باب فضل البكاء من خشية الله تَعَالَى وشوقًا إِليه


قَالَ الله تَعَالَى: ﴿وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزيدُهُمْ خُشُوعًا﴾ [الإسراء: 109]، وقال تَعَالَى: ﴿أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ﴾ [النجم: 59].
446 - وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ لِي النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم: «اقْرَأْ عليَّ القُرْآنَ» قلت: يَا رسول اللهِ، أقرأُ عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟! قَالَ: «إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أسْمَعَهُ مِنْ غَيرِي» فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سورةَ النِّسَاءِ، حَتَّى جِئْتُ إِلى هذِهِ الآية: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هؤُلاءِ شَهيدًا﴾ [النساء: 41] قَالَ: «حَسْبُكَ الآنَ» فَالَتَفَتُّ إِلَيْهِ فإذا عَيْنَاهُ تَذْرِفَان. متفقٌ عَلَيْهِ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- البكاء من خشية الله إما خوفاً منه وإما شوقاً إليه تبارك وتعالى، فإذا كان البكاء من معصية فعلها الإنسان؛ فهذا البكاء سببه الخوف من الله ﷿، وإذا كان عن طاعة فعلها، كان هذا البكاء شوقاً إلى الله سبحانه وتعالى.
- القرآن أعظم واعظ، يعظ الله به القلوب، لكنه إذا ورد على قلوب كالحجارة والعياذ بالله؛ فإنها لا تلين ولكنها تزداد صلابة، نسأل الله العافية.
- وفيه إشارة إلى أنّ الإنسان قد يكون إنصاته لقراءة غيره أخشع لقلبه مما لو قرأ هو، وهو كذلك أحياناً، فأحياناً إذا سمعت القرآن من غيرك خشعت وبكيت، لكن لو قرأته أنت خشعت على هذه الهيئة.
- الشهداء طائفتان من الناس: الطائفة الأولى: الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، كما قال تعالى: ﴿وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾.
الثانية: أهل العلم الذين ورثوا الأنبياء، فإنهم شهداء بعد أن يموت الأنبياء، فالشهداء على الخلق هم العلماء بعد الرسل، يشهدون بأن الرسل بلغوا، ويشهدون على الأمة بأن الرسالة قد بلغتهم، ويالها من ميزة عظيمة لأهل العلم، أن يكونوا هم شهداء الله في أرضه.
- يبكي ﷺ خوفاً من هذه الحالة الرهيبة العظيمة، ففي هذا دليل على البكاء من قراءة القرآن.
قال ابن باز ﵀:
- الحثُّ على البكاء من خشية الله تعالى، والحرص على أسباب ذلك: بالتَّدبر، والتَّعقُّل، وتذكر الآخرة، وتذكر موقف الحساب يوم القيامة، وتذكر الجنة والنار، كل هذه أسباب لخشية الله، والبكاء من خشيته.
- الإنسان إذا أصغى للموعظة؛ أو عند القراءة، تدبَّر الآيات، وما دلَّت عليه كان هذا من أسباب الخشوع، ومن أسباب البكاء من خشية الله تعالى.

447 - وعن أنس - رضي الله عنه - قَالَ: خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خُطْبَةً مَا سَمِعْتُ مِثْلَهَا قَطُّ، فقال: «لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أعْلَمُ، لَضَحِكْتُمْ قَليلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا» قَالَ: فَغَطَّى أصْحَابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وُجُوهَهُمْ، وَلَهُمْ خَنِينٌ. متفقٌ عَلَيْهِ. وَسَبقَ بَيَانُهُ في بَابِ الخَوْفِ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- (لو تعلمون ما أعلم) من حقائق الأمور التي أخفاها الله عنكم وعلمها الرسول ﷺ لكنه أخفاها عن الخلق رحمة بهم وعلمها النبي ﷺ ولكنه لم يؤمر بإبلاغها للناس، وقد يكون المراد بذلك حقائق ما أخبره أنه يعلم شيئاً من الحقائق لا يعلمها الناس، فالله أعلم، والمراد التحذير مما علمه ﷺ.
- (ولهم خنين) يبكون ﵃ وأرضاهم، وهذا يدل على كمال إيمانهم، وكمال تصديقهم بما أخبر به الرسول ﷺ.

448 - وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «لا يَلِجُ النَّارَ رَجُلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللهِ حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ في الضَّرْعِ، وَلاَ يَجْتَمِعُ غُبَارٌ في سبيلِ اللهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ». رواه الترمذي، وقال: «حديثٌ حَسنٌ صحيحٌ».
449 - وعنه، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ: إمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالمَسَاجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابّا في الله اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقال: إنِّي أَخَافُ الله، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُه مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ الله خَالِيًا ففاضت عَيْنَاهُ». متفقٌ عَلَيْهِ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- المراد بالظل هنا: ظل يخلقه الله ﷿ يوم القيامة يظلل فيه من شاء من عباده، وليس المراد ظل نفسه ﷿؛ لأن الله نور السموات والأرض، ولا يمكن أن يكون الله ظلاً من الشمس، فتكون الشمس فوقه وهو بينها وبين الخلق، لأنه لا يمكن أن يكون الله ﷿ تحت شيء من مخلوقاته، فهو العلي الأعلى، ثم هو نور السموات والأرض، وبعض الناس لا يدري ما يترتب على قوله الذي يقوله في تفسير كلام الله وكلام رسوله ﷺ، ولا يمكن أن يريد الرسول عليه الصلاة والسلام هذا. والصواب أنّه ظل يخلقه الله ﷿ في ذلك اليوم؛ إما من الغمام أو من غير ذلك، الله أعلم، لكنه ظل يستر الله به من شاء من عباده حر الشمس.
- إذا ذكرت الله فاذكر ربك خالي القلب، لا تفكر في شيء، إن فكرت في شيء لم يحصل لك أن تبكي من خشية الله أو الشوق إليه؛ لأنه لا يمكن أن يبكي الإنسان وقلبه مشغول بشيء آخر، خالي القلب مما سوى الله ﷿، خالي الجسم أيضاً، ليس عنده أحد حتى يكون بكاؤه رياء وسمعة، فهو مخلص القلب، فهذا أيضاً ممن يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
قال ابن باز ﵀:
- الحثُّ على البكاء من خشية الله، وذلك بالإصغاء، والتَّدبر للمواعظ، لما في ذلك من التَّأسِّي بالصَّالحين، ولما في ذلك من رجاء المغفرة من الله، ووعده سبحانه بدخول الجنة، والنَّجاة من النار، وأن يكون من السبعة الذين يُظلُّهم الله في ظلِّه.
- (ورجل ذكر الله خالياً) هذا الشاهد، ذكر الله، وذكر عظمتَه، ما عنده أحد، فليس رياءً، ففاضت عيناه خوفًا من الله، وتعظيماً لله، ففي هذا الحثّ على البكاء من خشية الله، وتعاطي أسباب ذلك.

450 - وعن عبد الله بن الشِّخِّير - رضي الله عنه - قَالَ: أتيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُصَلِّي ولِجَوْفِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ المِرْجَلِ مِنَ البُكَاءِ.
حديث صحيح رواه أَبو داود والترمذي في الشمائل بإسناد صحيح.
قال ابن عثيمين ﵀:
- أزيز صدر النبي ﷺ كان من خَشية الله بلا شك، فهذا بكاء من خشية الله تعالى.
قال ابن باز ﵀:
- النبي ﷺ خير الناس، وغفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، ومع هذا يبكي من خشية الله، وإذا قيل له في مثل هذا يقول: (أفلا أكون عبدًا شكورا).

451 - وعن أنس - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأُبَي بن كعب - رضي الله عنه: «إنَّ الله - عز وجل - أَمَرَنِي أَنْ أقْرَأَ عَلَيْكَ: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَروا ... ﴾ قَالَ: وَسَمَّانِي؟ قَالَ: «نَعَمْ» فَبَكَى أُبَيٌّ. متفقٌ عَلَيْهِ.
وفي رواية: فَجَعَلَ أُبَيٌّ يَبْكِي.
قال ابن عثيمين ﵀:
- هذا البكاء يحتمل أن يكون شوقاً إلى الله ﷿؛ لأن أمر نبيه ﷺ أن يقرأ هذه السورة على أُبي تدل على رفعة أُبي بن كعب ﵁، ويحتمل أن يكون ذلك من الفرح؛ فإن الإنسان ربما يبكي إذا فرح، كما أنه يبكي إذا حزن.
قال ابن باز ﵀:
- في هذا فضلٌ لأُبيّ ومنقبةٌ عظيمةٌ له ﵁ وأرضاه.

452 - وعنه، قَالَ: قَالَ أَبو بكر لِعُمَرَ، رَضِيَ اللهُ عنهما، بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم: انْطَلِقْ بِنَا إِلى أُمِّ أيْمَنَ رضي الله عنها نَزورُهَا، كَمَا كَانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَزُورُها، فَلَمَّا انْتَهَيَا إِلَيْهَا بَكَتْ، فقالا لها: مَا يُبْكِيكِ؟ أمَا تَعْلَمِينَ أنَّ مَا عِنْدَ الله تَعَالَى خَيرٌ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم! قالت: مَا أبْكِي أَنْ لاَ أَكُونَ أَعْلَمُ أنَّ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَلكِنِّي أبكِي أَنَّ الْوَحْيَ قَد انْقَطَعَ مِنَ السَّمَاءِ؛ فَهَيَّجَتْهُما عَلَى البُكَاءِ، فَجَعَلا يَبْكِيَانِ مَعَهَا. رواه مسلم، وقد سبق في بابِ زِيارَةِ أهلِ الخَيْرِ.
453 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قَالَ: لَمَّا اشْتَدَّ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَجَعُهُ، قِيلَ له في الصَّلاَةِ، فقال: «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ» فقالت عائشة رضي الله عنها: إنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ رَقِيقٌ، إِذَا قَرَأَ القُرْآنَ غَلَبَهُ البُكَاءُ، فقال: «مُرُوهُ فَليُصَلِّ».
وفي رواية عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: قلت: إنَّ أَبَا بَكْرٍ إِذَا قَامَ مَقَامَكَ لَمْ يُسْمِعِ النَّاسَ مِنَ البُكَاءِ. متفقٌ عَلَيْهِ.
454 - وعن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف: أنَّ عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - أُتِيَ بطعام وكان صائِمًا، فقال: قُتِلَ مُصْعَبُ بن عُمَيْر - رضي الله عنه - وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي، فَلَمْ يوجَدْ له مَا يُكَفَّنُ فيهِ إِلاَّ بُرْدَةٌ إنْ غُطِّيَ بِهَا رَأْسُهُ بَدَتْ رِجْلاهُ؛ وَإنْ غُطِّيَ بِهَا رِجْلاَهُ بَدَا رَأْسُهُ، ثُمَّ بُسِطَ لَنَا مِنَ الدُّنْيَا مَا بُسِطَ - أَو قَالَ: أُعْطِينَا مِنَ الدُّنْيَا مَا أُعْطِينَا - قَدْ خَشِينا أَنْ تَكُونَ حَسَنَاتُنَا عُجِّلَتْ لَنَا، ثُمَّ جَعَلَ يَبكِي حَتَّى تَرَكَ الطعَام. رواه البخاري.
قال ابن عثيمين ﵀:
- ذكر المؤلف ﵀ أحاديث تدل على البكاء على الحزن على ما مضى، منها حديث أم أيمن رضي الله عنها، وحديث عبد الرحمن بن عوف ﵁ تذكر ما كان عليه الصحابة الأولون، فخشي ﵁ أن تكون حسناتهم قد عجلت لهم في هذه الدنيا، فبكى خوفاً وفرقاً، ثم ترك الطعام ﵁ ففي هذا دليلٌ على البكاء من خشية الله ومخافة عقابه.
- (قد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا)، الكافر يجزى على حسناته في الدنيا، وله في الآخرة عذاب النار، والمؤمن قد يجزى في الدنيا وفي الآخرة، لكن جزاء الآخرة هو الأهم.
قال ابن باز ﵀:
- البكاء من خشية الله من صفات الأخيار، ومن صفات عباد الله الصَّالحين، فإنَّ الصديق أفضل عباد الله، وخير عباد الله بعد الأنبياء، وهو صديق هذه الأمة، وأفضل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وكان إذا قرأ القرآنَ لا يكاد يُسْمِع الناسَ من البكاء ﵁ وأرضاه. وهكذا قصة عبد الرحمن بن عوف ﵁ وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، لما قُدِّم له الطعام للفطور وهو صائم، تذكَّر حالهم السَّابقة، وحالهم الأخيرة، ثم جعل يبكي، وترك الطعام، وهكذا كان الأخيار عند سماع المواعظ والتذكير، تخشع قلوبُهم، وتدمع عيونُهم.
- في هذا التَّزاور في المحبة لله ﷿، والبكاء من خشية الله ﷿ وزيارة أهل الخير محبةً في الله جلَّ وعلا.

455 - وعن أَبي أُمَامَة صُدَيِّ بن عجلان الباهلي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَيْسَ شَيْءٌ أحَبَّ إِلى اللهِ تَعَالَى مِنْ قطْرَتَيْنِ وَأثَرَيْنِ: قَطَرَةُ دُمُوع مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، وَقَطَرَةُ دَمٍ تُهَرَاقُ في سَبيلِ اللهِ. وَأَمَّا الأَثَرَانِ: فَأَثَرٌ في سَبيلِ اللهِ تَعَالَى، وَأَثَرٌ في فَريضةٍ مِنْ فَرائِضِ الله تَعَالَى». رواه الترمذي، وقال: «حديثٌ حسنٌ».
وفي الباب أحاديث كثيرة منها:
456- حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه - قَالَ: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَوعظةً وَجلَتْ منها القُلُوبُ، وذرفت منها الْعُيُونُ. وقد سبق في باب النهي عن البدع
قال ابن باز ﵀:
- جدير بالمؤمن أن يتأسَّى بالأخيار، وأن يحرص على البكاء من خشية الله ﷿ يرجو ثواب ربه، ويخشى عقابه، لا رياء، ولا سمعة، بل يبكي خوفًا من الله، ورغبةً فيما عند الله، والعناية بالجهاد في سبيل الله، والصلاة في الجماعة في مساجد الله ﷿.
- ينبغي للمؤمن أن تكون له عنايةٌ بهذا عند قراءة القرآن، وعند ذكر الآخرة، والجنة والنار كما كان السلفُ ﵃.