(٢) كتابُ الإِيمانِ⁽[١٠٦]⁾


١- بابُ بَيَانِ مَعْنَىَ الإِيْمَانِ والإِسْلامِ شَرْعًا


٧. [ق] عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ بَارِزًا يَوْمًا لِلنَّاسِ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: مَا الإِيمَانُ؟ قَالَ: «الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ، وَبِلِقَائِهِ، وَرُسُلِهِ، وَتُؤْمِنَ بِالبَعْثِ». قَالَ: ومَا الإِسْلَامُ؟ قَالَ: «الإِسْلَامُ أَنْ تَعْبُدَ اللهَ وَلَا تُشْرِكَ [بِهِ] شَيْئًا، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤتِيَ الزَّكَاةَ المَفْرُوضَةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ». قَالَ: مَا الإِحْسَانُ؟ قَالَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ». قَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: «مَا المَسْؤولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ، وَسَأُحَدِّثُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا: إِذَا وَلَدَتِ الأَمَةُ رَبَّهَا، وَإِذَا تَطَاوَلَ رِعَاءُ الإِبِلِ البُهْمُ فِي البُنْيَانِ، فِي خَمْسٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللهُ». ثُمَّ تَلَا النَّبِيُّ ﷺ: «﴿إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُۥ عِلۡمُ ٱلسَّاعَةِ﴾ الآية [لقمان:٣٤]»، ثُمَّ أَدْبَرَ. قَالَ: «رُدُّوهُ». فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا، فَقَالَ: «هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَ يُعَلِّمُ النَّاسَ دِينَهُمْ». [خ:٥٠]
الغَريب: (بارزًا): ظاهرًا. و(الإحْسان): هنا مراقبة الله في العبادات، والإتيان بها مكمَّلة الآداب. (الأشْرَاط): العَلَامات. (رَبَّها): سيِّدَها، ويعني بذلك أن يكثر التَّسرِّي، أو يتسامَحُ النَّاس في بيع أمَّهات الأولاد، أو يكثُرُ عقوق الأولاد للأمَّهات. (البُهْم) بضمِّ الباء: جمع بَهِيم، وهو الشَّديد السَّواد، الَّذي لا يخالطه لونٌ آخر، ويُروى بضمِّ الميم نعتًا للرُّعاة؛ لأنَّ ذلك غالب رُعاة العربِ، وبكسر الميم نعتًا للإبل.
١. في أهمية الحديث قال القاضي عياض: "وهذا الحديث قد اشتمل على شرح جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة من عقود الإيمان وأعمال الجوارح وإخلاص السرائر والتحفظ من آفات الأعمال حتى إن علوم الشريعة كلها راجعة إليه ومتشبعة منه".
٢. وقال القرطبي: "هذا الحديث أُمُّ السنة؛ لما تضمنه من جُمل علم السنة". قال الطيبي: "لهذه النكتة استفتح به البغوي، كتابيه (المصابيح)، و (شرح السنة)؛ اقتداء بالقرآن في افتتاحه بالفاتحة؛ لأنها تضمنت علوم القرآن إجمالاً".
٣. قوله: (كان النبي ﵌ بارزا يومًا للناس) قال القرطبي: "فيه استحباب جلوس العالم بمكان يختص به ويكون مرتفعًا إذا احتاج لذلك لضرورة تعليم ونحوه".
٤. قوله: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك) قال النووي: "هذا من جوامع الكلم التي أوتيها ﵌ لأنا لو قدَّرنا أن أحدنا قام في عبادة وهو يعاين ربه سبحانه وتعالى لم يترك شيئا مما يقدر عليه من الخضوع والخشوع وحسن السمت واجتماعه بظاهره وباطنه على الاعتناء بتتميمها على أحسن وجوهها إلا أتى به".
٥. قوله: (ما المسؤول عنها بأعلم من السائل) قال النووي: "فيه أنه ينبغي للعالم والمفتي وغيرهما إذا سئل عما لا يعلم أن يقول: لا أعلم، وأن ذلك لا يُنْقِصه، بل يُستدل به على ورعه وتقواه ووفور علمه".
٦. قوله: (هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم) قال النووي: "فيه أنه ينبغي لمن حضر مجلس العالم إذا علم بأهل المجلس حاجة إلى مسألة لا يسألون عنها أن يسأل هو عنها ليحصل الجواب للجميع".
٧. قوله: (يعلمكم دينكم) قال ابن المنير: "دلالة على أن السؤال الحسن، يسمى علماً وتعليمًا".

٢- بابُ تَسْمِيةِ الإِسْلامِ بالإيمانِ تَوَسُّعًا


٨. [ق] عَنْ أبي جَمْرَةَ _وَهُوَ نصْرُ بْنُ عِمرانَ الضُّبَعِيُّ_ قَالَ: كُنْتُ أَقْعُدُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَيُجْلِسُنِي عَلَى سَرِيرِهِ، فَقَالَ: أَقِمْ عِنْدِي حَتَّى أَجْعَلَ لَكَ سَهْمًا مِنْ مَالِي. فَأَقَمْتُ مَعَهُ شَهْرَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ القَيْسِ لَمَّا أَتَوُا النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «مَنِ القَوْمُ؟» أَوْ: «مَنِ الوَفْدُ؟» قَالَ: رَبِيعَةُ. قَالَ: «مَرْحَبًا بِالقَوْمِ _أَوْ: بِالوَفْدِ_ غَيْرَ خَزَايَا وَلَا نَدَامَى». فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيكَ إِلَّا فِي الشَّهْرِ الحَرَامِ، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الحَيُّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ نُخْبِرْ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا، وَنَدْخُلْ بِهِ الجَنَّةَ. وَسَأَلُوهُ عَنِ الأَشْرِبَةِ، فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ، وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ، أَمَرَهُمْ بِالإِيمَانِ بِاللهِ وَحْدَهُ، قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الإِيمَانُ بِاللهِ وَحْدَهُ؟» قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصِيَامُ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُعْطُوا مِنَ المَغْنَمِ الخُمُسَ»، وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنِ الحَنْتَمِ وَالدُّبَّاءِ [وَالنَّقِيرِ] وَالمُزَفَّتِ _وَرُبَّمَا قَالَ: المُقَيَّرِ_ وَقَالَ: «احْفَظُوهُنَّ، وَأَخْبِرُوا بِهِنَّ مَنْ وَرَاءَكُمْ». [خ:٥٣]
الغريب: (الوفْد): جمع وَافِدٍ، وهو القادِمُ والزَّائر. (مَرحبًا): رُحْبًا وَسَعَةً؛ أي: صادفتم. (خَزايَا): جمع خَزْيان، كسَكَارى جمعُ سَكران، مِن الخِزي. و(نَدَامَى): جمعُ نادم، وقياسُ جمعِه نادمينَ، لكن جُمع كذلك اتِّباعًا لـ(خَزايا)، وحَكى الفرَّاء في «جامعه» أنَّه يُقال للنَّادم: ندمَان، وعلى هذا فيكون على القياس. (الفَصْلُ): البليغ في لفظه، الواضح في معناه. (الحَنْتَمُ): الجِرَار المطليَّة بالزُّجَاج. و(الدُّبَّاءُ): القَرْعَة. و(المُزَفَّتُ): المَطْلِيُّ بالزِّفْتِ. و(المُقَيَّرُ): المطليُّ بالقَارِ، نوع مِن الزِّفت. وحكمةُ النَّهي عَنِ الانْتباذِ في هذه الظُّروف خَوفُ إسراع الإسْكار إلى النَّبيذ. وقد نُسخ ذلك النَّهي بما يأتي بعدُ إنْ شاء الله.
١. في الحديث وِفادةُ الفُضلاء والرُّؤساء إلى الأئمَّة عند الأُمور المهمَّة.
٢. قوله: (مرحباً بالوفد) قال الأتيوبي: "فيه استحباب تأنيس الرجل لزواره، والقادمين عليه بقوله: مرحباً، ونحوه، والثناء عليهم إيناساً وبسطاً".
٣. قوله: (غير خزايا ولا ندامى) قال ابن حجر: "فيه دليل على جواز الثناء على الإنسان في وجهه إذا أُمِن عليه الفتنة".
٤. قال ابن بطال: "وفي الحديث تحريض العَالِم للناس أن يحفظوا العلم، ويُعلِّموه".

٣- بابُ أَرْكَانِ الإِسْلَامِ وَشُعَبِهِ


٩. [ق] عَنِ ابْنِ عُمَرَ ﵄ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ». [خ:٨]
١. قال ابن حجر الهيتمي: "هذا حديث عظيم، أحد قواعد الإسلام، وجوامع الأحكام؛ إذ فيه معرفة الدين، وما يعتمد عليه، ومجمع أركانه، وكلها منصوص عليها في القرآن، وهو داخل ضمن حديث جبريل".

١٠. [ق] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، وَالحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ». [خ:٩]
الغريب: أصل (الشُّعْبَةِ): القِطعة.
١. من سَعة فضل الله تعالى أن جعل الإيمان شُعَبًا وخصالًا متعددة، كلما عمل المسلم بشعبة منها زاد إيمانه وعظم أجره.
٢. بيان عظم شأن الحياء وأنه من أفضل الشعب إذ يدعو إلى بقية الشعب، فمن كان حيياً فإن حياءه يدعوه إلى أن يعمل بمقتضى إيمانه ويتجنب ما يناقضه.

٤- بابٌ: إذا لم يكُنِ الإسْلامُ علىَ الحقيقةِ


١١. [ق] عَنْ سَعدِ بنِ أَبي وقَّاص ﵁ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ أَعْطَى رَهْطًا وَسَعْدٌ جَالِسٌ،/ فَتَرَكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ رَجُلًا هُوَ أَعْجَبُهُمْ إِلَيَّ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ؟ فَوَاللهِ إِنِّي لَأُرَاهُ مُؤْمِنًا. فَقَالَ: «أَوْ مُسْلِمًا». فَسَكَتُّ قَلِيلًا، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ، فَقُلْتُ: يَا رسولَ اللهِ: مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ؟ فَوَاللهِ إِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا. فَقَالَ: «أَوْ مُسْلِمًا». فَسَكَتُّ قَلِيلًا، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ فَعُدْتُ لِمَقَالَتِي، وَعَادَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، ثُمَّ قَالَ: «يَا سَعْدُ إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ خَشْيَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللهُ فِي النَّارِ». [خ:٢٧]⁽[١٠٧]⁾
(أُراه): بضمِّ الهمزة، ومعناها: أظنُّه.
١. قال النووي: "في الحديث أنه لا يُقطع لأحد بالجنة على التعيين إلا من ثبت فيه نصٌّ، كالعشرة وأشباههم، وهذا مجمع عليه عند أهل السنة".
٢. كره أكثر السلف أن يُطلِق الإنسان على نفسه أنه مؤمن، وقالوا: هو صفة مدح، وتزكية للنفس بما غاب من أعمالها؛ وإنما يشهد لنفسه بالإسلام لظهوره.

٥- بابٌ: المعاصي مِن أمرِ الجَاهليَّةِ، ولا يَكْفُرُ صَاحبُها إلَّا بالشِّرك


١٢. [ق] عَنِ المَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ: لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ، وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ وَعَلَى غُلَامِهِ حُلَّةٌ، فَسَأَلتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلًا⁽[١٠٨]⁾ فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ، فَقَالَ لِي النَّبِيُّ ﷺ: «يَا أَبَا ذَرٍّ أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ؟ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ». [خ:٣٠]
_ وفي رواية [خ:٦٠٥٠]: قلت: عَلىَ ساعتي هَذه مِن كِبَر السِّنِّ؟ قال: «نعمْ، إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ⁽[١٠٩]⁾ اللهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ».
(الحُلَّةُ): كلُّ ثَوبين غير مُلَفَّقَيْن مجموعَيْن على لابسٍ، حريرًا كانا أو غيره.
١. في الحديث تَقبيحُ أُمورِ الجاهليَّةِ وأخلاقِها، وأنَّها زائلةٌ بالإسلامِ.
٢. وفيه: فَضيلةٌ ظاهرةٌ لأبي ذَرٍّ﵁، وبيانٌ لحُسنِ استِجابتِه لأمْر النبيِّ ﵌.
٣. وفيه قرب النبي ﵌ من جميع طبقات المجتمع، بحيث يستطيع الجميع أن يحادثه ويشتكي إليه ويُناجيه.

١٣. [ق] وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ﵁ _وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا، وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ العَقَبَةِ_ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: «بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ، وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلَا تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللهُ فَهُوَ إِلَى اللهِ، إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ». فَبَايَعْنَاهُ⁽[١١٠]⁾ عَلَى ذَلِكَ. [خ:١٨]
١. قوله: (فهو إلى الله) قال المازري: "فيه رد على الخوارج الذين يُكَفِّرون بالذنوب، ورد على المعتزلة الذين يوجبون تعذيب الفاسق إذا مات بلا توبة".

١٤. [ق] وَعَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: ذَهَبْتُ لِأَنْصُرَ هَذَا الرَّجُلَ، فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرَةَ فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قُلْتُ: أَنْصُرُ هَذَا الرَّجُلَ⁽[١١١]⁾. قَالَ: اّْرْجِعْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «إِذَا التَقَى المُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالقَاتِلُ وَالمَقْتُولُ فِي النَّارِ». قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ هَذَا القَاتِلُ/ فَمَا بَالُ المَقْتُولِ؟ قَالَ: «إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ». [خ:٣١]
قوله: (يَفْتَرِيْنَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ): قيل فيه إنَّه الزِّنا. وقيل فيه أنْ تُربِّي ولد غير زوجِها وتنسبَه له. والله أعلم.
١. في الحديث أن قتال المسلم لأخيه المسلم بغير وجه شرعي كبيرة من الكبائر، وأن صاحب الكبيرة لا يكفر بفعلها؛ لأن النبي ﵌ سمى المتقاتلين مسلمين.

٦- بابُ كُفرانِ الحقوقِ، وكفرٍ دون كفرٍ، وظلمٍ دون ظلمٍ


١٥. [ق] عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵄: قال النبيُّ ﷺ: «أُرِيتُ النَّارَ فَرَأَيْتُ أَكْثَرُ أَهْلِهَا النِّسَاءُ، يَكْفُرْنَ» قِيلَ: أَيَكْفُرْنَ بِاللهِ؟ قَالَ: «يَكْفُرْنَ العَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الإِحْسَانَ، إِنْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ». [خ:٢٩]
١. في الحديث بيان أن كفران العشير والإحسان من الكبائر فإن التوعد بالنار من علامة كون المعصية كبيرة.
٢. وفيه وعظ الإمام، وأصحاب الولايات، وكبراء الناس رعاياهم وتحذيرهم من المخالفات وتحريضهم على الطاعات.

١٦. [ق] وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ ﵁: لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَلَمۡ یَلۡبِسُوۤا۟ إِیمَـٰنَهُم بِظُلۡمٍ﴾ [الأنعام:٨٢] قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟⁽[١١٢]⁾ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالى: ﴿ إِنَّ ٱلشِّرۡكَ لَظُلۡمٌ عَظِیمࣱ﴾ [لقمان:١٣]. [خ:٣٢]
الغريب: (الكفر) لغةً هو التَّغطية، والجحد مطلقًا، وهو في عُرْف الشَّرع: جحدُ ما عُلِم مِن ضَرورة الشَّرع⁽[١١٣]⁾. و(الظُّلم): وضعُ الشَّيء غيرَ موضعه، وقد يُقال على النَّقص، ومنه قوله تعالى: ﴿وَمَن یَعۡمَلۡ مِنَ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنࣱ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ یَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ وَلَا یُظۡلَمُونَ نَقِیرࣰا ۝١٢٤ وَمَنۡ أَحۡسَنُ دِینࣰا مِّمَّنۡ أَسۡلَمَ وَجۡهَهُۥ لِلَّهِ وَهُوَ مُحۡسِنࣱ وَٱتَّبَعَ مِلَّةَ إِبۡرَ ٰ⁠هِیمَ حَنِیفࣰاۗ وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبۡرَ ٰ⁠هِیمَ خَلِیلࣰا ۝١٢٥﴾ [النساء:١٢٤]. (العَشير): المعاشِر، وهو المُخَالِط، وعَدَلَ عنه للمبالغة، وهو الزَّوج هنا.
١. قال ابن كثير :" هؤلاء الذين أخلصوا العبادة لله وحده لا شريك له، ولم يشركوا به شيئاً هم الآمنون يوم القيامة، المهتدون في الدنيا والآخرة"
٢. قال السعدي: "فإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بظلم مطلقاً، لا بشرك، ولا بمعاصٍ؛ حصل لهم الأمن التام، والهداية التامة". وإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بالشرك وحده، ولكنهم يعملون السيئات، حصل لهم أصل الهداية، وأصل الأمن، وإن لم يحصل لهم كمالهما"
٣. الحديث دليل على شدة خوف الصحابة - رضوان الله عليهم -، وذلك لمشقة ما فهموه من الآية، والحديث دليل على عدم عصمة الصحابة من الذنوب حيث قالوا:" أَيُّنَا لاَ يَظْلِمُ نَفْسَهُ؟".
٤. أهمية جمع النصوص بعضها لبعض ليتضح المراد، فالصحابة فهموا الظلم على أنه المعاصي جاء لهم من النصوص ما يدل على أن الظلم يطلق على الشرك أيضاً.
٥. قال ابن عثيمين: "ينبغي للإنسان وإن كان موثوقاً عند الناس أن يذكر مستنده؛ لأن ذلك أبلغ في طمأنينة المخاطب".
٦. قال ابن حجر: "إن قيل: فالعاصي قد يُعذَّب، فما هو الأمن والاهتداء الذي حصل له؟ فالجواب: أنه آمن من التخليد في النار، مهتدٍ إلى طريق الجنة".
٧. الحديث دليل على نوع من أنواع التفسير وهو أشرفها وأهمها وهو تفسير القرآن بالقرآن، وهذا ظاهر من تفسير النبي ﵌ للآية التي شقت على الصحابة ﵃ بآية أخرى.
٨. عن جبير بن نفير قال: "دخلت على أبي الدرداء ﵁ منزله بحمص فإذا هو قائم يصلي في مسجده، فلما جلس يتشهد جعل يتعوذ بالله من النفاق، فلما انصرف قلت له: غفر الله لك يا أبا الدرداء، أما أنت والنفاق، ما شأنك وشأن النفاق؟! فقال: [اللهم غفرًا، (ثلاثًا) لا يأمن البلاء من يأمن البلاء، والله إن الرجل ليفتن عن ساعة واحدة فيقلب عن دينه]".

٧- بابٌ: زيادةُ الإيمان ونُقصانُه، وقولُهُ تعالى: ﴿ أَیُّكُمۡ زَادَتۡهُ هَـٰذِهِۦۤ إِیمَـٰنࣰاۚ﴾ [التوبة:١٢٤]، و﴿لِیَزۡدَادُوۤا۟ إِیمَـٰنࣰا مَّعَ إِیمَـٰنِهِمۡۗ﴾ [الفتح:٤]


_ [خت] وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُوْلِ اللهِ ﷺ كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ، مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ: إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ.
١٧. [ق] عَنْ عَائِشَةَ ﵁ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا أَمَرَهُمْ، [أَمَرَهُمْ] مِنَ الأَعْمَالِ بِمَا يُطِيقُونَ. قَالُوا: إِنَّا لَسْنَا كَهَيْئَتِكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ. فَيَغْضَبُ حَتَّى يُعْرَفَ الغَضَبُ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: «إِنَّ أَتْقَاكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ بِاللهِ أَنَا». [خ:٢٠]
١. قوله (أَمَرَهُمْ مِنَ الأَعْمَالِ بِمَا يُطِيقُون) فيه: دليل على رفق النبيِّ ﵌ بأُمته، وأن الدِّين يُسر، وأن الشريعة جاءت بما في مقدور الناس.
٢. قال ابن بطال: "وإنما أمر ﵌ أمته من الأعمال بما يطيقون ليأخذوها بالنشاط ولا يتجاوزوا حَدَّهم فيها فيضعفوا عنها".
٣. الاقتصاد في العبادة: قال الكرماني: "فيه القصد في العبادة وملازمة ما يمكن الدوام عليه"، وقال ابن حجر: "لا المبالغة المفضية إلى الترك لأن إرهاق النفس بالعبادة يُؤدي إلى كُرهها، والانقطاع عنها".
٤. قال ابن حجر: "وفي الحديث أن العبد إذا بلغ الغاية في العبادة وثمراتها، كان ذلك أدعى له إلى المواظبة عليها استبقاء للنعمة، واستزادة لها بالشكر عليها".
٥. قال ابن رجب: "فنسبة التقصير إليه في العمل لاتكاله على المغفرة خطأ فاحش، لأنه يقتضي أن هديه ليس هو أكمل الهدي وأفضله، وهذا خطأ عظيم، ولهذا كان ﵌ يقول في خطبته: (خير الهدي هدي محمد) ويقتضي أيضا هذا الخطأ: أن الاقتداء بهديه في العمل ليس هو الأفضل، بل الأفضل الزيادة على هديه في ذلك، وهذا خطأ عظيم جدا، فإن الله تعالى قد أمر بمتابعته وحث عليها، قال تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم). فلهذا كان ﵌ يغضب من ذلك غضبا شديدا، لما في هذا الظن من القدح في هديه ومتابعته والاقتداء به".
٦. قولها (فَيَغْضَبُ حَتَّى يُعْرَفَ الغَضَبُ فِي وَجْهِهِ) فيه بشرية النبي ﵌، وحقه في إزالة الشبهة، وتحذير المسلمين من سوء الظن بالناس عموما وبأهل الفضل خصوصا. مع أن كلمتهم صحيحة في نفسها، فهو ﵌ ليس كهيئتهم، فهو يطعمه الله سبحانه ويسقيه ولهذا يواصل في الصيام لكنهم لم يقصدوا هذا المعنى الصحيح وإنما قصدوا ضده فلهذا غضب ﵌.
٧. قال ابن الملقن: "وفيه الغضب عند ردِّ أمر الشرع".

١٨. [ق] وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ ﵁ _واسمه سعدُ بن مالكِ بن سِنانٍ_ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «يَدْخُلُ أَهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، ثُمَّ يَقُولُ [اللهُ تَعَالَى]: أَخْرِجُوا [مِنَ النَّارِ] مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ/ مِنْ إِيمَانٍ. فَيُخْرَجُونَ مِنْهَا قَدِ اسْوَدُّوا، فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرِ الحَيَا _أَوِ: الحَيَاةِ، شَكَّ مَالِكٌ_ فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الحِبَّةُ فِي جَانِبِ السَّيْلِ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهَا تَخْرُجُ صَفْرَاءَ مُلْتَوِيَةً؟». [خ:٢٢]
(الحِبَّة) بكسر الحاء: بزْرُ الصَّحراءِ ممَّا ليس بقُوتٍ، وبالفتح لما ليس كذلك كحَبَّة الحِنطة، ونحوها.

٨- بابُ كمالِ الإسْلامِ في نفسِهِ، وتفاوُتِ أهلِهِ فيه


١٩. [ق] عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ ﵁ أَنَّ رَجُلًا مِنَ اليَهُودِ قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَؤونَهَا، لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ اليَهُودِ نَزَلَتْ لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ اليَوْمَ عِيدًا. قَالَ: أَيُّ آيَةٍ؟ قَالَ: ﴿ٱلۡیَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِینَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَیۡكُمۡ نِعۡمَتِی وَرَضِیتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَـٰمَ دِینࣰاۚ﴾ [المائدة:٣]. فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ اليَوْمَ، وَالمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، نَزَلَتْ وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ الجُمُعَةِ. [خ:٤٥]
١. قال ابن كثير: "هذه أكبر نعم الله، عز وجل، على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم، صلوات الله وسلامه عليه؛ ولهذا جعله الله خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه، ولا دين إلا ما شرعه".
٢. قال ابن رجب: "فيه أن الأعياد لا تكون بالرأي والاختراع كما يفعله أهل الكتابين من قبلنا؛ إنما تكون بالشرع والاتباع".
٣. قال ابن رجب: "هذه الآية لما تضمنت إكمال الدين وإتمام النعمة أنزلها الله في يوم شرعه عيدا لهذه الأمة من وجهين: أحدهما: أنه يوم عيد الأسبوع وهو يوم الجمعة. والثاني: أنه يوم عيد أهل لموسم وهو يوم مجمعهم الأكبر وموقفهم الأعظم".
٤. وفيه: أن الإيمان يزيد وينقص، حيث إن هذا الدين قد كمل بتمام أعماله.
٥. وفيه أن المبتدع على قدر بدعته يكون هادمًا لكمال وتمام هذا الدين.

٩- بابُ ما يُخافُ مِن إِضرارِ المَعاصِي بالإِيمانِ والعَملِ وإنْ كانتْ صغائِرَ؛ لقولِهِ: ﴿كَلَّاۖ بَلۡۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا۟ یَكۡسِبُونَ ۝١٤﴾ [المطففين:١٤]


_ [خت] ويُذكر عَنِ الحسن: مَا يخافه إلَّا مُؤمِنٌ، ومَا أَمِنَه إلَّا مُنافق _يعني_ النِّفاقَ.
٢٠. [ق] عَنْ زُبَيْدٍ قَالَ: سَأَلتُ أَبَا وَائِلٍ عَنِ المُرْجِئَةِ فَقَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ». [خ:٤٨]
_ وقد أُنْسِيَ النَّبيُّ ﷺ لَيْلَةَ القَدْرِ؛ لِتَلَاحِي رَجُلَيْنِ مِنَ المُسْلِمِيْن. كَما سَيأتي في ليلة القَدْر. [ر:٨٣٠]
١. في الحديث عظم حق المسلم حيث جُعل من سبه فاسقا ومن قاتله كافرا، وذلك لعظيم حقه عند الله سبحانه، ولهذا قال النبي ﵌: (إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا).
٢. وفيه ذم الملاحاة والخصومة، وأنهما سبب العقوبة للعامة بذنب الخاصة، قال القاضي عياض: "فيه دليل على أن المخاصمة مذمومة وأنها سبب في العقوبة المعنوية: أي الحرمان".
٣. وفيه: دلالة على أن الذنوب قد تكون سببا لخفاء بعض ما يحتاج إليه في الدين، فكلما أحدث الناس ذنوبا، أوجب ذلك خفاء بعض أمور دينهم عليهم.
٤. قال ابن حجر: "وفيه أن المكان الذي يحضره الشيطان ترفع منه البركة والخير".

١٠- بابٌ: يجبُ الإيمانُ بمشروعيةِ العِباداتِ، والنِّيَّةُ والحِسبةُ فيها،


لقولِهِ تعالىَ: ﴿وَمَاۤ أُمِرُوۤا۟ إِلَّا لِیَعۡبُدُوا۟ ٱللَّهَ مُخۡلِصِینَ لَهُ ٱلدِّینَ﴾ [البينة:٥]، ولقوله ﵇: «الأَعْمَاُل بالنِّيَّة» وقد تقدَّم [ر:١]
٢١. [ق] عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا/ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». [خ:٢٠١٤]
١. قوله: (احتسابًا) قال الخطابي: "احتسابا أي عزيمة وهو أن يصومه على معنى الرغبة في ثوابه طيبة نفسه بذلك غير مستثقل لصيامه ولا مستطيل لأيامه".
٢. وفي الحديث دليل بين أن الأعمال الصالحة لا تزكو ولا تتقبل إلا مع الاحتساب وصدق النيات.

٢٢. [ق] وعنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «مَن تَبِعَ جَنَازَةَ مُسْلِمٍ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، وَكَانَ مَعَها حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا وَيُفْرَغَ مِنْ دَفْنِهَا، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ مِنَ الأَجْرِ بِقِيرَاطَيْنِ، كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ تُدْفَنَ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطٍ». [خ:٤٧]
١. في الحديث بيان كرمُ الله تعالى ورحمته بعباده ولطفه بهم.

٢٣. [ق] وعنه، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «انْتَدَبَ اللهُ ﷿ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ، لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا إِيمَانٌ بِي أَوْ تَصْدِيقٌ بِرُسُلِي، أَنْ أُرْجِعَهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ أَوْ أُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، وَلَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ». [خ:٣٦]
الغَريب: (النِّية الشَّرعيَّة): هي القَصدُ إِلىَ إيقاعِ ما أُمرَ به على الوجه المطلوب. و(إيمانًا): تصديقًا بأصل المشروعيَّة وبالثَّواب الموعود عليها. و(احتسابًا): أي: اعتدادًا به، وادِّخارًا له عند الله تعالى. (القِيراط): في أصْله نِصف دَانق، وأصله: قِرَّاط _بالتَّشديد_ لأنَّ جَمعه قراريط، ويُعنَى به في هذا الحديث الحظُّ العظيمُ مِن الثَّواب كما قد فسَّره فيه. ومعنى (انْتَدَبَ اللهُ) هنا تكفَّل، كما جاء مفسَّرًا في طريق آخر^([خ:٣١٢٣])، وأصل (انْتَدَبَ) أجابَ، يُقال: ندبَه لأمرٍ فانتدبَ له؛ أي: دَعاه فأجاب.
١. فيه: بيان شدة شفقة رسول الله ﵌ على أمته ورأفته بهم.
٢. قوله: (لوددت أني أقتل في سبيل الله، ثم أحيا، ثم أقتل) فيه فضيلة الغزو والشهادة، وفيه تمني الشهادة والخير، وتمني مَا لا يمكن في العادة من الخيرات.

١١- بابٌ: أعظمُ أركانِ الدِّينِ النَّصيحةُ، والفِرارُ مِن الفِتن، والأمرُ بالتَّسديد والتَّسهيلِ؛ لقوله ﵇: «الدِّينُ النَّصيحةُ لله ولرسوله ولأئمَّة المسلمين وعامَّتهم»


٢٤. [ق] عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ قَالَ: سَمِعْتُ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَوْمَ مَاتَ المُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، قَامَ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: عَلَيْكُمْ بِاتِّقَاءِ اللهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَالوَقَارِ وَالسَّكِينَةِ حَتَّى يَأْتِيَكُمْ أَمِيرٌ، فَإِنَّمَا يَأْتِيكُمُ الآنَ. ثُمَّ قَالَ: اسْتَعْفُوا لِأَمِيرِكُمْ؛ فَإِنَّهُ كَانَ يُحِبُّ العَفْوَ. ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ قُلْتُ: أُبَايِعُكَ عَلَى الإِسْلَامِ، فَشَرَطَ عَلَيَّ:/ «وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ». فَبَايَعْتُهُ عَلَى هَذَا، وَرَبِّ هَذَا المَسْجِدِ إِنِّي لَنَاصِحٌ لَكُمْ. ثُمَّ اسْتَغْفَرَ وَنَزَلَ. [خ:٥٨]
١. في الحديث وعظ العالم للناس إذا رأى أمرا يخشى منه الفتنة عليهم، وترغيبه في الألفة وترك الفرقة.

٢٥. [ق] وفي طريقٍ أخرى قال: بايعتُ رسولَ الله ﷺ على إقام الصَّلاة، وإيتاء الزَّكاة، والنُّصح لكلِّ مُسلمٍ. [خ:٥٧]
٢٦. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ ﵁ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرُ مَالِ المُسْلِمِ غَنَمًا يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الجِبَالِ وَمَوَاقِعَ القَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الفِتَنِ». [خ:١٩]
١. قال ابن حجر: "الخبر دال على فضيلة العزلة لمن خاف على دينه، وفيه: التَّحذيرُ مِنَ الفِتَنِ ومُخالَطتِها والوُقوعِ فيها".

٢٧. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ». [خ:٣٩]
الغَريب: (النَّصيحةُ): مأخوذة مِن نَصَحْتُ العَسَلَ؛ إذا صفَّيته ممَّا يُكدِّرُه، وقيل: مِن نصحتُ الثَّوب: إذا خِطْتُه، والنَّاصح الخيَّاط، والنِّصَاح الخَيط، وقيل: هي الإبْرة، والنَّاصح في العبادة يخلص فيها، ويَلُمُّ شَعَثَها. و(يُوشِك): يحقُّ ويُسرع. و(الوَشَكَ) بفتح الواو: السُّرعة. (شَعَفُ الجِبالِ) بالشِّين المثلَّثة: رؤوسها. و(مُشادَّة الدِّينِ): مغالبته، ومقاولته. و(الغَدْوة): هي ما يُفعل مِن الطَّاعات في أوَّل النَّهار، كصلاة الصُّبح والذِّكر وغير ذلك. و(الرَّوْحَة): ما يُفعل مِن الخير في آخر النَّهار. و(شَيءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ): هي الصَّلاة مِن جوف اللَّيل، أو مِن آخره، يُقال: أدْلَج القوم: إذا سَاروا مِن أوَّل اللَّيل، والاسْم: الدَّلَج بالتَّحريك، فإنْ ساروا مِن آخره فقد اّْدَّلجوا _بتشديد الدَّال_ والاسم الدَّلَجَةُ، والدَُّلجة بالضمِّ والفتح.
١. قوله: (إن الدين يسر) قال ابن حجر: "من أوضح الأمثلة له أن توبتهم كانت بقتل أنفسهم وتوبة هذه الأمة بالإقلاع والعزم والندم".
٢. قوله: (ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه) قال ابن المنير: "في هذا الحديث علمٌ من أعلام النبوة، فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أن كل متنطع في الدين ينقطع".
٣. وفي الحديث: تنشيط أهل الأعمال، وتبشيرهم بالخير والثواب المرتب على الأعمال.

١٢- بابٌ: حقُّ اللهِ على العِبَادِ، وجزاؤُهم على ذلك


٢٨. [ق] عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ ﵁ قَالَ: بَيْنَا أَنَا رَدِيفُ النَّبِيِّ ﷺ لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلَّا آخِرَةُ الرَّحْلِ. فَقَالَ: «يَا مُعَاذُ». قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ. ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: «يَا مُعَاذُ». قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ. ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: «يَا مُعَاذُ». قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ. قَالَ: «هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ؟» قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «حَقُّ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا». ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: «يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ». قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ./ قَالَ: «هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ العِبَادِ عَلَى اللهِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ؟» قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «حَقُّ العِبَادِ عَلَى اللهِ أَلَّا يُعَذِّبَهُمْ».[خ:٥٩٦٧]⁽[١١٤]⁾
الغَريب: (الرَّديف): هو الرَّاكب خلفَ الرَّاكب، ويُقال فيه: رَدِف ورِدْف. و(آخِرَةُ الرَّحْلِ): مُؤْخَّرَته، ويُقابلها: قادِمَته. والرَّحْلُ للبعير، والسَّرْج للفَرَس، والإِكَافُ للحِمار. و(لبَّيكَ): إجابة بعد إجابة، مأخوذٌ مِن لبَّ بالمكان؛ إذا أقام به. و(سَعْدَيْكَ): مساعدةً بعد مساعدة، وهما مصدران مِن المصادر المثنَّاة المسموعة. و(حقُّ الله على عباده) واجب عليهم بإيجابه ذلك عليهم، وحقُّهم عليه بحسب وعدِه الصَّادق وقوله الحقِّ.
١. الحديث دليل على فضل معاذ وقرب منزلته حيث تشرف بإرداف النبي ﵌ له، وأيضا تخصيصه بهذا العلم.
٢. الحديث فيه أدب معاذ ﵁ مع معلمه فهو حين سُئِل قال الله ورسوله أعلم، وحين علم استأذن من النبي ﵌ أن يعلم الناس ليستبشروا، وهكذا ينبغي لطالب العلم مع شيخه.
٣. وفي الحديث حسن تعليم النبي ﵌ ففي تعليمه لمعاذ تكرار وسكوت واستفهام وكل ذلك ليشد انتباه المتعلم ويشوقه ويكون أدعى في رسوخ العلم.
٤. وفيه مشروعية استفسار الشيخ تلميذه عن الحكم؛ ليختبر ما عنده من العلم ويبين له ما يُشكل عليه.
٥. وفي الحديث تواضع النبي ﵌ حيث كانت دابته التي يركب عليها حماراً وهذا من تقلله ﵌ وبساطة عيشه.

١ الوفد الذين أتوا النبي ﷺ فقال لهم: «مرحبًا بالقوم غير خزايا ولا ندامى» هم:

٥/٠