بابُ الوَعظ والاقتصاد فِيهِ


قَالَ الله تَعَالَى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبيلِ رَبِّكَ بالحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ [النحل: 125].
698 - وعن أَبي وائلٍ شقيقِ بن سَلَمَةَ، قَالَ: كَانَ ابنُ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - يُذَكِّرُنَا في كُلِّ خَمِيسٍ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمنِ، لَوَدِدْتُ أنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ، فَقَالَ: أمَا إنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ أنَّي أكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ، وَإنِّي أتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ، كَمَا كَانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَتَخَوَّلُنَا بِهَا مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا. متفقٌ عَلَيْهِ.
«يَتَخَوَّلُنَا»: يَتَعَهَّدُنَا.
قال ابن عثيمين ﵀:
- الوعظ: هو ذكر الأحكام الشرعية مقرونة بالترغيب أو الترهيب، يعني أن تقول للإنسان مثلا: أنه يجب عليك كذا وكذا، فاتق الله، وقم بما أوجب الله عليك وما أشبه ذلك.
- أعظم واعظ هو كتاب الله عزوجل، فإن الله يقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ‎﴾ [يونس:57]، فأعظم ما يوعظ به: كتاب الله ﷿؛ لأنه جامع بين الترغيب والترهيب، وذكر الجنة والنار، والمتقين والمهملين، فهو أعظم كتاب يوعظ به.
- ذكر المؤلف أنه ينبغي الاقتصاد في الموعظة، يعني: ألا تكثر على الناس فتملهم، وتُكِّره إليهم القرآن والسنة وكلام أهل العلم؛ لأن النفوس إذا ملّت كلّت، وتعبت، وسئمت، وكرهت الحق، وإن كان حقاً، ولهذا كان أحكم الواعظين من الخلق محمد يتخول الناس في الموعظة، لا يكثر عليهم؛ لئلا يملوا ويسأموا ويكرهوا ما يقال من الحق.

699 - وعن أَبي اليقظان عمار بن ياسر رضي الله عنهما، قَالَ: سَمِعْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إنَّ طُولَ صَلاَةِ الرَّجُلِ، وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ، مَئِنَّةٌ مِنْ فِقههِ، فأطِيلُوا الصَّلاَةَ وَأقْصِرُوا الْخُطْبَةَ». رواه مسلم.
«مَئِنَّةٌ» بميم مفتوحة ثُمَّ همزة مكسورة ثُمَّ نون مشددة، أيْ: عَلاَمَةٌ دَالَّةٌ عَلَى فِقْهِهِ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- صلاة الجمعة لها خطبتان قبلها، فيقول النبي ﷺ: (إنّ طول صلاة الرجل، وقصر خطبته، مئنة من فقهه)، وهذا وإن كان ظاهراً في خطبة الجمعة فهو عام، أيضاً، حتى الخطب العارضة، لا ينبغي للإنسان أن يطيل على الناس، كلما قصر كان أحسن؛ لوجهين:
• الوجه الأول: ألا يمل الناس.
• والوجه الثاني: أن يستوعبوا ما قال. لأنّ الكلام إذا طال ضيع بعضه بعضاً، فإذا كان قصيراً مهضوما مستوعباً انتفع النّاس به، وكذلك لا يلحقهم الملل.
- طول الصلاة، المراد أن تكون كصلاة النبي ﷺ ليست طويلة؛ لأن النبي ﷺ أنكر على معاذ إطالته في صلاة العشاء، وأنكر على الرجل الآخر إطالته في صلاة الفجر، وقال: (أيها الناس، إنّ منكم منفرين). فالمراد بطول الصلاة هنا الطول الذي يوافق صلاة رسول الله ﷺ ، هذا إذا كان الإنسان إماماً، أما إذا صلى لنفسه فليطول ما شاء، ولا أحد يمنعه، لأنه يعامل نفسه بنفسه.
قال ابن باز ﵀:
- السُّنة قصر الخطبة، وعدم التطويل حتى لا يمل الناس، خطبة الجمعة، خطبة العيد، والمواعظ تكون مختصرة ليس فيها طول يمل الناس، إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك، كأن تكون حوادث تحتاج إلى طول فلا بأس أن يطيل عند الحاجة، وقد أطال النبي ﷺ في بعض الأحيان، في بعض الأيام خطبهم بعد الصبح إلى الظهر، وبعد الظهر إلى العصر، وبعد العصر إلى غروب الشمس، يعني حوادث أوجبت ذلك.

700 - وعن مُعاوِيَة بن الحكم السُّلَمي - رضي الله عنه - قَالَ: بَيْنَا أنَا أُصَلّي مَعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللهُ، فَرَمَانِي القَوْمُ بِأبْصَارِهِمْ! فَقُلْتُ: وَاثُكْلَ أُمِّيَاهُ، مَا شَأنُكُمْ تَنْظُرُونَ إلَيَّ؟! فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بأيديهم عَلَى أفْخَاذِهِمْ! فَلَمَّا رَأيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي لكِنّي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَبِأبِي هُوَ وَأُمِّي، مَا رَأيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ أحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ، فَوَاللهِ مَا كَهَرَني، وَلاَ ضَرَبَنِي، وَلاَ شَتَمَنِي. قَالَ: «إنَّ هذِهِ الصَّلاَةَ لاَ يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلامِ النَّاسِ، إنَّمَا هِيَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ، وَقِراءةُ القُرْآنِ»، أَوْ كَمَا قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم. قلتُ: يَا رسول الله، إنّي حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ، وَقَدْ جَاءَ اللهُ بِالإسْلاَمِ، وَإنَّ مِنّا رِجَالًا يَأتُونَ الْكُهّانَ؟ قَالَ: «فَلاَ تَأتِهِمْ» قُلْتُ: وَمِنّا رِجَالٌ يَتَطَيَّرُونَ؟ قَالَ: «ذَاكَ شَيْء يَجِدُونَهُ في صُدُورِهِمْ فَلاَ يَصُدَّنَّهُمْ». رواه مسلم.
«الثُكْلُ» بضم الثاءِ المُثلثة: المُصيبَةُ وَالفَجِيعَةُ. «مَا كَهَرَنِي» أيْ: مَا نَهَرَنِي.
قال ابن عثيمين ﵀:
- إذا سمعت العاطس يحمد الله بعد عُطاسه، وجب عليك أن تشمته؛ فتقول: يرحمك الله، حتى ولو كنت تقرأ، أو تطالع، أو تراجع. أما في الصلاة فلا يجوز؛ لأن الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، ولهذا أنكر الناس بأعينهم على معاوية، فرموه بأبصارهم، فقال: "واثكل أمّياه، ماذا صنعت؟" فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم يسكتونه، فسكت ومضى في صلاته.
- في هذا الحديث دليلٌ على أنه لا بأس أن يلتفت المصلي، أو ينظر إذا كان ذلك لمصلحة أو حاجة، وإلا فالأفضل أن يكون نظره إلى موضع سجوده.
- العمل اليسير في الصلاة لا يضر؛ لأنّ الصحابة جعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، ولم ينكر عليهم النبي ﷺ ذلك، إلا أنه قال: (إذا رابكم شيء فليسبح الرجال، ولتصفق النساء).
- الكلام في الصلاة لا يجوز، وهو مبطل لها، إلا إذا كان الإنسان جاهلاً، أو ناسيًا، أو غافلاً.
- حسن تعليم النبي ﷺ ، وأنه يعلم بالرفق واللين، وهذا هديه ﷺ وهو أسوة أمته، فالذي ينبغي للإنسان أن ينزل الناس منازلهم، فالمعاند المكابر يخاطب بخطاب يليق به، والجاهل الملتمس للعلم يخاطب بخطاب يليق به.
- الكاهن هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل، وإذا أتاه الإنسان فله ثلاث حالات:
• الحال الأولى: أن يأتيه يسأله، ولا يصدقه، فهذا ثبت في صحيح مسلم أنه لا تقبل له صلاة أربعين يوماً.
• الحال الثانية: أن يأتيه يسأله ويصدقه، فهذا كافر؛ لقوله ﷺ: (من أتى كاهنا فصدقه بما يقول؛ فقد كفر بما أنزل على محمد)، ووجه كفره أن تصديقه إياه يتضمن تكذيب قول الله: ‏ ‎﴿قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللّه﴾ [النمل: 65]، لأنّ الكاهن يخبر عن الغيب في المستقبل، فإذا صدقته فمضمونه، أنه تكذيب لهذه الآية، فيكون كفراً.
• الحال الثالثة: أن يسأل الكاهن ليكذبه، وإنما يسأله اختباراً، فهذا لا بأس به، وقد سأل النبي ‎ ﷺ ابن الصياد عما أضمر له، فقال: الدُّخ، يعني الدخان، فقال له النبي ﷺ: (إخسأ، فلن تعدو قدرك). فإذا سأله ليفضحه ويكشف كذبه وحاله للناس، فإنّ ذلك لا بأس به، بل قد يكون محموداً مطلوبًا؛ لما في ذلك من إبطال الباطل.

701 - وعن العِرْباض بن ساريَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: وَعَظَنَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَوْعِظَةً وَجِلَتْ مِنْهَا القُلُوبُ، وَذَرَفَتْ مِنْهَا العُيُونُ ... وَذَكَرَ الحَدِيثَ وَقَدْ سَبَقَ بِكَمَالِهِ في باب الأمْر بِالمُحَافَظَةِ عَلَى السُّنَّة، وَذَكَرْنَا أنَّ التَّرْمِذِيَّ، قَالَ: «إنّه حديث حسن صحيح».
قال ابن باز ﵀:
- هذا فيه الحث على العناية بالموعظة يكون فيه قال الله، قال رسوله، ذكر الجنة، ذكر النار، حتى تتحرك القلوب، حتى تتجه إلى الله ﷿ ؛ لأنّه إذا ذكر الجنة والنار والترغيب والترهيب صار من أسباب خشوع القلوب وذرف العيون، فينبغي للواعظ أن يتحرى ذلك حتى تؤثر موعظته.

باب الوقار والسكينة


قَالَ الله تَعَالَى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا﴾ [الفرقان: 63].

702 - وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: مَا رَأيْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُسْتَجْمِعًا قَطُّ ضَاحِكًا حَتَّى تُرَى مِنهُ لَهَوَاتُهُ، إنَّمَا كَانَ يَتَبَسَّمُ. متفقٌ عَلَيْهِ.
«اللَّهْوَاتُ» جَمْعُ لَهَاةٍ: وَهِيَ اللَّحْمَةُ الَّتي في أقْصى سَقْفِ الْفَمِ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- لهذا تجد الرجل كثير الكركرة الذي إذا ضحك قهقه وفتح فاه، تجده يكون هيناً عند الناس، وضيعاً عندهم ليس له وقار، وأما الذي يكثر التبسم في محله، فإنه يكون محبوباً، تنشرح الصدور وتطمئن به القلوب، والله الموفق.
قال ابن باز ﵀:
- "إنّما كان يتبسم" يعني هذا هو الغالب، لكن قد يضحك حتى تبدو أنيابه ﷺ في بعض الأحيان عندما يتحدث هو وأصحابه في بعض الأشياء التي تكون في الجاهلية؛ ولكن في الغالب أنّه يكتفي بالتبسم ﷺ، كما قالت عائشة ﵂، وهذا يدل على أن الأولى بالمؤمن عدم التوسع في الضحك، بل إذا حصل موجب لذلك يبتسم، وإذا ضحك فلا بأس، الضحك المعتاد إذا دعت الأسباب إلى ذلك، فقد ضحك النبي في مواضع كثيرة.

باب الندب إِلَى إتيان الصلاة والعلم ونحوهما من العبادات بالسكينة والوقار


قَالَ الله تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ﴾ [الحج: 32].
703 - وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ، فَلاَ تَأتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَونَ، وَأتُوهَا وَأَنْتُمْ تَمْشُونَ، وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ، فَمَا أدْرَكْتُم فَصَلُّوا، وَمَا فَاتكُمْ فَأَتِمُّوا». متفقٌ عَلَيْهِ.
زاد مسلِمٌ في روايةٍ لَهُ: «فَإنَّ أحَدَكُمْ إِذَا كَانَ يَعْمِدُ إِلَى الصَّلاَةِ فَهُوَ في صَلاَةٍ».
قال ابن عثيمين ﵀:
- لا بأس أن تسمع الإقامة من خارج المسجد، وعلى هذا فإذا أقام المؤذن في مكبر الصوت ليسمع من كان خارج المسجد فلا بأس.
- قوله ﷺ: (فأتموا) دليل على أن المسبوق إذا قام يقضي؛ فإنّه يقضي آخر صلاته لا أولها، فإذا أدرك الركعتين الأخيرتين من الظهر مثلاً، وقام يقضي، فإنّ الركعتين اللتين يقضيهما هما آخر صلاته، فلا يزيد على الفاتحة؛ لأنّ السنة في الركعتين الأخيرتين ألا يزيد فيهما على الفاتحة.
قال ابن باز ﵀:
- الإنسان في خروجه إلى الصلاة، في خروجه إلى الحج، في خروجه إلى عمل صالح، زيارة أخيه، عيادة مريض، طلب العلم يكون عنده الهدوء والتواضع وعدم العجلة، وعدم الضحك إلا لأسباب تقتضي ذلك، فما أدرك من الصلاة صلى، وما فات قضى، ولا يعجل، ولا يركض؛ ولهذا قال: (فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في صلاة)، ما دام يعمد إليها ويقصدها فهو في صلاة فليخشع، وليطمئن ولا يعجل، وهذا من أسباب أدائه العبادة على وجهها إذا اطمأن خشع استحضر عظمة الله، كان هذا من أسباب أن يؤدي العبادة على خير وجه.

704 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنَّهُ دَفَعَ مَعَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ عَرَفَةَ فَسَمِعَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَرَاءهُ زَجْرًا شَديدًا وَضَرْبًا وَصَوْتًا للإِبْلِ، فَأشَارَ بِسَوْطِهِ إلَيْهِمْ، وقال: «يَا أيُّهَا النَّاسُ، عَلَيْكُمْ بالسَّكِينَةِ، فَإنَّ الْبِرَّ لَيْسَ بالإيضَاعِ». رواه البخاري، وروى مسلم بعضه.
«الْبِرُّ»: الطَّاعَةُ. وَ «الإيضَاعُ» بِضادٍ معجمةٍ قبلها ياءٌ وهمزةٌ مكسورةٌ، وَهُوَ: الإسْرَاعُ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- (فإنّ البر ليس بالإيضاع)، يعني أن البر والخير ليس بالإيضاع، أي ليس بالإسراع، والايضاع نوع من السير السريع. ففي هذا دليلٌ على أن الإنسان لا ينبغي له أن يسرع إذا تقدم إلى أماكن العبادة، لأن الذين يدفعون من عرفة يتجهون إلى مزدلفة، وهي مكان عبادة.
قال ابن باز ﵀:
- لما أفاض النبي ﷺ من عرفة في حجة الوداع سمع عند الناس جلبةً وحرصاً وعجلة ًوضراً للإبل، فجعل يشير إليهم بسوطه ويقول: (يا أيها الناس، عليكم بالسكينة، فإن البر ليس بالإيضاع)، يعني: ليس بالإسراع، هذا هو السنة.

باب إكرام الضيف


قَالَ الله تَعَالَى: ﴿هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ فَرَاغَ إِلَى أهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إلَيْهِمْ قَالَ ألاَ تَأكُلُونَ﴾ [الذاريات: 24 - 27]، وقال تَعَالَى: ﴿وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاَءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلاَ تُخْزُونِ في ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ﴾ [هود: 78].
705 - وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ». متفقٌ عَلَيْهِ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- إكرام الضيف من علامة الإيمان بالله واليوم الآخر، ومن تمام الإيمان بالله واليوم الآخر. وذلك أن الذي يكرم ضيفه يثيبه الله تعالى على ذلك يوم القيامة، وربما أثابه يوم القيامة وفي الدنيا، كما قال الله تعالى: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ۖ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ﴾ [‏الشورى: 20].
- إكرام الضيف يختلف بحسب أحوال الضيف، فمن الناس من هو من أشرف القوم ووجهائهم، فيكرم بما يليق به، ومن الناس من هو من وسط القوم فيكرم بما يليق به، ومنهم من دون ذلك.
- النبي ﷺ أطلق الإكرام، فيشمل كل الإكرام، فمن الناس من إذا نزل بك ضيفاً لا يرضيه أن تأتي له بطعام عليه دجاجتان وما أشبه ذلك، يحتاج إلى أن يأتي له بطعام عليه ذبيحة، ويكون من إكرامه أيضاً أن تدعو جيرانك وما أشبه ذلك. ومن الناس هو دون ذلك. الحاصل: أن النبي ﷺ لم يقيد الإكرام بشيء، بل أطلق، فيكون راجعا إلى ما يعده الناس إكراماً.
- (فليصل رحمه) الرحم هو الأقارب، وكلما كان القريب إليك أقرب؛ كان حقه أوجب، فعلى المرء أن يصل رحمه، ولم يبين النبي ﷺ بماذا يصله، فيرجع أيضا إلى العرف، فمن الأقارب من تصله بالزيارة والإكرام البدني، ومن الأقارب من تصله بإعطاء المال لحاجته لذلك، ومن الأقارب من تكرمه بالطعام والكسوة، كل بحسب حاله، المهم أن تكرم أقاربك بما يعد إكراما.
- الكلام في عامة الناس ربما يجرح الرجل نفسه، لكن الكلام في أهل العلم جرح في العلماء، وجرح فيما يحملونه من الشريعة؛ لأنّ الناس لن يثقوا بهم إذا كثر القول فيهم، والخوض فيهم، ولهذا يجب عند كثرة الكلام وخوض الناس في أمر من الأمور أن يحرص الإنسان على كف لسانه، وعلى عدم الكلام حتى لو سئل يقول: نسأل الله الهداية، نسأل الله أن يهدي الجميع، نسأل الله أن يجعل الخير في الواقع، وما أشبه ذلك. أما أن يتكلم ويطلق لسانه في أمور ليس لها أصل ألبتة، فهذا من عدم الإيمان بالله واليوم الآخر، ولا يكفر الإنسان بهذا، لكن إيمانه ناقص؛ لأن النبي ﷺ قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرا أو ليصمت).

706 - وعن أَبي شُرَيْح خُوَيْلِدِ بن عَمرو الخُزَاعِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ جَائِزَتَهُ»
قالوا: وَمَا جَائِزَتُهُ؟ يَا رسول الله، قَالَ: «يَوْمُهُ وَلَيْلَتُهُ، وَالضِّيَافَةُ ثَلاَثَةُ أيَّامٍ، فَمَا كَانَ وَرَاءَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ عَلَيْهِ». متفقٌ عَلَيْهِ.
وفي رواية لِمسلمٍ: «لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَ أخِيهِ حَتَّى يُؤْثِمَهُ» قالوا: يَا رسول الله، وَكيْفَ يُؤْثِمُهُ؟ قَالَ: «يُقِيمُ عِنْدَهُ وَلاَ شَيْءَ لَهُ يَقْرِيه بِهِ».