باب فضل الزهد في الدنيا والحث عَلَى التقلل منها وفضل الفقر


قَالَ الله تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ والأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيهَا أتَاهَا أمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [يونس: 24]، وقال تَعَالَى: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا المَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الحَياةِ الْدُّنْيَا وَالبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾ [الكهف: 45 - 46]، وقال تَعَالَى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَياةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ في الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أعْجَبَ الْكُفّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذابٌ شَديدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ الله ورِضْوَانٌ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ﴾ [الحديد: 20]، وقال تَعَالَى: ﴿زُيِّنَ لِلْنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالبَنِينَ وَالقَنَاطِيرِ المُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَالْخَيْلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَياةِ الْدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ المآبِ﴾ [آل عمران: 14]، وقال تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحَياةُ الْدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الغَرُورُ﴾ [فاطر: 5]، وقال تَعَالَى: ﴿ألْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ المَقَابِرَ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ﴾ [التكاثر: 1 - 5]، وقال تَعَالَى: ﴿وَمَا هذِهِ الحَياةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت: 64] والآيات في الباب كثيرة مشهورة.
وأما الأحاديث فأكثر مِنْ أن تحصر فننبِّهُ بطرف منها عَلَى مَا سواه.
456 - عن عمرو بن عوف الأنصاري - رضي الله عنه: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ أَبَا عبيدة بنَ الجَرَّاح - رضي الله عنه - إِلَى الْبَحْرَيْنِ يَأتِي بِجِزْيَتِهَا، فَقَدِمَ بمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ، فَسَمِعَتِ الأَنْصَارُ بقُدُومِ أَبي عُبيْدَةَ، فَوَافَوْا صَلاَةَ الفَجْرِ مَعَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا صَلَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - انْصَرفَ، فَتَعَرَّضُوا لَهُ، فَتَبَسَّمَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حِيْنَ رَآهُمْ، ثُمَّ قَالَ: «أَظُنُّكُمْ سَمِعْتُمْ أنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدِمَ بِشَيْءٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ؟» فقالوا: أجل، يَا رسول الله، فقال: «أبْشِرُوا وَأَمِّلْوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوالله مَا الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلكِنِّي أخْشَى أَنْ تُبْسَط الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، فَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أهْلَكَتْهُمْ». متفقٌ عَلَيْهِ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- الفقر قد يكونُ خيرًا للإنسان، كما جاء في الحديث القدسي الذي يُروى عن النَّبِيِّ ﷺ أَنَّ اللهَ قال: (إنّ من عبادي من لو أغنيته لأفسده الغنى)، يعني: أطغاه وأضله وصدّه عن الآخرة، والعِياذُ باللهِ، ففسد، (وإنّ من عبادي من لو أفقرته لأفسده الفقر).
- قال النبي ﷺ: (ما الفقر أخشى عليكم) يعني: لا أخشى عليكم من الفقر؛ لأنّ الفقير في الغالب أقرب إلى الحق من الغني. وانظروا إلى الرسل ﵈؛ من الذي يكذبهم؟ يكذبهم الملأ الأشرار الأغنياء، وأكثر من يتبعهم الفقراء، حتى النبي ﷺ أكثر من يتبعه الفقراء. فالفقر لا يُخشى منه، بل الذي يُخشى منه أن تبسط الدُّنيا عليهم، كما قال النبي ﷺ: (أخشى أن تبسط عليكم)، يعني كما بسطت على من كانوا قبلنا، (فتهلككم كما أهلكتهم).
قال ابن باز ﵀:
- الفقر أقل خطر، الإنسان مع الفقر قد يصبر قد يكتفي بالقليل، لكن متى بسط عليه الدنيا قد لا يصبر؛ بل يستعين بها على معاصي الله ومخالفة أمره، قد يقع بسببها فيما حرم الله: ‎﴿كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى ‎٦‏ أَن رآه اسْتَغنى﴾ [العلق: ٦-٧]. قال بعض السلف: "ابتلينا بالضراء فصبرنا؛ يعني الفقر وابتلينا بالسراء فلم نصبر"، الإنسان مع النعمة ومع القدرة قد يقع في الذنوب والمعاصي ولا يصبر، في الزني والخمور وسائر الفواحش، والربا وغير ذلك، لكن مع الفقر قد يعان على الصبر؛ ولهذا قال ﷺ: (فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط الدّنيا عليكم، كما بسطت على من كان قبلَكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم) فالإنسان يخشى عليه من المال أكثر مما يخشى عليه من الفقر، قد يصبر مع الفقر، ولكن ما يصبر مع الغنى عن ركوب محارم الله وعن تعدي حدوده بسبب ما أعطاه الله من المال، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فينبغي للمؤمن أن يحرص على أسباب النجاة والا تغره الدنيا وزينتها ومتاعها العاجل، وأن يستعين بها على طاعة الله إذا رزق منها شيئاً، وأن يكون حذراً من أسباب الهلاك حريصاً على أسباب النجاة حتى يلقى ربه.

457 - وعن أَبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قَالَ: جلس رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْمِنْبَرِ، وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ، فقال: «إنَّ ممَّا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا». متفقٌ عَلَيْهِ.
قال ابن باز ﵀:
- هنا يقول الرسول ﷺ لما خطب الناس، قال: (إنّ ممّا أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرةِ الدّنيا وزينتها)، لأنّ النفوس مجبولة على حب هذه الدنيا وزينتها والتمتع بلذاتها، فربما جر العبد ذلك إلى أن يستعين بها على ما يسخط الله، وأن يستعين بها على ترك ما أوجب الله فيخسر الدنيا والآخرة، فالواجب أن تكون خادماً للآخرة ومطية للآخرة، وأن يستعان بها على طاعة الله؛ ولهذا جاء في الحديث : (نعم المال الصّالح للمرء الصّالح يقول به هكذا وهكذا)، ينفقه في وجوه الخير.

458 - وعنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَإنَّ الله تَعَالَى مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ». رواه مسلم.
قال ابن عثيمين ﵀:
- إذا أغنى الله الإنسان، وصارَ غناه عونا له على طاعة الله، ينفق ماله في الحق، وفي سَبيلِ اللهِ؛ صارت الدنيا خيرا. ولهذا كان رجل الدنيا الذي ينفق ماله في سبيل الله، وفي مرضاة الله ﷿، صار ثاني اثنين بالنسبة للعالم الذي آتاه الله الحكمة والعلم وصار يعلم الناس. فهناك فرق بين الذي ينهمك في الدنيا ويعرض عن الآخرة، وبين الذي يغنيه الله، ويكون غناه سببا للسعادة والإنفاق في سبيل الله ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ‎﴾، [البقرة: 201].
قال ابن باز ﵀:
- حذر النبي ﷺ من الركون للدنيا وفتنتها ومن فتنة النساء أيضاً، فهما فتنتان عظيمتان، الافتتان بالدنيا وزينتها والافتتان بالنساء. فالواجب على المؤمن الحذر من هذا وهذا، فهو لا بأس أن يكسب الدنيا، بل مأمور أن يكسب الدنيا وأن يعمل لتحصيل ما يعين على طاعة الله وما يغني عن الحاجة إلى الناس، وما يقوم به على أهله وأولاده، مأمور بهذا، وأن ينفق مما أعطاه الله لكن يحذر أن يشتغل بها عن الآخرة وأن تصده عن الآخرة، قَالَ تَعَالَى: ﴿كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ‎٢٠ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ﴾ [سورة القيامة: 20-21]. فالمذموم من استعان بها على عدم الإعداد للآخرة وفُتن بها حتى شغلته عن أسباب النجاة، أما من استعان بها على طاعة الله وأخذها من طريقها الحلال فهو على طريق النجاة وعلى خير. وهكذا النساء قد يفتتن الإنسان بذلك فيقع في الفواحش التي حرم الله من أسباب الافتتان بالنساء، ولهذا قال ﷺ: (ما تركت بعدي فتنةً أضرّ على الرّجال من النّساء) لما جعله الله في قلوب الرجال من الميل إلى النساء، وفي قلوب النساء من الميل إلى الرجال، وبذلك حصل التناكح وحصلت الذرية، فالمؤمن يقتصر على ما أباح الله، ومن غر بالدنيا وشهواتها وزينتها، ومن ضعف إيمانه فتعدى الحدود إلى ما حرم الله فالرسول ﷺ يحذر من ذلك غاية الحذر، عليه الصلاة والسلام، فيدعوهم إلى أن يستعان بنعم الله على طاعة الله، وأن يحذر المؤمن أن يفتن بهذه أو هذه بالدنيا أو بالنساء.

459 - وعن أنس - رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «اللَّهُمَّ لاَ عَيْشَ إِلاَّ عَيْشُ الآخِرَةِ». متفقٌ عَلَيْهِ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- العيشة الهنيئة الراضية الباقية هو عيش الآخرة، أما الدنيا فإنه مهما طاب عيشها فمآلها للفناء، وإذا لم يصحبها عمل صالح فإنها خسارة.
قال ابن باز ﵀:
- لا عيش حقيقي إلا عيش الآخرة، الدنيا فيها عيش لكنه زائل ليس بحقيقي؛ لأنه زائل متاع قليل، ولكن العيش الحقيقي المقيم الثابت الدائم هو عيش الآخرة، هو العيش الذي ينبغي أن يسعى لها ويعمل المؤمن لتحصيله لدار الكرامة، أما عيش هذه الدنيا فهو زائل مهما ملك منه العبد وما تحصل عليه، فالمال إلى الزوال، إما أن يزول هو ويدعه لمن خلفه، وإما أن تزول عنه في حياته؛ ولهذا قال سبحانه: ﴿أرضيتُم بالحيوة الدُّنْيا من الآخِرَةِ فَمَا مَتّاعُ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قليل﴾ [سورة التوبة: ۳۸]. هذه الدار متاع قليل، كما قال تعالى: ﴿قُلْ مَتّاعُ الدُّنْيَا قليلٌ والآخرةُ خيرٌ لِمْنِ اتقَى﴾ [سورة النساء: ٧٧]، ولو عُمِّر فيها الإنسان ألف عام فمتاعها قليل بالنسبة إلى حياة الآخرة؛ لأنها أبدية لا تنتهي، أما هذه الحياة فهي منتهية مهما طالت ولا بد من الموت، فهي جديرة بألا تؤثر على الآخرة جديرة بأن يستعان بها على الحياة الصحيحة الأبدية في دار النعيم.

460 - وعنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلاَثَةٌ: أهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ: فَيَرْجِعُ اثْنَانِ، وَيَبْقَى وَاحِدٌ: يَرْجِعُ أهْلُهُ وَمَالُهُ وَيبْقَى عَمَلُهُ». متفقٌ عَلَيْهِ.
قال ابن باز ﵀:
- يرجع الأهل والمال ويبقى العمل؛ يعني غالب الأموات لهم أتباع وأهل وأقارب من آباء وإخوة وغير ذلك، فإذا تبعوه للصلاة والدفن، فبعد ذلك يرجعون يتركونه وحده بعمله، وهكذا ما يتبعه من مال من شيء يحمل عليه من ماله من غطاء يغطى به وأدوات يحفرون بها، هذه الأموال التي تبعته ترجع ويبقى عمله معه، هذا العمل هو الذي ينبغي أن تحرص عليه هو الذي يبقى معك، أما الدنيا لا تبقى معك ترجع للورثة، فجدير بك أن تحرص على هذا الذي يبقى معك، وأن تجتهد في صلاحه، وأن يكون قريناً طيباً، فإن العمل يتبع العبد حين يرافقه، يقول: يأتي عمله إن كان مؤمناً جاءه في أحسن صورة، فيقول: أبشر بالذي يسرك، فيقول: من أنت ووجهك الوجه الذي يأتي بالخير، من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح، والكافر بعكس ذلك يأتي عمله السيئ في أقبح صورة ويقول له: أبشر بالذي يسوؤك، فيقول: من أنت ووجهك الوجه الذي يأتي بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث. فالمؤمن يجتهد في الإعداد للعمل الصالح والحرص على تقوى الله وطاعته لعله ينجو ولعله يسلم، ولكن لا يمنعه هذا من أخذ نصيبه من الدنيا وطلبه الدنيا من طريق الحلال لكنه لا تشغله عن الآخرة.

461 - وعنه، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيُصْبَغُ في النَّارِ صَبْغَةً ، ثُمَّ يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لاَ وَاللهِ يَا رَبِّ، وَيُؤْتَى بِأشَدِّ النَّاسِ بُؤسًا في الدُّنْيَا مِنْ أهْلِ الجَنَّةِ، فَيُصْبَغُ صَبْغَةً في الجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأيْتَ بُؤسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فيَقُولُ: لاَ وَاللهِ، مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ، وَلاَ رَأيْتُ شِدَّةً قَطُّ». رواه مسلم.
قال ابن باز ﵀:
- ينسى المؤمن ما أصابه في الدنيا من شدة وبؤس وفقر وحاجة بسبب ما رأى من النعيم في دار الكرامة، فجدير بالمؤمن أن يحرص على فعل الخير، وأن يجتهد في طلب الآخرة بالعمل الصالح والسعي فيما ينفعه وما يقربه إلى الله ويرضيه عنه. أما هذه الدار فمتاع زائل والسعيد فيها من استعملها في طاعة الله واجتهد في إنفاقها في وجوه الخير، وأخذها من وجهها وصرفها في وجهها هذا هو السعيد، والعبد مسؤول يوم القيامة عن جسمه فيم أبلاه، وعن شبابه فيم أفناه، وعن علمه ماذا عمل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، فهذه مسؤولية كبيرة وعظيمة، فالواجب الإعداد لهذا السؤال العظيم.

462 - وعن المُسْتَوْرِد بن شَدَّاد - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ أُصْبُعَهُ في اليَمِّ ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ. رواه مسلم.
قال ابن باز ﵀:
- قال رسولُ اللَّه ﷺ: (ما الدّنيا في الآخرة إلاّ مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليمّ فلينظر بم يرجع) يعني: في البحر فينظر بم يرجع، لا يرجع بشيء لا يعلق بها شيء كما يدخل أحدنا أصبعه في البحر ثم يرفعها ماذا يعلق بها من البحر، لا شيء فالدنيا لا قيمة لها بالنسبة للآخرة؛ لأن الآخرة نعيمها لا يفنى مطرد دائم، وأما هذه الدار فنعيمها مؤقت وإن عشت ألف عام فأنت منته منها متنقل عنها، كيف وبقاؤك فيها مدة يسيرة ستين عاماً سبعين عاماً ثمانين عاماً إن عشت ثم تنتقل إلى دار الجزاء إما الجنة وإما النار. رزق الله الجميع التوفيق والهداية.

463 - وعن جابر - رضي الله عنه: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ بالسُّوقِ وَالنَّاسُ كَنَفَتَيْهِ، فَمَرَّ بِجَدْيٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ، فَتَنَاوَلَهُ فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ، ثُمَّ قَالَ: «أَيُّكُم يُحِبُّ أَنْ هَذَا لَهُ بِدرْهَم؟» فقالوا: مَا نُحِبُّ أنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ وَمَا نَصْنَعُ بِهِ؟ ثُمَّ قَالَ: «أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ؟» قَالُوا: وَاللهِ لَوْ كَانَ حَيًّا كَانَ عَيْبًا، إنَّهُ أسَكُّ فَكَيْفَ وَهُوَ ميِّتٌ! فقال: «فوَاللهِ للدُّنْيَا أهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ». رواه مسلم.
قوله: «كَنَفَتَيْهِ» أيْ: عن جانبيه. وَ «الأَسَكُّ»: الصغير الأذُن.
قال ابن عثيمين ﵀:
- النبيَّ ﷺ مر في السوق بجدي أَسَكَ. والجدي من صغار الماعز، وهو أسَكُ: أي: مقطوع الأذنين، فأخذه النبي ﷺ وقال: (هل أحدٌ منكم يريده بدرهم؟)، قالوا: يا رسول الله، ما نريده بشيءٍ. قال: (هل أحدٌ منكم يودّ أن يكون له؟ قالوا: لا. قال: (إنّ الدّنيا أهون عند اللَّه تعالى من هذا الجدي). فهذا جدي ميت لا يُساوي شيئًا، ومع ذلك فالدُّنيا أهون وأحقر عند الله تعالى من هذا الجدي الأسك الميت، فهي ليست بشيءٍ عند الله، ولكن من عمل فيها عملا صالحا؛ صارت مزرعة له في الآخرة، ونال فيها السعادتين: سعادة الدنيا وسعادة الآخرة. أما من غفل وتهاون ومضت الأيام عليه وهو لم يعمل؛ فإنَّه يخسرُ الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْخَسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيِّمَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ [الزمر: ١٥]، وقال تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر: ١-٣]، وكل بني آدم خاسر إلا هؤلاء الذين جمعوا هذا الأوصاف الأربعة: آمنوا، وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصَّبِرِ. جعلنا الله وإياكم منهم.

464 - وعن أَبي ذر - رضي الله عنه - قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - في حَرَّةٍ بِالمَدِينَةِ، فَاسْتَقْبَلَنَا أُحُدٌ، فقال: «يَا أَبَا ذَرٍّ» قلت: لَبَّيْكَ يَا رسولَ الله. فقال: «مَا يَسُرُّنِي أنَّ عِنْدِي مِثْلَ أُحُدٍ هَذَا ذَهَبًا تَمْضي عَلَيَّ ثَلاَثَةُ أيّامٍ وَعِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ، إِلاَّ شَيْءٌ أرْصُدُهُ لِدَيْنٍ، إِلاَّ أَنْ أقُولَ بِهِ في عِبَادِ الله هكذا وَهَكَذَا وَهكَذَا» عن يَمِينِهِ وعن شِمَالِهِ وَمِنْ خَلْفِهِ، ثُمَّ سَارَ، فقال: «إنَّ الأَكْثَرينَ هُمُ الأَقَلُّونَ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلاَّ مَنْ قَالَ هكَذَا وَهكَذَا وَهكَذَا» عن يمينِهِ وعن شِمَالِهِ وِمنْ خَلْفِهِ «وَقَلِيلٌ مَاهُمُ». ثُمَّ قَالَ لي: «مَكَانَكَ لاَ تَبْرَحْ حَتَّى آتِيكَ» ثُمَّ انْطَلَقَ في سَوادِ اللَّيْلِ حَتَّى تَوَارَى، فَسَمِعْتُ صَوتًا، قَدِ ارْتَفَع، فَتَخَوَّفْتُ أَنْ يَكُونَ أحَدٌ عَرَضَ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأرَدْتُ أَنْ آتِيهِ فَذَكَرتُ قَوْله: «لا تَبْرَحْ حَتَّى آتِيَكَ» فلم أبْرَحْ حَتَّى أتَاني، فَقُلْتُ: لَقَدْ سَمِعْتُ صَوتًا تَخَوَّفْتُ مِنْهُ، فَذَكَرْتُ لَهُ، فقال: «وَهَلْ سَمِعْتَهُ؟» قلت: نَعَمْ، قَالَ: «ذَاكَ جِبريلُ أتَانِي. فقال: مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِكَ لاَ يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ»، قلت: وَإنْ زَنَى وَإنْ سَرَقَ؟ قَالَ: «وَإنْ زَنَى وَإنْ سَرَقَ». متفقٌ عَلَيْهِ ، وهذا لفظ البخاري.
465 - وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا، لَسَرَّنِي أَنْ لاَ تَمُرَّ عَلَيَّ ثَلاَثُ لَيالٍ وَعِنْدِي مِنْهُ شَيْءٌ إِلاَّ شَيْءٌ أرْصُدُهُ لِدَيْنٍ». متفقٌ عَلَيْهِ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- هذا يدل على أَنَّ النبي ﷺ أزهد الناس في الدنيا؛ لأنّه لا يريد أن يجمع المال إلا شيئا يرصده لدين، وقد توفي ﷺ ودرعه مرهونة عند يهودي في شعير أخذه لأهله. ولو كانت الدُّنيا محبوبة إلى اللهِ ﷿ ما حرم منها نبيَّهُ ﷺ: (فالدّنيا ملعونةٌ ملعون ما فيها إلّا ذكر الله، وما والاه، وعالماً ومتعلماً) وما يكون في طاعة الله ﷿.
- (إنّ المكثرين هم المقلون يوم القيامة) يعني: المكثرون من الدُّنيا هم المقلون من الأعمال الصالحة يوم القيامة؛ وذلك لأن الغالب على من كثر ماله في الدُّنيا الغالب عليه الاستغناء والتكبر والإعراض عن طاعة الله؛ لأن الدنيا تلهيه، فيكون مكثرا في الدنيا مقلا في الآخرة.
- (أنّ من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنّة وإن زنى وإن سرق)، وهذا لا يعني أنّ الزنا والسَّرقة سهلة، بل هي صعبة؛ ولهذا استعظمها أبو ذَر وقال: وإن زنى وإن سرق؟ قال: (وإن زنى وإن سرق). وذلك لأن من مات على الإيمان وعليه معاص من كبائر الذُّنوب؛ فإنّ الله يقول: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ﴾ [النساء: 49-٤٨]. قد يعفو الله عنه ولا يعاقبه، وقد يُعاقبه، ولكن إن عاقبه فمآله إلى الجنّة؛ لأنّ كل من كان لا يشرك بالله ولم يأت شيئا مكفرا؛ فإن مآله إلى الجنة. أمّا مَن أتَى مُكفرا كالذي لا يُصلي، والعياذ بالله، فهذا مخلد فِي النَّارِ؛ الذي لا يصلي كافر مرتد مخلد في نار جهنم، حتى لو قال: أشهد أن لا إله إلّا اللّه وأشهد أنّ محمّدًا رسول الله، وآمنت بالله وآمنت باليوم الآخر وهو لا يصلي، فإنّه مرتد.
قال ابن باز ﵀:
- يقول: (هكذا وهكذا وهكذا) في وجوه البر وأعمال الخير، فالمال نعمة، المال الصالح للرجل الصالح الذي ينفقه فيه هكذا وهكذا؛ أي: ينفقه في وجوه الخير؛ ولهذا قال ﷺ: (إنّ الأكثرين هم الأقلّون يوم القيامة إلّا من قال بالمال هكذا وهكذا وهكذا) يعني: إلا من قال به (هكذا وهكذا وهكذا) في وجوه الخير وأعمال البر والصرف فيما يرضي الله ويقرب لديه، وإلا فإنه يضره، ترك الزكاة وترك ما أوجب الله فيه، فأما إذا أنفق ما أوجب الله وأمسك ما أباح الله فإنه لا يضره ذلك.

466 - وعنه، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أسْفَلُ مِنْكُمْ وَلاَ تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ؛ فَهُوَ أجْدَرُ أَنْ لاَ تَزْدَرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ». متفقٌ عَلَيْهِ، وهذا لفظ مسلم.
وفي رواية البخاري: «إِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ في المَالِ وَالخَلْقِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أسْفَل مِنْهُ».
قال ابن باز﵀ :
- ينبغي للمؤمن إذا رأى من فوقه في المال أو في الخلق أو في الوظيفة أو نحو ذلك أن ينظر إلى من دونه حتى يعرف قدر نعمة الله عليه، وحتى لا يزدري نعمة الله عليه، ولهذا قال ﷺ: (انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم) أي: في الدنيا هو أجدر؛ يعني: أحرى ألّا تزدروا نعمة اللَّه عليكم الا تستقلوها تحتقروها، وفي اللفظ الآخر: (إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق) يعني في الجمال ونحوه (فلينظر إلى من هو أسفل منه). حتى يعرف قدر نعمة الله عليه، فما من فقير إلا هناك من هو أفقر منه، وما من دميم إلا هناك من هو أكثر منه دمامة وأشد، فلينظر إلى من دونه حتى يعرف أنه في نعمة، وأن الله قد أنعم عليه بنعمة، وأنه قد كفاه شيئاً هو أضر به لو أصيب به، وهذا عام في كل شيء في المال في الخلق في السمع، في البصر، في الأولاد، في الثروة، في غير ذلك مما يُبتلى به الناس حتى يعرف قدر نعمة الله عليه أنه أعطاه أشياء ما أعطاها آخرين.

467 - وعنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَالدِّرْهَمِ، وَالقَطِيفَةِ ، وَالخَمِيصَةِ، إنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ». رواه البخاري.
قال ابن باز ﵀:
- دعا النبي ﷺ عليه بالتعاسة وهو تعسير الأمور لكونهم عبدوا هذه الأمور الدنيوية وذلوا لها، وغضبوا لها ورضوا لها، فصارت كآلهة لهم إن أعطوا منها رضوا ولو يغير حق وإن لم يعطوا منها سخطوا، ولو أنهم منعوا بحق فهم عبيد لها يرضون لها ويسخطون لها، فلهذا استحقوا الذم (تعس عبد الدّينار تعس عبد الدّرهم تعس عبد الخميصة تعس عبد الخميلة)
- المقصود من هذا: الحث على تعليق القلوب بالله والرضا لرضاه والغضب لغضبه، وأن يقطع تعلق قلبه بالدنيا، التعلق الذي يصده عن الآخرة ويشغله في الدنيا يرضى لها ويغضب لها فما جاءه من رزق فهو من الله وعليه أن يحرص على أسبابه الطيبة المباحة، وما صرف عنه فلله الحكمة وقد يكون خيراً له.

468 - وعنه - رضي الله عنه - قَالَ: لَقَدْ رَأيْتُ سَبعِينَ مِنْ أهْلِ الصُّفَّةِ، مَا منهُمْ رَجُلٌ عَلَيْهِ رِدَاءٌ: إمَّا إزارٌ، وَإمَّا كِسَاءٌ، قَدْ رَبَطُوا في أعنَاقِهِمْ، فَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ نِصْفَ السَّاقَيْن، وَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ الكَعْبَيْنِ، فَيَجْمَعُهُ بِيَدِهِ كَراهِيَةَ أَنْ تُرَى عَوْرَتُهُ. رواه البخاري.
قال ابن باز ﵀:
- حديث فقراء المسلمين من المهاجرين، في المدينة أصابهم شدة وحاجة كبيرة بعد الهجرة من بلادهم مكة وغيرها، حتى قال الصحابة: رأيت سبعين منهم ليس لهم أردية ما عليهم إلا الأزر من شدة الحاجة لا قمص ولا أردية، أزر ربطوها على أنفسهم منها ما يبلغ نصف الساق ومنها ما يصل الكعب، قد عجزوا عن الرداء الذي يضعونه على أكتافهم، وإن طال ربطوا أطرافها على الكتف، صبروا وما ضرهم نجحوا وأفلحوا ورزقهم الله الدنيا بعد ذلك، وفتحوا الفتوحات وكسروا كسرى وملكوا قصور قيصر وملكوا الدنيا وملكوا العبيد، ورزقوا من المال الكثير بعد الفقر والحاجة، صبروا قليلاً وأفلحوا كثيراً، هكذا المؤمن يجب عليه الصبر على الشدائد، وأن يسعى لتفريج الكروب والأخذ بالأسباب فقد وعده الله خيراً، وعده الله الفرج ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ‎٢ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾[الطلاق: ٣-٢] ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾‏ [الطلاق: 4].
- يجب الصبر لو كانت الدنيا تحصل للناس على هواهم ما بقي فقير في الدنيا، لا بد من صبر واحتساب والأخذ بالأسباب وسؤال الله التوفيق والهداية، ويعلم أن لله حكماً في غنى هذا وفقر هذا، وفي تسهيل هذا ومنع هذا إلى غير ذلك إن ربك حكيم عليم.

469 - وعنه، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ، وَجَنَّةُ الكَافِرِ». رواه مسلم.
قال ابن باز ﵀:
- في هذا الحديث يقول ﷺ: (الدّنيا سجن المؤمن، وجنّة الكافر) معنى كونها سجن المؤمن؛ لأن المؤمن ممنوع من أشياء ومحلول له أشياء، وليس مطلق الحرية في كل ما يريد، أما الكافر فلا يبالي بما فعل من محرمات، ومن تعاطي الشهوات التي تضره ولا تنفعه، إلى غير مما هو يتعاطاه من غير قيود ولا وقوف عند حدود الله ولا مراقبة الله، أما المؤمن فهو محدود مأمور بما يصلحه ممنوع مما يضره، فسجن المؤمن من هذا الاعتبار يعني: ليس له مطلق الحرية فيما يريد، بل هو قد خصص الله له الأشياء التي تناسبه وتنفعه ومنعه مما يضره، فأمره بالرغائب وترك المحارم والوقوف عند حدود الله، وفيما شرعه الله له الخير والبركة والعافية الحميدة، بخلاف الكافر فإنه لا يبالي وليس عنده التزام بشرع الله فهو كالمطلق الذي ليس في سجن بل يعمل ما يشاء، أما المؤمن فهو محدود معروف ما يأتي وما يذر، فهو سجن له من هذا الاعتبار، وفي يوم القيامة له النعيم المقيم والخير الكثير وما تشتهيه نفسه وما تلذذ عينه، وليس هناك ممنوع؛ بل هو في نعيم يتقلب وفي خير كثير كلما أراد من الخيرات وجد ذلك، قال تعالى: ‎﴿وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ﴾ [النحل:57]‏ ‎﴿وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ﴾ [يس:57]‏.

470 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قَالَ: أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بِمَنْكِبَيَّ، فقال: «كُنْ في الدُّنْيَا كَأنَّكَ غَرِيبٌ، أَو عَابِرُ سَبيلٍ».
وَكَانَ ابن عُمَرَ رضي الله عنهما، يقول: إِذَا أمْسَيتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ المَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ. رواه البخاري.
قالوا في شَرْحِ هَذَا الحديث معناه: لاَ تَرْكَنْ إِلَى الدُّنْيَا وَلاَ تَتَّخِذْهَا وَطَنًا، وَلاَ تُحَدِّثْ نَفْسَكَ بِطُولِ البَقَاءِ فِيهَا، وَلاَ بِالاعْتِنَاءِ بِهَا، وَلاَ تَتَعَلَّقْ مِنْهَا إِلاَّ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْغَريبُ في غَيْرِ وَطَنِهِ، وَلاَ تَشْتَغِلْ فِيهَا بِمَا لاَ يَشْتَغِلُ بِهِ الغَرِيبُ الَّذِي يُريدُ الذَّهَابَ إِلَى أهْلِهِ، وَبِاللهِ التَّوْفِيقُ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- أخذ النبي بمنكبه من أجل أن يستعد لما يلقيه عليه فيتنبه فقال: (كن في الدّنيا كأنّك غريبٌ، أو عابر سبيلٍ)، يحتمل أن هذا من باب الشك، أي الراوي شك هل قال رسول الله الأول أو الثاني. ويحتمل أنه من باب التنويع يعني: كن كالغريب الذي يداخل الناس ولا يهتم بالناس، ولا يعرف بين الناس، أو كأنك عابر سبيل تريد أن تأخذ ما تحتاجه في سفرك وأنت ماش.
- ينبغي للإنسان أن يقيس ما يستقبل من عمره بما مضى؛ فالّذي مضى كأنّه لا شيء، حتى (أمسُك) الأدنى، كأنّك لم تمر به، أو كأنّه حلم، وكذلك فما يُستقبل من دنياك، فهو كالذي تقدم؛ ولهذا لا ينبغي الركون إلى الدنيا ولا الرضا بها؛ وكأنّ الإنسان مخلدٌ فيها.
قال ابن باز ﵀:
- من فائدة هذا الحديث: أن تكون هكذا أن تقرب الأجل وتحذر الركون إلى الدنيا وطول الأمل، وأن تأخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك، وهكذا من غناك لفقرك، ومن فراغك لشغلك، ومن صحتك لسقمك لمرضك، حتى تكون أوقاتك معمورة بالخير وترك الشر، كما أن الغريب وعابر السبيل هكذا، إنما يهتم بما يوصله إلى وطنه ويعينه على قطع المسافة فيتزود لذلك بما يعينه على السلامة في الطريق، هكذا المؤمن مسافر في هذا الدار، يقطع مراحل كل يوم، يقطع مراحل كل ليلة، يقطع مراحل، بل كل ساعة، يقطع مراحل توصله إلى أجله وتوصله إلى مصيره إما جنة وإما النار، هكذا الإنسان في هذه الدار سائر مسافر والساعات والدقائق والثواني والأيام والليالي كلها مراحل كل مرحلة تقربه إلى أجله، تقربه من مصيره.
نسأل الله التوفيق والهداية.