باب في التقوى


قَالَ الله تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ [آل عمران: 102]، وَقالَ تَعَالَى: ﴿فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16]. وهذه الآية مبينة للمراد مِنَ الأُولى. وَقالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ [الأحزاب: 70]، وَالآيات في الأمر بالتقوى كثيرةٌ معلومةٌ، وَقالَ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق: 2 - 3]، وَقالَ تَعَالَى: ﴿إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [الأنفال:29] والآيات في البابِ كثيرةٌ معلومةٌ.
وأما الأحاديث:
69 - فالأول: عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قِيلَ: يَا رسولَ الله، مَنْ أكرمُ النَّاس؟ قَالَ: «أَتْقَاهُمْ ». فقالوا: لَيْسَ عن هَذَا نسألُكَ، قَالَ: «فَيُوسُفُ نَبِيُّ اللهِ ابنُ نَبِيِّ اللهِ ابنِ نَبيِّ اللهِ ابنِ خليلِ اللهِ» قالوا: لَيْسَ عن هَذَا نسألُكَ، قَالَ: «فَعَنْ مَعَادِنِ العَرَبِ تَسْأَلوني؟ خِيَارُهُمْ في الجَاهِليَّةِ خِيَارُهُمْ في الإِسْلامِ إِذَا فقُهُوا». مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
و «فَقُهُوا» بِضم القافِ عَلَى المشهورِ وَحُكِيَ كَسْرُها: أيْ عَلِمُوا أحْكَامَ الشَّرْعِ.
قال ابن عثيمين ﵁:
- فإذا كنت تريد أن تكون كريماً عند الله وذا منزلةٍ عنده؛ فعليك بالتّقوى، فكلما كان الإنسان لله أتقى كان عنده أكرم.
- بيان فضيلة نبي الله يوسف ﵇، فقد جمع مكارم الأخلاق، مع شرف النبوة والنسب والعلم.
- ففي هذا دليلٌ على أنّ الإنسان يُشرّف بنسبه، لكن بشرط أن يكون لديه فقه في دينه.

70 - الثَّاني: عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرةٌ، وإنَّ اللهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرَ كَيفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ؛ فإنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إسرائيلَ كَانَتْ في النِّسَاءِ». رواه مسلم.
71 - الثالث: عن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه: أنَّ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يقول: «اللَّهُمَّ إنِّي أَسألُكَ الهُدَى، وَالتُّقَى، وَالعَفَافَ، وَالغِنَى ». رواه مسلم.
قال ابن عثيمين ﵁:
- الهدى إذا ذكر وحده يشمل العلم والتوفيق للحق، أما إذا قرن معه ما يدل على التوفيق للحق فإنه يفسر بمعنى العلم؛ لأن الأصل في اللغة العربية إن العطف يقتضي المغايرة، فيكون الهدى له معنى، وما بعده مما يدل على التوفيق له معنى آخر.
- الغنى: المراد به الغنى عما سوى الله، أي: الغنى عن الخلق، بحيث لا يفتقر الإنسان إلى أحد سوى ربه ﷿، والإنسان إذا وفقه الله ومن عليه بالاستغناء عن الخلق، صار عزيز النفس غير ذليل؛ لأن الحاجة إلى الخلق ذل ومهانة، والحاجة إلى الله تعالى عز وعبادة.
- في هذا الحديث دليل على أن النبي ﷺ لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، وأنَّ الذي يملك ذلك هو الله ﷿.
- فيه دليلٌ على إبطال من تعلّقوا بالأولياء والصالحين في جلب المنافع ودفع المضارّ.

72 - الرابع: عن أبي طريفٍ عدِيِّ بن حاتمٍ الطائيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ ثُمَّ رَأَى أتْقَى للهِ مِنْهَا فَليَأْتِ التَّقْوَى». رواه مسلم.
قال ابن عثيمين ﵁:
- لو حنِثت فلا كفّارة عليك، فمن حلف على يمين وقال: إن شاء الله لم يحنث، ولو خالف ما حلف عليه.
- الموفق من عباد الله، من يختار لنفسه أتقى الأعمال، التي ترفع درجته يوم القيامة فيعمل بها.

73 - الخامس: عن أبي أُمَامَةَ صُدَيّ بنِ عجلانَ الباهِلِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ في حجةِ الوداعِ، فَقَالَ: «اتَّقُوا اللهَ وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ، وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ، وَأَطِيعُوا أُمَرَاءَكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ». رواه الترمذي، في آخر كتابِ الصلاةِ، وَقالَ: «حديث حسن صحيح».
قال ابن باز ﵁:
- هذا مما يبين لنا أنّ الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتعطيل المفاسد، وجمع القلوب والحث على كل خير.
قال ابن عثيمين ﵁:
- ولا يجوز للإنسان أن يعصي ولاة الأمور في غير معصية الله ويقول: إنّ هذا ليس بدين.


باب في اليقين والتوكل


قَالَ الله تَعَالَى: ﴿وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 22]، وَقالَ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ [آل عمران:173 - 174]، وَقالَ تَعَالَى: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ﴾ [الفرقان:58]، وَقالَ تَعَالَى: ﴿وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [إبراهيم: 11]، وَقالَ تَعَالَى: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله﴾ [آل عمران: 159]، والآيات في الأمرِ بالتَّوكُّلِ كثيرةٌ معلومةٌ. وَقالَ تَعَالَى:﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق: 3]: أي كافِيهِ. وَقالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الأنفال: 2]، والآيات في فضل التوكل كثيرةٌ معروفةٌ.
74 - فالأول: عن ابن عباس رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم: «عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ، فَرَأيْتُ النَّبيَّ ومَعَهُ الرُّهَيطُ، والنبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلانِ، والنبيَّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ، إِذْ رُفِعَ لي سَوَادٌ عَظيمٌ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ أُمَّتِي، فقيلَ لِي: هَذَا مُوسَى وَقَومُهُ، ولكنِ انْظُرْ إِلَى الأُفُقِ، فَنَظَرتُ فَإِذا سَوادٌ عَظِيمٌ، فقيلَ لي: انْظُرْ إِلَى الأفُقِ الآخَرِ، فَإِذَا سَوَادٌ عَظيمٌ، فقيلَ لِي: هذِهِ أُمَّتُكَ، وَمَعَهُمْ سَبْعُونَ ألفًا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بِغَيرِ حِسَابٍ ولا عَذَابٍ»، ثُمَّ نَهَضَ فَدخَلَ مَنْزِلَهُ فَخَاضَ النَّاسُ في أُولئكَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ ولا عَذَابٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلَعَلَّهُمْ الَّذينَ صَحِبوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وَقالَ بعْضُهُمْ: فَلَعَلَّهُمْ الَّذِينَ وُلِدُوا في الإِسْلامِ فَلَمْ يُشْرِكُوا بِالله شَيئًا - وذَكَرُوا أشيَاءَ - فَخَرجَ عَلَيْهِمْ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «مَا الَّذِي تَخُوضُونَ فِيهِ؟» فَأَخْبَرُوهُ، فقالَ: «هُمُ الَّذِينَ لاَ يَرْقُونَ ، وَلا يَسْتَرقُونَ، وَلا يَتَطَيَّرُونَ؛ وعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوكَّلُون» فقامَ عُكَّاشَةُ ابنُ محصنٍ، فَقَالَ: ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلني مِنْهُمْ، فَقَالَ: «أنْتَ مِنْهُمْ» ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ: ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ: «سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ». مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
«الرُّهَيْطُ» بضم الراء تصغير رهط: وهم دون عشرة أنفس، وَ «الأُفقُ» الناحية والجانب. و «عُكَّاشَةُ» بضم العين وتشديد الكاف وبتخفيفها، والتشديد أفصح.
قال ابن عثيمين ﵁:
- فالذين يكوون محسنون، والذين يقرؤون على الناس محسنون، ولكن الكلام على الذين يسترقون أي يطلبون من يقرأ عليهم، أو يكتوون أي يطلبون من يكويهم.
- نشهد الآن بأن عكاشة بن محصن ﷺ يدخل الجنة بلا حساب ولا عذاب، لأن الرسول ﷺ قال له: (أنت منهم)، (فقام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم! قال: سبق بها عكاشة)، فرده النبي ﷺ، لكنه رد لطيف، لم يقل لست منهم، بل قال: (سبقك بها عكاشة)، فقيل: لأنه كان يعلم بأن هذا الذي قال: ادع الله أن يجعلني منهم منافق، والمنافق لا يدخل الجنة، فضلا عن كونه يدخلها بغير حساب ولا عذاب. وقال بعض العلماء: بل قال ذلك من أجل ألا ينفتح الباب، فيقوم من لا يستحق أن يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب، ويقول ادع الله أن يجعلني.. وعل كل حال، فنحن لا نعلم علما يقينا بأن الرسول ﷺ لم يدع الله له إلا لسبب معين، فالله أعلم، لكننا نستفيد من هذا فائدة، وهو الرد الجميل من رسول الله ﷺ، لأن قوله: (سبقك بها عكاشة) لا يجرحه ولا يحزنه، وسبحان الله، صارت هذه مثلًا إلى يومنا هذا، كلما طلب الإنسان شيئا قد سبق به قيل: سبقك بها عكاشة.

75 - الثاني: عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضًا: أنَّ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يقول: «اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَليْك تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ. اللَّهُمَّ أعُوذُ بعزَّتِكَ؛ لاَ إلهَ إلاَّ أَنْتَ أَنْ تُضِلَّني، أَنْتَ الحَيُّ الَّذِي لاَ تَمُوتُ، وَالجِنُّ والإنْسُ يَمُوتُونَ». مُتَّفَقٌ عَلَيهِ، وهذا لفظ مسلم واختصره البخاري.
76 - الثالث: عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضًا، قَالَ: حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ، قَالَهَا إِبرَاهيمُ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ أُلقِيَ في النَّارِ، وَقَالَها مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ قَالُوا: إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيْمانًا وَقَالُوا: حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوَكيلُ. رواه البخاري.
وفي رواية لَهُ عن ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: كَانَ آخر قَول إبْرَاهِيمَ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ أُلْقِيَ في النَّارِ: حَسْبِي الله ونِعْمَ الوَكِيلُ.
قال ابن عثيمين ﵁:
- ينبغي لكل إنسان رأى من الناس جمعاً له، أو عدواناً عليه، أن يقول: (حسبنا الله ونعم الوكيل)، فإذا قال هكذا كفاه الله شرهم.

77 - الرابع: عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يَدْخُلُ الجَنَّةَ أَقْوامٌ أفْئِدَتُهُمْ مِثلُ أفْئِدَةِ الطَّيرِ». رواه مسلم.
قيل: معناه متوكلون، وقيل: قلوبهم رَقيقَةٌ.
78 - الخامس: عن جابر - رضي الله عنه: أَنَّهُ غَزَا مَعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - قِبلَ نَجْدٍ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قَفَلَ معَهُمْ، فَأَدْرَكَتْهُمُ القَائِلَةُ في وَادٍ كثير العِضَاه، فَنَزَلَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - وَتَفَرَّقَ النَّاسُ يَسْتَظِلُّونَ بالشَّجَرِ، وَنَزَلَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم تَحتَ سَمُرَة فَعَلَّقَ بِهَا سَيفَهُ وَنِمْنَا نَوْمَةً، فَإِذَا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَدْعونَا وَإِذَا عِنْدَهُ أعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: «إنَّ هَذَا اخْتَرَطَ عَلَيَّ سَيفِي وَأنَا نَائمٌ فَاسْتَيقَظْتُ وَهُوَ في يَدِهِ صَلتًا، قَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قُلْتُ: اللهُ - ثلاثًا» وَلَمْ يُعاقِبْهُ وَجَلَسَ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية قَالَ جَابرٌ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بذَاتِ الرِّقَاعِ، فَإِذَا أَتَيْنَا عَلَى شَجَرَةٍ ظَلِيلَةٍ تَرَكْنَاهَا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاء رَجُلٌ مِنَ المُشْركينَ وَسَيفُ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - معَلَّقٌ بالشَّجَرَةِ فَاخْتَرطَهُ، فَقَالَ: تَخَافُنِي؟ قَالَ: «لاَ» فَقَالَ: فَمَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: «الله».
وفي رواية أبي بكر الإسماعيلي في «صحيحه»، قَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: «اللهُ». قَالَ: فَسَقَطَ السيفُ مِنْ يَدهِ، فَأخَذَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - السَّيْفَ، فَقَالَ: «مَنْ يَمْنَعُكَ مني؟». فَقَالَ: كُنْ خَيرَ آخِذٍ. فَقَالَ: «تَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إلاَّ الله وَأَنِّي رَسُول الله؟» قَالَ: لاَ، وَلَكنِّي أُعَاهِدُكَ أَنْ لا أُقَاتِلَكَ، وَلاَ أَكُونَ مَعَ قَومٍ يُقَاتِلُونَكَ، فَخَلَّى سَبيلَهُ، فَأَتَى أصْحَابَهُ، فَقَالَ: جئتُكُمْ مِنْ عنْد خَيْرِ النَّاسِ.
قَولُهُ: «قَفَلَ» أي رجع، وَ «الْعِضَاهُ» الشجر الَّذِي لَهُ شوك، و «السَّمُرَةُ» بفتح السين وضم الميم: الشَّجَرَةُ مِنَ الطَّلْح، وهيَ العِظَامُ مِنْ شَجَرِ العِضَاهِ، وَ «اخْتَرَطَ السَّيْف» أي سلّه وَهُوَ في يدهِ. «صَلْتًا» أي مسلولًا، وَهُوَ بفتحِ الصادِ وضَمِّها.
79 - السادس: عن عُمَر - رضي الله عنه - قَالَ: سمعتُ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا». رواه الترمذي، وَقالَ: «حديث حسن».
معناه: تَذْهبُ أَوَّلَ النَّهَارِ خِمَاصًا: أي ضَامِرَةَ البُطُونِ مِنَ الجُوعِ، وَتَرجعُ آخِرَ النَّهَارِ بِطَانًا. أَي مُمْتَلِئَةَ البُطُونِ.
قال ابن باز ﵁:
- الأخذ بالأسباب والمشي في طلب الرزق، من صدق التوكل على الله تعالى.
- حقيقة التوكل معناه: اعتماد القلب، وتفويض الأمر بصدقٍ ويقينٍ، إليه سبحانه.
قال ابن عثيمين ﵁:
- إنّ الطيور وغيرها من مخلوقات الله تعرف الله، كما قال الله تعالى:﴿تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تُ ٱلسَّبۡعُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِیهِنَّۚ وَإِن مِّن شَیۡءٍ إِلَّا یُسَبِّحُ بِحَمۡدِهِۦ وَلَـٰكِن لَّا تَفۡقَهُونَ تَسۡبِیحَهُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ حَلِیمًا غَفُورࣰا﴾ [الإسراء ٤٤].

80 - السابع: عن أبي عُمَارة البراءِ بن عازب رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم: «يَا فُلانُ، إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فراشِكَ، فَقُل: اللَّهُمَّ أسْلَمتُ نَفْسي إلَيْكَ، وَوَجَّهتُ وَجْهِي إلَيْكَ، وَفَوَّضتُ أَمْري إلَيْكَ، وَأَلجأْتُ ظَهري إلَيْكَ رَغبَةً وَرَهبَةً إلَيْكَ، لا مَلْجَأ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إلاَّ إلَيْكَ، آمنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أنْزَلْتَ؛ وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ. فَإِنَّكَ إِنْ مِتَّ مِنْ لَيلَتِكَ مِتَّ عَلَى الفِطْرَةِ، وَإِنْ أصْبَحْتَ أَصَبْتَ خَيرًا» مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية في الصحيحين، عن البراءِ، قَالَ: قَالَ لي رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَتَيْتَ مَضْجِعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءكَ للصَّلاةِ، ثُمَّ اضْطَجعْ عَلَى شِقِّكَ الأَيمَنِ، وَقُلْ ... وذَكَرَ نَحْوَهُ ثُمَّ قَالَ: وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَقُولُ».
قال ابن عثيمين ﵁:
- فإنّ التوكل: تفويض الإنسان أمره إلى ربه، وأنّه لا يلجأ ولا يطلب منجا من الله إلا إلى الله ﷿.
- وفيه أن النبي ﷺ أمره أن يضجع إلى الجنب الأيمن؛ لأن ذلك هو الأفضل، وقد ذكر الأطباء أن النوم على الجنب الأيمن أفضل للبدن، وأصح من النوم على الجنب الأيسر، وذكر أيضا بعض أرباب السلوك والاستقامة، أنه أقرب في استيقاظ الإنسان؛ لأن بالنوم على الجنب الأيسر ينام القلب، ولا يستيقظ بسرعة، بخلاف النوم على الجنب الأيمن، فإنه يبقي القلب متعلقًا، ويكون أقل عمقًا في منامه فيستيقظ بسرعة.

81 - الثامِنُ: عن أبي بكرٍ الصِّديق - رضي الله عنه - عبدِ اللهِ بنِ عثمان بنِ عامرِ بنِ عمر ابنِ كعب بنِ سعدِ بن تَيْم بنِ مرة بن كعبِ بن لُؤَيِّ بن غالب القرشي التيمي - رضي الله عنه - وَهُوَ وَأَبُوهُ وَأُمُّهُ صَحَابَةٌ - رضي الله عنهم - قَالَ: نَظَرتُ إِلَى أَقْدَامِ المُشْرِكينَ وَنَحنُ في الغَارِ وَهُمْ عَلَى رُؤُوسِنا، فقلتُ: يَا رسولَ الله، لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيهِ لأَبْصَرَنَا. فَقَالَ: «مَا ظَنُّكَ يَا أَبا بَكرٍ باثنَيْنِ الله ثَالِثُهُمَا». مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
قال ابن عثيمين ﵁:
- وفي هذه القصة دليلٌ على كمال توكل النبي ﷺ على ربه، وأنّه معتمدٌ عليه، ومفوضٌ إليه أمره.
- بيان فضيلة أبي بكرٍ الصديق ﵁، فهو أفضل الصحابة ﵃.

82 - التاسع: عن أم المُؤمنينَ أمِّ سَلَمَةَ وَاسمها هِنْدُ بنتُ أَبي أميةَ حذيفةَ المخزومية رضي الله عنها: أنَّ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيتِهِ، قَالَ: «بِسْمِ اللهِ تَوَكَّلتُ عَلَى اللهِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أعُوذُ بِكَ أَنْ أضِلَّ أَوْ أُضَلَّ، أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ، أَوْ أظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ، أَوْ أجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ» حديثٌ صحيح، رواه أبو داود والترمذي وغيرهما بأسانيد صحيحةٍ. قَالَ الترمذي: «حديث حسن صحيح» وهذا لفظ أبي داود.
83 - العاشر: عن أنس - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَالَ - يَعْني: إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيتِهِ: بِسمِ اللهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ، وَلا حَولَ وَلا قُوَّةَ إلاَّ باللهِ، يُقالُ لَهُ: هُدِيتَ وَكُفِيتَ وَوُقِيتَ، وَتَنَحَّى عَنْهُ الشَّيطَانُ». رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم. وَقالَ الترمذي: «حديث حسن»، زاد أبو داود: «فيقول - يعني: الشيطان - لِشيطان آخر: كَيفَ لَكَ بِرجلٍ قَدْ هُدِيَ وَكُفِيَ وَوُقِيَ؟».
84 - وعن أنس - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ أَخَوانِ عَلَى عهد النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَ أحَدُهُمَا يَأتِي النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَالآخَرُ يَحْتَرِفُ، فَشَكَا المُحْتَرِفُ أخَاهُ للنبي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «لَعَلَّكَ تُرْزَقُ بِهِ». رواه الترمذي بإسناد صحيحٍ عَلَى شرطِ مسلم.
«يحترِف»: يكتسب ويتسبب.
قال ابن عثيمين ﵁:
- دوام التوكل على الله تعالى، والاعتصام به، وذكره سبحانه؛ فيه جلب المنافع، ودفع المضار.
- في هذا دليل على أن الإنسان ينبغي له إذا خرج من بيته، أن يقول هذا الذكر، الذي منه التوكل على الله والاعتصام به، لأن الإنسان إذا خرج من بيته فهو عرضة لأن يصيبه شيء، أو يعتدي عليه حيوان، من عقرب أو حية أو ما أشبه ذلك.