كِتابُ السِّيَرِ


باب: فِـي أمْرِ البُعُوثِ بِالتَّيْسِيرِ


١٦٠٠. (خ م) (١٧٣٣) عَنْ أبِي مُوسى ﵁ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَعَثَهُ ومُعاذًا إلى اليَمَنِ، فَقالَ: «يَسِّرا ولا تُعَسِّرا، وبَشِّرا ولا تُنَفِّرا، وتَطاوَعا ولا تَختَلِفا».
١٦٠١. (خ م) (١٧٣٤) عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ ﵁ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «يَسِّرُوا ولا تُعَسِّرُوا، وسَكِّنُوا ولا تُنَفِّرُوا».
-قال ابن عثيمين: هذه قاعدة من قواعد الشريعة الإسلامية.
-قال النووي: إنما جمع في هذه الألفاظ بين الشيء وضده؛ لأنه قد يفعلهما في وقتين، فلو اقتصر على (يسروا) لصدق ذلك على من يسر مرة أو مرات، وعسر في معظم الحالات، فإذا قال: ( ولا تعسروا ) انتفى التعسير في جميع الأحوال من جميع وجوهه، وهذا هو المطلوب، وكذا يقال في ( يسرا ولا تنفرا ) ( وتطاوعا ولا تختلفا ) لأنهما قد يتطاوعان في وقت ويختلفان في وقت، وقد يتطاوعان في شيء ويختلفان في شيء.
-فيه الأمر بالتبشير بفضل الله، وعظيم ثوابه، وجزيل عطائه، وسعة رحمته، والنهي عن التنفير بذكر التخويف وأنواع الوعيد محضة من غير ضمها إلى التبشير. (النووي)
-فيه تأليف من قرب إسلامه وترك التشديد عليهم، وكذلك من قارب البلوغ من الصبيان، ومن بلغ ومن تاب من المعاصي، كلهم يتلطف بهم، ويدرجون في أنواع الطاعة قليلا قليلا، وقد كانت أمور الإسلام في التكليف على التدريج، فمتى يسر على الداخل في الطاعة أو المريد للدخول فيها سهلت عليه، وكانت عاقبته غالبًا التزايد منها، ومتى عسرت عليه أوشك أن لا يدخل فيها، وإن دخل أوشك أن لا يداوم عليها أو لا يستحليها. (النووي)
-فيه أمر الولاة بالرفق، واتفاق المتشاركين في ولاية ونحوها، وهذا من المهمات؛ فإن غالب المصالح لا يتم إلا بالاتفاق، ومتى حصل الاختلاف فاتت المصالح. (النووي)
-فيه وصية الإمام الولاة وإن كانوا أهل فضل وصلاح كمعاذ وأبي موسى ﵃؛ فإن الذكرى تنفع المؤمنين. (النووي)
فيه الحض على الاتفاق لما فيه من ثبات المحبة والألفة والتعاون على الحق.

باب: الحَدُّ بَيْنَ الصَّغِيرِ والكَبِيرِ


١٦٠٢. (خ م) (١٨٦٨) عَنِ ابْنِ عُمَرَ ﵄ قالَ: عَرَضَنِي رَسُولُ اللهِ ﷺ يَومَ أُحُدٍ (فِي القِتالِ) وأَنا ابنُ أربَعَ عَشرَةَ سَنَةً فَلَم يُجِزنِي، وعَرَضَنِي يَومَ الخَندَقِ وأَنا ابنُ خَمسَ عَشرَةَ سَنَةً فَأَجازَنِي. قالَ نافِعٌ: فَقَدِمتُ عَلى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ وهُوَ يَومَئِذٍ خَلِيفَةٌ، فَحَدَّثتُهُ هَذا الحَدِيثَ فَقالَ: إنَّ هَذا لَحَدٌّ بَينَ الصَّغِيرِ والكَبِيرِ. فَكَتَبَ إلى عُمّالِهِ أن يَفرِضُوا لِمَن كانَ ابنَ خَمسَ عَشرَةَ سَنَةً، (ومَن كانَ دُونَ ذَلكَ فاجعَلُوهُ فِي العِيالِ). ورَوى (خ) عَن ابْنِ عُمَرَ قالَ: أوَّلُ يَومٍ شَهِدتُهُ يَومَ الخَندَقِ.
-فيه دليل على أن من استكمل خمس عشرة سنة أجريت عليه أحكام البالغين وإن لم يحتلم، فيكلف بالعبادات وإقامة الحدود، ويستحق سهم الغنيمة، ويقتل إن كان حربيا، ويفك عنه الحجر إن أونس رشده وغير ذلك من الأحكام، وقد عمل بذلك عمر بن عبد العزيز وأقره عليه كما رواه نافع. (ابن حجر)
-فيه أن الإمام يستعرض من يخرج معه للقتال قبل أن تقع الحرب، فمن وجده أهلا استصحبه وإلا رده، وقد وقع ذلك للنبي - ﷺ - في بدر وأحد وغيرهما. (ابن حجر)
-فيه دليل على أن الخندق كانت سنة أربع من الهجرة.(النووي)
-ظاهر كلام ابن عمر هذا: أنه كان بين غزوة أحد وغزوة الأحزاب سنة، وليس كذلك، فإن النبي ﷺ خرج إلى أحد في شوال سنة ثلاث من الهجرة، وكانت غزوة الخندق -وهي غزوة الأحزاب- في شوال من السنة الخامسة، فكان بينهما سنتان، ولذلك قال بعض العلماء: إن ذكر الأحزاب هنا وهم، وإنما كانت غزوة ذات الرقاع، فإنها كانت في الرابعة من الهجرة.
-قال القرطبي: ويمكن أن يقال: لا وهم في ذلك؛ لإمكان أن يكون ابن عمر في غزوة أحد دخل في أول سنة أربع عشرة من حين مولده، وذلك في شوال في غزوة أحد، ثم كملت له سنة أربع عشرة في شوال من السنة الآتية، ثم دخل في الخامس عشر إلى شوالها الذي كانت فيه غزوة الأحزاب، فأراد: أنه كان في غزوة أحد في أول الرابعة، وفي غزوة الأحزاب في آخر الخامسة، والله تعالى أعلم.
-فيه ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من شجاعة وإقدام وحمية للإسلام منذ نعومة أظفارهم.
فيه العناية بالشباب وتقديمهم في الأمور العظيمة كالجهاد؛ ليتربوا على العظائم، ويترفعوا عن سفساف الأمور، ولاستغلال حماسهم وقوتهم فيما ينفع الأمة، فالشباب هم السواعد القوية التي تحقق طموحات الأمة، وهم قادة المستقبل ورواده.

باب: الـنَّهْيُ أنْ يُسافَرَ بِالقُرْآنِ إلى أرْضِ العَدُوِّ


١٦٠٣. (خ م) (١٨٦٩) عَنِ ابْنِ عُمَرَ ﵄ قالَ: نَهى رَسُولُ اللهِ ﷺ أن يُسافَرَ بِالقُرآنِ إلى أرضِ العَدُوِّ. وفي رواية (م) زادَ: مَخافَةَ أن يَنالَهُ العَدُوُّ.
-المراد: كراهية السفر بالمصاحف إلى أرض العدو، قال ابن حجر: (وقد سافر النبي ﷺ وأصحابه في أرض العدو وهم يعلّمُون القرآن، وأشار البخاري بذلك إلى أن المراد بالنهي عن السفر بالقرآن السفر بالمصحف خشية أن يناله العدو لا السفر بالقرآن نفسه)
-قال النووي: قوله (نهى رسول الله أن يسافر بالقران إلى أرض العدو) وفي الرواية الأخرى (مخافة أن يناله العدو ) وفي الرواية الأخرى (فإني لا آمن أن يناله العدو) فيه: النهي عن المسافرة بالمصحف إلى أرض الكفار للعلة المذكورة في الحديث، وهو خوف أن ينالوه فينتهكوا حرمته، فإن أمنت هذه العلة بأن يدخل في جيش المسلمين الظاهرين عليهم، فلا كراهة ولا منع منه حينئذ لعدم العلة.
-قال النووي: اتفق العلماء على أنه يجوز أن يكتب إليهم الآية والآيتان وشبههما في أثناء كتاب، لحديث أبي سفيان أن رسول الله ﷺ كتب إلى هرقل عظيم الروم كتابًا فيه (يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وينكم...) الآية.
-فيه تحريم تمكين الكافر من المصحف ببيع أو هبة أو نحو ذلك، لوجود العلة الواردة في الحديث، ولا خلاف في تحريم ذلك.

باب: السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ العَذابِ


١٦٠٤. (خ م) (١٩٢٧) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁؛ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ: «السَّفَرُ قِطعَةٌ مِن العَذابِ، يَمنَعُ أحَدَكُم نَومَهُ وطَعامَهُ وشَرابَهُ، فَإذا قَضى أحَدُكُم نَهمَتَهُ مِن وجهِهِ فَليُعَجِّل إلى أهلِهِ».
-(السفر قطعة من العذاب) أي جزء منه، والمراد بالعذاب الألم الناشئ عن المشقة؛ لما يحصل في الركوب والمشي من ترك المألوف. (ابن حجر)
-فيه كراهة التغرب عن الأهل لغير حاجة، واستحباب الرجوع ولا سيما من يخشى عليهم الضيعة بالغيبة، ولما في الإقامة في الأهل من الراحة المعينة على صلاح الدين والدنيا، ولما في الإقامة من تحصيل الجماعات، والقوة على العبادة. (ابن حجر)
-سئل إمام الحرمين حين جلس موضع أبيه: لم كان السفر قطعة من العذاب؟ فأجاب على الفور: لأن فيه فراق الأحباب.

باب: كَراهِيَةُ الطُّرُوقِ لِـمَن قَدِمَ مِن سَفَرٍ لَيْلًا


١٦٠٥. (خ م) (٧١٥) عَنْ جابِرٍ ﵁ قالَ: نَهى رَسُولُ اللهِ ﷺ أن يَطرُقَ الرَّجُلُ أهلَهُ لَيلًا؛ (يَتَخَوَّنُهُم، أو يَلتَمِسُ عَثَراتِهِم).
١٦٠٦. (خ م) (١٩٢٨) عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ ﵁؛ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كانَ لا يَطرُقُ أهلَهُ لَيلًا، وكانَ يَأتِيهِم غُدوَةً أو عَشِيَّةً.
-قال النووي: والمعنى أنه يكره لمن طال سفره أن يقدم على امرأته ليلا بغتة، فأما من كان سفره قريبا تتوقع امرأته إتيانه ليلا فلا بأس كما قال في إحدى هذه الروايات (إذا أطال الرجل الغيبة) وإذا كان في قفل عظيم أو عسكر ونحوهم، واشتهر قدومهم ووصولهم، وعلمت امرأته وأهله أنه قادم معهم، وأنهم الآن داخلون، فلا بأس بقدومه متى شاء لزوال المعنى الذي نهى بسببه فإن المراد أن يتأهبوا، وقد حصل ذلك، ولم يقدم بغتة.
-وفيه من الفقه: أن المرأة ينبغي لها أن تتحسَّن، وتتزيَّن، وتتطيَّب وتتصنَّع للزوج بما أمكنها، وتجتهد في ألا يرى منها زوجها ما تنفر نفسه منها بسببه؛ من الشعث والوسخ، وغير ذلك. (القرطبي)
-وأما نهيه ﷺ في حديث جابر عن الطروق: فلمعنًى آخر، وهو: أن يظن بهن خيانة في أنفسهن، أو فيما في أيديهن مما أمَّنهن عليه. وهو ظنّ لا يحل، وتخمين منهي عنه. فصار النهي عن طروق الرجل أهله معللاً بعلتين، بالأولى، وبالثانية. والله تعالى أعلم. (القرطبي)
-(لا يطرق أهله ليلا) أي: لا يدخل عليهم ليلا إذا قدم من سفر، وفيه دليل لما ترجم به البخاري رحمه الله وتقييده النهي بالقدوم ليلا، وعليه يكون الليل جزء من علة النهي، وذلك أن الريبة تغلب في الليل، وتندر في النهار، إن كانت العلة هي لما صرّح به في الترجمة (يتخونهم)
-فيه استحباب التأني للقادم على أهله حتى يشعروا بقدومه، ولو حصل الاتصال بالهاتف أو نحوه وإبلاغهم بموعد وصوله فلا كراهة؛ لزوال العلة المذكورة، وفيها عناية الشرع بحسن العلاقة بين الزوجين؛ لما فيه من استقرار الأسرة المسلمة.
-الحث على التواد، والتحاب خصوصا بين الزوجين؛ لأن الشارع راعى ذلك بين الزوجين، مع اطلاع كل منهما على ما جرت العادة بستره، حتى إن كل واحد منهما لا يخفى عنه من عيوب الآخر شيء في الغالب، ومع ذلك فنهى عن الطروق؛ لئلا يطلع على ما تنفر نفسه عنه، فيكون مراعاة ذلك في غير الزوجين بطريق الأولى.
-التحريض على ترك التعرض لما يوجب سوء الظن بالمسلم.
- قال ابن حجر: يقع الذي يهجم بعد طول الغيبة غالبا ما يكره، إما أن يجد أهله على غير أهبة من التنظف والتزين المطلوب من المرأة، فيكون ذلك سبب النفرة بينهما، وقد أشار إلى ذلك بقوله ﷺ في الحديث: (كي تستحد المغيبة، وتمتشط الشعثة) وإما أن يجدها على حالة غير مرضية، والشرع محرض على الستر وقد أشار إلى ذلك ﷺ بقوله: (أن يتخونهم ويتطلب عثراتهم).

باب: فِـي الدُّعاءِ قَبْلَ القِتالِ والإغارَةِ عَلى العَدُوِّ


١٦٠٧. (خ م) (١٧٣٠) عَنِ ابْنِ عَوْنٍ قالَ: كَتَبتُ إلى نافِعٍ (أسأَلُهُ عَنِ الدُّعاءِ قَبلَ القِتالِ)، قالَ: فَكَتَبَ إلَيَّ: (إنَّما كانَ ذَلكَ فِي أوَّلِ الإسلامِ)، قَد أغارَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلى بَنِي المُصطَلِقِ وهُم غارُّونَ، وأَنعامُهُم تُسقى عَلى الماءِ، فَقَتَلَ مُقاتِلَتَهُم وسَبى سَبيَهُم، وأَصابَ يَومَئِذٍ -قالَ يَحيى: أحسِبُهُ قالَ:- جُوَيرِيَةَ (أو قالَ: البَتَّةَ) ابنَةَ الحارِثِ، وحَدَّثَنِي هَذا الحَدِيثَ عَبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ، وكانَ فِي ذاكَ الجَيشِ.
-فيه جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم الدعوة من غير إنذار بالإغارة، والجمهور على أنه لا يجب إنذارهم إذا بلغتهم الدعوة لكن يستحب، قال ابن المنذر: وهو قول أكثر أهل العلم، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة على معناه.
-فيه جواز استرقاق العرب؛ لأن بني المصطلق عرب من خزاعة. (النووي)
-(وأصاب يومئذ جويرية) هي جويرية بنت الحارث وكان أبوها سيد قومه، وقد أسلم بعد ذلك.
-(جويرية، أو قال البتة) حاصله أن يحيى بن يحيى شك في سماع اسم جويرية، ثم بت القضية، وحقق السَّماع لاسمها؛ بدليل قوله في الرواية الأخرى: ( جويرية بنت الحارث ) ولم يشك. والله أعلم. (القرطبي)

باب: ما يُوصى بِهِ الغُزاةُ


١٦٠٨. (م) (١٧٣١) عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ حُصَيْبٍ ﵁ قالَ: كانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إذا أمَّرَ أمِيرًا عَلى جَيشٍ أو سَرِيَّةٍ أوصاهُ فِي خاصَّتِهِ بِتَقوى اللهِ ومَن مَعَهُ مِنَ المُسلِمِينَ خَيرًا، ثُمَّ قالَ: «اغزُوا بِاسمِ اللهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، قاتِلُوا مَن كَفَرَ بِاللهِ، اغزُوا ولا تَغُلُّوا ولا تَغدِرُوا ولا تَمثُلُوا، ولا تَقتُلُوا ولِيدًا، وإذا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ المُشرِكِينَ فادعُهُم إلى ثَلاثِ خِصالٍ، أو خِلالٍ، فَأَيَّتُهُنَّ ما أجابُوكَ فاقبَل مِنهُم وكُفَّ عَنهُم، ثُمَّ ادعُهُم إلى الإسلامِ، فَإن أجابُوكَ فاقبَل مِنهُم وكُفَّ عَنهُم، ثُمَّ ادعُهُم إلى التَّحَوُّلِ مِن دارِهِم إلى دارِ المُهاجِرِينَ، وأَخبِرهُم أنَّهُم إن فَعَلُوا ذَلكَ فَلَهُم ما لِلمُهاجِرِينَ، وعَلَيهِم ما عَلى المُهاجِرِينَ، فَإن أبَوا أن يَتَحَوَّلُوا مِنها فَأَخبِرهُم أنَّهُم يَكُونُونَ كَأَعرابِ المُسلِمِينَ يَجرِي عَلَيهِم حُكمُ اللهِ الَّذِي يَجرِي عَلى المُؤمِنِينَ، ولا يَكُونُ لَهُم فِي الغَنِيمَةِ والفَيءِ شَيءٌ إلا أن يُجاهِدُوا مَعَ المُسلِمِينَ، فَإن هُم أبَوا فَسَلهُمُ الجِزيَةَ، فَإن هُم أجابُوكَ فاقبَل مِنهُم وكُفَّ عَنهُم، فَإن هُم أبَوا فاستَعِن بِاللهِ وقاتِلهُم، وإذا حاصَرتَ أهلَ حِصنٍ فَأَرادُوكَ أن تَجعَلَ لَهُم ذِمَّةَ اللهِ وذِمَّةَ نَبِيِّهِ، فَلا تَجعَل لَهُم ذِمَّةَ اللهِ ولا ذِمَّةَ نَبِيِّهِ، ولَكِنِ اجعَل لَهُم ذِمَّتَكَ وذِمَّةَ أصحابِكَ، فَإنَّكُم أن تُخفِرُوا ذِمَمَكُم وذِمَمَ أصحابِكُم أهوَنُ مِن أن تُخفِرُوا ذِمَّةَ اللهِ وذِمَّةَ رَسُولِهِ، وإذا حاصَرتَ أهلَ حِصنٍ فَأَرادُوكَ أن تُنزِلَهُم عَلى حُكمِ اللهِ فَلا تُنزِلهُم عَلى حُكمِ اللهِ، ولَكِن أنزِلهُم عَلى حُكمِكَ، فَإنَّكَ لا تَدرِي أتُصِيبُ حُكمَ اللهِ فِيهِم أم لا».
١٦٠٩. (خ) (٢٤٧٤) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ يَزِيدَ الأَنْصارِيِّ ﵁ قالَ: نَهى النَّبِيُّ ﷺ عَنِ النُّهبى والمُثلَةِ.
-هذا الحديث أصل في بَعث البُعُوث للدعوة إلى الإسلام. (ابن عثيمين)
-فيه تحريم الغدر، وتحريم الغلول، وتحريم قتل الصبيان إذا لم يقاتلوا، وكراهة المثلة. (النووي)
- فيه استحباب وصية الإمام أمراءه وجيوشه بتقوى الله تعالى، والرفق بأتباعهم، وتعريفهم ما يحتاجون في غزوهم، وما يجب عليهم، وما يحل لهم، وما يحرم عليهم، وما يكره وما يستحب. (النووي)
-فيه جواز أخذ الجزية من كل كافر، عربيا كان أو عجميا كتابيا أو مجوسيا أو غيرهما. (النووي)
-(كان رسول الله ﷺ إذا أمر أميرا على جيش أو سرية) فيه إثبات الإمرة على القوم يكونون في سفر أو جهاد، أو ما أشبه ذلك، وقد أمر النبي المسافرين إذا كانوا ثلاثة، أن يؤمروا أحدهم؛ لئلا يقع النزاع والاضطراب والاختلاف. (ابن عثيمين)
-(اغزوا) فيه تأكيد الأمر بالتكرار؛ ليبني عليه ما بعده. (ابن عثيمين)
-(وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ المُشرِكِينَ) أضاف العداوة فيه إلى المخاطب؛ إغراءً له بقتالهم، ودعوتهم إلى الإسلام، وتحذيرًا من أن يغدر هذا العدو، وإحماءً للعاطفة في طلب هذا العدو. (ابن عثيمين)
-(فَادعُهُم إِلَى ثَلاثِ خِصَالٍ) فيه أنه يجب على الإنسان إذا بقي العدو أن يخيّره بين هذه الأمور الثلاثة. (ابن عثيمين)
-فيه حرص النبي ﷺ على انتشار الإسلام، وذلك ببعث السرايا والجيوش؛ لدعوة الناس إليه. (ابن عثيمين)
-فيه أنه ينبغي البداءة بـ (بسم الله) عند الغزو، ولا سيما عند إرادة الضرب؛ لأن البداءة بـ(بسم الله) بركة واستعانة. (ابن عثيمين)
-(في سبيل الله) فيه الإشارة إلى الإخلاص، وهذا الأمر وإن كان هو الذي في قلوب الصحابة، ولكن من باب التوكيد والتذكير. (ابن عثيمين)
-( فاقبل منهم وكف عنهم) فيه أنه يجب الكف عن المشرك إذا أسلم مطلقًا. (ابن عثيمين)
-(إذا لقيت عدوك من المشركين) فيه جواز أخذ الجزية من غير الكتابيين. (ابن عثيمين)
-(فاستعن بالله وقاتلهم) فيه أنه يجب على الإنسان أن يستعين بالله عند إرادة الفعل. (ابن عثيمين)
-(وإذا حاصرت أهل حصن) فيه جواز محاصرة الحصون، والحصون: هي عبارة عن القلاع التي يحتمي بها الأعداء. (ابن عثيمين)
-(فإنكم أن تخفروا ذمتكم وذمم أصحابكم...) فيه حكمة النبي ﷺ في تعليمه وأحكامه؛ لأنه بيّن لنا العلة من كوننا لا نعطيهم ذمة الله ولا ذمة نبيه؛ لأنه ربما يحصل نقض للعهد، فنكون بذلك نقضنا عهد الله وعهد رسوله ، ونقض عهدنا أهون من نقض عهد الله ورسوله .
( فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا) فيه جواز الاجتهاد.

باب: كِتابَةُ النَّبِيِّ ﷺ إلى مُلُوكِ الكُفّارِ


١٦١٠. (م) (١٧٧٤) عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ ﵁؛ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كَتَبَ إلى كِسرى وإلى قَيصَرَ وإلى النَّجاشِيِّ وإلى كُلِّ جَبّارٍ؛ يَدعُوهُم إلى اللهِ تعالى، ولَيسَ بِالنَّجاشِيِّ الَّذِي صَلّى عَلَيهِ النَّبِيُّ ﷺ.
١٦١١. (خ) (٤٤٢٤) عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﵄؛ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ بَعَثَ بِكِتابِهِ إلى كِسرى مَعَ عَبْدِ اللهِ بْنِ حُذافَةَ السَّهمِيِّ، فَأَمَرَهُ أن يَدفَعَهُ إلى عَظِيمِ البَحرَينِ، فَدَفَعَهُ عَظِيمُ البَحرَينِ إلى كِسرى، فَلَمّا قَرَأَهُ مَزَّقَهُ، فَحَسِبتُ أنَّ ابنَ المُسَيَّبِ قالَ: فَدَعا عَلَيهِم رَسُولُ اللهِ ﷺ أن يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ.
-فيه جواز مكاتبة الكفار، ودعاؤهم إلى الإسلام، والعمل بالكتاب وبخبر الواحد. (النووي)
(فمزقه) فلما بلغ رسول الله ﷺ قال: (اللهم مزق ملكه)، فسلط الله عليه ابنه شيرويه فقتله. (ابن حجر)

باب: كِتابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ إلى هِرَقْلَ يَدْعُوهُ إلى الإسْلامِ


١٦١٢. (خ م) (١٧٧٣) عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﵄؛ أنَّ أبا سُفيانَ ﵁ أخبَرَهُ مِن فِيهِ إلى فِيهِ، قالَ: انطَلَقتُ فِي المُدَّةِ الَّتِي كانَت بَينِي وبَينَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، قالَ: فَبَينا أنا بِالشَّأمِ إذ جِيءَ بِكِتابٍ مِن رَسُولِ اللهِ ﷺ إلى هِرَقلَ؛ يَعنِي: عَظِيمَ الرُّومِ، قالَ: وكانَ دحيَةُ الكَلبِيُّ جاءَ بِهِ فَدَفَعَهُ إلى عَظِيمِ بُصرى، فَدَفَعَهُ عَظِيمُ بُصرى إلى هِرَقلَ، فَقالَ هِرَقلُ: هَل هاهُنا أحَدٌ مِن قَومِ هَذا الرَّجُلِ الَّذِي يَزعُمُ أنَّهُ نَبِيٌّ؟ قالُوا: نَعَم. قالَ: فَدُعِيتُ فِي نَفَرٍ مِن قُرَيشٍ، فَدَخَلنا عَلى هِرَقلَ، فَأَجلَسَنا بَينَ يَدَيهِ، فَقالَ: أيُّكُم أقرَبُ نَسَبًا مِن هَذا الرَّجُلِ الَّذِي يَزعُمُ أنَّهُ نَبِيٌّ؟ فَقالَ أبُو سُفيانَ: فَقُلتُ: أنا. فَأَجلَسُونِي بَينَ يَدَيهِ، وأَجلَسُوا أصحابِي خَلفِي، ثُمَّ دَعا بِتَرجُمانِهِ فَقالَ لَهُ: قُل لَهُم: إنِّي سائِلٌ هَذا عَنِ الرَّجُلِ الَّذِي يَزعُمُ أنَّهُ نَبِيٌّ، فَإن كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ. قالَ: فَقالَ أبُو سُفيانَ: وايمُ اللهِ لَولا مَخافَةُ أن يُؤثَرَ عَلَيَّ الكَذِبُ لَكَذَبتُ، ثُمَّ قالَ لِتَرجُمانِهِ: سَلهُ؛ كَيفَ حَسَبُهُ فِيكُم؟ قالَ: قُلتُ: هُوَ فِينا ذُو حَسَبٍ، قالَ: فَهَل كانَ مِن آبائِهِ مَلِكٌ؟ قُلتُ: لا، قالَ: فَهَل كُنتُم تَتَّهِمُونَهُ بِالكَذِبِ قَبلَ أن يَقُولَ ما قالَ؟ قُلتُ: لا، قالَ: ومَن يَتَّبِعُهُ؟ أشرافُ النّاسِ أم ضُعَفاؤُهُم؟ قالَ: قُلتُ: بَل ضُعَفاؤُهُم، قالَ: أيَزِيدُونَ أم يَنقُصُونَ؟ قالَ: قُلتُ: لا، بَل يَزِيدُونَ، قالَ: هَل يَرتَدُّ أحَدٌ مِنهُم عَن دِينِهِ بَعدَ أن يَدخُلَ فِيهِ سَخطَةً لَهُ؟ قالَ: قُلتُ: لا، قالَ: فَهَل قاتَلتُمُوهُ؟ قُلتُ: نَعَم، قالَ: فَكَيفَ كانَ قِتالُكُم إيّاهُ؟ قالَ: قُلتُ: تَكُونُ الحَربُ بَينَنا وبَينَهُ سِجالًا، يُصِيبُ مِنّا ونُصِيبُ مِنهُ، قالَ: فَهَل يَغدِرُ؟ قُلتُ: لا، ونَحنُ مِنهُ فِي مُدَّةٍ لا نَدرِي ما هُوَ صانِعٌ فِيها، قالَ: فَواللهِ ما أمكَنَنِي مِن كَلِمَةٍ أُدخِلُ فِيها شَيئًا غَيرَ هَذِهِ، قالَ: فَهَل قالَ هَذا القَولَ أحَدٌ قَبلَهُ؟ قالَ: قُلتُ: لا، قالَ لِتَرجُمانِهِ: قُل لَهُ: إنِّي سَأَلتُكَ عَن حَسَبِهِ، فَزَعَمتَ أنَّهُ فِيكُم ذُو حَسَبٍ، وكَذَلكَ الرُّسُلُ تُبعَثُ فِي أحسابِ قَومِها، وسَأَلتُكَ هَل كانَ فِي آبائِهِ مَلِكٌ؟ فَزَعَمتَ أن لا، فَقُلتُ: لَو كانَ مِن آبائِهِ مَلِكٌ قُلتُ: رَجُلٌ يَطلُبُ مُلكَ آبائِهِ، وسَأَلتُكَ عَن أتباعِهِ؛ أضُعَفاؤُهُم أم أشرافُهُم؟ فَقُلتَ: بَل ضُعَفاؤُهُم، وهُم أتباعُ الرُّسُلِ، وسَأَلتُكَ هَل كُنتُم تَتَّهِمُونَهُ بِالكَذِبِ قَبلَ أن يَقُولَ ما قالَ؟ فَزَعَمتَ أن لا، فَقَد عَرَفتُ أنَّهُ لَم يَكُن لِيَدَعَ الكَذِبَ عَلى النّاسِ ثُمَّ يَذهَبَ فَيَكذِبَ عَلى اللهِ، وسَأَلتُكَ هَل يَرتَدُّ أحَدٌ مِنهُم عَن دِينِهِ بَعدَ أن يَدخُلَهُ سَخطَةً لَهُ؟ فَزَعَمتَ أن لا، وكَذَلكَ الإيمانُ إذا خالَطَ بَشاشَةَ القُلُوبِ، وسَأَلتُكَ هَل يَزِيدُونَ أو يَنقُصُونَ؟ فَزَعَمتَ أنَّهُم يَزِيدُونَ، وكَذَلكَ الإيمانُ حَتّى يَتِمَّ، وسَأَلتُكَ هَل قاتَلتُمُوهُ؟ فَزَعَمتَ أنَّكُم قَد قاتَلتُمُوهُ، فَتَكُونُ الحَربُ بَينَكُم وبَينَهُ سِجالًا، يَنالُ مِنكُم وتَنالُونَ مِنهُ، وكَذَلكَ الرُّسُلُ تُبتَلى ثُمَّ تَكُونُ لَهُم العاقِبَةُ، وسَأَلتُكَ هَل يَغدِرُ؟ فَزَعَمتَ أنَّهُ لا يَغدِرُ، وكَذَلكَ الرُّسُلُ لا تَغدِرُ، وسَأَلتُكَ هَل قالَ هَذا القَولَ أحَدٌ قَبلَهُ؟ فَزَعَمتَ أن لا، فَقُلتُ: لَو قالَ هَذا القَولَ أحَدٌ قَبلَهُ قُلتُ: رَجُلٌ ائتَمَّ بِقَولٍ قِيلَ قَبلَهُ. قالَ: ثُمَّ قالَ: بِمَ يَأمُرُكُم؟ قُلتُ: يَأمُرُنا بِالصَّلاةِ والزَّكاةِ والصِّلَةِ والعَفاف، قالَ: إن يَكُن ما تَقُولُ فِيهِ حَقًّا فَإنَّهُ نَبِيٌّ، وقَد كُنتُ أعلَمُ أنَّهُ خارِجٌ، ولَم أكُن أظُنُّهُ مِنكُم، ولَو أنِّي أعلَمُ أنِّي أخلُصُ إلَيهِ لأحبَبتُ لِقاءَهُ، ولَو كُنتُ عِندَهُ لَغَسَلتُ عَن قَدَمَيهِ، ولَيَبلُغَنَّ مُلكُهُ ما تَحتَ قَدَمَيَّ. قالَ: ثُمَّ دَعا بِكِتابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَرَأَهُ، فَإذا فِيهِ: «بِسمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِن مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ إلى هِرَقلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلامٌ عَلى مَن اتَّبَعَ الهُدى، أمّا بَعدُ؛ فَإنِّي أدعُوكَ بِدِعايَةِ الإسلامِ؛ أسلِم تَسلَم، وأَسلِم يُؤتِكَ اللهُ أجرَكَ مَرَّتَينِ، وإن تَوَلَّيتَ فَإنَّ عَلَيكَ إثمَ الأَرِيسِيِّينَ، و﴿قُلْ ياأَهْلَ الكِتابِ تَعالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وبَيْنَكُمْ ألاَّ نَعْبُدَ إلاَّ اللَّهَ ولا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا ولا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضًا أرْبابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنّا مُسْلِمُونَ﴾». فَلَمّا فَرَغَ مِن قِراءَةِ الكِتاب ارتَفَعَت الأصواتُ عِندَهُ، وكَثُرَ اللَّغطُ، وأَمَرَ بِنا فَأُخرِجنا، قالَ: فَقُلتُ لأصحابِي حِينَ خَرَجنا: لَقَد أمِرَ أمرُ ابْنِ أبِي كَبشَةَ، إنَّهُ لَيَخافُهُ مَلِكُ بَنِي الأصفَرِ، قالَ: فَما زِلتُ مُوقِنًا بِأَمرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ أنَّهُ سَيَظهَرُ حَتّى أدخَلَ اللهُ عَلَيَّ الإسلامَ.
وفي رواية: وكانَ قَيْصَرُ لمّا كَشَفَ اللهُ عَنهُ جُنُودَ فارِسَ مَشى مِن حِمْصَ إلى إيْلياءَ شُكْرًا لِما أبلاهُ اللهُ، وفِيها: «مِن مُحمدٍ عَبْدِ اللهِ ورَسُولِهِ»، وفِيها: «إثْمَ اليَرِيسِيِّينَ»، وفِيها: «بِداعِيَةِ الإسْلامِ».
وفي رواية (خ): فانطُلِقَ بِي وبِأَصحابِي حَتّى قَدِمنا إيلِياءَ ... وفِيها: فَإذا هُو جالِسٌ فِي مَجلِسِ مُلكِهِ، وعَلَيهِ التّاجُ، وإذا حَولَهُ عُظَماءُ الرُّومِ ... وفِيها: فَقُلتُ: هَو ابنُ عَمِّي، ولَيسَ فِي الرَّكبِ يَومَئِذٍ أحَدٌ مِن بَنِي عَبدِ مَنافٍ غَيرِي ... وفِيها: فَجُعِلُوا خَلفَ ظَهرِي عِنْدَ كَتِفي ... وفِيها: قالَ أبُو سُفيانَ: لَولا الحَياءُ يَومَئِذٍ مِن أن يَأْثُرَ أصحابِي عَنِّي الكَذِبَ ... وفِيها: قُلتُ: كانَت دُوَلًا وسِجالًا، يُدالُ عَلَينا المرَّةَ ونُدالُ عَلَيهِ الأُخرى ... وفِيها: قالَ: يَأمُرُنا أن نَعبُدَ اللهَ وحدَهُ لا نُشرِكُ بِهِ شَيئًا، ويَنهانا عَمّا كانَ يَعبُدُ آباؤُنا ... وفِيها: والوَفاءِ بِالعَهْدِ وأَداءِ الأَمانَةِ ... وفِيها: فَكَذَلكَ الِإيمانُ حِينَ تَخْلِطُ بَشاشَتُهُ القُلُوبَ لا يَسْخَطُهُ أحَدٌ ... وفِيها: قالَ: وهَذِهِ صِفَةُ النَّبيِّ ... وفِيها: ولَو أرجُو أن أخلُصَ إلَيهِ لَتَجَشَّمْتُ لُقِيَّهُ ... وفِيها: فَلَمّا أن قَضى مَقالَتَهُ عَلَتْ أصواتُ الَّذِين حَوْلَهُ مِن عُظَماءِ الرُّومِ ... وفِيها: فَلا أدرِي ماذا قالُوا؟ ... وفِيها: قالَ أبُو سُفيانُ: واللهِ ما زِلتُ ذَلِيلًا مُستَيقِنًا بِأَنَّ أمرَهُ سَيَظهَرُ حَتّى أدْخَلَ اللهُ قَلبِي الإسْلامَ وأَنا كارِهٌ.
وفي رواية (خ): فَزَعَمَت أنَّهُ أمرَكُم بِالصَّلاةِ والصِّدقِ ...
-(دحْيَة) يقال: إنه الرئيس بلغة أهل اليمن، وهو ابن خليفة الكلبي، صحابي جليل كان من أحسن الناس وجهًا، أسلم قديمًا، ومات في خلافة معاوية . (ابن حجر)
-فيه وجوب العمل بخبر الواحد، وإلا فلم يكن في بعثه مع دحيَة فائدة، وهذا إجماع من يُعتد به. (النووي)
- وفيه وجوب دعاء الكفار قبل قتالهم إذا لم تبلغهم الدعوة، وكانت دعوة النبي ﷺ لهرقل سنة سبع من الهجرة. (النووي)
-(أيكم أقرب نسبًا من هذا الرجل..) خصّ هرقل الأقرب لأنه أحرى بالاطلاع على أموره ظاهرًا وباطنًا أكثر من غيره؛ ولأن الأبعد لا يؤمن أن يقدح في نسبه بخلاف الأقرب، وظهر ذلك في سؤاله بعد ذلك: كيف نسبه فيكم؟ (ابن حجر)
-(إن كذبني فكذّبوه) لَمَا جرت العادة أن مجالس الأكابر لا يواجه أحد فيها بالتكذيب احترامًا لهم، أذن لهم هرقل في ذلك للمصلحة التي أرادها. (ابن حجر)
-(لولا أن يؤثروا عليّ الكذب..) أي: ينقلوا عليّ الكذب لكذبت عليه، وفيه دليل على أنهم كانوا يستقبحون الكذب إما بالأخذ من الشرع السابق أو بالعرف، فتركه استحياء وأنفه من أن يتحدثوا بذلك بعد أن يرجعوا فيصير عند سامعي ذلك كذابًا. (ابن حجر)
-(هل كنتم تتهمونه بالكذب..؟) أي الكذب على الناس، وإنما عدل إلى السؤال عن التهمة عن السؤال عن نفس الكذب، تقريرًا لهم على صدقه؛ لأن التهمة إذا انتفت انتفى سببها. (ابن حجر)
-(سخطةً له) يريد أن من دخل في الشيء على بصيرة يبعد رجوعه عنه، بخلاف من لم يكن ذلك من صميم قلبه فإنه يتزلزل بسرعة، وعلى هذا يُحمل حال من ارتد من قريش، ولهذا لم يعرج أبو سفيان على ذكرهم. (ابن حجر)
- (فهل قاتلتموه) لم يقل: قاتلكم فينسب القتال إليه، محافظة على احترامه، أو لاطلاعه على أن النبي لا يبدأ قومه بالقتال حتى يقاتلوه، أو لما عرف من حمية من يُدعى إلى الرجوع عن دينه. (ابن حجر)
-(يصيب منا ونصيب منه) وقعت المقاتلة بين النبي ﷺ وبين قريش قبل هذه القصة في ثلاث مواطن: بدر وأحد والخندق، فأصاب المسلمون من المشركين في بدر وعكسه في أحد، وأصيب من الطائفتين ناس قليل في الخندق، فصح قول أبي سفيان: نصيب منا ونصيب منه. (ابن حجر)
-(والله ما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه) أي انتقصه به، وقد كان معروفًا عندهم بالاستقراء من عادته أنه لا يغدر، ولكن لما كان الأمر مغيبًا -لأنه مستقبل- أَمِن أبو سفيان أن يُنسب في ذلك إلى الكذب، ولهذا أورده على التردد، ومن ثم لم يعرّج هرقل على هذا القدر منه، وقد صرح ابن إسحاق في روايته عن الزهري بقوله: (قال: فوالله ما التفت إليها مني) (ابن حجر)
-ذكر الأسئلة و الأجوبة على ترتيب ما وقعت، وأجاب عن كل جواب بما يقتضيه الحال، وحاصل الجميع ثبوت علامات النبوة في الجميع، فالبعض مما تلقفه من الكتب، والبعض مما استقرأه بالعادة. (ابن حجر)
-(وكذلك الرسل تبعث في أحساب قومها) يعني في أفضل أنسابهم وأشرفها، قيل: الحكمة في ذلك أنه أبعد من انتحاله الباطل، وأقرب إلى انقياد الناس له. (النووي)
-(وهم أتباع الرسل) معناه أن أتباع الرسل في الغالب أهل الاستكانة، لا أهل الاستكبار الذين أصروا على الشقاق بغيًا وحسدًا كأبي جهل وأشياعه، إلى أن أهلكهم الله تعالى، وأنقذ بعد حين من أراد سعادته منهم. (ابن حجر)
-(وكذلك الإيمان حتى يتم) أي أمر الإيمان؛ لأنه يظهر نورًا، ثم لا يزال في زيادة حتى يتم بالأمور المعتبرة فيه من صلاة وزكاة وصيام وغيرها، ولهذا نزلت في آخر سني النبي ﷺ (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي) وكذا جرى لأتباع النبي لم يزالوا في زيادة حتى كمل بهم ما أراد الله من إظهار دينه، وتمام نعمته، فله الحمد والثناء الحسن. (ابن حجر)
-(وكذلك الرسل لا تغدر) لأنها لا تطلب حظ الدنيا الذي لا يبالي طالبه بالغدر، بخلاف من طلب الآخرة، ولم يعرّج هرقل على الدسيسة التي دسها أبو سفيان كما تقدم. (ابن حجر)
-قال المازري: هذه الأشياء التي سأل عنها هرقل ليست قاطعة على النبوة، إلا أنه يحتمل أنها كانت عنده علامات على هذا النبي بعينه؛ لأنه قال بعد ذلك: قد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظن أنه منكم. ا.هـ وما أورده احتمالا جزم به ابن بطال، وهو ظاهر. (ابن حجر)
-(بماذا يأمركم) يدل على أن الرسول من شأنه أن يأمر قومه. (ابن حجر)
-(قلت: يأمرنا بالصلاة) فيه أن المأمورات كلها كانت معروفة عند هرقل؛ ولهذا لم يستفسر عن حقائقها.
-(لغسلت قدميه) مبالغة في العبودية والخدمة له، وفي اقتصاره على ذكر غسل القدمين، إشارة منه إلى أنه لا يطلب منه -إذا وصل سالمًا- لا ولاية ولا منصبًا، وإنما يطلب ما تحصل به البركة. (ابن حجر)
-وقد آثر هرقل مُلكه على الإيمان وتمادى في الضلال، ويدل على ذلك أنه حارب المسلمين في غزوة مؤتة سنة ثمان بعد هذه القصة، وكذلك في مسند الإمام أحمد أنه كتب من تبوك إلى النبي ﷺ إني مسلم، فقال النبي ﷺ كذب، بل هو على نصرانيته. (ابن حجر)
-( وليبلغن ملكه ما تحت قدمي ) أي: بيت المقدس، وكنى بذلك لأنه موضع استقراره، أو أراد الشام كله لأن دار مملكته كانت حمص. (ابن حجر)
-(فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم) فيه استحباب تصدير الكتب ببسم الله الرحمن الرحيم، وإن كان المبعوث إليه كافرًا. (النووي)
-فيه أنه يجوز أن يسافر إلى أرض العدو بالآية والآيتين ونحوهما، وأن يبعث بذلك إلى الكفار، وإنما نهى عن المسافرة بالقرآن إلى أرض العدو أي بكله أو بجملة منه، وذلك أيضا محمول على ما إذا خيف وقوعه في أيدي الكفار. (النووي)
-فيه أنه يجوز للمحدث والكافر مس آية أو آيات يسيرة مع غير القرآن. (النووي)
-(من محمد عبدالله ورسوله) فيه أن السنة أن يبدأ الكاتب بنفسه. (النووي)
وفيه إشارة إلى أن رسل الله وإن كانوا أكرم الخلق على الله، فهم مع ذلك مقرّون بأنهم عبيد الله، وكأن فيه إشارة إلى بطلان ما تدعيه النصارى في عيسى ﵇. (ابن حجر)
-(إلى هرقل عظيم الروم) المراد من تعظيمه الروم وتقدمه للرياسة عليها، وفيه التوقي في المكاتبة واستعمال الورع فيها، فلم يقل النبي ﷺ ملك الروم؛ لأنه لا ملك له ولا لغيره إلا بحكم دين الإسلام، ولا سلطان لأحد إلا لمن ولّاه رسول الله ﷺ. (النووي)
-وفيه نوع ملاطفه وإلانة في القول وقد أمر الله بذلك لمن يُدعى إلى الإسلام فقال تعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) وقال تعالى: (فقولا له قولا لينا). (النووي)
-(سلام على من اتبع الهدى) وليس فيه بدء الكافر بالسلام، لأنه ليس المراد من هذه التحية، إنما معناه: سلم من عذاب الله من أسلم، ولهذا جاء بعده: أن العذاب على من كذب وتولى، ثم أنه ليس ممن اتبع الهدى فلم يدخل فيمن سلّم عليهم. (ابن حجر)
-(أما بعد) قال سيبويه: إن معنى أما بعد، مهما يكن من شيء. (ابن حجر)
وفيه استحبابها في الخطب والمكاتبات، وقد ترجم البخاري لهذه بابا في كتاب الجمعة ذكر فيه أحاديث كثيرة. (النووي)
-(أسلم تسلم) فيه استحباب البلاغة والإيجاز وتحري الألفاظ الجزلة في المكاتبة. (النووي)
-(أسلم يؤتك الله أجرك مرتين) فيه بشارة لمن دخل الإسلام أنه يسلم من الآفات اعتبارًا بأن ذلك لا يختص بهرقل، كما أنه لا يختص بالحكم الآخر، لأن هذا عام في كل من كان مؤمنًا بنبيه ثم آمن بمحمد ﷺ ، ويحتمل أن إعطاؤه الأجر مرتين من جهة إسلامه ومن جهة أن إسلامه يكون سببا لدخول أتباعه. (ابن حجر)
-فيه أن من أدرك من أهل الكتاب نبينا ﷺ فآمن به فله أجران، كما صرح به هنا، وفي الحديث الآخر في الصحيح: "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: منهم رجل من أهل الكتاب.." الحديث. (النووي)
-(وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين) فيه البيان الواضح أن من كان سببا لضلالة أو سبب منع من هداية كان آثما، ومن هذا المعنى قول الله تعالى: {وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم}. (النووي)
-(فإن عليك إثم الأريسيين) قال الخطابي: أراد أن عليك إثم الضعفاء والأتباع إذا لم يسلموا تقليدا له؛ لأن الأصاغر أتباع الأكابر.
-فيه وجوب العمل بالخط إذا قامت القرائن بصدقه. (النووي)
-(ارتفعت الأصوات عنده وكثر اللغط) يعرف من قرائن الحال أن اللغط كان لما فهموه من هرقل من ميله إلى التصديق. (ابن حجر)
-(ابن أبي كبشة) أراد به النبي ﷺ لأن أبا كبشة أحد أجداده، وعادة العرب إذا انتقصت نسبت إلى جد غامض. (ابن حجر)
- وقيل: هو رجل من خزاعة كان يعبد الشعرى، ولم يوافقه أحد من العرب في عبادتها، فشبهوا النبي ﷺ به لمخالفته إياهم في دينهم، كما خالفهم أبو كبشة، وقيل: إن أبا كبشة جد النبي ﷺ من قبل أمه. وقال أبو الحسن الجرجاني: التشابه إنما قالوا ابن أبي كبشة عداوة له ﷺ، فنسبوه إلى نسب له غير نسبه المشهور، إذ لم يمكنهم الطعن في نسبه المعلوم المشهور. (النووي)
-فيه دعاء الكفار إلى الإسلام قبل قتالهم، وهذا الدعاء واجب، والقتال قبله حرام إن لم تكن بلغتهم دعوة الإسلام، وإن كانت بلغتهم فالدعاء مستحب، وفيه خلاف. (النووي)

باب: فِـي دُعاءِ النَّبِيِّ ﷺ إلى اللهِ وصَبْرِهِ عَلى أذى الـمُنافِقِينَ


١٦١٣. (خ م) (١٧٩٨) عَنْ أُسامَةَ بْنِ زَيْدٍ ﵄؛ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَكِبَ حِمارًا عَلَيهِ إكافٌ، تَحتَهُ قَطِيفَةٌ فَدَكِيَّةٌ، وأَردَفَ وراءَهُ أُسامَةَ، وهُوَ يَعُودُ سَعدَ بنَ عُبادَة فِي بَنِي الحارِثِ بْنِ الخَزرَجِ، وذاكَ قَبلَ وقعَةِ بَدرٍ، حَتّى مَرَّ بِمَجلِسٍ فِيهِ أخلاطٌ مِن المُسلِمِينَ والمُشرِكِينَ عَبَدَةِ الأوثانِ واليَهُودِ، فِيهِم عَبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ، وفِي المَجلِسِ عَبدُ اللهِ بنُ رَواحَةَ، فَلَمّا غَشِيَت المَجلِسَ عَجاجَةُ الدّابَّةِ خَمَّرَ عَبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ أنفَهُ بِرِدائِهِ، ثُمَّ قالَ: لا تُغَبِّروا عَلَينا. فَسَلَّمَ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ ﷺ، ثُمَّ وقَفَ فَنَزَلَ، فَدَعاهُم إلى اللهِ، وقَرَأَ عَلَيهِم القُرآنَ، فَقالَ عَبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ: أيُّها المَرءُ؛ لا أحسَنَ مِن هَذا؛ إن كانَ ما تَقُولُ حَقًّا فَلا تُؤذِنا فِي مَجالِسِنا، وارجِع إلى رَحلِكَ، فَمَن جاءَكَ مِنّا فاقصُص عَلَيهِ. فَقالَ عَبدُ اللهِ بنُ رَواحَةَ: اغشَنا فِي مَجالِسِنا، فَإنّا نُحِبُّ ذَلكَ. قالَ: فاستَبَّ المُسلِمُونَ والمُشرِكُونَ واليَهُودُ، حَتّى هَمُّوا أن يَتَواثَبُوا، فَلَم يَزَلِ النَّبِيُّ ﷺ يُخَفِّضُهُم، ثُمَّ رَكِبَ دابَّتَهُ حَتّى دَخَلَ عَلى سَعدِ بْنِ عُبادَةَ، فَقالَ: «أي سَعدُ؛ ألَم تَسمَع إلى ما قالَ أبُو حُبابٍ؟ يُرِيدُ عَبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ قالَ كَذا وكَذا». قالَ: اعفُ عَنهُ يا رَسُولَ اللهِ واصفَح، فَوَ اللهِ لَقَد أعطاكَ اللهُ الَّذِي أعطاكَ، ولَقَد اصطَلَحَ أهلُ هَذِهِ البُحَيرةِ أن يُتَوِّجُوهُ فَيُعَصِّبُوهُ بِالعِصابَةِ، فَلَمّا رَدَّ اللهُ ذَلكَ بِالحَقِّ الَّذِي أعطاكَهُ شَرِقَ بِذَلكَ، فَذَلكَ فَعَلَ بِهِ ما رَأَيتَ، فَعَفا عَنهُ النَّبِيُّ ﷺ. وفي رواية (خ): حَتّى كادُوا يَتَثاوَرُونَ. وفِيها: أهلُ هَذِهِ البَحْرَةِ.
وفي رواية (خ) زادَ: وكانَ النَّبِيُّ ﷺ وأَصحابُهُ يَعفُونَ عَنِ المُشرِكِينَ وأَهلِ الكِتابِ كَما أمَرَهُمُ اللهُ، ويَصبِرُونَ عَلى الأَذى، قالَ اللهُ ﷿: ﴿ولَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الكِتابَ مِن قَبْلِكُمْ ومِنَ الَّذِينَ أشْرَكُواْ أذًى كَثِيرًا﴾ [آل عمران: ١٨٦] الآيةُ، وقالَ اللهُ: ﴿ودَّ كَثِيرٌ مِّنْ أهْلِ الكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إيمانِكُمْ كُفّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أنفُسِهِم﴾ [البقرة: ١٠٩] إلى آخِرِ الآيَةِ، وكانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَأوَّلُ العَفوَ ما أمَرَهُ اللهُ بِهِ، حَتى أذِنَ اللهُ فِيهِم، فَلَمّا غَزا رَسُولُ اللهِ ﷺ بَدرًا، فَقَتَلَ اللهُ بِهِ صَنادِيدَ كُفّارِ قَريشٍ، قالَ ابنُ أبيٍّ ابنُ سَلُولٍ ومَن مَعَهُ مِن المُشرِكِينَ وعَبَدَةِ الأَوثانِ: هَذا أمرٌ قَد تَوَجَّهَ. فَبايَعُوا الرَّسُولَ ﷺ عَلى الإسْلامِ، فَأَسلَمُوا.
١٦١٤. (خ م) (١٧٩٩) عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ ﵁ قالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: لَو أتَيتَ عَبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ؟ قالَ: فانطَلَقَ إلَيهِ، ورَكِبَ حِمارًا، وانطَلَقَ المُسلِمُونَ، وهِيَ أرضٌ سَبِخَةٌ، فَلَمّا أتاهُ النَّبِيُّ ﷺ قالَ: إلَيكَ عَنِّي، فَوَ اللهِ لَقَد آذانِي نَتنُ حِمارِكَ. قالَ: فَقالَ رَجُلٌ مِن الأنصارِ: واللهِ لَحِمارُ رَسُولِ اللهِ ﷺ أطيَبُ رِيحًا مِنكَ. قالَ: فَغَضِبَ لِعَبدِ اللهِ رَجُلٌ مِن قَومِهِ، قالَ: فَغَضِبَ لِكُلِّ واحِدٍ مِنهُما أصحابُهُ، قالَ: فَكانَ بَينَهُم ضَربٌ بِالجَرِيدِ وبِالأيدِي وبِالنِّعالِ، قالَ: فَبَلَغَنا أنَّها نَزَلَت فِيهِم: ﴿وإن طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما﴾ [الحجرات: ٩].
-روى أبو داود وعبدالرزاق بسنده من حديث كعب بن مالك وعزاه ابن كثير في التفسير لابن أبي حاتم أنها نزلت في كعب بن الأشرف اليهودي فيما كان يهجو به النبي ﷺ وأصحابه من الشعر.
-فيه جواز الإرداف على الحمار وغيره من الدواب إن كان مطيقًا، وفيه جواز عيادة المريض راكبًا، وأن ركوب الحمار ليس بنقص في حق الكبار. (النووي)
-( يعود سعد بن عبادة ) فيه عيادة الكبير بعض أتباعه في داره. (ابن حجر)
-(فسلم النبي (ﷺ قال النووي: فيه جواز الابتداء بالسلام على قوم فيهم مسلمون وكفار وهذا مجمع عليه، وقال ابن حجر: فيه جواز السلام على المسلمين إن كان معهم كفار وينوي حينئذ بالسلام على المسلمين، ويحتمل أن يكون اللفظ الذي سلّم به عليهم صيغة عموم فيها تخصيص، كقوله: (السلام على من اتبع الهدى).
-(أبو حباب) كناه النبي ﷺ في تلك الحالة؛ لكونه مشهورًا بها أو لمصلحة التألف. (ابن حجر)
-(أن يتوجوه فيعصبوه) أي اتفقوا على أن يجعلوه ملكهم، وكان من عادتهم إذا ملكوا إنسانًا أن يتوجوه ويعصبوه بعصابة لا تنبغي لغيرهم يمتازون بها. (ابن حجر)
ولذلك حسد النبي ﷺ ، وكان ذلك بسبب نفاقه، وفيه حب الرئاسة والسيادة إذا تمكن من القلب فإنه يصد صاحبه عن الحق، نسأل الله العافية.
-(وكان النبي ﷺ وأصحابه يعفون) فيه بيان ما كان عليه النبي ﷺ من الصفح والحلم والصبر على الأذى في سبيل الله، والدعاء إلى الله وتأليف القلوب على ذلك، واقتداء أصحابه رضوان الله عليهم به في ذلك.
-(ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب..) في الآية الكريمة تنبيه إلى سنة جارية، وهي أن أهل الحق لابد أن يتعرضوا للابتلاء والامتحان، فعليهم أن يوطنوا أنفسهم على تحمل كل ذلك؛ لأن ضعفاء العزيمة ليسوا أهلا لبلوغ النصر.
-(هذا أمر قد توَجَّه فبايعوا الرسول ﷺ) ومن هنا بدأ النفاق، لقد اضطر ابن أبي سلول أن ينتقل من العداوة الجهرية إلى العداوة السّريّة والكيد للإسلام وأهله حقدًا وحسدًا من أجل الملك الذي فاته، فنافق وصار يعادي الإسلام والمسلمين سرًّا، ويدبر المؤامرات ويحيكها هو وأصحابه كيدًا للإسلام وأهله، ولم يكن أمره خافيًا على النبي ﷺ ، ولكن النبي ﷺ كان يعفو ويصفح ويمنع الصحابة من قتله لئلا يُقال: إن محمدًا يقتل أصحابه.
-(لو أتيت عبدالله بن أبيّ) لأنه أصبح يؤذي رسول الله ﷺ كلما سنحت له الفرصة، فأشار بعض الصحابة على رسول الله ﷺ أن يأتيه و يعرض عليه الإسلام برفق لعله يرضي غروره ويستحي ويسلم، ففعل رسول الله ﷺ.
-فيه ما كان الصحابة عليه من تعظيم رسول الله ﷺ والأدب معه، وأن الذي يشير على الكبير بشيء يورده بصورة العرض عليه لا الجزم.
-(أطيب ريحًا منك) فيه جواز المبالغة في المدح؛ لأن الصحابي أطلق ريح الحمار أطيب من ريح عبدالله بن أبيّ وأقره النبي ﷺ على ذلك.
-(فبلغا أنها أُنزلت (وإن طائفتان من المؤمنين)) فيه أن هذه القصة هي سبب نزول هذه الآية، ولا يستشكل قوله تعالى (وإن طائفتان من المؤمنين) في هذه القصة؛ لأن المخاصمة وقعت بين من كان مع النبي ﷺ من أصحابه وبين أصحاب عبدالله بن أبيّ، وكانوا إذ ذاك كفارًا، ولما في رواية أسامة: (فاستبّ المسلمون والمشركون واليهود) لأنه يمكن حمل الآية على التغليب.
-فيه الاستراحة ببث الشكوى للصاحب، ولمن يتسلى بحديثه، وينتفع برأيه (القرطبي)
-وقد استُشكل أن حديث أسامة صريح في أن هذه القصة كانت قبل بدر، والآية المذكورة في الحجرات، ونزولها متأخر جدًا في عام الوفود، فيحتمل أن الآية نزلت قديمًا فيندفع بذلك الإشكال.
فيه مدى ما تحمل الرسول ﷺ من الأذى في سبيل الدعوة. (موسى شاهين)

باب: تَرْكُ تَمَنِّي لِقاءِ العَدُوِّ، والصَّبرُ إذا لَقُوا


١٦١٥. (خ م) (١٧٤٢) عَنْ أبِي النَّضْرِ؛ عَن كِتابِ رَجُلٍ مِن أسلَمَ مِن أصحابِ النَّبِيِّ ﷺ يُقالُ لَهُ: عَبدُ اللهِ بنُ أبِي أوفى ﵁، فَكَتَبَ إلى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ حِينَ سارَ إلى الحَرُورِيَّةِ؛ يُخبِرُهُ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كانَ فِي بَعضِ أيّامِهِ الَّتِي لَقِيَ فِيها العَدُوَّ يَنتَظِرُ، حَتّى إذا مالَت الشَّمسُ قامَ فِيهِم فَقالَ: «يا أيُّها النّاسُ؛ لا تَتَمَنَّوا لِقاءَ العَدُوِّ، واسأَلُوا اللهَ العافِيَةَ، فَإذا لَقِيتُموهُم فاصبِرُوا، واعلَمُوا أنَّ الجَنَّةَ تَحتَ ظِلالِ السُّيُوفِ». ثُمَّ قامَ النَّبِيُّ ﷺ وقالَ: «اللَّهُمَّ مُنزِلَ الكِتابِ، ومُجرِيَ السَّحابِ، وهازِمَ الأحزابِ، اهزِمهُم وانصُرنا عَلَيهِم».
-فيه سبب النهي عن تمني لقاء العدو وذلك لما فيه من صورة الإعجاب والاتكال على النفس والوثوق بالقوة وهو نوع بغي وقد ضمن الله تعالى لمن بغي عليه أن ينصره ولأنه يتضمن قلة الاهتمام بالعدو واحتقاره وهذا يخالف الاحتياط والحزم (النووي).
-(لا تتمنوا لقاء العدو) النهي هنا للكراهة، قال ابن بطال: حكمة النهي أن المرء لا يعلم ما يؤول إليه الأمر، وهو نظير سؤال الله العافية في الفتن، وقد قال الصدّيق: لأن أُعافى فأشكر أحبُّ إلي من أن أٌبتلى فأصبر. ا.هـ.
-(وسلوا الله العافية) وهذا من الألفاظ العامة المتناولة لدفع جميع المكروهات في البدن والباطن في الدين والدنيا والآخرة، قال ابن دقيق العيد: لما كان لقاء الموت من أشق الأشياء على النفس، وكانت الأمور الغائبة ليست كالأمور المحققة، لم يؤمَن أن تكون عند الوقوع كما ينبغي، فيُكره التمني لذلك، ولما فيه من احتمال أن يخالف الإنسان ما وعد نفسه، ثم أمر بالصبر عند وقوع الحقيقة. ا.هـ.
-استدل بهذا الحديث على منع طلب المبارزة، وكان علي يقول: لا تدعُ إلى المبارزة، فإذا دُعيت فأجب تُنصر، لأن الداعي باغٍ.
-قوله (ينتظر حتى إذا مالت الشمس) قال العلماء سببه أنه أمكن للقتال فإنه وقت هبوب الريح ونشاط النفوس وكلما طال ازدادوا نشاطا وإقداما على عدوهم وقد جاء في صحيح البخاري أخر حتى تهب الأرواح وتحضر الصلاة قالوا وسببه فضيلة أوقات الصلوات والدعاء عندها (النووي).
-فيه استحباب الدعاء عند اللقاء والاستنصار (النووي).
-فيه مشروعية هذا الدعاء (اللهم منزل الكتاب..) بدأ بالتوسل إلى الله عز وجل بتنزيل الكتاب؛ لأن الأصل في الجهاد هو إعزاز الدين الذي جاء به هذا الكتاب العظيم، (ومجري السحاب) لأن الكتاب فيه حياة القلوب، والسماء فيها حياة الأرض والنبات، (وهازم الأحزاب) توسّل إلى الله عز وجل بكونه هازم الأحزاب، لأن المقام يقتضي ذلك، وبدأ ﷺ بهزيمتهم قبل النصر؛ لأنه لا يكون نصر إلا بعد الهزيمة، فيُهزم الأحزاب أولا ويكون النصر للمسلمين ثانيا. (ابن عثيمين)

باب: الحَرْبُ خَدْعَةٌ


١٦١٦. (خ م) (١٧٣٩) عَنْ جابِرٍ ﵁ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «الحَربُ خَدعَةٌ».
-فيه التحريض على أخذ الحذر في الحرب، قال النووي: فيه الندب إلى خداع الكفار كيفما أمكن إلا أن يكون فيه نقض عهد أو أمان فلا يحل وقد صح في الحديث جواز الكذب في ثلاثة أشياء أحدها في الحرب.
-يقع الخداع في الحرب بالتعريض وبالكمين ونحو ذلك مما فيه استعمال للرأي واليقظة، والاحتياج لذلك في الحرب آكد من الشجاعة؛ لأن فيه إبقاء على أرواح المسلمين، وانتصارًا على العدو بأقل الخسائر، قال ابن المنيّر: معنى (الحرب خدعة) أي: الحرب الجيدة لصاحبها الكاملة في مقصودها، إنما هي المخادعة لا المواجهة وذلك لخطر المواجهة وحصول الظفر مع المخادعة بغير خطر.

باب: الـنَّهْيُ عَنِ الغَدْرِ


١٦١٧. (خ م) (١٧٣٥) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ ﵄ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إنَّ الغادِرَ يَنصِبُ اللهُ لَهُ لِواءً يَومَ القِيامَةِ، فَيُقالُ: ألا هَذِهِ غَدرَةُ فُلانٍ». ورَوى (م) عَن أبِي سَعِيدٍ مِثلَهُ، وزادَ: «ألا ولا غادِرَ أعظَمُ غَدرًا مِن أمِيرِ عامَّةٍ».
ورَوى (خ) عَن نافِعٍ قالَ: لمّا خَلَعَ أهلُ المَدِينةِ يَزِيدَ بْنَ مُعاوِيةَ جَمَعَ ابنُ عُمَرَ حَشَمَهُ ووَلَدَه فَقالَ: إني سَمِعتُْ النَّبِيَّ ﷺ يقول: «يُنصَبُ لِكُلِّ غادِرٍ لِواءٌ يَومَ القِيامَةِ». وإنّا قَد بايَعنا هَذا الرُّجُلَ عَلى بَيْعِ اللهِ ورَسُولهِ، وإنِّي لا أعلَمُ غَدْرًا أعْظَمَ مِن أن يُبايِعَ رَجُلٌ عَلى بَيعِ اللهِ ورَسُولِهِ ثُمَّ يُنصَبُ لَهُ القِتالُ، وإنِّي لا أعْلَمُ أحَدًا مِنكُم خَلَعَهُ ولا بايَعَ فِي هَذا الأَمرِ إلا كانَت الفَيْصَلَ بَينِي وبَينَهُ. وفِي نُسخَةٍ: ولا تابَعَ فِي هَذا الأَمرِ ...
ولَهُما عَن أنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «لِكُلِّ غادِرٍ لِواءٌ يَومَ القِيامَةِ يُعْرَفُ بِهِ».
-فيه دليل على أن الغدر من كبائر الذنوب؛ لأنه توعّد عليه بهذا الوعيد: وهو فضيحة الغادر يوم القيامة بين العالم. (ابن عثيمين)
-(فلان بن فلان) فيه رد على من يقول إن الناس يدعون يوم القيامة بأسماء أمهاتهم؛ لأن الحديث صريح في ذلك فلم يقل (فلان بن فلانة) (ابن عثيمين)
-قوله (يقال: هذه غدرة فلان بن فلان) الظاهر أن القول هنا ليس على حقيقته وأن المراد به الإعلان أي يعلن اللواء عن مكان الغدرة وصاحبها وربما يكون اللواء مكتوبا عليه هذا المقول والغدرة اسم مرة وهل هذا اللواء لكل من وقع منه الغدر؟ قليلا؟ أو كثيرا؟ عظمت الغدرة؟ أو حقرت؟ الظاهر أن التشهير لا يكون إلا بمن تعود ذلك وكثر منه كما توحي عبارة الحديث "إذا عاهد غدر" أو كانت الغدرة عظيمة تلحق آثارها الكثيرين فهو في قوة غدرات (موسى شاهين).
- قوله "يرفع له بقدر غدره" فالمراد منه أن التشهير ينتشر ويعلن بالدرجة التي وقع بها الغدر لكن أصل التشهير لا يستحقه من وقع منه غدرة صغيرة (موسى شاهين).
-في الحديث غلظ تحريم الغدر لا سيما من صاحب الولاية العامة لأن غدره يتعدى ضرره إلى خلق كثيرين ولأنه غير مضطر للغدر لقدرته على الوفاء (موسى شاهين).

باب: الوَفاءُ بِالعَهْدِ


١٦١٨. (م) (١٧٨٧) عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ اليَمانِ ﵄ قالَ: ما مَنَعَنِي أن أشهَدَ بَدرًا إلا أنِّي خَرَجتُ أنا وأَبِي حُسَيلٌ، قالَ: فَأَخَذَنا كُفّارُ قُرَيشٍ، قالُوا: إنَّكُم تُرِيدُونَ مُحَمَّدًا؟ فَقُلنا: ما نُرِيدُهُ، ما نُرِيدُ إلا المَدِينَةَ، فَأَخَذُوا مِنّا عَهدَ اللهِ ومِيثاقَهُ لَنَنصَرِفَنَّ إلى المَدِينَةِ، ولا نُقاتِلُ مَعَهُ، فَأَتَينا رَسُولَ اللهِ ﷺ فَأَخبَرناهُ الخَبَرَ، فَقالَ: «انصَرِفا، نَفِي لَهُم بِعَهدِهِم، ونَستَعِينُ اللهَ عَلَيهِم».
-هذا الحديث جواز الكذب في الحرب وإذا أمكن التعريض في الحرب فهو أولى ومع هذا يجوز الكذب في الحرب وفي الإصلاح بين الناس وكذب الزوج لامرأته كما صرح به الحديث الصحيح وفيه الوفاء بالعهد (النووي).
-(نفي لهم بعهدهم) هذا ليس للإيجاب فإنه لا يجب الوفاء بترك الجهاد مع الإمام أو نائبه ولكن أراد النبي ﷺ أن لا يشيع من أصحابه نقض العهد وإن كان لا يلزمهم ذلك(الهرري).

باب: الغَزْوُ بِالنِّساءِ


١٦١٩. (خ م) (١٨١١) عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ ﵁ قالَ: لَمّا كانَ يَومُ أُحُدٍ انهَزَمَ (ناسٌ مِن) النّاسِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، وأَبُو طَلْحَةَ بَينَ يَدَيِ النَّبِيِّ ﷺ مُجَوِّبٌ عَلَيهِ بِحَجَفَةٍ، قالَ: وكانَ أبُو طَلْحَةَ رَجُلًا رامِيًا شَدِيدَ النَّزعِ، وكَسَرَ يَومَئِذٍ قَوسَينِ أو ثَلاثًا، قالَ: فَكانَ الرَّجُلُ يَمُرُّ مَعَهُ الجَعبَةُ مِن النَّبلِ، فَيَقُولُ: «انثُرها لأَبِي طَلْحَةَ». قالَ: ويُشرِفُ نَبِيُّ اللهِ ﷺ يَنظُرُ إلى القَومِ، فَيَقُولُ أبُو طَلْحَةَ: يا نَبِيَّ اللهِ؛ بِأَبِي أنتَ وأُمِّي لا تُشرِف، لا يُصِبكَ سَهمٌ مِن سِهامِ القَومِ، نَحرِي دُونَ نَحرِكَ. قالَ: ولَقَد رَأَيتُ عائِشَةَ بِنتَ أبِي بَكرٍ وأُمَّ سُلَيمٍ، وإنَّهُما لَمُشَمِّرَتانِ أرى خَدَمَ سُوقِهِما تَنقُلانِ القِرَبَ عَلى مُتُونِهِما، ثُمَّ تُفرِغانِهِ فِي أفواهِهِم، ثُمَّ تَرجِعانِ فَتَملآنِها، ثُمَّ تَجِيئانِ تُفرِغانِهِ فِي أفواهِ القَومِ، ولَقَد وقَعَ السَّيفُ مِن يَدَي أبِي طَلْحَةَ إمّا مَرَّتَينِ وإمّا ثَلاثًا مِن النُّعاسِ.
-قال ابن حجر: ليس في حديث الباب التصريح بأنهن قاتلن، ولأجل ذلك قال ابن المنير: بوب على قتالهن وليس هو في الحديث، وقال ابن حجر: ويحتمل أن يكون غرض البخاري بالترجمة أن يبين أنهن لا يقاتلن وإن خرجن في الغزو.
فيحتمل أنه أراد بقوله (وقتالهن مع الرجال) أن إعانتهن للغزو غزو، أو أنه يريد أنهن ما ثبتن لسقي الجرحى ونحو ذلك إلا وهن بصدد أن يدافعن عن أنفسهن، وهو الغالب.
-قال النووي: فيه خروج النساء في الغزو، والانتفاع بهن في السَّقي والمداواة لمحارمهن وأزواجهن، وما كان منها لغيرهم لا يكون فيه مس بشرة إلا في موضع الحاجة.
-قوله: (أرى خدم سوقهما تنقلان القرب) قال النووي: وهذه الرؤية للخدم لم يكن فيها نهي له لأنَّ هذا كان يوم أحد أول الإسلام قبل أمر النساء بالحجاب وتحريم النظر إليهن وأنَّه لم يذكر هنا أنَّه تعمد النظر إلى نفس الساق فهو محمول على أنَّه حصلت تلك النظرة فجأة بغير قصد ولم يستدمها (الهَرَري).
-قوله: (لقد وقع السيف من يدي أبي طلحة أما مرتان وأمَّا ثلاثًا) على التشكيك من النُّعاس أي لأجل النعاس الذي من الله به على أهل الصدق واليقين من المؤمنين يوم أحد لأنَّه تعالى لما علم ما في قلوبهم من الغم وكره الأعداء صرفهم عن ذلك بإنزال النُّعاس عليهم لئلا يوطنهم الغم والخوف ويضعف عزائمهم كما قال تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ} (الهَرَري).
هذا من مناقب أبي طلحة الفاخرة. (النووي)

١٦٢٠. (خ م) (١٨١٢) عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ الأنصارِيَّةِ ﵂ قالَت: غَزَوتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ سَبعَ غَزَواتٍ؛ (أخلُفُهُم فِي رِحالِهِم، فَأَصنَعُ لَهُم الطَّعامَ)، وأُداوِي الجَرحى، وأَقُومُ عَلى المَرضى.
ورَوى (خ) عَنِ الرُّبيِّعِ بِنتِ مُعَوِّذٍ قالَت: كُنّا نَغزُو مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، نَسقِي القَومَ، ونَخدُمُهُم، ونُرَدُّ القَتلى والجَرحى إلى المَدِينَةِ.
ورَوى (م) عَنْ أنَسٍ ﵁ قالَ: كانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَغزُو بِأُمِّ سُلَيمٍ ونِسوَةٍ مِن الأَنصارِ مَعَهُ إذا غَزا، فَيَسقِينَ الماءَ ويُداوِينَ الجَرحى.
-واستشكل مباشرة المرأة الرجل بالمداواة وأجيب: باحتمال أن تكون المداواة لمحرم أو زوج وأما الأجانب فتجوز عند الضرورة بقدر ما يحتاج إليه من اللمس والنظر (القسطلاني).
-وقال العيني في عمدة القارئ: (ونداوي الجرحى) فيه مباشرة المرأة غير ذي محرم منها في المداواة وما شاكلها من ألطاف المرضى، ونقل الموتى فإن قلت: كيف ساغ ذلك؟ قلت: جاز ذلك للمتجالات -أي لكبار السن- منهن، لأن موضع الجرح لا يلتذ بمسه، بل تقشعر منه الجلود وتهابه الأنفس ولمسه عذاب للامس والملموس، وأما غيرهن فيعالجن بغير مباشرة منهن لهم، فيضعن الدواء ويضعه غيرهن على الجرح، وقد يمكن أن يضعنه من غير مس شيء من جسده.
-فيه مشروعية مشاركة المرأة للرجال في الخروج إلى الغزو لكي تقوم بما تستطيعه من سقي المجاهدين، وتقديم الخدمات الطبية لهم، ونقل الموتى إلى بلادهم، أما مشاركة المرأة في الجهاد المسلح وقتال العدو فقد جاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أنها استأذنت النبي - ﷺ - في الجهاد فقال: " جهادكن الحج " (حمزة القاسم).
-(يسقين الماء) أي: يحملنه على ظهورهن فيضعنه بقرب الرجال، فيتناوله الرجال بأيديهم فيشربوه.
-فيه حضور النساء للغزو ومداواتهن الجرحى لكن لا يتوسع في ذلك، فيقتصر على الضرورة؛ لأن خروج النساء مع الجيوش فيه خطر عليهن، فيخشى عليهن الأسر والإهانة في أعراضهن وخاصة الشابات منهن، ولذلك ينبغي ألا يخصصن لتطبيب الجند وتدريبهن على ذلك بشكل واسع، فهذا لا يجوز لها مباشرة الرجل الأجنبي إلا لضرورة وعدم وجود من يقوم بذلك من الرجال.
-حرص الصحابيات على نصرة الإسلام، وخروجهن في الغزوات وتعرضهن للمشاق والأخطار جاء ثواب الله، فرضي الله عنهن وأرضاهن.

١٦٢١. (م) (١٨٠٩) عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ ﵁؛ أنَّ أُمَّ سُلَيمٍ اتَّخَذَت يَومَ حُنَينٍ خِنجَرًا فَكانَ مَعَها، فَرَآها أبُو طَلْحَةَ فَقالَ: يا رَسُولَ اللهِ؛ هَذِهِ أُمُّ سُلَيمٍ مَعَها خِنجَرٌ. فَقالَ لَها رَسُولُ اللهِ ﷺ: «ما هَذا الخِنجَرُ؟» قالَتِ: اتَّخَذتُهُ إن دَنا مِنِّي أحَدٌ مِنَ المُشرِكِينَ بَقَرتُ بِهِ بَطنَهُ. فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَضحَكُ، قالَت: يا رَسُولَ اللهِ؛ اقتُل مَن بَعدَنا مِنَ الطُّلَقاءِ انهَزَمُوا بِكَ. فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «يا أُمَّ سُلَيمٍ؛ إنَّ اللهَ قَد كَفى وأَحسَن».
- فيه شجاعة أم سليم وجهادها في سبيل الله، وغيرتها على الإسلام في طلبها قتل الطلقاء (موسى شاهين).
- بيان أن الله أنجز ما وعده رسول الله ﷺ من النصر، والاعتزاز، وقهر العدو،
وجعل ذريتهم، وأموالهم غنيمة للمسلمين.
- فيه رحمة الرسول ﷺ ورفقه، وتأليفه المؤلفة قلوبهم، برده على أم سليم (موسى شاهين).
- بيان ما كان عليه النبي ﷺ من الحلم والصبر، امتثالا لأمر الله تعالى له بذلك.

١٦٢٢. (م) (١٨١٢) عَنْ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ؛ أنَّ نَجدَةَ كَتَبَ إلى ابْنِ عَبّاسٍ ﵁ يَسأَلُهُ عَن خَمسِ خِلالٍ، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لَولا أن أكتُمَ عِلمًا ما كَتَبتُ إلَيهِ. كَتَبَ إلَيهِ نَجدَةُ: أمّا بَعدُ؛ فَأَخبِرنِي؛ هَل كانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَغزُو بِالنِّساءِ؟ وهَل كانَ يَضرِبُ لَهُنَّ بِسَهمٍ؟ وهَل كانَ يَقتُلُ الصِّبيانَ؟ ومَتى يَنقَضِي يُتمُ اليَتِيمِ؟ وعَن الخُمسِ؛ لِمَن هُوَ؟ فَكَتَبَ إلَيهِ ابْنُ عبّاسٍ: كَتَبتَ تَسأَلُنِي؛ هَل كانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَغزُو بِالنِّساءِ؟ وقَد كانَ يَغزُو بِهِنَّ، فَيُداوِينَ الجَرحى، ويُحذَينَ مِنَ الغَنِيمَةِ، وأَمّا بِسَهمٍ فَلَم يَضرِب لَهُنَّ، وإنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ لَم يَكُن يَقتُلُ الصِّبيانَ، فَلا تَقتُلِ الصِّبيانَ، وكَتَبتَ تَسأَلُنِي؛ مَتى يَنقَضِي يُتمُ اليَتِيمِ؟ فَلَعَمرِي إنَّ الرَّجُلَ لَتَنبُتُ لِحيَتُهُ وإنَّهُ لَضَعِيفُ الأَخذِ لِنَفسِهِ ضَعِيفُ العَطاءِ مِنها، فَإذا أخَذَ لِنَفسِهِ مِن صالِحِ ما يَأخُذُ النّاسُ فَقَد ذَهَبَ عَنهُ اليُتمُ، وكَتَبتَ تَسأَلُنِي عَنِ الخُمسِ؛ لِمَن هُوَ؟ وإنّا كُنّا نَقُولُ: هُوَ لَنا، فَأَبى عَلَينا قَومُنا ذاكَ. وفي رواية: فَقالَ لِيَزِيدَ: اكتُب إلَيهِ، فلولا أن يَقَعَ فِي أُحمُوقَةٍ ما كَتَبتُ إلَيهِ ... وفِيها: وإنَّهُ لا يَنقَطِعُ عَنهُ اسمُ اليُتمِ حَتّى يَبلُغَ ويُؤنَسَ مِنهُ رُشدٌ.
-نجدة بن عامر الحنفي الحروري المدني رئيس طائفة من الخوارج.
-قول ابن عباس رضي الله عنه: (أن النساء كن يحذَين من الغنيمة، ولا يسهم لهن منها) هذا مذهب جمهور العلماء: أن المرأة لا يضرب لها بسهم وإن قاتلت، ما خلا الأوزاعي؛ فإنه قال: إن قاتلت أسهم لها. وقد مال إليه ابن حبيب من أصحابنا. وهل يحذين؛ أي: يعطين من الغنيمة بغير تقدير، فالجمهور على أنهن يرضخ لهن. وقال مالك: لا يرضخ لهن، ولم يبلغني ذلك.
-حكم اليتيم يتوقف على أمرين: البلوغ، والرشد، وفي ذلك يقول تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء: 6] (موسى شاهين).
-وفيه دليل للشافعي ومالك وجماهير العلماء أن حكم اليتم لا ينقطع بمجرد البلوغ، ولا بعلو السن، بل لا بد أن يظهر منه الرشد في دينه وماله (موسى شاهين).
-تغليظ حرمة كتم العلم، ولو عن الأعداء والمبغضين. (موسى شاهين).
- وفيه منقبة لابن عباس رضي الله عنهما، وأداؤه واجب الفتوى لمن يكرهه ويبغضه (موسى شاهين).
-(وكتبت تسألني عن قتل الصبيان) هذا مذهب كافة العلماء: أن الصبيان لا يقتلون إلا أن يبيت العدو، فيصاب صبيانهم معهم، وقد تقدّم: أن الصبيان لا يقتلون لأنه لا يكون منهم قتال غالبًا، ولأنهم مال.
-وفيه النهي عن قتل صبيان المشركين. قال النووي: وهو حرام إن لم يقاتلوا، وكذا النساء فإن قاتلوا جاز قتلهم (موسى شاهين).

١٦٢٣. (خ) (٢٨٨١) عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ أبِي مالِكٍ قالَ: إنَّ عُمَرَ بنَ الخَطّابِ ﵁ قَسَمَ مُرُوطًا بَينَ نِساءٍ مِن نِساءِ المَدِينَةِ، فَبَقِيَ مِرطٌ جَيِّدٌ، فَقالَ لَهُ بَعضُ مَن عِندَهُ: يا أمِيرَ المُؤمِنِينَ؛ أعطِ هَذا ابنَةَ رَسُولِ اللهِ ﷺ الَّتِي عِندَكَ. يُرِيدُونَ أُمَّ كُلثُومٍ بِنتَ عَلِيٍّ، فَقالَ عُمَرُ: أُمُّ سَلِيطٍ أحَقُّ. وأُمُّ سَلِيطٍ مِن نِساءِ الأَنصارِ مِمَّن بايَعَ رَسُولَ اللهِ ﷺ، قالَ عُمَرُ: فَإنَّها كانَت تَزفِرُ لَنا القِرَبَ يَومَ أُحُدٍ. قالَ أبُو عَبد اللهِ: تَزفِرُ: تَخِيطُ.
-فيه فضل أم سليط تلك الصحابية الجليلة التي ساهمت في الجهاد بخدمة المسلمين يوم أحد، وحمل الماء على ظهرها لتسقي المجاهدين، فسجل لها التاريخ ذلك وشهد لها عمر رضي الله عنه بهذه المنقبة العظيمة، التي فضلها بها على آل بيت رسول الله - ﷺ– (حمزة القاسم).
-فيه توجيه النصح وتقديم المشورة إلى إمام المسلمين، لا سيما ممن حوله من الوزراء والكتاب ونحوهم (حمزة القاسم).

باب: الـنَّهْيُ عَنْ قَتْلِ النِّساءِ والصِّبْيانِ فِـي الغَزْوِ


١٦٢٤. (خ م) (١٧٤٤) عَنِ ابْنِ عُمَرَ ﵄ قالَ: وُجِدَت امرَأَةٌ مَقتُولَةً فِي بَعضِ تِلكَ المَغازِي، فَنَهى رَسُولُ اللهِ ﷺ عَن قَتلِ النِّساءِ والصِّبيانِ.
-قال ابن عثيمين: إنما نهى عن ذلك لوجهين:
الوجه الأول: أن النساء لسن من أهل الحرب، والصبيان كذلك.
الوجه الثاني: أن النساء والصبيان يكونون أسرى للمسلمين، فهم مال ينتفع به المسلمون، أو ينتفع به بيت المال؛ فلذلك نهى النبي ﷺ عن قتل النساء والصبيان وإنما يقتل من يقاتل.

باب: ما أُصِيبَ مِن ذَرارِي العَدُوِّ فِـي البَياتِ


١٦٢٥. (خ م) (١٧٤٥) عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثّامَةَ ﵁ قالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ عَنِ الذَّرارِيِّ مِن المُشرِكِينَ، يُبَيَّتُون فَيُصِيبُونَ مِن نِسائِهِم وذَرارِيِّهِم، فَقالَ: «هُم مِنهُم».
-قال النووي: أجمع العلماء على العمل بهذا الحديث وتحريم قتل النساء والصبيان إذا لم يقاتلوا فإن قاتلوا قال جماهير العلماء: يقتلون. ا.ه. ويؤيده ما أخرجه أبو داود والنسائي من حديث رباح بن الرّبيع التميمي قال: (كنا مع رسول الله ﷺ في غزوة فرأى الناس مجتمعين، فرأى امرأة مقتولة، وقال: ما كانت هذه لتقاتل) فإن مفهومه لو قاتلت لقُتلت.
-فيه جواز البيات ومفاجأة الكفار بغتة ليلا، وفي المغني عن الإمام أحمد أنه قال: (لا نعلم أحدًا كره بيات العدو).
- فيه جواز الإغارة على من بلغتهم الدعوة من غير إعلامهم بذلك (موسى شاهين).
-أحاديث النهي تحمل على تقصّد قتلهم بلا ضرورة بأن يكونوا متمايزين غير مقاتلين.
-فيه أن أولاد الكفار حكمهم في الدنيا حكم آبائهم وأما في الآخرة ففيهم إذا ماتوا قبل البلوغ (موسى شاهين).

باب: قَطْعُ نَخِيلِ العَدُوِّ وتَحْرِيقُها


١٦٢٦. (خ م) (١٧٤٦) عَنِ ابْنِ عُمَرَ ﵄؛ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَطَعَ نَخلَ بَنِي النَّضِيرِ وحَرَّقَ، ولَها يَقُولُ حَسّانُ:
وهانَ عَلى سَراةِ بَنِي لُؤَيٍّ *** حَرِيقٌ بِالبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرُ
وفِي ذَلكَ نَزَلَت: ﴿ما قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها﴾ [الحشر: ٥] الآيَةَ.
زادَ (خ) فِي رِوايَةٍ: قالَ: فَأَجابَهُ أبُو سُفيانَ بنُ الحارِثِ:
أدامَ اللهُ ذَلِكَ مِن صَنِيعٍ *** وحَرَّقَ فِي نَواحِيها السَّعِيرُ
سَتَعْلَمُ أيُّنا مِنها بِنُزْهٍ *** وتَعْلَمُ أيُّ أرْضَيْنا تَضِيرُ
-فيه دليل على جواز التحريق والتخريب في بلاد العدو إن كان ذلك لحاجة ومصلحة القتال وهو نحو ما قبل في قتل النساء والصبيان، وأنه لا يقصد ذلك لذاته، وإنما يجوز لو كان فيه نكاية وإضعاف للعدو، وبهذا قال أكثر أهل العلم، وعليه يُحمل فعل النبي ﷺ في نخل بني النَّضير.
-(حريق بالبويرة مستطير) وإنما قال حسان ذلك تعبيرًا لقريش، لأنهم كانوا أغروهم بنقض العهد وأمروهم به، ووعدوهم أن ينصروهم إن قصدهم النبي ﷺ.
-(فأجابه أبو سفيان بن الحارث) أجاب حسان بذلك؛ لأن أرض بني النضير مجاورة لأرض الأنصار، فإذا خربت أضرت بما جاورها، بخلاف أرض قريش فإنها بعيدة عنها بُعدًا شديدا فلا يبالي بخرابها. (ابن حجر)

باب: تَحلِيلُ الغَنائِمِ لِهِذِهِ الأُمَّةِ خاصَّةً


١٦٢٧. (خ م) (١٧٤٧) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁؛ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قالَ: «غَزا نَبِيٌّ مِن الأنبِياءِ، فَقالَ لِقَومِهِ: لا يَتبَعنِي رَجُلٌ قَد مَلَكَ بُضعَ امرَأَةٍ وهُوَ يُرِيدُ أن يَبنِيَ بِها ولَمّا يَبنِ، ولا آخَرُ قَد بَنى بُنيانًا ولَمّا يَرفَع سُقُفَها، ولا آخَرُ قَد اشتَرى غَنَمًا أو خَلِفاتٍ وهُوَ مُنتَظِرٌ وِلادَها. قالَ: فَغَزا، فَأَدنى لِلقَريَةِ حِينَ صَلاةِ العَصرِ أو قَرِيبًا مِن ذَلكَ، فَقالَ لِلشَّمسِ: أنتِ مَأمُورَةٌ وأَنا مَأمُورٌ، اللَّهُمَّ احبِسها عَلَيَّ شَيئًا. فَحُبِسَت عَلَيهِ حَتّى فَتَحَ اللهُ عَلَيهِ، قالَ: فَجَمَعُوا ما غَنِمُوا، فَأَقبَلَت النّارُ لِتَأكُلَهُ فَأَبَت أن تَطعَمَهُ، فَقالَ: فِيكُم غُلُولٌ، فَليُبايِعنِي مِن كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ. فَبايَعُوهُ، فَلَصِقَت يَدُ رَجُلٍ بِيَدِهِ، فَقالَ: فِيكُم الغُلُولُ، فَلتُبايِعنِي قَبِيلَتُكَ، فَبايَعَتهُ. قالَ: فَلَصِقَت بِيَدِ رَجُلَينِ أو ثَلاثَةٍ، فَقالَ: فِيكُم الغُلُولُ، أنتُم غَلَلتُم. قالَ: فَأَخرَجُوا لَهُ مِثلَ رَأسِ بَقَرَةٍ مِن ذَهَبٍ، قالَ: فَوَضَعُوهُ فِي المالِ وهُوَ بِالصَّعِيدِ، فَأَقبَلَت النّارُ فَأَكَلَتهُ، فَلَم تَحِلَّ الغَنائِمُ لأحَدٍ مِن قَبلِنا، ذَلكَ بِأَنَّ اللهَ تَبارَكَ وتَعالى رَأى ضَعفَنا وعَجزَنا، فَطَيَّبَها لَنا».
-في هذا الحديث أن الأمور المهمة ينبغي أن لا تفوض إلا إلى أولي الحزم وفراغ البال لها ولا تفوض إلى متعلق القلب بغيرها لأن ذلك يضعف عزمه ويفوت كمال بذل وسعه (النووي).
-فيه إباحة الغنائم لهذه الأمة زادها الله شرفا وأنها مختصة بذلك (النووي).
-حسن سياسة النبي المذكور في الحديث حيث منع من هؤلاء الأصناف الثلاثة لأنهم خرجوا للجهاد فقلوبهم معلقة بما وراءهم، أما الأول: (رَجُلٌ قَد مَلَكَ بُضعَ امرَأَةٍ وَهُوَ يُرِيدُ أَن يَبنِيَ بِهَا وَلَمَّا يَبن) والثاني (وَلا آخَرُ قَد بَنَى بُنيَانًا وَلَمَّا يَرفَع سُقُفَهَا) والثالث (وَلا آخَرُ قَد اشتَرَى غَنَمًا أَو خَلِفَاتٍ وَهُوَ مُنتَظِرٌ وِلادَهَا) والجامع بينهم أن قلوبهم متعلقة ومشغولة كل على حسبه، فلا يخلص في القتال، فمن الحكمة ألا يغزو. (ابن عثيمين)
-فيه أن سير الشمس بإذن الله، وفيه جواز مخاطبة الجمادات لقصد العظة والعبرة وبيان الحكم؛ لأنه قال للشمس (أنت مأمورة) ولم يقل (انتظري)؛ لأن الشمس لا تستطيع أن تنتظر بنفسها لكنه سأل الله عز وجل أن يحبس الشمس، فحبست عليه حتى فتح الله عليه. (ابن عثيمين)
-فيه دليل على أن الأفلاك تتغير بإذن الله عز وجل فدوان الشمس توقف بدعاء هذا النبي، وكذلك انشقاق القمر في عهد النبي ﷺ. (ابن عثيمين)
-فيه أن القتال في النهار أحسن من القتال في الليل، ولهذا سأل النبي أن يحبس الله الشمس حتى يقاتل. (ابن عثيمين)
-فيه أن الأمم السابقة لا تحل لها الغنائم. (ابن عثيمين)
-فيه دليل على فضل هذه الأمة؛ حيث أحل لها الغنائم. (ابن عثيمين)
-(ذلك بأن الله تبارك وتعالى رأى ضعفنا وعجزنا) أي ضعف المال، وليس هو ضعف الإيمان، (وعجزنا) أي عجز القدرة. (ابن عثيمين)

١ بعثهما النبي ﷺ إلى اليمن

٥/٠