باب التحذير من إيذاء الصالحين والضعفة والمساكين


قَالَ الله تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ [الأحزاب: 58]، وَقالَ تَعَالَى: ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ﴾ [الضحى: 9 - 10].
وأما الأحاديث، فكثيرة مِنْهَا:
حديث أَبي هريرة - رضي الله عنه - في الباب قبل هَذَا: «مَنْ عَادَى لِي وَليًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ».
ومنها حديث سعد بن أَبي وقاص - رضي الله عنه - السابق في باب ملاطفة اليتيم، وقوله صلى الله عليه وسلم: «يَا أَبَا بَكْرٍ، لَئِنْ كُنْتَ أَغْضَبْتَهُمْ لَقَدْ أَغْضَبْتَ رَبَّكَ».
389 - وعن جندب بن عبد الله - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَلَّى صَلاةَ الصُّبْحِ، فَهُوَ في ذِمَّةِ اللهِ، فَلاَ يَطْلُبَنَّكُمُ اللهُ مِنْ ذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ، فَإنَّهُ مَنْ يَطْلُبُهُ مِنْ ذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ يُدْرِكْهُ، ثُمَّ يَكُبُّهُ عَلَى وَجْهِهِ في نَارِ جَهَنَّمَ». رواه مسلم.

باب إجراء أحكام الناس عَلَى الظاهر وسرائرهم إِلَى الله تَعَالَى


قَالَ الله تَعَالَى: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُم﴾ [التوبة: 5].
390 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إلهَ إلاَّ الله، وَأنَّ مُحَمَّدًا رَسُول الله، وَيُقيمُوا الصَّلاةَ، وَيُؤتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلاَّ بحَقِّ الإسْلاَمِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى الله تَعَالَى». مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
391 - وعن أَبي عبدِ الله طارِق بن أشَيْم - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «مَنْ قالَ لاَ إلهَ إلاَّ الله، وَكَفَرَ بمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ، حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ، وَحِسَابُهُ عَلَى الله تَعَالَى». رواه مسلم.
392 - وعن أَبي معبد المقداد بن الأسْود - رضي الله عنه - قَالَ: قُلْتُ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم: أرَأيْتَ إنْ لَقِيتُ رَجُلًا مِنَ الكُفَّارِ، فَاقْتتَلْنَا، فَضَرَبَ إحْدَى يَدَيَّ بِالسَّيْفِ، فَقَطَعَها، ثُمَّ لاَذَ مِنِّي بِشَجَرَةٍ، فَقَالَ: أَسْلَمْتُ لِلهِ، أَأَقْتُلُهُ يَا رَسُول الله بَعْدَ أَنْ قَالَهَا؟ فَقَالَ: «لاَ تَقْتُلهُ» فَقُلْتُ: يَا رَسُول الله، قَطَعَ إحْدَى يَدَيَّ، ثُمَّ قَالَ ذلِكَ بَعْدَ مَا قَطَعَهَا؟! فَقَالَ: «لَا تَقتُلْهُ، فَإِنْ قَتَلْتَهُ فَإنَّهُ بِمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ، وَإنَّكَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ التي قَالَ». مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
ومعنى «أنه بمنزلتك» أي: معصوم الدم محكوم بإسلامه. ومعنى «أنك بمنزلته» أي: مباح الدمِ بالقصاص لورثتهِ لا أنه بمنزلته في الكفر، والله أعلم.
قال ابن عثيمين ﵀:
- اعلم أنّ العبرة في الدنيا بما في الظواهر؛ اللسان والجوارح، وأنّ العبرة في الآخرة بما في السرائر بالقلب.
- العمل بالظواهر؛ فإذا شهد إنسان أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة؛ عُصم دمه وماله، وحسابه على الله؛ فليس لنا إلا الظاهر.
وكذلك أيضاً من قال لا إله إلا الله؛ حرم دمه وماله، هكذا قال النبي ﷺ.
قال ابن باز ﵀:
- الأحاديث الثلاثة كلها تدل على وجوب حمل الناس على ما ظهر منهم، وأن يؤخذوا بما ظهر منهم، وأن يعاملوا بما ظهر منهم من أعمال وأقوال، وأما قلوبهم فإلى الله ﷿.
- من أظهر الإسلام قُبل منه الإسلام وحقن دمه وماله، ولو اتهم بالنفاق ولو اتهم بغرض آخر، فالأمر معلق بالظاهر؛ لقوله تعالى: ﴿فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ﴾ أي: لا تقتلوهم.

393 - وعن أُسَامة بن زيدٍ رضي الله عنهما، قَالَ: بعثنا رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الْحُرَقَةِ مِنْ جُهَيْنَةَ فَصَبَّحْنَا القَوْمَ عَلَى مِيَاهِهِمْ، وَلَحقْتُ أنَا وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ رَجُلًا مِنْهُمْ، فَلَمَّا غَشَيْنَاهُ، قَالَ: لاَ إلهَ إلاَّ الله، فَكفَّ عَنْهُ الأَنْصَاري، وطَعَنْتُهُ برُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا، بَلَغَ ذلِكَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ لِي: «يَا أُسَامَة، أقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ: لا إلهَ إلاَّ اللهُ؟!» قُلْتُ: يَا رَسُول الله، إِنَّمَا كَانَ متعوِّذًا، فَقَالَ: «أقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ: لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ؟!» فما زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذلِكَ اليَوْمِ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية: فَقَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم: «أَقَالَ: لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ وقَتَلْتَهُ؟!» قُلْتُ: يَا رَسُول الله، إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِن السِّلاحِ، قَالَ: «أَفَلاَ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أمْ لاَ؟!» فمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عليّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أنِّي أسْلَمْتُ يَوْمَئذٍ.
«الحُرَقَةُ» بضم الحاءِ المهملة وفتح الراءِ: بَطْنٌ مِنْ جُهَيْنَةَ: القَبِيلةُ المَعْرُوفَةُ. وقوله: «مُتَعَوِّذًا»: أيْ مُعْتَصِمًا بِهَا مِنَ القَتْلِ لاَ معْتَقِدًا لَهَا.
قال ابن عثيمين ﵀:
- يقول أسامةُ ﵁ حتَى تمنيت أنّي لم أكن أسلمت قبل هذا اليوم؛ لأنَّه لو كان كافراً ثمّ أسلم عفا الله عنه، لكن الآن فعل هذا الفعل وهو مسلم، فهذا مشكل جدا على أسامة.
مع العلم بأنّ الذي يغلب على الظنّ ما فهمه أسامة؛ أنّه قالها متعوّذاً من القتل، يستجير بها من القتل، لكن مع ذلك إذا قال لا إله إلّا الله انتهى الأمر، ويجب الكفّ عنه، ويعصمُ بذلك دمه وماله، وإن كان قالها متعوذاً أو قالها نفاقًا، فحسابه على الله.
قال ابن باز ﵀:
- المقصود أنّ من أظهر الإسلام يكف عنه حتى ولو في حال القتال ولو بين الصفين، وهذا كله مما يدل على أنه ينبغي الترغيب في الإسلام وينبغي حث الناس على الإسلام، والكف عنهم إذا أظهروه ترغيباً لهم في الإسلام، ليس المقصود قتالهم، المقصود دعوتهم إلى الله، المقصود إخراجهم من الظلمات إلى النور، فإذا أظهروا الإسلام وجب الكف عنهم سواء كان قبل القتال أو في حال القتال، وإنما يكف عمن قال : لا إله إلا الله إذا كان لا يقولها قبل ذلك؛ كعباد الأوثان في عهد النبي ﷺ لا يقولونها، إذا قالوها فهو علامة إسلامهم، أما كفار اليوم يقولونها وهم كفار وهم يعبدون غير الله، فلا يكف عنهم إلا إذا قالوا : تبنا إلى الله من ذلك، أو رجعنا عما نحن عليه من تعلق بالقبور وعبادة الأوثان، حتى يصرحوا بشيء يدل على توبتهم مما هم فيه.

394 - وعن جندب بن عبد الله - رضي الله عنه: أنَّ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ بَعْثًا مِنَ المُسْلِمينَ إِلَى قَومٍ مِنَ المُشرِكينَ، وَأنَّهُمْ التَقَوْا، فَكَانَ رَجُلٌ مِنَ المُشْركينَ إِذَا شَاءَ أَنْ يَقْصِدَ إِلَى رَجُل مِنَ المُسْلِمينَ قَصَدَ لَهُ فَقَتَلَهُ، وَأنَّ رَجُلًا مِنَ المُسْلِمِينَ قَصَدَ غَفْلَتَهُ. وَكُنَّا نتحَدَّثُ أنَّهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، فَلَمَّا رَفَعَ عَلَيهِ السَّيفَ، قَالَ: لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ، فَقَتَلهُ، فَجَاءَ البَشيرُ إِلَى رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - فَسَألَهُ وَأخبَرَهُ، حَتَّى أخْبَرَهُ خَبَرَ الرَّجُلِ كَيْفَ صَنَعَ، فَدَعَاهُ فَسَألَهُ، فَقَالَ: «لِمَ قَتَلْتَهُ؟» فَقَالَ: يَا رَسُول اللهِ، أوْجَعَ في المُسلِمِينَ، وَقَتَلَ فُلانًا وفلانًا، وسمى لَهُ نَفرًا، وَإنِّي حَمَلْتُ عَلَيهِ، فَلَمَّا رَأى السَّيفَ، قَالَ: لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ. قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم: «أَقَتَلْتَهُ؟» قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَكَيفَ تَصْنَعُ بلاَ إلهَ إلاَّ اللهُ، إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ القِيَامَةِ؟» قَالَ: يَا رَسُول الله، اسْتَغْفِرْ لِي. قَالَ: «وكَيفَ تَصْنَعُ بِلا إلهَ إلاَّ الله إِذَا جَاءتْ يَوْمَ القِيَامَةِ؟» فَجَعَلَ لاَ يَزِيدُ عَلَى أَنْ يَقُولَ: «كَيفَ تَصْنَعُ بِلاَ إلهَ إلاَّ الله إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ القِيَامَةِ». رواه مسلم.
395 - وعن عبد الله بن عتبة بن مسعود، قَالَ: سَمِعْتُ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقولُ: إنَّ نَاسًا كَانُوا يُؤْخَذُونَ بِالوَحْيِ في عَهْدِ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - وَإنَّ الوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ، وإِنَّمَا نَأخُذُكُمُ الآن بما ظَهَرَ لَنَا مِنْ أعمَالِكُمْ، فَمَنْ أظْهَرَ لَنَا خَيْرًا أَمَّنَّاهُ وَقَرَّبْنَاهُ، وَلَيْسَ لَنَا مِنْ سَرِيرَتِهِ شَيْءٌ، اللهُ يُحَاسِبُهُ فِي سَرِيرَتِهِ، وَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا سُوءًا لَمْ نَأْمَنْهُ وَلَمْ نُصَدِّقْهُ وَإنْ قَالَ: إنَّ سَرِيرَتَهُ حَسَنَةٌ. رواه البخاري.
قال ابن عثيمين ﵀:
- الحكمة من ذكرهم بالأوصاف دون الأعيانِ؛ أن ذلك يكون للعموم، يعني لكل من اتصف بهذه الصفات، مثل قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ‎ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ ﴾‏ [التوبة: 75-76]، ومثل قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أَعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ﴾ [التوبة: ٥٨]، ومثل قوله: ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَوَعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ﴾ [التوبة: ٧٩]. وهذا كثير في سورة التّوبة التي سماها بعض السلف: الفاضحة؛ لأنَّهَا فضحت المنافقين. لكن لما انقطع الوحي صارَ الناس لا يعلمون من الْمنافق؛ لأنَّ النفاق في القلبِ والعياذ بالله.
- يقول ﵁ من أظهر لنا خيرًا؛ أخَذْناه بما أظهر لنا، وإن أسر سريرة، يعني: سيئة، ومن أظهر لنا شرًا، فإِنَّنا نأخذه بشَرّه ولو أضمر ضميرةً طيبةً؛ لأننا نحن لا نكلَّفُ إِلَّا بِالظاهر، وهذا من نعمة اللهِ سبحانه وتعالى عَلينا؛ ألا نحكم إلا بالظاهر؛ لأنَّ الحكم على الباطن من الأمور الشاقة، والله ﷿ لا يكلف نفسا إلا وسعها.
فمن أبدى خيراً؛ عاملناه بخيره الذي أبداه لنا، ومن أبدى شرًا؛ عَاملناه بشرّه الذي أبداه لنا، وليس لنا من نيته مَسؤولية، النية موكولة إلى رب العالمينَ ﷿، الذي يَعلم ما توسوس به نفس الإنسان.