(٣) كِتَابُ العِلْمِ


١- بابُ فَضْلِ العِلْمِ والفِقْهِ، والغِبطَة فيهما


٢٩. [ق] عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ ﵄ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِقَدَحِ لَبَنٍ، فَشَرِبْتُ حَتَّى إِنِّي لَأَرَى الرِّيَّ يَخْرُجُ فِي أَظْفَارِي، ثُمَّ أَعْطَيْتُ فَضْلِي عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ». قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَهُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «العِلْمَ». [خ:٨٢]
1-قال العيني: «تفسير اللبن بالعلم لكونهما مشتركين في كثرة النفع بهما، وفي أنهما سببا الصّلاح، فاللبن غذاء الإنسان وسبب صلاحهم وقوة أبدانهم، والعلم سبب الصلاح في الدنيا والآخرة وغذاء الأرواح».
2-قال الـمُهلب: «رؤيَة اللبن في النّوم تدل على السّنة والفطرة والعلم والقرآن، لأنه أول شيء ينالهُ المَولود من طعام الدنيا، وبه تقوم حياته كما تقوم بالعلم حياة القُلُوب، فهُو يُناسب العلم من هذه الجهة، وقد يدل على الحَيَاة لِأَنَّهَا كانت في الصغر، وقد يدل على الثَّوَاب لأنه من نعيم الجنة، إِذ روى نهر من اللبن، وقد يدل على المال والحلال».
3-قال ابن مسعود رضي الله عنه: «لو وضع علم أحياء العرب في كفة ميزان ووضع علم عمر في كفة لرجح علم عمر ولقد كانوا يرون أنه ذهب بتسعة أعشار العلم، ولمجلس كنت أجلسه مع عمر أوثق من عمل سنة».
4-قال العيني: «فيه جواز تعبير الرؤيا، ورعاية المناسبة بين التعبير وما له التعبير».

٣٠. [ق] وعَنْ مُعَاويةَ ﵁ قال: سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَاللهُ يُعْطِي». [خ:٧١]
1. قال العيني: «في الحديث فضل العلماء على سائر الناس، وفيه فضل الفقه في الدين على سائر العلوم، وإنما ثبت فضله لأنه يقود إلى خشية الله تعالى والتزام طاعته».
2. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «كل من أراد اللَّه به خيراً لا بد أن يفقهه في الدين، فمن لم يفقهه في الدين، لم يرد الله به خيرًا».

٣١. [ق] وَعَنْ عَبدِ اللهِ بْنِ مَسعودٍ ﵁ قَالَ: قَالَ النَّبيُّ ﷺ: «لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالًا فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ الحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا». [خ:٧٣]
• [ق] وعَنِ ابْن عُمرَ ﵄ مثله، غير أنَّه قال: «رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الكِتَابَ، وَقَامَ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ، وَرَجُلٌ أَعْطَاهُ اللهُ مَالًا فَهُوَ يَتَصَدَّقُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ». [خ:٥٠٢٥]
1. قال ابن المنير: «المعنى حصر المرتبة العليا من الغبطة في هاتين الخصلتين فكأنه قال: «هما آكد القربات التي يُغبط بها».
2. قال النووي: «المراد بالحديث لا غبطة محبوبة إلا في هاتين الخصلتين وما في معناهما فإن كانت من أمور الدنيا كانت مباحة وان كانت طاعة فهي مستحبة».

٢- بابُ الحضِّ على المُبادرةِ لتعلُّمِ العِلمِ قبلَ الفَوْتِ، وفَضْلِ مَن عَلِمَ وعَلَّمَ


٣٢. [ق] عَنْ أَنَسٍ ﵁ قَالَ: لَأُحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثًا لَا يُحَدِّثُكُمْ أَحَدٌ بَعْدِي، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَقِلَّ العِلْمُ، وَيَظْهَرَ الجَهْلُ، وَيَظْهَرَ الزِّنَا، وَتَكْثُرَ النِّسَاءُ، وَيَقِلَّ/ الرِّجَالُ حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً القَيِّمُ الوَاحِدُ». [خ:٨١]
٣٣. [ق] وفي طريق آخر: «إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ العِلْمُ، وَيَثْبُتَ الجَهْلُ، وَيُشْرَبَ الخَمْرُ، وَيَظْهَرَ الزِّنَا». [خ:٨٠]
1. في الحديثِ: أن قدر الله تعالى قد سبق أن يكون خراب الأرض عقيب كثرة الفساد فيها.
2. وفيه: الحث على تعلم العلم؛ فإنه لا يرفع إلا بقبض العلماء.

٣٤. [ق] وَعَنْ أَبِي مُوسَى ﵁، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنَ الهُدَى وَالعِلْمِ، كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ المَاءَ، فَأَنْبَتَ الكَلَأَ وَالعُشْبَ الكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ المَاءَ، فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللهِ، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ». [خ:٧٩]
الغريب: (نَقِيَّةٌ): أي: طائفة نقيَّة؛ أي: مِن مَوانع النَّبات، وفي طريق أخرى: «طائفة طيِّبة»^([م:٢٢٨٢]). و(الأرْضُ الجَدْبَةُ): الَّتي لم تُمْطَر، وهي هنا الَّتي لا تَشرب ولا تُنبت لصلابتها. و(قَبلتْ): مشهور الرِّواية فيه بالباء بواحدة، مِن القَبول، ووقع عند أبي زيد وأبي أحمد: (قَيَّلَت) بالياء باثْنين تحتها، فقيل: هو تَصحيف، وقيل: ليس كذلك. قال في «الجمهرة»^([١/٤١٠]): تَقَيَّل الماءُ في المكان المنخفض: إذا اجتمع فيه. و(القِيعانُ): جمع قاعٍ، وهو المستوي مِن الأرْض، ويُجمع في القلَّة عَلى: أَقْوُعٌ، وأَقْوَاع، والقِيعَةُ مثل القَاع. و(الكَلَأ) بالهمز: الرَّطب مِن العُشب، وما يبس منه يُسمَّى الحشيش.
1. قدرات الناس مختلفة، وتقبلهم متفاوت، ولذلك كانوا أقساماً في تقبلهم للعلم، وعلى المسلم أن يحرص أن يكون من القسم الأعلى الذي يستقبل العلم ويعمل به وينشره بين الناس.
2. قال ابن عثيمين: «في الحديث دليل على حسن تعليم الرسول عليه الصلاة والسلام بضرب الأمثال؛ لأن ضرب الأمثال الحسية يقرب المعاني العقلية فضرب الأمثال من أحسن طرق التعليم ووسائل العلم».

٣- بابُ الأمرِ بحفظِ العِلمِ والتَّبليغِ والإنْصاتِ للعالِمِ


• قد تقدَّم قول النَّبيِّ ﷺ لوفد عبدِ الَقيس: «احْفَظُوهُ، وَأَخْبِرُوا به مَنْ وَرَاءَكُمْ». [ر:٨]
٣٥. [ق] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁ قَالَ: إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ: أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ. وَلَوْلَا آيَتَانِ فِي كِتَابِ اللهِ مَا حَدَّثْتُ حَدِيثًا، ثُمَّ يَتْلُو: ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ یَكۡتُمُونَ مَاۤ أَنزَلۡنَا مِنَ ٱلۡبَیِّنَـٰتِ وَٱلۡهُدَىٰ﴾إلى قوله: ﴿ٱلرَّحِیمُ ۝١٦٠﴾[البقرة: ١٥٩-١٦٠] إِنَّ إِخْوَانَنَا مِنَ المُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ، وَإِنَّ إِخْوَانَنَا مِنَ الأَنْصَارِ كَانَ يَشْغَلُهُمُ العَمَلُ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَلْزَمُ رَسُولَ اللهِ ﷺ لشِبَعِ بَطْنِهِ، وَيَحْضُرُ مَا لَا يَحْضُرُونَ،/ [وَيَحْفَظُ مَا لَا يَحْفَظُونَ. [خ:١١٨]
1. في الحديث: الحرص على التعلم وإيثار طلبه على طلب المالِ.
2. قال ابن بطال: «وفيه أنه جائز للإنسان أن يخبر عن نفسه بفضله إذا اضطر إلى ذلك؛ لاعتذار من شيء، أو لتبيين ما يلزمه تبيينه إذا لم يقصد بذلك الفخر».

٣٦. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَسْمَعُ مِنْكَ حَدِيثًا كَثِيرًا أَنْسَاهُ؟ قَالَ: «ابْسُطْ رِدَاءَكَ». فَبَسَطْتُهُ، فَغَرَفَ بِيَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «ضُمَّهُ»، فَضَمَمْتُهُ، فَمَا نَسِيتُ شَيْئًا بَعْدُ. [خ:١١٩]
1. قوله (أسمع منك حديثًا كثيرًا): يدل على أنَّ النَّبيَّ ﷺ كان مكثرًا من الحديث؛ نصيحة لهذه الأمة، وتعليمًا لهم بأمور دينهم، لذلك دعوى أنَّ السنة مبالغ فيها من حيث الكم المروي دعوى باطلة.
2. في الحديث تشجيع من النَّبيِّ ﷺ للصحابة على حفظ حديثه، والمواظبة على طلبه للتعبد به ولتبليغه للناس؛ لأنَّ عليه المعول في بيان مراد الله جل وعلا.

٣٧. [ق] وَعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ ﵁ أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ وَهُوَ يَبْعَثُ البُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ: ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الأَمِيرُ أُحَدِّثْكَ قَوْلًا قَامَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ الغَدَ مِنْ يَوْمِ الفَتْحِ، سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي، وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ: حَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلَا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِيهَا فَقُولُوا: إِنَّ اللهَ قَدْ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ عَادَتْ حُرْمَتُهَا اليَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالأَمْسِ، وَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ». فَقِيلَ لِأَبِي شُرَيْحٍ: مَا قَالَ عَمْرٌو؟ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ، لَا يُعِيذُ عَاصِيًا وَلَا فَارًّا بِدَمٍ، وَلَا فَارًّا بِخَرْبَةٍ. [خ:١٠٤]
1. فيه: حُسن التلطف في الإنكار، لا سيما مع الملوك فيما يُخالف مقصودهم؛ لأنه أدعى لقبولهم.
2. وفيه: النصيحة لولاة الأمور، وعدم الغش لهم والإغلاظ عليهم إذا أُمِنتِ المفسَدة.
3. وفيه أن التحريم والتحليل من عند الله تعالى، لا مدخل لبشر فيه، وأن الرجوع في كل حالة دنيوية وأخروية إلى الشرع، وأنَّ ذلك لا يُعرَف إلا منه؛ فعلًا، وقولًا، وتقريرًا.
4. وفيه: مشروعية القياس على أفعاله ﷺ، إلا إذا علم اختصاصه بذلك الفعل.

٣٨. وعَنْ أَبِي بَكْرَةَ ﵁ أنَّه ذَكَرَ النَّبِيَّ ﷺ قَعَدَ عَلَى بَعِيرِهِ وَأَمْسَكَ إِنْسَانٌ بِخِطَامِهِ -أَوْ: بِزِمَامِهِ- قَالَ: «أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟» فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ سِوَى اسْمِهِ. قَالَ: «أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟» فَقُلْنَا: بَلَى. قَالَ: «فَأَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟» فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ. قَالَ: «أَلَيْسَ بِذِي الحِجَّةِ؟» قُلْنَا: بَلَى. قَالَ: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا،/ لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، فَإِنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أَنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ مِنْهُ». [خ:٦٧]
1. قال ابن بطال: «حامل الحديث والعلم يجوز أن يُؤخذ عنه وإن كان جاهلًا لمعناه، وهو مأجور في تبليغه محسوب في زمرة أهل العلم إن شاء الله».
2. قال ابن عثيمين: «يقول بعض الناس: أنا أبلغ ولكن لا فائدة! قلنا: هناك فوائد: أولًا: بيان للناس أن هذا حرام؛ لئلا يحتجُّوا بسكوت العلماء على جوازه، وعلى حلِّه. ثانيا: أن الأجيال التي عندك الآن قد لا تنتفع، لكن الأجيال المستقبلة ربما تنتفع».
3. فيه: أن العلم والفهم مُمتَد في الأمة، وليس مُقتصرا على من سمع النبي ﷺ أو رآه.

٣٩. [ق] وعَنْ جَرِيرٍ ﵁ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لَهُ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ: «اسْتَنْصِتِ النَّاسَ». فَقَالَ: «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ». [خ:١٢١]
الغَريب: (الخَرْبَةُ) بالفتح: الجِنَاية أو البليَّة أو السَّرقة، وللأَصِيلي: بالضمِّ.
1. الحديث دليل على أدب من آداب طالب العلم، وهو الإنصات بين يدَي من يعلمه الخير، وقد بوب البخاري لهذا الحديث في كتاب العلم بـ: «باب الإنصات للعلماء».

٤- بابٌ: لا يُقْطَعُ عَلى المُحدِّثِ حديثُهُ حتَّى يَفْرُغَ منه، ورَفعُ الصَّوتِ بالعِلمِ، وتكرارُه ليُفهَمَ


٤٠. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ القَوْمَ جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَمَضَى رَسُولُ اللهِ ﷺ يُحَدِّثُ، فَقَالَ بَعْضُ القَوْمِ: سَمِعَ مَا قَالَ فَكَرِهَ مَا قَالَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ لَمْ يَسْمَعْ. حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ قَالَ: «أَيْنَ السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ؟» قَالَ: هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «فَإِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ». قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ: «إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ». [خ:٥٩]
1. في الحديثِ: الرفق بالسائل وإن جفا في سؤاله أو جهل.
2. وفيه: أن من أكبر الأمانة إسناد الأمر إلى أهله، وأن تضييع ذلك تضييع للأمانة.
3. وفيه: مراجعة العالم إذا لم يفهم السائل.

٤١. [ق] وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو ﵄ قَالَ: تَخَلَّفَ عَنَّا النَّبِيُّ ﷺ فِي سَفْرَةٍ سَافَرْنَاهَا، فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقْنَا الصَّلَاةَ وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ، فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ». مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا. [خ:٦٠]
الغريب: قوله: (وُسِّدَ): مثقَّل، بمعنى أُسند الأمر -يعني: الإمارةَ- إلى غير أهلها. جُعلتْ إليهم وقُلِّدوها. وفي «النِّهاية»^([٥/١٨٣]): يعني إذا سُوِّدَ وشُرِّفَ غير المستحقِّ للسِّيادة والشَّرف. وقيل: هو مِن الوِسادة؛ أي: إذا وُضعتْ وسادة المُلك والأمر والنَّهي لغير مستحقِّها، وتكون (إلى) بمعنى اللَّام. وقوله: (وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ): ويل كلمة عذاب، تُقال لمَن وَقَعَ في هَلَكَة أو بليَّة لا يُترحَّم عليه.
1. في الحديث شفقة النبي ﷺ على أصحابه، حيث كان يتأخر عن القافلة ويمشي آخرها كي يعين ضعيفهم، ويحمل عاجزهم ويتفقد أحوالهم.
2. وفي الحديث فائدةٌ نبَّه عليها البخاري رحمه الله بقوله في تبويب الحديث: «باب من رفع صوته بالعلم» قال ابن حجر: «واستدل المصنف على جواز رفع الصوت بالعلم بقوله: (فنادى بأعلى صوته)، وإنما يتم الاستدلال بذلك حيث تدعو الحاجة إليه لبعد أو كثرة جمع أو غير ذلك، ويلحق بذلك ما إذا كان في موعظة كما ثبت ذلك في حديث جابر: (كان النبي ﷺ إذا خطب وذكر الساعة اشتد غضبه وعلا صوته)».
3. قوله: (مرتين أو ثلاثًا) دليل على الأسلوب التعليمي النافع الذي كان يستعمله ﷺ، وذلك بتكرار الكلام بالعلم كي يحفظ عنه المستمعون ويتثبت المتشككون، وقد أخرج البخاري الحديث أيضا في موقع آخر وبوب عليه بقوله: باب من أعاد الحديث ثلاثا ليفهم عنه.

٥- بابُ السُّؤالِ للاختبارِ والفَهْمِ في العِلْمِ، وأنْ لا حياءَ في أخذِهِ مِن العُلماءِ أو ممَّن أَخَذَ عنهم


٤٢. [ق] عَنِ ابْنِ عُمَرَ ﵄: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَإِنَّهَا مَثَلُ المُسْلِمِ، فَحَدِّثُونِي مَا هِيَ؟» فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ البَوَادِي. قَالَ عَبْدُ اللهِ: وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، فَاسْتَحْيَيْتُ، ثُمَّ قَالُوا: حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «هِيَ النَّخْلَةُ». [خ:٦١]
1. في الحديث امتحان العالم أذهان الطلبة بما يخفى مع بيانه لهم إن لم يفهموه.
2. وفيه: استحباب الحياء ما لم يؤد إلى تفويت مصلحة، ولهذا تمنّى عمر أن يكون ابنه لم يسكت.
3. وفيه: ضرب الأمثال والأشباه لزيادة الإفهام وتصوير المعاني لترسخ في الذهن.
4. وفيه إشارة إلى أن تشبيه الشيء بالشيء لا يلزم أن يكون نظيره من جميع وجوهه.
5. استَدلّ بالحديث الإمام مالك على أن الخواطر التي تقع فِي القلب من محبّة الثناء على أعمال الخير لا يقدح فيها إذا كان أصلها لله، وذلك مُستفاد من تمني عمر المذكور، ووجه تمني عُمر ما طُبع الإنسان عليه من محبّة الخير لنفسه وولده، ولتظهر فضيلة الولد في الفهم من صغره وليزدادَ من النبيّ ﷺ حظوة.

٤٣. [ق] وعَنْ عَلِيٍّ ﵁ قَالَ: كُنْتُ رَجُلًا مَذَّاءً، فَأَمَرْتُ المِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ ﵁ أَنْ يَسْأَلَ النَّبِيَّ ﷺ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: «فِيهِ الوُضُوءُ». [خ:١٣٢]
1. في الحديث دلالة على جواز التوكيل في السؤال في الاستفتاء لعذر الحياء ونحوه سواءً كان المستفتي شاهداً أم غائباً بشرط أن يكون الوكيل أميناً موثوقاً في نقل الفتوى.
2. وفيه أن من حسن المعاشرة وأدب المصاهرة ألا يذكر الزوج ما يتعلق بالجماع والاستمتاع بالزوجة بحضرة أبيها أو أخيها أو ابنها وغيرهم من أقاربها ومع ذلك من أدبه ﵁ نال الحكم الشرعي بطريق غير مباشر.

٤٤. [ق] وَعَنْ عُمَرَ ﵁ قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِي مِنَ الأَنْصَارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ -وَهِيَ مِنْ عَوَالِي المَدِينَةِ- وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، يَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا، فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ بِخَبَرِ ذَلِكَ اليَوْمِ مِنَ الوَحْيِ وَغَيْرِهِ، وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَنَزَلَ صَاحِبِي الأَنْصَارِيُّ يَوْمَ نَوْبَتِهِ، فَضَرَبَ بَابِي ضَرْبًا شَدِيدًا فَقَالَ: أَثَمَّ هُوَ؟ فَفَزِعْتُ فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ عَظِيمٌ، فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَإِذَا هِيَ تَبْكِي، فَقُلْتُ: أَطَلَّقَكُنَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ؟ قَالَتْ: لَا أَدْرِي. ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقُلْتُ وَأَنَا قَائِمٌ: أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ؟ قَالَ: «لَا» فَقُلْتُ: اللهُ أَكْبَرُ. [خ:٨٩]
الغريب: (مَذَّاءً): مِن المَذي -وهو بفتح أوَّله وسكون ثانيه، وقد يُكسر ثانيه، مشدَّد الياء ومخفَّفها- وهو مَاء رقيق يخرج عند الملاعبة.
1. في الحديث الحرص على طلب العلم، والتناوب في العلم والاشتغال به.

٦- بابُ قراءةِ المُحدِّثِ والقراءةِ عليه، والمناولةِ والمكاتبةِ، وكتابةِ العِلمِ


• [خت] وَرَأَى الحَسَنُ وَالثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ القِرَاءَةَ جَائِزَةً. وَقَال الحَسَنُ: لَا بَأْسَ بِالقِرَاءَةِ عَلَى العَالِمِ. وَقَالَ سُفْيَانُ: إِذَا قُرِئَ عَلَى المُحَدِّثِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَقُولَ: حَدَّثَنِي. وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِالصَّكِّ يُقْرَأُ عَلَى القَوْمِ فَيَقُولُونَ: أَشْهَدَنَا فُلَانٌ. وإنَّما ذَلِكَ قِرَاءَةً عَلَيْهِمْ، وَيُقْرَأُ عَلَى المُقْرِئِ، فَيَقُولُ القَارِئُ: أَقْرَأَنِي فُلَانٌ. وَقَالَ مَالِكٌ وَسُفْيَانُ: القِرَاءَةُ عَلَى العَالِمِ وَقِرَاءَتُهُ سَوَاءٌ.
• وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ فِي القِرَاءَةِ عَلَى العَالِمِ بِحَدِيثِ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ أنَّه قَالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: آللهُ أَمَرَكَ أَنْ تُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ؟ قَالَ: «نَعَمْ». قَالَ: فَهَذِهِ قِرَاءَةٌ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، أَخْبَرَ ضِمَامٌ قَوْمَهُ بِذَلِكَ فَأَجَازُوهُ. (خ:٦٣)
٤٥. [ق] وحديثُ ضِمامٍ رَواه أنسٌ ﵁ قال: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي المَسْجِدِ، دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ فَأَنَاخَهُ فِي المَسْجِدِ ثُمَّ عَقَلَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ؟ وَالنَّبِيُّ ﷺ مُتَّكِئٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ، فَقُلْنَا: هَذَا الرَّجُلُ الأَبْيَضُ المُتَّكِئُ. فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: ابْنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: «قَدْ أَجَبْتُكَ». فَقَالَ الرَّجُلُ لِلنَّبِيِّ ﷺ: إِنِّي سَائِلُكَ فَمُشَدِّدٌ عَلَيْكَ فِي المَسْأَلَةِ، فَلَا تَجِدْ عَلَيَّ فِي نَفْسِكَ؟ فَقَالَ: «سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ». فَقَالَ: أَسْأَلُكَ بِرَبِّكَ وَرَبِّ مَنْ قَبْلَكَ، آللهُ أَرْسَلَكَ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ؟ فَقَالَ: «اللهُمَّ نَعَمْ». قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللهِ، آللهُ أَمَرَكَ أَنْ نُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الخَمْسَ فِي اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ؟ فقَالَ: «اللهُمَّ نَعَمْ». قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللهِ، آللهُ أَمَرَكَ أَنْ نَصُومَ هَذَا الشَّهْرَ مِنَ السَّنَةِ؟ قَالَ: «اللهُمَّ نَعَمْ». قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللهِ، آللهُ أَمَرَكَ أَنْ تَأْخُذَ هَذِهِ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَتَقْسِمَهَا عَلَى فُقَرَائِنَا؟ فَقال النَّبِيُّ ﷺ: «اللهُمَّ نَعَمْ». فَقَالَ الرَّجُلُ: آمَنْتُ بِمَا جِئْتَ بِهِ، وَأَنَا رَسُولُ مَنْ وَرَائِي مِنْ قَوْمِي، وَأَنَا ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ أَخُو بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ. [خ:٦٣]
1. قال ابن عثيمين: «فيه أن مسجد النبي ﷺ كان واسعاً كبيراً لكن المسقف منه ليس كبيراً لكن الرحبة رحبته كبيرة واسعة ولهذا تضرب فيها الخيام كما ضربت خيمات زوجات الرسول ﷺ في الاعتكاف، وكما ضرب النبي ﷺ لسعد بن معاذ خيمة في المسجد ليعوده من قريب».
2. قال ابن عثيمين: «وفيه تواضع النبي ﷺ مع أصحابه يجلس معهم ويتكئ بينهم ويكون المجلس بينهم مجلس أدب واحترام ليس فيه تكلف ولهذا قال أيكم محمد والنبي ﷺ متكئ بين ظهرانيهم».
3. وفيه جواز استثبات الإنسان في الأمور ولو كانت الأمور الهامة وأن التسرع للحكم على الشيء خلاف الحكمة فالإنسان ينبغي له أن يتأنى حتى يتبين الأمر.
4. قال ابن بطال: «وفيه قبول خبر الواحد، لأن قومه لم يقولوا له: لا نقبل خبرك عن النبي ﷺ حتى يأتينا من طريق آخر».
5. قوله: (إني سائلك فمشدد عليك)، فيه من الفقه: أن يقدم الإنسان بين يدي حديثه مقدمة يعتذر فيه ليحسن موقع حديثه عند المحدث ويصبر له على ما يأتي منه، وهو من حسن التوصل.

٤٦. وعَنِ ابنِ عبَّاسٍ ﵄ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ بَعَثَ بِكِتَابِهِ رَجُلًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ البَحْرَيْنِ، فَدَفَعَهُ عَظِيمُ البَحْرَيْنِ إِلَى كِسْرَى، فَلَمَّا قَرَأَهُ مَزَّقَهُ، فَحَسِبْتُ أَنَّ ابْنَ المُسَيِّبِ قَالَ: فَدَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَنْ يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ. [خ:٦٤]
1. في الحديثِ: الدعاء إلى الإسلام بالكلام والكتابة، وأن الكتابة تقوم مقام النطق.

٤٧. وَعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ ﵁ قَالَ: قُلْتُ لِعَلِيٍّ ﵁: هَلْ عِنْدَكُمْ كِتَابٌ؟ قَالَ: لَا، إِلَّا كِتَابُ اللهِ، أَوْ فَهْمٌ أُعْطِيَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، أَوْ مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ. قَالَ: قُلْتُ: وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: العَقْلُ، وَفَكَاكُ الأَسِيرِ، وَلَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ. [خ:١١١]
1. في الحديث: أن كتاب الله أصل العلم، وأن الفهم إنما هو عنه، وعن حديث رسول الله المبين له.
2. وفيه: إرشاد إلى أن للعالم أن يستخرج من القرآن بفهمه ما لم يكن منقولا عن المفسرين، لكن بشرط موافقته للأصول الشرعية.

٤٨. [ق] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁ أَنَّ خُزَاعَةَ قَتَلُوا رَجُلًا مِنْ بَنِي لَيْثٍ، عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ. بِقَتِيلٍ مِنْهُمْ قَتَلُوهُ، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ ﷺ، فَرَكِبَ رَاحِلَتَهُ فَخَطَبَ، فَقَالَ: «إِنَّ اللهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ القَتْلَ -أَوِ: الفِيلَ- وَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ رَسُولَ اللهِ ﷺ وَالمُؤْمِنِينَ، أَلَا وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، أَلَا وَإِنَّهَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، أَلَا وَإِنَّهَا سَاعَتِي هَذِهِ حَرَامٌ، لا يُخْتَلَى شَوْكُهَا، وَلا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلَا تُلْتَقَطُ سَاقِطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ، فَمَنْ قُتِلَ لَه قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُعْقَلَ، وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ أَهْلُ القَتِيلِ». فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ اليَمَنِ فَقَالَ: اّْكْتُبْ لِي يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ: «اّْكْتُبُوا لِأَبِي فُلَانٍ». فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ: إِلَّا الإِذْخِرَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنَّا نَجْعَلُهُ فِي بُيُوتِنَا وَقُبُورِنَا؟ فَقال النبيُّ ﷺ: «إِلَّا الإِذْخِرَ، إِلَّا الإِذْخِرَ». [خ:١١٢]
1. تذكير رسول الله ﷺ الناس بنعمة الله في حبس الفيل عن مكة؛ فإنها كانت آية شهد بها كل محق ومبطل.
2. وفيه أن الإنسان إذا سمع الكلام الجزل الذي لا يمكنه ضبطه حفظاً؛ فإنه ينبغي له أن يطلب كتابته، كما فعل أبو شاه.
3. وفيه: جواز مراجعة العالم في المصالح الشرعية، والمبادرة إلى ذلك في المجامع والمشاهد.
4. وفيه: الأمر بكتابة حديثه وسنته ﷺ.

٤٩. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁ قال: مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّي، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلَا أَكْتُبُ. [خ:١١٣]
٥٠. [ق] وعَنِ ابنِ عبَّاسٍ ﵄ قَالَ: لَمَّا اشْتَدَّ بِالنَّبِيِّ ﷺ وَجَعُهُ قَالَ: «اّْئْتُونِي بِكِتَابٍ أَكْتُــبُ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ». قَالَ عُمَرُ ﵁: إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ غَلَبَهُ الوَجَعُ، وَعِنْدَنَا كِتَابُ اللهِ حَسْبُنَا. فَاخْتَلَفُوا وَكَثُرَ اللَّغَطُ، فَقَالَ: «قُومُوا عَنِّي، وَلَا يَنْبَغِي عِنْدِي التَّنَازُعُ»... فَخَرَجَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ، مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَبَيْنَ كِتَابِهِ. [خ:١١٤]
الغريب: قوله: (بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ): يُقال للشَّيء إذا كان في وسط شيء: هَو بين ظَهْرَيهِ وظَهْرَانيه. و(العَقْلُ): مِن عَقلتُ القتيل عَقلًا: غَرمتُ دِيَته. وعَنِ القاتل: غرمتُ عنه الدِّيَةَ.
1. قال ابن تيمية: لو كان ما يكتبه في الكتاب مما يجب بيانه وكتابته لكان النبي ﷺ يُبينه ويكتبه، ولا يلتفت إلى قول أحد، فعلم أنه لما ترك الكتاب لم يكن الكتاب واجبًا، ولا كان فيه من الدين ما تجب كتابته حينئذ، إذ لو وجب لفعله.

٧- بابُ حِلَقِ العِلمِ والوقوفِ على العالِمِ، ومَن بَرَكَ عِنْدَهُ، وغضبُ العالم إذا كَرِهَ شيئًا


٥١. [ق] عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ ﵁ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي المَسْجِدِ وَالنَّاسُ مَعَهُ إِذْ أَقْبَلَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ وَذَهَبَ وَاحِدٌ. قَالَ: فَوَقَفَا عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَرَأَى فُرْجَةً فِي الحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا، وَأَمَّا الآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ ﷺ قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلَاثَةِ؟ أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللهِ فَآوَاهُ اللهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللهُ عَنْهُ». [خ:٦٦]
1. قال ابن حجر: «في الحديث استحباب الأدب في مجالس العلم وفضل سد خلل الحلقة كما ورد الترغيب في سد خلل الصفوف في الصلاة وجواز التخطي لسد الخلل ما لم يؤذ فإن خشي استحب الجلوس حيث ينتهي كما فعل الثاني».
2. قال ابن حجر: «وفيه الثناء على من زاحم في طلب الخير».
3. قال النووي: «في الحديث استحباب جلوس العالم لأصحابه وغيرهم في موضع بارز ظاهر للنَّاس، والمسجد أفضل فيذاكرهم العلم والخير».
4. قال النووي: «فيه جواز حِلَق العلم والذكر في المسجد، واستحباب دخولها، ومجالسة أهلها، وكراهة الانصراف عنها من غير عذر، واستحباب القرب من كبير الحلقة ليسمع كلامه سماعاً بيِّناً، ويتأدَّب بأدبه، وأنَّ قاصد الحلقة إن رأى فرجة دخل فيها، وإلاَّ جلس وراءهم».
5. قال النووي: «فيه الثَّناء على من فعل جميلاً، فإنَّه ﷺ أثنى على الاثنين في هذا الحديث، وأنَّ الإنسان إذا فعل قبيحاً ومذموماً وباح به جاز أن ينسب إليه».

٥٢. [ق] وَعَنْ أَبِي مُوسَى ﵁ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا القِتَالُ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ فَإِنَّ أَحَدَنَا يُقَاتِلُ غَضَبًا، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً. فَرَفَعَ إِلَيْهِ رَأْسَهُ -قَالَ: وَمَا رَفَعَ إِلَيْهِ رَأْسَهُ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ قَائِمًا- فَقَالَ: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ». [خ:١٢٣]
1. في الحديث أن النية الصالحة شرط لقبول العمل عند الله عز وجل.

٥٣. [ق] وعَنْ أنسٍ ﵁ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ خَرَجَ، فَقَامَ عَبْدُ اللهِ بْنُ حُذَافَةَ فَقَالَ: مَنْ أَبِي؟ قَالَ: «أَبُوكَ حُذَافَةُ». ثُمَّ أَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ: «سَلُونِي». فَبَرَكَ عُمَرُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ: رَضِينَا بِاللهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، فَسَكَتَ. [خ:٩٣]
• وفي الباب عَنْ أبي مَسعود [خ:٩٠] وزيدِ بن خالدٍ [خ:٩١] وغيرهما.
الغريب: قوله: (أَوَى إِلَى اللهِ): أي لَجأ، وهو بالقصر. (فَآوَاهُ اللهُ) بالمدِّ، وهو الأفْصح، وبه جاء القرآن، وحُكي في كلٍّ منهما اللُّغتان.
1. في الحديث: بيان مغبة وخطورة التنطع والاسترسال في الأسئلة التي لا طائل منها.
2. وفيه: أن المسلم يسلم أمره لله، وذلك من كمال الإيمان بالله ورسوله.
3. أن من حق العالم أن يغضب على السائل إذا سأل عما فيه مضرة، أو لا يتناسب مع الموضوع.

٨- بابُ التَّحديثِ بما يُنَاسِبُ كلَّ قومٍ، وإثْمِ كِتْمَانِ العِلمِ، ومَن كتمَهُ لعُذرٍ، وزيادةِ الجوابِ عَلى السؤالِ


• قَالَ عَلِيٌّ ﵁: حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللهُ وَرَسُولُهُ؟![خ:١٢٧]
٥٤. وعَنْ أنسٍ ﵁ قَالَ: ذُكِرَ لِي أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لِمُعَاذٍ: «مَنْ لَقِيَ اللهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ الجَنَّةَ». قَالَ: أَلَا أُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَالَ: «لَا، أَخَافُ أَنْ يَتَّكِلُوا». [خ:١٢٩]
1. في الحديث أن من العلم ما يعطى لعامة الناس، ومنه ما يعطى للخاصة فقط.
2. وفيه: منزلة معاذ بن جبل ﵁ من العلم؛ لأن النبي ﷺ خصَّه بشيء من العلم.
3. قال ابن رجب: «قال العلماء يؤخذ من منع معاذ من تبشير الناس لئلا يتكلوا أن أحاديث الرخص لا تشاع في عموم الناس لئلا يقصر فهمهم عن المراد بها، وقد سمعها معاذ فلم يزدد إلا اجتهادًا في العمل وخشية الله عز وجل، فأما من لم يبلغ منزلته فلا يؤمن أن يُقصِّر اتكالا على ظاهر هذا الخبر، وقد عارضه ما تواتر من نصوص الكتاب والسنة أن بعض عصاة الموحدين يدخلون النار، فعلى هذا يجب الجمع بين الأمرين».

٥٥. [ق] وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ ﵁ قال: قَالَتِ النِّسَاءُ لِلنَّبِيِّ ﷺ: غَلَبَنَا عَلَيْكَ الرِّجَالُ، فَاجْعَلْ لَنَا يَوْمًا مِنْ نَفْسِكَ. فَوَعَدَهُنَّ يَوْمًا لَقِيَهُنَّ فِيهِ، فَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ، فَكَانَ فِيمَا قَالَ لَهُنَّ: «مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمُ ثَلَاثَةً مِنْ وَلَدِهَا إِلَّا كَانَ لَهَا حِجَابًا مِنَ النَّارِ» فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: وَاثْنَيْنِ؟ قَالَ: «وَاثْنَيْنِ». [خ:١٠١]
• [ق] وفي رواية: «لم يبلغوا الحِنْثَ». [خ:١٠٢]
• [خت] وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ ﵁: لَوْ وَضَعْتُمُ الصَّمْصَامَةَ عَلَى هَذِهِ -وَأَشَارَ إِلَى قَفَاهُ- ثُمَّ ظَنَنْتُ أَنِّي أُنْفِذُ كَلِمَةً سَمِعْتُهَا مِن رَسولِ اللهِ ﷺ قَبْلَ أَنْ تُجِيزُوا عَلَيَّ لَأَنْفَذْتُهَا.
1. في الحديث: عظيم أجر من أصيب بفقد أولاده، وذلك إذا صبر ولم يقل قبيحاً.
2. وفيه: سؤال النساء عن أمر دينهن.
3. وفيه: دليل على أن أولاد المسلمين في الجنة؛ لأن الله سبحانه إذا رحم الآباء وأدخلهم الجنة بفضل رحمتهم لأبنائهم؛ فالأبناء أولى بالرحمة وأحرى.

٥٦. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁ قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ وِعَاءَيْنِ: فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ لَقُطِعَ هَذَا البُلْعُومُ. [خ:١٢٠]
1. قال القرطبي: «قال علماؤنا: هذا الذي لم يبثه أبو هريرة وخاف على نفسه فيه الفتنة أو القتل إنما هو مما يتعلق بأمر الفتن، والنص على أعيان المرتدين، والمنافقين، ونحو هذا مما لا يتعلق بالبينات والهدى». وقال ابن حجر: «حمل العلماء الوعاء الذي لم يبثه على الأحاديث التي فيها تبيين أسامي أمراء السوء وأحوالهم وزمنهم، وقد كان أبو هريرة يكني عن بعضهم ولا يصرح به خوفا على نفسه منهم».
2. قال الذهبي: «في الحديث دليل على جواز كتمان بعض الأحاديث التي تحرك فتنة في الأصول أو الفروع، أو المدح والذم، أما حديث يتعلق بحلال أو حرام فلا يحل كتمانه بوجه، فإنه من البينات والهدى»، وفي صحيح البخاري: قول علي ﵁: «حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله». وكذا لو بث أبو هريرة ذلك الوعاء لأوذي، بل لقتل، ولكن العالم قد يؤديه اجتهاده إلى أن ينشر الحديث الفلاني إحياء للسنة، فله ما نوى، وله أجر وإن غلط في اجتهاده.

٥٧. [ق] وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ ﵄، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ: مَا يَلْبَسُ المُحْرِمُ؟ فَقَالَ: «لَا يَلْبَسُ القَمِيصَ وَلَا العِمَامَةَ، وَلَا السَّرَاوِيلَ وَلَا البُرْنُسَ، وَلَا ثَوْبًا مَسَّهُ الوَرْسُ أَوِ الزَّعْفَرَانُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا تَحْتَ الكَعْبَيْنِ». [خ:١٣٤]
1. قال النووي: «قال العلماء: هذا من بديع الكلام وأجزله، فإنه ﷺ سُئِل عمَّا يلبسه المحرم، فقال: (لا يلبس كذا وكذا)، فحصل في الجواب أنه لا يلبس المذكورات، ويلبس ما سوى ذلك، وكان التصريح بما لا يلبس أولى؛ لأنه منحصر، وأما الملبوس الجائز للمحرم فغير منحصر».

٩- بابٌ متى يَصِحُّ سَمَاعُ الصَّغير؟


٥٨. [ق] عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ ﵄ أَنَّهُ قَالَ: أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الِاحْتِلَامَ، وَرَسُولُ اللهِ ﷺ يُصَلِّي بِمِنًى إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ، فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ، وَأَرْسَلْتُ الأَتَانَ تَرْتَعُ، وَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ، فَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيَّ. [خ:٧٦]
1. في الحديث: أن الإمام يتحمل عن المأموم السترة.
2. وفيه: صحة سماع الغلام المميز للحديث والتَّحديث به.
3. وفيه أن من قارب البلوغ فهو أهلٌ للإنكار إذا فعل ما يستحق الإنكار عليه، وإن كان غير مُكلَّف.

٥٩. [ق] وعَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ ﵁ قَالَ: عَقَلْتُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ مَجَّةً مَجَّهَا فِي وَجْهِي وَأَنَا ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ مِنْ دَلْوٍ. [خ:٧٧]
الغَريب: [(الحمار) الذكر والأنثى]. (الأَتانُ): أُنثى الحُمُر. و(نَاهزتُ): قاربتُ. و(تَرْتَع): تَرْعَى. و(المَجَّة): طرحُ الماء مِن الفَم وَصبُّه، ومنه قول امرئ القيس:
... ... ... ... ... ... يَمُجُّ لِعَاعَ البَقْلِ في كُلِّ مَشْرَبِ
1. في رش الماء في وجهه من ملاطفة النبي ﷺ للصبيان، وتأنيسهم، وإكرام آبائهم بذلك، مع تعليمه للناس أن ملاطفة الصبيان والأهل لا تقلل من شأن ذوي الهيئات والسلطان.
2. وفيه: صحة سماع الصبي إذا كان عاقلا لما يسمع.

١٠- بابُ إِعادةِ الحديثِ للتَّفهيمِ، وجَوازِ [المراجعةِ] عندَ الإِشكالِ، والحرصِ على الحديثِ والعلمِ


٦٠. عَنْ أَنَسٍ ﵁، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ كَانَ إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلَاثًا حَتَّى تُفْهَمَ عَنْهُ، وَإِذَا أَتَى عَلَى قَوْمٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ ثَلَاثًا. [خ:٩٥]
1. في الحديث أن التكرار ثلاث مرات غاية ما يقع به البيان، إذ أن الاقتصار على الثلاث إشعار بأن مراتب الفهم كذلك، أعلى وأوسط وأدنى.
2. وفيه بيان لحسن خلقه ﷺ ومزيد شفقته ورحمته بالعباد.

٦١. [ق] وَعَنْ عَائِشَةَ ﵂ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ وكَانَتْ لَا تَسْمَعُ شَيْئًا لَا تَعْرِفُهُ إِلَّا رَاجَعَتْ فِيهِ حَتَّى تَعْرِفَهُ، وَأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ». فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: أَوَلَيْسَ يَقُولُ اللهُ ﷿: ﴿فَسَوۡفَ یُحَاسَبُ حِسَابࣰا یَسِیرࣰا ۝٨﴾ [الانشقاق:٨] قَالَت: فَقَالَ: «إِنَّمَا ذَلِكِ العَرْضُ، وَلَكِنْ مَنْ نُوقِشَ الحِسَابَ يَهْلِكْ». [خ:١٠٣]
1. في الحديث بيان فضيلة عائشة ﵂، وحرصها على التعلم والتحقيق.
2. وفيه: جواز المناظرة ومقابلة السنة بالكتاب، وأن على العالم أن يقابِل مُراجعته برحابة صدر، وأن يُجيب السَّائل المستفهم، كما فعل النبي ﷺ.

٦٢. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ القِيَامَةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لَا يَسْأَلُنِي عَنْ هَذَا الحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الحَدِيثِ، أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ» أَوْ: «نَفْسِهِ». [خ: ٩٩]
1. في الحديثِ الحرص على العلم والخير؛ فإن الحريص يبلغ بحرصه إلى البحث عن الغوامض، ودقيق المعاني، فيكون ذلك سببًا للفائدة، ويترتَّبُ عليه أجرُها، وأجرُ من عمل بها إلى يوم القيامة.
2. وفيه: تفرُّس العالم في متعلِّمه، وتنبيهه على ذلك؛ ليكون أبعث على اجتهاده.
3. وفيه: سُكوت العالِمِ عن العِلم إذا لم يُسأَل حتى يسأل، ولا يكون ذلك كتما؛ لأن على الطالب السؤال، اللهم إلا إذا تعين عليه، فليس له السكوت.

١١- بابُ غَضَبِ العالِمِ إِذا رأىَ ما يَكْرَهُ، وعندَ الإِكثارِ مِنَ المسائِلِ، ورَفْعِ صوتِهِ بالعلمِ


٦٣. [ق] عَنْ أَبِي مُوسَى ﵁ -واسمه عبدُ اللهِ بنُ قيسٍ- قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ أَشْيَاءَ كَرِهَهَا، فَلَمَّا أُكْثِرَ عَلَيْهِ غَضِبَ، ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ: «سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ». قَالَ رَجُلٌ: مَنْ أَبِي؟ قَالَ: «أَبُوكَ حُذَافَةُ». فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ: مَنْ أَبِي يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «أَبُوكَ سَالِمٌ مَوْلَى شَيْبَةَ» فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ مَا فِي وَجْهِهِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا نَتُوبُ إِلَى اللهِ ﷿. [خ:٩٢]

١٢- [بابُ العِلمِ والعِظةِ باللَّيلِ، والسَّمَرِ في العلمِ


٦٤. عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ﵂ قَالَت: اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ ﷺ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَقَالَ: «سُبْحَانَ اللهِ، مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنَ الفِتَنِ، وَمَاذَا فُتِحَ مِنَ الخَزَائِنِ، أَيْقِظُوا صَوَاحِبَاتِ الحُجَرِ]، فَرُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٌ فِي الآخِرَةِ». [خ:١١٥]
1. وفي الحديث: أن للرجل أن يوقظ أهله ليلا للصلاة وللذكر، ولا سيما عند آية تحدث، أو إثر رؤيا مخوفة.
2. وفيه: مشروعية قول: «سبحان الله» عند التعجب.
3. وفيه: أن الصلاة تنجي من الفتن وتعصم من المحن.
4. وفيه: التحذير من نسيان شكر المنعم، وعدم الاتكال على شرف الزوج.

٦٥. [ق] وعَنْ عبدِ اللهِ بن عُمَرَ ﵄ قال: صَلَّى بِنَا رسولُ اللهِ ﷺ العِشَاءَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ فَقَالَ: «أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فَإِنَّ رَأْسَ مِئَةِ سَنَةٍ مِنْهَا لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَحَدٌ». [خ:١١٦]
يعني بذلك: يَنْخَرِمُ ذلكَ القَرْنُ، والله أعلم.
٦٦. [ق] وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ﵂ قَالَتْ: جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الحَقِّ، فَهَلْ عَلَى المَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا احْتَلَمَتْ؟ فقال النَّبيُّ ﷺ: «إِذَا رَأَتِ المَاءَ»، فَغَطَّتْ أُمُّ سَلَمَةَ -يَعْنِي وَجْهَهَا- وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَتَحْتَلِمُ المَرْأَةُ؟ قَالَ: «نَعَمْ، تَرِبَتْ يَمِينُكِ، فَبِمَ يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا؟!». [خ:١٣٠]
الغريب: (تَرِبَتْ): افتقرتْ، يُقال: تَرَبَ الرَّجلُ إِذا اّْفتَقَرَ، وأَتْرَبَ إِذا استَغْنَى، وخَرَجَ مَخْرَج الدُّعاءِ وليس مُرادًا، وإِنَّما هي عادةٌ عربيةٌ واستراحةٌ لَفْظِيَّةٌ.
1. في الحديث جواز استفتاء المرأة بنفسها عن أمر دينها.
2. وفيه أن ذكر ما يستحيا منه غير مكروهٍ إذا كان لمعرفة الحق والتفقه في الدين، وأن يقدم أمام الكلام الذي يستحيا منه مقدمة تناسب المقام، تمهيدا للكلام، لِيَخِفَّ وقعه، ولئلا ينسب صاحبه إلى الجفاء.

١٣- بابٌ: يخصُّ العالِمُ أهلَ الفهمِ بالعلمِ ويجوزُ له أن [يتركَ] المختارَ لِما هو أشدُّ منه، وأَنْ يُجِيبَ السائل بأكثر ممَّا سألَ


٦٧. [ق] عَنِ الأَسْوَدِ قالَ: قالَ لي ابْنُ الزُّبَيْرِ ﵁: كانَتْ عائشَةُ تُسِرُّ إِلَيْكَ كَثِيرًا، فَما حَدَّثَتْكَ في الكَعْبَةِ؟ قُلْتُ: قالتْ لِي: قال النبيُّ ﷺ: «يَا عَائِشَةُ لَوْلَا قَوْمُكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ -قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ رَاوِيه: بِكُفْرٍ- لَنَقَضْتُ الكَعْبَةَ، فَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ: بَابٌ يَدْخُلُ النَّاسُ، وَبَابٌ يَخْرُجُونَ مِنْهُ». فَفَعَلَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ.[خ:١٢٦]
1. عنون البخاري لهذا الحديث بـ: «باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم الناس عنه فيقعوا في أشد منه»
2. قال ابن الجوزي: «في الحديث تنبيه على مراعاة أحوال الناس ومداراتهم، وألا يبدهوا بما يخاف قلة احتمالهم له، أو بما يخالف عاداتهم إلا أن يكون ذلك من اللازمات».
3. قال المهلب: «فيه أنه قد يُترك يسير من الأمر بالمعروف إذا خشي منه أن يكون سبباً لفتنة قوم ينكرونه».

٦٨. [ق] وعَنْ أنْسٍ ﵁ أنَّ النَّبيَّ ﷺ -وَمُعاذٌ رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ- قَالَ: «يَا مُعَاذَ ابْنَ جَبَلٍ». قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ. قَالَ: «يَا مُعَاذُ». قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ. ثَلَاثًا. قَالَ: «مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ إِلَّا حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النَّارِ». قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أَفَلَا [أُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا؟ قَالَ: «إِذًا يَتَّكِلُوا». وَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا. [خ:١٢٨]
• [ق] عَن سعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ قالَ: قلتُ لابنِ عبَّاسٍ: إِنَّ نَوْفًا البَكّالِيَّ يَزْعمُ أَنَّ مُوسى ليس بمُوسى بَنِي إسرائيلَ، إِنَّما هو موسى آخَرُ. فقالَ: كَذَبَ عدوُّ اللهِ، حدَّثنا أُبَيُّ بنُ كَعبٍ، عنِ النَّبيِّ ﷺ: «قامَ موسى النَّبيُّ خَطِيبًا في بَنِي إِسرائيلَ فسُئِلَ: أيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فقالَ: أَنا أَعْلَمُ. فَعَتَبَ اللهُ عليه إِذْ لمْ يَرُدَّ العلمَ إليه، فَأَوْحَى اللهُ إليه أَنَّ عبدًا مِنْ عِبادِي بمَجْمَعِ البحرينِ هو أَعْلَمُ منكَ. قالَ: يا رَبِّ، وكيفَ به؟ فَقِيلَ لهُ: احْمِلْ حُوتًا في مِكْتَلٍ، فإِذا فَقَدْتَهُ فهو ثَمَّ. فانْطَلَقَ وانْطَلَقَ بفتاهُ يُوشَعَ بن نُونٍ، وَحَمَلا حُوتًا في مِكْتَلٍ، حتَّى كانا عندَ الصَّخْرَةِ وَضَعا رُؤوسَهُما وَناما، فانْسَلَّ الحُوتُ مِنَ المِكْتَلِ ﴿فَٱتَّخَذَ سَبِیلَهُۥ فِی ٱلۡبَحۡرِ سَرَبࣰا ۝٦١﴾[الكهف:٦١] وكانَ لِموسى وفتاهُ عَجَبًا، فانْطَلَقا بَقِيَّةَ لَيْلَتِهِما وَيَوْمَهُما، فلمَّا أَصْبَحَ قالَ موسى لفتاهُ: ﴿ءَاتِنَا غَدَاۤءَنَا لَقَدۡ لَقِینَا مِن سَفَرِنَا هَـٰذَا نَصَبࣰا ۝٦٢﴾ [الكهف:٦٢] وَلَمْ يَجِدْ موسى مَسًّا مِنَ النَّصَبِ حتَّى جاوَزَ المكانَ الذي أُمِرَ به، فقالَ له فَتاهُ: ﴿قَالَ أَرَءَیۡتَ إِذۡ أَوَیۡنَاۤ إِلَى ٱلصَّخۡرَةِ فَإِنِّی نَسِیتُ ٱلۡحُوتَ﴾ [الكهف:٦٣]. قالَ موسى: ﴿ذَ ٰ⁠لِكَ مَا كُنَّا نَبۡغِۚ فَٱرۡتَدَّا عَلَىٰۤ ءَاثَارِهِمَا قَصَصࣰا ۝٦٤﴾ [الكهف:٦٤] فلمَّا انْتَهَيا إلى الصَّخْرَةِ، إِذا رَجُلٌ مُسَجًّى بِثَوْبٍ، أَوْ قالَ تَسَجَّى بِثَوْبه، فَسَلَّمَ موسى فقالَ الخَضِرُ: وَأَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلامُ؟ فقالَ: أَنا موسى. فقالَ: موسى بَنِي إِسْرائِيلَ؟ قالَ: نعمْ. قالَ: ﴿هَلۡ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰۤ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمۡتَ رَشَدࣰا ۝٦٦﴾ ﴿قَالَ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِیعَ مَعِیَ صَبۡرࣰا ۝٦٧﴾ [الكهف: 67] يا موسى إِنِّي على عِلْمٍ مِن عِلْمِ اللهِ عَلَّمَنِيهِ لا تَعْلَمُهُ أنتَ، وَأنتَ على عِلْمٍ عَلَّمَكَهُ لا أَعْلَمُهُ. ﴿قَالَ سَتَجِدُنِیۤ إِن شَاۤءَ ٱللَّهُ صَابِرࣰا وَلَاۤ أَعۡصِی لَكَ أَمۡرࣰا ۝٦٩﴾ [الكهف:٦٩] فانْطَلَقا يَمْشِيانِ على ساحِلِ البَحْرِ ليس لهما سَفِينَةٌ، فَمَرَّتْ بهما سَفِينَةٌ، فَكَلَّمُوهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُما، فَعُرِفَ الخَضِرُ، فَحَمَلُوهُما بِغَيْرِ نَوْلٍ، فَجاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ على حَرْفِ السَّفِينَةِ، فَنَقَرَ نَقْرَةً أوْ نَقْرَتَيْنِ في البحرِ، فقالَ الخَضِرُ: يا موسى، ما نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِن عِلْمِ اللهِ إِلّا كَنَقْرَةِ هذا العُصفورِ في البحرِ، فَعَمَدَ الخَضِرُ إلى لَوْحٍ مِن أَلْواحِ السَّفينةِ فَنَزَعَهُ، فقالَ موسى: قَوْمٌ حَمَلُونا بِغَيْرِ نَوْلٍ عَمَدْتَ إلى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها؟ ﴿قَالَ أَلَمۡ أَقُلۡ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِیعَ مَعِیَ صَبۡرࣰا ۝٧٢ قَالَ لَا تُؤَاخِذۡنِی بِمَا نَسِیتُ﴾ [الكهف:٧٢-٧٣] فكانتِ الأُولى مِن موسى نسيانًا فانطلقا، فإِذا غُلامٌ يلعبُ مع الغِلمانِ، فأخذَ الخَضِرُ برأسِهِ مِن أَعلاهُ فاقتلَعَ رأسهُ بيدِهِ، فقالَ موسى: ﴿أَقَتَلۡتَ نَفۡسࣰا زَكِیَّةَۢ بِغَیۡرِ نَفۡسࣲ﴾[الكهف:٧٤] ﴿۞ قَالَ أَلَمۡ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِیعَ مَعِیَ صَبۡرࣰا ۝٧٥ [الكهف:٧٥] -قالَ ابنُ عُيَيْنَةَ: وهذا أَوْكَدُ- ﴿فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰۤ إِذَاۤ أَتَیَاۤ أَهۡلَ قَرۡیَةٍ ٱسۡتَطۡعَمَاۤ أَهۡلَهَا فَأَبَوۡا۟ أَن یُضَیِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِیهَا جِدَارࣰا یُرِیدُ أَن یَنقَضَّ فَأَقَامَهُۥۖ ﴾ [الكهف:٧٧] قالَ الخَضِرُ بِيَدِهِ فَأَقامَهُ، فقالَ له موسى: ﴿قَالَ لَوۡ شِئۡتَ لَتَّخَذۡتَ عَلَیۡهِ أَجۡرࣰا ۝٧٧ قَالَ هَـٰذَا فِرَاقُ بَیۡنِی وَبَیۡنِكَۚ ﴾ [الكهف:٧٧-٧٨]» قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «يَرْحَمُ اللهُ موسى، لَوَدِدْنا لَوْ صَبَرَ حتَّى يُقَصَّ عَلَيْنا مِنْ أَمْرِهِما». [خ:١٢٢]
الغريب: الفروة أنها الأرض البيضاء التي ليس] فيها نبات ولا فرش.
1. قال ابن حجر: «وفيه استحباب الحرص على الازدياد من العلم والرحلة فيه ولقاء المشايخ وتحمُّل المشاق في ذلك»، وقال السعدي: «فيه فضيلة العلمِ والرحلةِ في طلبه، وأنه من أهم الأمور؛ فإن موسى ﵇ رحل مسافة طويلة ولقي النصب في طلبه وترك القعود عند بني إسرائيل لتعليمهم وإرشادهم، واختار السفر لزيادة العلم على ذلك».
2. قال السعدي: «وفيه جواز أخذ الخادم في الحضر والسفر لكفاية المؤن وطلب الراحة كما فعل موسى».
3. قال السعدي: «جواز إخبار الإنسان عما هو من مقتضى طبيعة النفس من نصب وجوع أو عطش إذا لم يكن على وجه التسخط، وكان صدقًا؛ لقول موسى: {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً}».
4. قال السعدي: «وفيه: استحباب إطعام الإنسان خادمه من مأكله وأكلهما جميعًا؛ لأن ظاهر قوله: {آتِنَا غَدَاءَنَا} إضافة إلى الجميع أنهما أكلا جميعًا».
5. قال السعدي: «وفيه التأدب مع المعلم، وخطاب المتعلم إياه بألطف خطاب؛ لقول موسى عليه السلام: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً}.
6. وفيه الإغضاء على بعض المنكرات مخافة أن يتولد منه ما هو أشد، وإفساد بعض المال لإصلاح معظمه.

١٤- بابُ الأمرِ بتبليغِ العِلْمِ، وإباحةِ الحديثِ عَنْ بني إِسْرائيلَ


٦٩. عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو ﵄ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»
. [خ:٣٤٦١]
الغريب: قوله: (وَلَا حَرَجَ) أي: في تركِ الحديث عنهم؛ لئلَّا يُتوهَّم أنَّه واجب. و(فَلْيَتَبَوَّأْ) أي: ليتَّخذ فيها مُبَوَّأً؛ أي: منزلًا، وهو أمر تهديد، كقوله: ﴿ ٱعۡمَلُوا۟ مَا شِئۡتُمۡ ﴾ [فصلت:٤٠].
1. وجوب تبليغ شريعة الله، وأن المرء يؤدي ما حفظ وفهم ولو كان يسيرًا.
2. جواز التحدث عما جرى لبني إسرائيل؛ لأخذ العبرة والعظة شريطة ألا يكون الحديث مما ثبت كذبه، ويتحرى ما كان ثابتا وأقرب إلى الشرع الإسلامي.

١٥- بابُ خِيَارِ النَّاسِ في الإسلامِ خِيَارهم في الجاهليَّةِ إذا فَقِهُوا


٧٠. [ق] عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁، عَنِ النَّبيِّ ﷺ قَالَ: «تَجِدُونَ النَّاسَ مَعَادِنَ، خِيَارُهُمْ فِي الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا، وَتَجِدُونَ خَيْرَ النَّاسِ فِي هَذَا الشَّأْنِ أَشَدَّهُمْ لَهُ كَرَاهَةً -في رِواية[٣٤٩٦]: حتَّى يقع فيه- وتَجِدونَ شرَّ النَّاسِ ذَا الوَجْهينِ، الَّذي يأتي هؤلاءِ بوجهِ، ويأتي هؤلاء بوجه». [خ:٣٤٩٣] [خ:٣٤٩٤]
الغَريب: أصل (المعْدن): مِن عَدَن؛ أي: إقامة، ومنه جنَّة عَدْنٍ؛ لخلود الإقامة فيها، وهذا مَثَلٌ ضربَه؛ قال: النَّاسُ الكُبراء والسَّادة المكارم في أصول مقيمةٍ ثابتةٍ مثل المعادن المنطوية على الذَّهب والفضَّة المقيمين فيها، فإذا تفقَّه كُبراء النَّاس وأشْرافهم اجتمعَ لهم الفضل الأصْليُّ، والفضل الفرعيُّ فاستحقُّوا بذلك أن يكونوا خير النَّاس، والله أعلم. ويعني بهذا الشَّأن: الإمارة.

١ قال ﷺ: "ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب" قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال:

٥/٠