باب المراقبة


قَالَ الله تَعَالَى: ﴿الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ﴾ [الشعراء: 219 - 220]، وَقالَ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُم﴾ [الحديد:4]، وَقالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ﴾ [آل عمران: 6]، وَقالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ [الفجر: 14]، وَقالَ تَعَالَى: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر: 19] وَالآيات في البابِ كثيرة معلومة.
60 - وأما الأحاديث، فالأول: عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قَالَ: بَيْنَما نَحْنُ عِنْدَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَومٍ، إذْ طَلَعَ عَلَينا رَجُلٌ شَديدُ بَياضِ الثِّيابِ، شَديدُ سَوَادِ الشَّعْرِ، لا يُرَى عَلَيهِ أثَرُ السَّفَرِ، وَلا يَعْرِفُهُ مِنَّا أحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيهِ إِلَى رُكْبتَيهِ، وَوَضعَ كَفَّيهِ عَلَى فَخِذَيهِ ، وَقالَ: يَا مُحَمَّدُ، أخْبرني عَنِ الإسلامِ، فَقَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم: «الإسلامُ: أَنْ تَشْهدَ أَنْ لا إلهَ إلاَّ الله وأنَّ مُحمَّدًا رسولُ الله، وتُقيمَ الصَّلاةَ، وَتُؤتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ البَيتَ إن اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبيلًا». قَالَ: صَدَقْتَ. فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقهُ! قَالَ: فَأَخْبرنِي عَنِ الإِيمَانِ. قَالَ: «أنْ تُؤمِنَ باللهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبهِ، وَرُسُلِهِ، وَاليَوْمِ الآخِر، وتُؤْمِنَ بالقَدَرِ خَيرِهِ وَشَرِّهِ». قَالَ: صَدقت. قَالَ: فأَخْبرني عَنِ الإحْسَانِ. قَالَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فإنَّهُ يَرَاكَ». قَالَ: فَأَخْبِرنِي عَنِ السَّاعَةِ. قَالَ: «مَا المَسْؤُولُ عَنْهَا بأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ». قَالَ: فأخبِرني عَنْ أَمَاراتِهَا. قَالَ: «أنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا، وأنْ تَرَى الحُفَاةَ العُرَاةَ العَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ في البُنْيَانِ». ثُمَّ انْطَلقَ فَلَبِثْتُ مَلِيًّا، ثُمَّ قَالَ: «يَا عُمَرُ، أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟» قُلْتُ: اللهُ ورسُولُهُ أعْلَمُ. قَالَ: «فإِنَّهُ جِبْريلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينكُمْ» . رواه مسلم.
ومعنى «تَلِدُ الأَمَةُ رَبَّتَهَا» أيْ سَيِّدَتَهَا؛ ومعناهُ: أَنْ تَكْثُرَ السَّراري حَتَّى تَلِدَ الأَمَةُ السُّرِّيَّةُ بِنْتًا لِسَيِّدِهَا وبنْتُ السَّيِّدِ في مَعنَى السَّيِّدِ وَقيلَ غَيْرُ ذلِكَ. وَ «العَالَةُ»: الفُقَراءُ. وقولُهُ: «مَلِيًّا» أَيْ زَمَنًا طَويلًا وَكانَ ذلِكَ ثَلاثًا.
قال ابن عثيمين ﵁:
- معلوم أن عبادة الله على وجه الطلب أكمل من عبادته على وجه الهرب! فها هنا مرتبتان:
المرتبة الأولى: أن تعبد الله كأنك تراه، وهذه مرتبة الطلب.
والمرتبة الثانية: أن تعبد الله وأنت تعلم أنه يراك، وهذه مرتبة الهرب.
وكلتاهما مرتبتان عظيمتان، لكن الأولى أكمل وأفضل.
- جواز إلقاء السائل على الطلبة ليمتحنهم، كما ألقى النبي ﷺ المسألة على عمر ﵁.
- وفي هذا دليل على بركة العلم، وأن العلم ينتفع به السائل والمجيب، وأن هذا الحديث حديث عظيم يشتمل على الدين كله.
قال ابن باز ﵁:
- الشهادتان هما أصل الدين، وهما أساس الملة، شهادة أن لا إله إلا الله و أن محمد رسول الله، وهاتان الشهادتان هما الركن الأول من أركان الإسلام، وهما أعظم الأركان، فمن قالهما بصدق دخل في الإسلام ثم يؤمر بالصلاة والزكاة والصيام والحج وغير ذلك.
- المراقبة هي أن تعبد الله على أنه سبحانه يراقبك، ويعلم مكانك، فتؤدي حقه عن إيمان، وعن رغبة، وعن رهبة، وعن حياء، وعن صدق، وعن إخلاص، وهكذا يجب على المؤمن في كل أموره.

61 - الثاني: عن أبي ذر جُنْدُب بنِ جُنادَةَ وأبي عبدِ الرحمنِ معاذِ بنِ جبلٍ رضي الله عنهما، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «اتَّقِ الله حَيْثُمَا كُنْتَ وَأتْبعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ». رواه الترمذي، وَقالَ: «حديث حسن».
قال ابن عثيمين ﵁:
- تقوى الله هي اجتناب المحارم وفعل الأوامر، هذه هي التقوى! أن تفعل ما أمرك الله به إخلاصًا لله، واتباعًا لرسول الله ﷺ وأن تترك ما نهى الله عنه امتثالًا لنهي الله وتنزهها عن محارم الله.
- الوصيتان الأوليان في معاملة الخالق، والثالثة في معاملة الخلق، أن تعاملهم بخلق حسن تحمد عليه ولا تذم فيه، وذلك بطلاقة الوجه، وصدق القول، وحسن المخاطبة، وغير ذلك من الأخلاق الحسنة.
قال ابن باز ﵁:
- احرص على عمل الحسنات في جميع أوقاتك، يمحُ الله بها سيئاتك، من التسبيح، والتهليل، والتحميد، والذكر والاستغفار والصدقة، والإحسان إلى الناس، ونصر المظلوم، والإعانة على كل خير.

62 - الثالث: عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: كنت خلف النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يومًا، فَقَالَ: «يَا غُلامُ، إنِّي أعلّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَألْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَاعْلَمْ: أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إلاَّ بِشَيءٍ قَدْ كَتَبهُ اللهُ لَكَ، وَإِن اجتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إلاَّ بِشَيءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحفُ ». رواه الترمذي، وَقالَ: «حديث حسن صحيح».
وفي رواية غيرِ الترمذي: «احْفَظِ الله تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعرَّفْ إِلَى اللهِ في الرَّخَاءِ يَعْرِفكَ في الشِّدَّةِ، وَاعْلَمْ: أنَّ مَا أَخْطَأكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبكَ، وَمَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَاعْلَمْ: أنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا».
قال ابن عثيمين ﵁:
- "احفظ الله يحفظك" كلمة جليلة عظيمة، احفظ الله، وذلك بحفظ شرعه ودينه، بأن تمتثل لأوامره وتجتب نواهيه، وكذلك بأن تتعلم من دينه ومن شريعته ما تقوم به عباداتك ومعاملاتك، وتدعو به إلى الله لأن كل هذا من حفظ الله، فالله نفسه ليس بحاجة إلى أحد حتى يُحفظ، ولكن المراد حفظ دينه وشريعته.
- احفظ الله أيضا بحفظ شريعته، بالقيام بأمره واجتناب نهيه تجده تجاهك وأمامك، ومعناهما واحد، يعني تجد الله أمامك يدلك على كل خير ويذود عنك كل شر، ولا سيما إن حفظت الله بالاستعانة به، فإن الإنسان إذا استعان بالله وتوكل على الله كان الله حسبه، أي كافيه، ومن كان الله حسبه فإنه لا يحتاج إلى أحد بعد الله.
- الاستعانة طلب العون، فلا تطلب العون من أي إنسان إلا للضرورة القصوى، ومع ذلك إذا اضطررت إلى الاستعانة بالمخلوق فاجعل ذلك وسيلة وسببًا لا ركنًا تعتمد عليه، واجعل الركن الأصيل هو الله ﷿، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله. وفي هاتين الجملتين دليل على أنه من نقص التوحيد أن الإنسان يسأل غير الله، ولهذا تكره المسألة لغير الله في قليل أو كثير.
- إن الأمة لو اجتمعت كلها على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك! فإذا وقع منهم نفع لك فاعلم أنه من الله، لأنه هو الذي كتبه، فلم يقل النبي ﷺ: لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك. بل قال: (لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك).
- إذا صبر الإنسان وصابر ورابط فإن الله ﷿ ينصره، لقوله ﷺ: (واعلم أن الفرج مع الكرب). كلما اكتربت الأمور وضاقت فإن الفرج قريب، لأن الله ﷿ يقول في كتابه: ﴿أَمَّن یُجِیبُ ٱلۡمُضۡطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَیَكۡشِفُ ٱلسُّوۤءَ وَیَجۡعَلُكُمۡ خُلَفَاۤءَ ٱلۡأَرۡضِۗ أَءِلَـٰهࣱ مَّعَ ٱللَّهِۚ قَلِیلࣰا مَّا تَذَكَّرُونَ﴾ [النمل: 62]، فكلما اشتدت الأمور فانتظر الفرج من الله سبحانه وتعالى.
قال ابن باز ﵁:
- اجتهد في أسباب العافية والقدرة، حتى تعرف في أيام الشدة والضرورة، فيحسن إليك، ويلطف بك.

63 - الرابع: عن أنسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: إِنَّكُمْ لَتعمَلُونَ أعْمَالًا هي أدَقُّ في أعيُنِكُمْ مِنَ الشَّعْرِ، كُنَّا نَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - مِنَ المُوبِقاتِ. رواه البخاري.
وَقالَ: «المُوبقاتُ»: المُهلِكَاتُ.
قال ابن باز ﵁:
- يجب على المؤمن أن يحذر وألا يتساهل، في شيء من المعاصي، والسيئات قد يحتقرها العبد ويراها صغيرة، فتجتمع عليه حتى يهلك بأسبابها، لتساهله وعدم عنايته بها وحذره منها.
قال ابن عثيمين ﵁:
- كلما قوي الإيمان عظمت المعصية عند الإنسان، وكلما ضعف الإيمان خفت المعصية في قلب الإنسان ورآها أمرا هينًا، يتهاون ويتكاسل عن الواجب ولا يبالي، لأنه ضعيف الإيمان.

64 - الخامس: عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّ الله تَعَالَى يَغَارُ، وَغَيرَةُ الله تَعَالَى، أَنْ يَأتِيَ المَرْءُ مَا حَرَّمَ الله عَلَيهِ » متفق عَلَيهِ.
و «الغَيْرةُ»: بفتحِ الغين، وَأَصْلُهَا الأَنَفَةُ.
قال ابن عثيمين ﵁:
- الله بحكمته أوجب على العباد أشياء، وحرم عليهم أشياء، وأحل لهم أشياء، فما أوجبه عليهم فهو خير لهم في دينهم ودنياهم، وفي حاضرهم ومستقبلهم، وما حرمه عليهم فإنه شر لهم في دينهم ودنياهم، وحاضرهم ومستقبلهم، فإذا حرم الله على عباده أشياء فإنه يغار أن يأتي الإنسان محارمه، وكيف يأتي الإنسان محارم ربه والله إنما حرمها من أجل مصلحة العبد.
- في هذا الحديث إثبات الغيرة لله تعالى، وسبيل أهل السنة والجماعة فيه وفي غيره من آيات الصفات، وأحاديث الصفات أنهم يثبتونها لله ﷿ على الوجه اللائق به، يقولون: إن الله يغار لكن ليس كغيرة المخلوق، وإن الله ﷿ يفرح ولكن ليس كفرح المخلوق، وأن الله ﷿ له من الصفات الكاملة ما يليق به، ولا تشبه صفات المخلوقين قال تعالى:﴿لَیۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَیۡءࣱۖ وَهُوَ ٱلسَّمِیعُ ٱلۡبَصِیرُ﴾ [الشورى: من الآية11].
قال ابن باز ﵁:
- أي يغضب، وغيرته أن ينتهك العبد ما حرم الله عليه، والله ﷿ أشد غيرة من عباده، ولهذا حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن.

65 - السادس: عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه: أنَّه سَمِعَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقُولُ: «إنَّ ثَلاثَةً مِنْ بَني إِسْرَائِيلَ: أبْرَصَ، وَأَقْرَعَ، وَأَعْمَى، أَرَادَ اللهُ أَنْ يَبْتَليَهُمْ فَبَعَثَ إِليْهمْ مَلَكًا، فَأَتَى الأَبْرَصَ، فَقَالَ: أَيُّ شَيءٍ أَحَبُّ إلَيْكَ؟ قَالَ: لَوْنٌ حَسَنٌ، وَجِلدٌ حَسَنٌ، وَيَذْهبُ عَنِّي الَّذِي قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ؛ فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ قَذَرُهُ وَأُعْطِيَ لَونًا حَسنًا. فَقَالَ: فَأيُّ المَالِ أَحَبُّ إِليكَ؟ قَالَ: الإِبلُ - أَوْ قالَ: البَقَرُ شكَّ الرَّاوي - فَأُعطِيَ نَاقَةً عُشَرَاءَ، فَقَالَ: بَاركَ الله لَكَ فِيهَا.
فَأَتَى الأَقْرَعَ، فَقَالَ: أَيُّ شَيءٍ أَحَبُّ إلَيْكَ؟ قَالَ: شَعْرٌ حَسَنٌ، وَيَذْهَبُ عَنِّي هَذَا الَّذِي قَذِرَني النَّاسُ؛ فَمَسَحَهُ فَذَهبَ عَنْهُ وأُعْطِيَ شَعرًا حَسَنًا. قالَ: فَأَيُّ المَالِ أَحَبُّ إِليْكَ؟ قَالَ: البَقَرُ، فَأُعْطِيَ بَقَرَةً حَامِلًا، وَقالَ: بَارَكَ الله لَكَ فِيهَا.
فَأَتَى الأَعْمَى، فَقَالَ: أَيُّ شَيءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: أَنْ يَرُدَّ اللهُ إِلَيَّ بَصَرِي فَأُبْصِرُ النَّاسَ؛ فَمَسَحَهُ فَرَدَّ اللهُ إِلَيْهِ بَصَرهُ. قَالَ: فَأَيُّ المَالِ أَحَبُّ إِليْكَ؟ قَالَ: الغَنَمُ، فَأُعْطِيَ شَاةً والدًا، فَأَنْتَجَ هذَانِ وَوَلَّدَ هَذَا، فَكانَ لِهذَا وَادٍ مِنَ الإِبلِ، وَلِهذَا وَادٍ مِنَ البَقَرِ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الغَنَمِ.
ثُمَّ إنَّهُ أَتَى الأَبْرَصَ في صُورَتِهِ وَهَيئَتِهِ، فَقَالَ: رَجلٌ مِسْكينٌ قَدِ انقَطَعَتْ بِيَ الحِبَالُ في سَفَري فَلا بَلاغَ لِيَ اليَومَ إلاَّ باللهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذي أَعْطَاكَ اللَّونَ الحَسَنَ، والجِلْدَ الحَسَنَ، وَالمَالَ، بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ بِهِ في سَفَري، فَقَالَ: الحُقُوقُ كثِيرةٌ. فَقَالَ: كأنِّي أَعْرِفُكَ، أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ فقيرًا فأعْطَاكَ اللهُ!؟ فَقَالَ: إِنَّمَا وَرِثْتُ هَذَا المالَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ، فَقَالَ: إنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللهُ إِلَى مَا كُنْتَ.
وَأَتَى الأَقْرَعَ في صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِهَذا، وَرَدَّ عَلَيهِ مِثْلَ مَا رَدَّ هَذَا، فَقَالَ: إنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللهُ إِلَى مَا كُنْتَ.
وَأَتَى الأَعْمَى في صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكينٌ وابنُ سَبيلٍ انْقَطَعتْ بِيَ الحِبَالُ في سَفَرِي، فَلا بَلاَغَ لِيَ اليَومَ إلاَّ بِاللهِ ثُمَّ بِكَ، أَسأَلُكَ بالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَركَ شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا في سَفري؟ فَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أعمَى فَرَدَّ اللهُ إِلَيَّ بَصَرِي، فَخُذْ مَا شِئْتَ وَدَعْ مَا شِئْتَ، فَوَاللهِ ما أجْهَدُكَ اليَومَ بِشَيءٍ أخَذْتَهُ للهِ - عز وجل. فَقَالَ: أَمْسِكْ مالَكَ فِإنَّمَا ابْتُلِيتُمْ. فَقَدْ رضي الله عنك، وَسَخِطَ عَلَى صَاحِبَيكَ»
مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
و «النَّاقةُ العُشَرَاءُ» بضم العين وفتح الشين وبالمد: هي الحامِل. قوله:
«أنْتَجَ» وفي رواية: «فَنتَجَ» معناه: تولَّى نِتاجها، والناتج لِلناقةِ كالقابِلةِ للمرأةِ. وقوله: «وَلَّدَ هَذَا» هُوَ بتشديد اللام: أي تولى ولادتها، وَهُوَ بمعنى أنتج في الناقة، فالمولّد، والناتج، والقابلة بمعنى؛ لكن هَذَا لِلحيوان وذاك لِغيرهِ. وقوله: «انْقَطَعَتْ بي الحِبَالُ» هُوَ بالحاءِ المهملةِ والباءِ الموحدة: أي الأسباب. وقوله: «لا أجْهَدُكَ» معناه: لا أشق عليك في رد شيء تأخذه أَوْ تطلبه من مالي. وفي رواية البخاري: «لا أحمَدُكَ» بالحاءِ المهملة والميمِ ومعناه: لا أحمدك بترك شيء تحتاج إِلَيْه، كما قالوا: لَيْسَ عَلَى طولِ الحياة ندم: أي عَلَى فواتِ طولِها.
قال ابن باز ﵁:
- إن من لم يراقب الله﷿، وجحد النعم واستكبر، عقوبته الهلاك والدمار وغضب الله، وأما شكر النعم والاعتراف لله بالفضل فعاقبته حميدة، وهي الرضا من الله والبركة فيما أعطاه الله.
قال ابن عثيمين ﵁:
- أراد الله ﷿ أن يبتليهم ويختبرهم، لأن الله سبحانه يبتلي العبد بما شاء ليبلوه هل يصبر أو يضجر إذا كان ابتلاه بضراء، وهل يشكر أو يقتر إذا كان قد ابتلاه بسراء.
- ما روي عن بني إسرائيل عن أحبارهم وعلمائهم فإنه ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: ما شهد الشرع ببطلانه، فهذا باطل يجب رده، وهذا يقع كثيرا فيما ينقل من الإسرائيليات في تفسير القرآن، فإنه ينقل في تفسير القرآن كثير من الأخبار الإسرائيلية التي يشهد الشرع ببطلانها.
الثاني: ما شهد الشرع بصدقه، فهذا يقبل، لا لأنه من أخبار بني إسرائيل، ولكن لأن الشرع شهد بصدقه وأنه حق.
الثالث: ما لم يكن في الشرع تكذيبه ولا تصديقه، فهذا يتوقف فيه، لا يصدقون ولا يكذبون، لأننا إن صدقناهم فقد يكون باطلًا، فنكون قد صدقناهم بباطل، وإن كذبناهم فقد يكون حقا، فقد كذبناهم بحق، ولهذا نتوقف فيه، ولكن مع ذلك لا حرج من التحديث به فيما ينفع في ترغيب أو ترهيب.
- فيه إثبات الملائكة، والملائكة عالم غيبي خلقهم الله ﷿ من نور، وجعل لهم قوة في تنفيذ أمر الله، وجعل لهم إرادة في طاعة الله، فهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
- تفاوت بني آدم في شكر نعمة الله ونفع عباد الله، فإن الأبرص والأقرع وقد أعطاهم الله المال الأهم والأكبر، ولكن جحدا نعمة الله، قالا: إنما ورثنا هذا المال كابرا عن كابر، وهم كذبة في ذلك، فإنهم كانوا فقراء أعطاهم الله المال، لكنهم _ والعياذ بالله _ جحدوا نعمة الله.

66 - السابع: عن أبي يعلى شداد بن أوس - رضي الله عنه - عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ، وَعَمِلَ لِمَا بعدَ المَوتِ، والعَاجِزُ مَنْ أتْبَعَ نَفْسَهُ هَواهَا وَتَمنَّى عَلَى اللهِ». رواه الترمذي، وَقالَ: «حديث حسن».
قَالَ الترمذي وغيره من العلماء: معنى «دَانَ نَفْسَهُ»: حاسبها.
قال ابن عثيمين ﵁:
- على المرء أن يحاسب نفسه، وينظر ما فعل من المأمورات وماذا ترك من المنهيات. هل قام بما أمر به؟ وهل ترك ما نهي عنه؟ فإذا رأى من نفسه تفريطًا في الواجب استدركه إذا أمكن استدراكه، وقام به أو بدله، وإذا رأى من نفسه انتهاكًا لمحرم أقلع عنه وندم وتاب واستغفر.
قال ابن باز ﵁:
- أن من حاسب نفسه فيما تأتي وتذر، واشتغل بأعماله التي تنفعه بعد الموت، وذلك بأداء الفرائض، وترك المحارم، والوقوف عند حدود الله، فهذا العمل الذي سينفعه يوم القيامة.

67 - الثامن: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم: «مِنْ حُسْنِ إسْلامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ». حديث حسن رواه الترمذي وغيرُه.
قال ابن باز ﵁:
- ينبغي أن لا يتدخل فيما لا يعنيه، ولا يشتغل فيما يعنيه من أمور الناس، وإنما يشتغل بنفسه وحاجتها، وأسباب صلاحها وما ينفع الناس بما يرضي الله، من أمر بمعروف أو نهي عن منكر، أو نصيحة، أو مواساة لفقير، أو نصر مظلوم أو غير ذلك.
قال ابن عثيمين ﵁:
- والناس يختلفون في الإسلام اختلافًا ظاهرًا كثيرًا، كما أن الناس يختلفون في أشكالهم وصورهم، وإذا كان الناس يختلفون في الإسلام، فإن مما يزيد في حسن إسلام المرء أن يدع ما لا يعنيه ولا يهمه لا في دينه ولا في دنياه. فالإنسان المسلم إذا أراد أن يجعل إسلامه حسنا فليدع ما لا يعنيه، فالشيء الذي لا يهمه يتركه.

68 - التاسع: عن عُمَرَ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لاَ يُسْأَلُ الرَّجُلُ فِيمَ ضَرَبَ امْرَأَتَهُ». رواه أبو داود وغيره.