إِلَى آخر السورة، وَقالَ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ﴾ [الحشر: 9].
375 - وعن أنسٍ - رضي الله عنه - عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاوَةَ الإيمانِ: أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سَوَاهُمَا، وَأنْ يُحِبَّ المَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إلاَّ للهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ في الكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ الله مِنْهُ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ في النَّارِ». مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- قال أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ولم يقل: ثم رسوله؛ لأن المحبة لرسول الله عليه الصلاة والسلام تابعة ونابعة من محبة الله ﷿.
- الإنسان يحب الرسول بقدر ما يحب الله، كلما كان لله أحب؛ كان للرسول ﷺ أحب، لكن مع الأسف أن بعض الناس يحب الرسول مع الله ولا يحب الرسول لله، انتبهوا لهذا الفرق. يحب الرسول مع الله ولا يحب الرسول لله. كيف؟ تجده يحب الرسول أكثر من محبته لله، وهذا نوع من الشرك. أنت تحب الرسول لله؛ لكن هؤلاء الذين غلوا في الرسول ﷺ، يحبون الرسول مع الله لا يحبونه لله، أي يجعلونه شريكاً لله في المحبة؛ بل أعظم من محبة الله. تجده إذا ذكر الرسول ﷺ اقشعر جلده من المحبة والتعظيم، لكن إذا ذكر الله فإذا هو بارد لا يتأثر. هل هذه محبة نافعة للإنسان؟ لا تنفعه، هذه محبة شركية، عليك أن تحب الله ورسوله، وأن تكون محبتك للرسول ﷺ نابعة من محبة الله وتابعة لمحبة الله.
- من أكره على الكفر فكفر ظاهراً لا باطناً، بل قلبه مطمئن بالإيمان، فهذا لا يضره لقوله تعالى: ﴿مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌﱠ﴾ [النحل: 106].
قال ابن باز ﵀:
- يجب على المؤمن أن يحب في الله ويبغض في الله ويعادي في الله ويوالي في الله، يرجو ثواب الله ويخشى عقابه، هكذا المؤمن أين ما كان؛ فالحب في الله من أهم واجبات الإيمان ومن أوثق عرى الإيمان.

376 - وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إلاَّ ظِلُّهُ: إمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌّ نَشَأ في عِبَادَةِ الله - عز وجل - وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ في المَسَاجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابّا في اللهِ اجْتَمَعَا عَلَيهِ وتَفَرَّقَا عَلَيهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأةٌ ذَاتُ منصب وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إنِّي أخَافُ الله، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ، فَأخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ الله خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ». مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- ليس المراد بالسبعة العدد، يعني أنهم سبعة أنفار فقط، ولكنهم سبعة أصناف؛ لأنهم قد يكونون عدداً لا يحصيهم إلا الله ﷿.
- مسألة ضل فيها كثير من الجهال، وهي قوله: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) حيث توهموا جهلاً منهم أن هذا هو ظل الله نفسه، وأن الله تعالى يظلهم من الشمس بذاته ﷿، وهذا فهم خاطئ منكر، يقوله بعض المتعالمين الذين يقولون: إن مذهب أهل السنة إجراء النصوص على ظاهرها فيقال أين الظاهر؟! وأين يكون ظاهر الحديث وأن الرب ﷿ يظلهم من الشمس. فمعنى (يوم لا ظل إلا ظله) أو (يظلهم الله في ظله) يعني الظل الذي لا يقدر أحد عليه في ذلك الوقت؛ لأنه في ذلك الوقت لا بناء يبنى، ولا شجر يغرس، ولا رمال تقام، ولا أحجار تصفف، ولا شيء من هذا. قال الله ﷿: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا ‎٥‏ فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا﴾ [طه: 105، 106]، ولا يظل الخلائق من الشمس شيء، لا بناء ولا شجر، ولا حجر، ولا غير ذلك. لكن الله ﷿ يخلق شيئاً يظلل به من شاء من عباده، يوم لا ظل إلا ظله، هذا هو معنى الحديث، ولا يجوز أن يكون له معنى سوى هذا.
- قوله: (اجتمعا عليه وتفرقا عليه) يعني اجتمعا عليه في الدنيا وبقيت المحبة بينهما حتى فرق بينهما الموت تفرقا وهما على ذلك، وفي هذا إشارة إلى أن المتحابين في الله لا يقطع محبتهم في الله شيء من أمور الدنيا، وإنما هم متحابون في الله لا يفرقهم إلا الموت، حتى لو أن بعضهم أخطأ على بعض، أو قصر في حق بعض، فإن هذا لا يهمهم؛ لأنه إنما أحبه لله ﷿، ولكنه يصحح خطأه ويبين تقصيره؛ لأنه هذا من تمام النصيحة، فنسأل الله أن يجعلنا والمسلمين من المتحابين فيه، المتعاونين على البر والتقوى إنه جواد كريم.
قال ابن باز ﵀:
- موجب المحبة أن تأمره بالخير، وأن تنهاه بالخير، وأن تناه عن الشر، وأن تنصح له شهد أو غاب هذا موجب المحبة.

377 - وعنه، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله تَعَالَى يَقُول يَوْمَ القِيَامَةِ: أيْنَ المُتَحَابُّونَ بِجَلالِي؟ اليَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لاَ ظِلَّ إلاَّ ظِلِّي». رواه مسلم.
378 - وعنه، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم: «والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لا تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أوَلاَ أدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلامَ بينكم». رواه مسلم.
قال ابن عثيمين ﵀ :
- ففي هذا دليل على أن المحبة من كمال الإيمان، وأنه لا يكمل إيمان العبد حتى يحب أخاه، وأن من أسباب المحبة أن يفشي الإنسان السلام بين إخوانه، أي يظهره ويعلنه، ويسلم على من لقيه من المؤمنين، سواء عرفه أو لم يعرفه، فإن هذا من أسباب المحبة، ولذلك إذا مر بك رجل وسلم عليك أحببته، وإذا أعرض؛ كرهته ولو كان أقرب الناس إليك.

379 - وعنه، عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم: «أنَّ رَجُلًا زَارَ أخًا لَهُ في قَرْيَةٍ أخْرَى، فَأرصَدَ اللهُ تعالى عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا ... » وذكر الحديث إِلَى قوله: «إنَّ الله قَدْ أحبَّكَ كَمَا أحْبَبْتَهُ فِيهِ». رواه مسلم، وقد سبق بالباب قبله.
قال ابن باز ﵀:
- من أسباب محبة الله العبد أن يحب في الله ويبغض في الله، وأن يوالي في الله ويعادي في الله، ويعطي لله ويمنع لله، هكذا المؤمن تصرفاته مقيدة بشرع الله إن فعل بشرع الله، وإن ترك بشرع الله، وذلك من كمال الإيمان وكمال التقوى، كمال العلم بالله والبصيرة .

380 - وعن البرَاءِ بن عازب رضي الله عنهما، عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ قَالَ في الأنصار: «لاَ يُحِبُّهُمْ إلاَّ مُؤمِنٌ، وَلاَ يُبْغِضُهُمْ إلاَّ مُنَافِقٌ، مَنْ أَحَبَّهُمْ أَحَبَّهُ اللهُ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أَبْغَضَهُ الله». مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
381 - وعن معاذ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «قَالَ الله - عز وجل: المُتَحَابُّونَ فِي جَلالِي، لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ يَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ». رواه الترمذي، وَقالَ: «حديث حسن صحيح».
382 - وعن أَبي إدريس الخولاني رحمه الله، قَالَ: دخَلْتُ مَسْجِدَ دِمَشْقَ، فَإذَا فَتًى بَرَّاق الثَّنَايَا وَإِذَا النَّاسُ مَعَهُ، فَإِذَا اخْتَلَفُوا في شَيْءٍ، أَسْنَدُوهُ إِلَيْه، وَصَدَرُوا عَنْ رَأيِهِ، فَسَأَلْتُ عَنْهُ، فَقيلَ: هَذَا مُعَاذُ بْنُ جَبَل - رضي الله عنه. فَلَمَّا كَانَ مِنَ الغَدِ، هَجَّرْتُ، فَوَجَدْتُهُ قَدْ سَبَقَنِي بالتَّهْجِيرِ، ووَجَدْتُهُ يُصَلِّي، فانْتَظَرتُهُ حَتَّى قَضَى صَلاتَهُ، ثُمَّ جِئْتُهُ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيهِ، ثُمَّ قُلْتُ: وَاللهِ إنّي لأَحِبُّكَ لِله، فَقَالَ: آلله؟ فَقُلْتُ: اللهِ، فَقَالَ: آللهِ؟ فَقُلْتُ: اللهِ، فَأَخَذَنِي بِحَبْوَةِ رِدَائِي، فجبذني إِلَيْهِ، فَقَالَ: أَبْشِرْ! فإنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «قَالَ الله تَعَالَى: وَجَبَتْ مَحَبَّتي لِلْمُتَحابِّين فِيَّ، وَالمُتَجَالِسينَ فيَّ، وَالمُتَزَاوِرِينَ فيَّ، وَالمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ». حديث حسن صحيح رواه مالك في الموطأ بإسناده الصحيح.
قوله: «هَجَّرْتُ» أيْ بَكَّرْتُ، وَهُوَ بتشديد الجيم قوله: «آلله فَقُلْت: الله» الأول بهمزة ممدودة للاستفهام، والثاني بلا مد.
قال ابن باز ﵀:
- ينبغي للمؤمن أن يكون له نصيب من هذا وأن يكون من المتحابين في الله مع إخوانه المتزوارين المتباذلين والبذل العطاء، يعني يعطي لله ويمنع لله ويزور أخاه في الله ويجالسه لله ويحبه لله، هذا هو المقصود لا لأجل نسب أو قرابة أو صداقة خاصة في الدنيا، ولكن يكون الباعث هو الحب في الله، هذا له بركته العظيمة وفضله الكبير، ويدل على صفاء الإيمان وقوة الإيمان والرغبة فيما عند الله ﷿.

383 - وعن أَبي كَرِيمَةَ المقدام بن معدي كرب - رضي الله عنه - عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِذَا أَحَبَّ الرَّجُلُ أَخَاهُ، فَليُخْبِرْهُ أَنَّهُ يُحِبُّهُ». رواه أَبُو داود والترمذي، وَقالَ: «حديث حسن صحيح».
384 - وعن معاذ - رضي الله عنه-: أن رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيدهِ، وَقالَ: «يَا مُعَاذُ، وَاللهِ، إنِّي لأُحِبُّكَ، ثُمَّ أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ، لاَ تَدَعَنَّ في دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ». حديث صحيح، رواه أَبُو داود والنسائي بإسناد صحيح.
385 - وعن أنس - رضي الله عنه: أنَّ رَجُلًا كَانَ عِنْدَ النَّبيِّ، - صلى الله عليه وسلم - فَمَرَّ رَجُلٌ بِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، أنِّي لأُحِبُّ هَذَا، فَقَالَ لَهُ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم: «أأعْلَمْتَهُ؟» قَالَ: لاَ. قَالَ: «أَعْلِمْهُ»، فَلَحِقَهُ، فَقَالَ: إنِّي أُحِبُّكَ في الله، فَقَالَ: أَحَبَّكَ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي لَهُ. رواه أَبُو داود بإسناد صحيح.
قال ابن عثيمين ﵀:
- قال له (أأعلمته) فدل هذا على أنه منه السنة إذا أحببت شخصاً أن تقول: إني أحبك، وذلك لما في هذه الكلمة من إلقاء المحبة في قلبه؛ لأن الإنسان إذا علم أنك تحبه أحبك مع أن القلوب لها تعارف وتآلف وإن لم تنطق الألسن، وكما قال النبي ﷺ: (الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف) لكن إذا قال الإنسان بلسانه؛ فإن هذا يزيده محبة في القلب فتقول: إني أحبك في الله.
قال ابن باز ﵀:
- إذا أحب أحدكم أخاه في الله فليعلمه؛ أي فليخبره أنه يحثه لما تقدم أنه يزيد في المودة ويقوي أسبابها ويعين على التكاتف، والتعاون في الخير، هكذا ينبغي للمؤمن.