باب وجوب طاعة ولاة الأمر في غير معصية وتحريم طاعتهم في المعصية


قَالَ الله تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 59].
662 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «عَلَى المَرْءِ الْمُسْلِمِ السَّمْعُ والطَّاعَةُ فِيمَا أَحَبَّ وكَرِهَ، إِلاَّ أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيةٍ، فَإذَا أُمِرَ بِمَعْصِيةٍ فَلاَ سَمْعَ وَلاَ طَاعَةَ». متفقٌ عَلَيْهِ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- لو قلنا: إنّنا لا نطيعهم إلا فيما أمرنا الله به لم يكن بينهم وبين غيرهم فرق، كل إنسان يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر فإنه يطاع؛ بل نحن قد أمرنا بطاعتهم فيما لم يأمرنا الله ﷿؛ إذا لم يكن ذلك منهياً عنه أو محرماً، فإننا نطيعهم حتى في التنظيم إذا نظموا شيئاً من الأعمال، يجب علينا أن نطيعهم؛ وذلك أن بطاعتهم يكون امتثال أمر الله ﷿، وامتثال أمر رسول الله ﷺ، وحفظ الأمن، والبعد عن التمرد على ولاة الأمور، وعن التفرق.

663 - وعنه، قَالَ: كُنَّا إِذَا بَايَعْنَا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عَلَى السَّمعِ والطَّاعَةِ، يَقُولُ لَنَا: «فِيمَا اسْتَطَعْتُمْ». متفقٌ عَلَيْهِ.
664 - وعنه، قَالَ: سَمِعْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ لَقِيَ اللهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ في عُنُقِهِ بَيْعَةٌ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً». رواه مسلم.
وفي رواية لَهُ: «وَمَنْ مَاتَ وَهُوَ مُفَارِقٌ لِلجَمَاعَةِ، فَإنَّهُ يَمُوتُ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً».
«المِيتَةُ» بكسر الميم.
665 - وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم: «اسْمَعُوا وأطِيعُوا، وَإنِ استُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشيٌّ، كأنَّ رأْسَهُ زَبيبةٌ». رواه البخاري.
666 - وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «عَلَيْكَ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ في عُسْرِكَ وَيُسْرِكَ، وَمَنْشَطِكَ وَمَكْرَهِكَ، وَأثَرَةٍ عَلَيْكَ». رواه مسلم.
قال ابن عثيمين ﵀:
- لا نقول إذا استأثروا علينا وكانت لهم القصور الفخمة، والسيارات المريحة، والثياب الجميلة، وما أشبه ذلك، لا نقول: والله لا يمكن أن نسمع وهم في قصورهم وسياراتهم ونحن في بؤس وحاجة، والواحد منا لا يجد السكن وما أشبه ذلك. هذا حرامٌ علينا، يجب أن نسمع ونطيع حتى في حال الأثرة.

667 - وعن عبدِ اللهِ بن عمر رضي الله عنهما، قَالَ: كنا مَعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سَفَرٍ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا، فَمِنَّا مَنْ يُصْلِحُ خِبَاءهُ، وَمِنّا مَنْ يَنْتَضِلُ، وَمِنَّا مَنْ هُوَ فِي جَشَرِهِ، إذْ نَادَى مُنَادِي رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم: الصَّلاةَ جَامِعَةً . فَاجْتَمَعْنَا إِلَى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «إنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبيٌّ قَبْلِي إِلاَّ كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَيُنْذِرَهُم شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ. وَإنَّ أُمَّتَكُمْ هذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا في أوَّلِهَا، وَسَيُصيبُ آخِرَهَا بَلاَءٌ وَأمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، وَتَجِيءُ فِتنَةٌ يُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَتَجِيءُ الفتنَةُ فَيقُولُ المُؤْمِنُ: هذه مُهلكتي، ثُمَّ تنكشفُ، وتجيء الفتنةُ فيقولُ المؤمنُ: هذِهِ هذِهِ. فَمَنْ أحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ، ويُدْخَلَ الجَنَّةَ، فَلْتَأتِهِ منيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنَ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ، وَلْيَأتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤتَى إِلَيْهِ. وَمَنْ بَايَعَ إمَامًا فَأعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ، وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ، فَلْيُطِعْهُ إن استَطَاعَ، فإنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنْقَ الآخَرِ». رواه مسلم.
قَوْله: «يَنْتَضِلُ» أيْ: يُسَابِقُ بالرَّمْي بالنَّبل والنُّشَّاب. وَ «الجَشَرُ»: بفتح الجيم والشين المعجمة وبالراء، وهي: الدَّوابُّ الَّتي تَرْعَى وَتَبِيتُ مَكَانَهَا. وَقَوْلُه: «يُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا» أيْ: يُصَيِّرُ بَعْضُهَا بَعْضًا رقيقًا: أيْ خَفِيفًا لِعِظَمِ مَا بَعْدَهُ، فالثَّانِي يُرَقّقُ الأَوَّلَ. وقيل مَعنَاهُ يُشَوِّقُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ بتحسينهَا وَتَسويلِهَا، وقيل: يُشبِهُ بَعْضُها بَعضًا.
قال ابن عثيمين ﵀:
- يجب على أهل العلم وطلبة العلم أن يبينوا للناس الخير ويحثوهم عليه، ويبينوا الشر ويحذروهم منه؛ لأن علماء هذا الأمة ورثة الأنبياء، فإن النبي ﷺ ليس بعده نبي، ختمت النبوة به، فلم يبق إلا العلماء الذي يتلقون شرعه ودينه، فيجب عليهم ما يجب على الأنبياء من بيان الخير والحث عليه ودلالة الناس إليه، وبيان الشر والتحذير منه.
- اجعل هذا ميزاناً بينك وبين الناس في معاملتهم؛ لا تأت الناس إلا ما تحب أن يؤتى إليك؛ فتعاملهم باللطف كما تحب أن يعاملوك باللطف واللين، بحسن الكلام، بحسن المنطق، بالبيان باليسر كما تحب أن يفعلوا بك هذا، هذا الذي يزحزح عن النار ويدخل الجنة. نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم منهم.

668 - وعن أَبي هُنَيْدَةَ وَائِلِ بن حُجرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: سَألَ سَلَمَةُ بن يَزيدَ الجُعفِيُّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا نَبِيَّ الله، أرأيتَ إنْ قامَت عَلَيْنَا أُمَرَاءُ يَسألُونَا حَقَّهُم، وَيمْنَعُونَا حَقَّنَا، فَمَا تَأْمُرُنَا؟ فَأَعْرَضَ عنه، ثُمَّ سَألَهُ، فَقَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم: «اسْمَعْوا وَأَطِيعُوا، فإنَّمَا عَلَيْهِمْ مَا حُمِّلُوا، وَعَلَيْكُمْ مَا حملْتُمْ». رواه مسلم.
669 - وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم: «إنَّهَا سَتَكُونُ بَعْدِي أثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا!» قالوا: يَا رسول الله، كَيْفَ تَأمُرُ مَنْ أدْرَكَ مِنَّا ذَلِكَ؟ قَالَ: «تُؤَدُّونَ الحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ، وَتَسْأَلُونَ اللهَ الَّذِي لَكُمْ». متفقٌ عَلَيْهِ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- لا يجوز لنا أن نتكلم بين العامة فيما يثير الضغائن على ولاة الأمور، وفيما يسبب البغضاء لهم؛ لأن في هذا مفسدة كبيرة. قد يتراءى للإنسان أن هذه غيرة، وأن هذا صدع بالحق؛ والصدع بالحق لا يكون من وراء حجاب، الصدع بالحق أن يكون ولي الأمر أمامك وتقول له: أنت فعلت كذا وهذا لا يجوز، تركت هذا، وهذا واجب.
- الإمام أحمد ﵀ يضربه السلطان، ويجره بالبغال، يُضرب بالسياط حتى يغمى عليه في الأسواق، وهو إمام أهل السنة ﵀ و﵁، ومع ذلك يدعو للسلطان ويسميه أمير المؤمنين، حتى إنهم منعوه ذات يوم، قالوا له لا تحدث الناس، فسمع وأطاع ولم يحدث الناس جهراً، بدأ يخرج يميناً وشمالاً ثم يأتيه أصحابه يحدثهم بالحديث. كل هذا من أجل ألا ينابذ السلطان.

670 - وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أطَاعَنِي فَقَدْ أطَاعَ اللهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللهَ، وَمَنْ يُطِعِ الأَمِيرَ فَقَدْ أطَاعَنِي، وَمَنْ يَعصِ الأميرَ فَقَدْ عَصَانِي». متفقٌ عَلَيْهِ.
671 - وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ كَره مِنْ أمِيرِهِ شَيْئًا فَلْيَصْبِرْ، فَإنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنَ السُّلطَانِ شِبْرًا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً». متفقٌ عَلَيْهِ.
672 - وعن أَبي بكرة - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «مَنْ أهانَ السُّلطَانَ أَهَانَهُ الله». رواه الترمذي، وقال: «حديث حسن».
وفي الباب أحاديث كثيرة في الصحيح. وَقَدْ سبق بعضها في أبواب.
قال ابن عثيمين ﵀:
- إذا هون أمر السلطان على الناس استهانوا به، ولم يمتثلوا أمره، ولم يجتنبوا نهيه. ولهذا فإن الذي يهين السلطان بنشر معايبه بين الناس وذمه والتشنيع عليه والتشهير به يكون عرضة لأن يهينه الله ﷿؛ لأنه إذا أهان السلطان بمثل هذه الأمور؛ تمرد الناس عليه فعصوه، وحينئذٍ يكون هذا سبب شر فيهينه الله ﷿. فإن أهانه في الدنيا فقد أدرك عقوبته، وإن لم يهنه في الدنيا فإنه يستحق أن يهان في الآخرة والعياذ بالله.