كِتابُ الهِجْرَةِ والـمَغازِي


باب: فِـي التَّأْرِيخِ الهِجْرِيِّ


١٦٦٤. (خ) (٣٩٣٤) عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ﵁ قالَ: ما عَدُّوا مِن مَبعَثِ النَّبِيِّ ﷺ ولا مِن وفاتِهِ، ما عَدُّوا إلا مِن مَقدَمِهِ المَدِينَةَ.
- جعل بدأ التاريخ في محرم السنة الأولى من هجرة النبي- ﷺ - وكانت هجرته في ربيع الأول "وإنما أخروه من ربيع الأول إلى المحرم لأن ابتداء العزم على الهجرة كان في المحرم إذ البيعة وقعت في أثناء ذي الحجة وهي مقدمة الهجرة فكان أول هلال استهل بعد البيعة والعزم على الهجرة هلال المحرم فناسب أن يجعل مبتدأ"(ابن حجر).

باب: أيّامُ الجاهِلِيَّةِ


١٦٦٥. (خ) (٣٨٣٧) عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ القاسِمِ؛ أنَّ القاسِمَ كانَ يَمشِي بَينَ يَدَي الجَنازَةِ ولا يَقُومُ لَها، ويُخبِرُ عَن عائِشَةَ ﵂ قالَت: كانَ أهلُ الجاهِلِيَّةِ يَقُومُونَ لَها، يَقُولُونَ إذا رَأَوها: كُنتِ فِي أهلِكِ ما أنتِ، مَرَّتَينِ.
قوله: ( كُنتِ فِي أَهلِكِ مَا أَنتِ، مَرَّتَينِ)؛ قال ابن حجر: أي يقولون ذلك مرتين، وما موصولة وبعض الصلة محذوف، والتقدير: كنت في أهلك الذي كنت فيه، أي الذي أنت فيه الآن كنت في الحياة مثله؛ لأنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث بل كانوا يعتقدون أن الروح إذا خرجت تطير طيرا، فإن كان ذلك من أهل الخير كان روحه من صالحي الطير وإلا فبالعكس، ويحتمل أن يكون قولهم هذا دعاء للميت، ويحتمل أن تكون ما نافية ولفظ مرتين من تمام الكلام، أي لا تكوني في أهلك مرتين:
المرة الواحدة التي كنت فيهم انقضت ولست بعائدة إليهم مرة أخرى.
ويحتمل أن تكون ما استفهامية أي كنت في أهلك شريفة فأي شيء أنت الآن يقولون ذلك حزنا وتأسفا عليه.

١٦٦٦. (خ) (٦٧٥٣) عَنْ هُزَيْلٍ؛ عَن عَبْدِ اللهِ ﵁ قالَ: إنَّ أهلَ الإسلامِ لا يُسَيِّبُونَ، وإنَّ أهلَ الجاهِلِيَّةِ كانُوا يُسَيِّبونَ.
- قوله: (وَإِنَّ أَهلَ الجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يُسَيِّبونَ) قال ابن الجوزي: اعلم أن العرب كانت تنذر في مرض أو سفر: إن شفيت، إن قدمت فناقتي سائبة، فتسيب ولا تمنع من مرعى ولا تطرد عن ماء ولا ينتفع بها، وكذلك عتق العبد سائبة: أي لا ملك لي عليه ولا ولاء.
-قال يحيى بن هبيرة: اختصره البخاري ولم يزد على هذا.
وأخرجه البرقاني بطوله من تلك الطرق عن هزيل قال: جاء رجل إلى عبد الله فقال: "إني أعتقت عبدًا لي وجعلته سايبة؛ فمات وترك مالًا ولم يدع وارثًا -فقال عبد الله: إن أهل الإسلام لا يسيبون، وإنما كان أهل الجاهلية يسيبون، وأنت ولي نعمته فلك ميراثه، فإن تأثمت في شيء وتحرجت فنحن نقبله ونجعله في بيت المال".
- وفي هذا الحديث دليل على أن السوائب غير مفسوح فيها، وإنها مما نهى الشرع عنه.
- وفيه أيضًا أن ما يصيبه الرجل من تلك بجهله فإن نصيبه يحسب لغوًا ويعود ميراثه إلى المعتق، كما قال عبد الله بن مسعود .
- وفيه أيضًا أنه إذا حل في صدر الرجل المعين.. شيء من ذلك فتحرج أو تأثم أي خاف، فيخرج من الحرج والإثم وضع ذلك في بيت المال أو غيره من سبل الخير (ابن هبيرة).

١٦٦٧. (خ) (٣٨٤٢) عَنْ عائِشَةَ ﵂ قالَت: كانَ لأبِي بَكرٍ غُلامٌ يُخرِجُ لَهُ الخَراجَ، وكانَ أبُو بَكرٍ يَأكُلُ مِن خَراجِهِ، فَجاءَ يَومًا بِشَيءٍ فَأَكَلَ مِنهُ أبُو بَكرٍ، فَقالَ لَهُ الغُلامُ: أتَدرِي ما هَذا؟ فَقالَ أبُو بَكرٍ: وما هُوَ؟ قالَ: كُنتُ تَكَهَّنتُ لإنسانٍ فِي الجاهِلِيَّةِ، وما أُحسِنُ الكِهانَةَ إلا أنِّي خَدَعتُهُ، فَلَقِيَنِي فَأَعطانِي بِذَلكَ، فَهَذا الَّذِي أكَلتَ مِنهُ. فَأَدخَلَ أبُو بَكرٍ يَدَهُ فَقاءَ كُلَّ شَيءٍ فِي بَطنِهِ.
- في هذا الحديث من الفقه ما يدل على ورع أبي بكر رضي الله عنه، ولا سيما في هذه الصورة، فإن أخذ الأجر على الكهانة محرم، ثم الخديعة في ذلك محرمة، فتغلظ الأمر بأنه خدع في الحرام، فبادر أبو بكر رضي الله عنه إلى بذل جهده من كونه أخرج ما حصل في بطنه من ذلك، على أنه لم يمكنه من أن يستوعب كل ما كان في بطنه فقد جاء في الحديث عنه أنه قال: (اللهم إني أعتذر إليك مما خالط العروق والمعاء) إلا أن هذا الحديث إن بلي بمثله مؤمن على مثل صورته، فخاف- إن هو جاء على نفسه- التلف، فلا يتعرض للقيء بل يستغفر الله تعالى إذ لا يجوز له التعرض لإتلاف نفسه. (ابن هبيرة)
- وفي هذا الحديث جواز أكل السيد من غلة المملوك وخراجه، وعلى أن أبا بكر رضي الله عنه لم يسأل عبده هذا الوجه الذي جاء به حتى ابتدأ العبد فذكر ذلك. (ابن هبيرة)

١٦٦٨. (خ) (٣٨٤٩) عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قالَ: رَأَيتُ فِي الجاهِلِيَّةِ قِردَةً اجتَمَعَ عَلَيها قِرَدَةٌ، قَد زَنَت فَرَجَمُوها، فَرَجَمتُها مَعَهُم.
- قال ابن حجر: قال ابن التين لعل هؤلاء كانوا من نسل الذين مسخوا فبقي فيهم ذلك الحكم، ثم قال: إن الممسوخ لا ينسل أ.هـ. وهذا هو المعتمد لما ثبت في صحيح مسلم أن الممسوخ لا نسل له.
- وقال ابن حجر: واختص القرد بذلك لما فيه من الفطنة الزائدة على غيره من الحيوان وقابلية التعليم لكل صناعة مما ليس لأكثر الحيوان ومن خصاله أنه يضحك ويطرب ويحكي ما يراه وفيه من شدة الغيرة ما يوازي الآدمي ولا يتعدى أحدهم إلى غير زوجته فلا يدع في الغالب أن يحملها ما ركب فيها من الغيرة على عقوبة من اعتدى إلى ما لم يختص به من الأنثى، ومن خصائصه أن الأنثى تحمل أولادها كهيئة الآدمية.

١٦٦٩. (خ) (٣٨٦٦) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ ﵄ قالَ: ما سَمِعتُ عُمَرَ لِشَيءٍ قَطُّ يَقُولُ: إنِّي لأظُنُّهُ كَذا؛ إلا كانَ كَما يَظُنُّ، بَينَما عُمَرُ جالِسٌ إذ مَرَّ بِهِ رَجُلٌ جَمِيلٌ، فَقالَ: لَقَد أخطَأَ ظَنِّي أو إنَّ هَذا عَلى دِينِهِ فِي الجاهِلِيَّةِ، أو لَقَد كانَ كاهِنَهُم، عَلَيَّ الرَّجُلَ. فَدُعِيَ لَهُ فَقالَ لَهُ ذَلكَ، فَقالَ: ما رَأَيتُ كاليَومِ استُقبِلَ بِهِ رَجُلٌ مُسلِمٌ. قالَ: فَإنِّي أعزِمُ عَلَيكَ إلا ما أخبَرتَنِي. قالَ: كُنتُ كاهِنَهُم فِي الجاهِلِيَّةِ. قالَ: فَما أعجَبُ ما جاءَتكَ بِهِ جِنِّيَّتُكَ؟ قالَ: بَينَما أنا يَومًا فِي السُّوقِ جاءَتنِي أعرِفُ فِيها الفَزَعَ، فَقالَت: ألَم تَرَ الجِنَّ وإبلاسَها، ويَأسَها مِن بَعدِ إنكاسِها، ولُحُوقَها بِالقِلاصِ وأَحلاسِها. قالَ عُمَرُ: صَدَقَ، بَينَما أنا نائِمٌ عِنْدَ آلِهَتِهِم إذ جاءَ رَجُلٌ بِعِجلٍ فَذَبَحَهُ، فَصَرَخَ بِهِ صارِخٌ لَم أسمَع صارِخًا قَطُّ أشَدَّ صَوتًا مِنهُ، يَقُولُ: يا جَلِيح؛ أمرٌ نَجِيح، رَجُلٌ فَصِيح، يَقُولُ: لا إلَهَ إلا أنت. فَوَثَبَ القَومُ، قلت: لا أبرَحُ حَتّى أعلَمَ ما وراءَ هَذا، ثُمَّ نادى: يا جَلِيحُ؛ أمرٌ نَجِيحٌ، رَجُلٌ فَصِيحٌ يَقُولُ: لا إلَهَ إلا اللهُ. فَقُمتُ، فَما نَشِبنا أن قِيلَ: هَذا نَبِيٌّ.
- قوله: (فَمَا أَعجَبُ مَا جَاءَتكَ بِهِ جِنِّيَّتُكَ)؛ هو من استراق الجن السمع إذا قضى الله أمرًا صعق الملائكة حين يسمعون كلامه ﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ﴾ [سبأ: 23]، فيذكرون ما سمعوا فيسمعه من يليهم فيذكرونه ثم كذلك حتى يتكلم به ملائكة الهواء، فتخطف الجن الخطفة فتلقها إلى جن يليه قبل أن يأخذه الشهاب، فيوحيها إلى الكاهن، فيزيدون فيها أكثر من مائة كذبة. (ابن الملقن).
- وفي هذا الحديث ما يدل على فطنة عمر وذكائه في كونه لم يقل قط لشيء أظنه هكذا إلا كان كما يقول (ابن هبيرة).
- وفيه كراهية أن يذكر الرجل بعد إسلامه ما كان عليه في حالة كفره إلا أن يكون راجعًا إلى مصلحة (ابن هبيرة).
- وفيه دلالة واضحة على نبوة محمد ﷺ، ففيما جاءت به الجنية إلى الرجل وفيما سمعه عمر بأذنيه، ما يشهد بنبوة محمد ﷺ .(ابن هبيرة)

١٦٧٠. (خ) (٤٣٧٦) عَنْ أبِي رَجاءٍ العُطارِدِيِّ يَقُولُ: كُنّا نَعبُدُ الحَجَرَ، فَإذا وجَدنا حَجَرًا هُوَ أخيَرُ مِنهُ ألقَيناهُ وأَخَذنا الآخَرَ، فَإذا لَم نَجِد حَجَرًا جَمَعنا جُثوَةً مِن تُرابٍ، ثُمَّ جِئنا بِالشّاةِ فَحَلَبناهُ عَلَيهِ، ثُمَّ طُفنا بِهِ، فَإذا دَخَلَ شَهرُ رَجَبٍ قُلنا: مُنَصِّلُ الأسِنَّةِ، فَلا نَدَعُ رُمحًا فِيهِ حَدِيدَةٌ ولا سَهمًا فِيهِ حَدِيدَةٌ إلا نَزَعناهُ وأَلقَيناهُ شَهرَ رَجَبٍ. وعَن أبي رَجاءٍ يَقُولُ: كُنتُ يَومَ بُعِثَ النَّبِيُّ ﷺ غُلامًا أرعى الإبِلَ عَلى أهلِي، فَلَمّا سَمِعنا بِخُرُوجِهِ فَرَرنا إلى النّارِ إلى مُسَيلِمَةَ الكَذّابِ.
- قوله: (كُنتُ يَومَ بُعِثَ النَّبِيُّ ﷺ)؛ الذي يظهر أن مراده بقوله "بعث" أي اشتهر أمره عندهم ومراده بخروجه أي ظهوره على قومه من قريش بفتح مكة وليس المراد مبدأ ظهوره بالنبوة ولا خروجه من مكة إلى المدينة لطول المدة بين ذلك وبين خروج مسيلمة (ابن حجر).
- ودلت القصة على أن أبا رجاء كان من جملة من بايع مسيلمة من قومه بني عطارد بن عوف بن كعب بطن من بني تميم، وكان السبب في ذلك أن سجاحا وهي امرأة من بني تميم ادعت النبوة أيضا فتابعها جماعة من قومها ثم بلغها أمر مسيلمة فخادعها إلى أن تزوجها واجتمع قومها وقومه على طاعة مسيلمة (ابن حجر).

١٦٧١. (خ) (٣٧٧٧) عَنْ عائِشَةَ ﵂ قالَت: كانَ يَومُ بُعاثَ يَومًا قَدَّمَهُ اللهُ لِرَسُولِهِ ﷺ، فَقَدِمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وقَد افتَرَقَ مَلَؤُهُم، وقُتِلَت سَرَواتُهُم، وجُرِّحُوا، فَقَدَّمَهُ اللهُ لِرَسُولِهِ ﷺ فِي دُخُولِهِم فِي الإسلامِ.
- قولها: (قَدَّمَهُ اللهُ لِرَسُولِهِ ﷺ) أي: إذ لو كان أشرافهم أحياء لاستكبروا عن متابعة رسول الله ﷺ، ولمنع حب رياستهم عن دخول رئيس عليهم وكان ذلك من جملة مقدمات الخير له(الكرماني).
-قال ابن الجوزي: فلما بعث الله نبيه كان سببا للصلح بينهم بدخولهم الإسلام.

باب: ما لَقِيَ النَّبِيُّ ﷺ مِن أذى قَوْمِهِ


١٦٧٢. (خ م) (١٧٩٥) عَنْ عائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ؛ أنَّها قالَت لِرَسُولِ اللهِ ﷺ: يا رَسُولَ اللهِ؛ هَل أتى عَلَيكَ يَومٌ كانَ أشَدَّ مِن يَومِ أُحُدٍ؟ فَقالَ: «لَقَد لَقِيتُ مِن قَومِكِ، وكانَ أشَدَّ ما لَقِيتُ مِنهُم يَومَ العَقَبَةِ، إذ عَرَضتُ نَفسِي عَلى ابْنِ عَبْدِ يالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلالٍ، فَلَم يُجِبنِي إلى ما أرَدتُ، فانطَلَقتُ وأَنا مَهمُومٌ عَلى وجهِي، فَلَم أستَفِق إلا بِقَرنِ الثَّعالِبِ، فَرَفَعتُ رَأسِي فَإذا أنا بِسَحابَةٍ قَد أظَلَّتنِي، فَنَظَرتُ فَإذا فِيها جِبرِيلُ، فَنادانِي فَقالَ: إنَّ اللهَ ﷿ قَد سَمِعَ قَولَ قَومِكَ لَكَ، وما رُدُّوا عَلَيكَ، وقَد بَعَثَ إلَيكَ مَلَكَ الجِبالِ لِتَأمُرَهُ بِما شِئتَ فِيهِم. قالَ: فَنادانِي مَلَكُ الجِبالِ، وسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قالَ: يا مُحَمَّدُ؛ (إنَّ اللهَ قَد سَمِعَ قَولَ قَومِكَ لَكَ، وأَنا مَلَكُ الجِبالِ، وقَد بَعَثَنِي رَبُّكَ إلَيكَ لِتَأمُرَنِي بِأَمرِكَ)؛ فَما شِئتَ؟ إن شِئتَ أن أُطبِقَ عَلَيهِم الأخشَبَينِ. فَقالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: بَل أرجُو أن يُخرِجَ اللهُ مِن أصلابِهِم مَن يَعبُدُ اللهَ وحدَهُ لا يُشرِكُ بِهِ شَيئًا».
- مافعله الرسول ﷺ في هذا الحديث هو من بعد نظره وحلمه.
والاستفادة منه: أن المفاسد التي يرجى زوالها إلى ما هو أصلح لابأس بارتكابها؛ يعني: يبقون عليه من الكفر ولا يعاقبون انتظارًا لما يكون من المصالح يعني من ذريتهم (ابن عثيمين).
- فيه بيان شدة ما لقي النبي ﷺ من أذى المشركين.

١٦٧٣. (خ م) (١٧٩٤) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ﵁ قالَ: بَينَما رَسُولُ اللهِ ﷺ يُصَلِّي عِنْدَ البَيتِ، وأَبُو جَهلٍ وأَصحابٌ لَهُ جُلُوسٌ، وقَد نُحِرَت جَزُورٌ بِالأمسِ، فَقالَ أبُو جَهلٍ: أيُّكُم يَقُومُ إلى سَلا جَزُورِ بَنِي فُلانٍ، فَيَأخُذُهُ فَيَضَعُهُ فِي كَتِفَي مُحَمَّدٍ إذا سَجَدَ. فانبَعَثَ أشقى القَومِ فَأَخَذَهُ، فَلَمّا سَجَدَ النَّبِيُّ ﷺ وضَعَهُ بَينَ كَتِفَيهِ، قالَ: فاستَضحَكُوا، وجَعَلَ بَعضُهُم يَمِيلُ عَلى بَعضٍ، وأَنا قائِمٌ أنظُرُ، لَو كانَت لِي مَنَعَةٌ طَرَحتُهُ عَن ظَهرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، والنَّبِيُّ ﷺ ساجِدٌ ما يَرفَعُ رَأسَهُ، حَتّى انطَلَقَ إنسانٌ فَأَخبَرَ فاطِمَةَ، فَجاءَت وهِيَ جُوَيرِيَةٌ فَطَرَحَتهُ عَنهُ، ثُمَّ أقبَلَت عَلَيهِم تَشتِمُهُم، فَلَمّا قَضى النَّبِيُّ ﷺ صَلاتَهُ رَفَعَ صَوتَهُ، ثُمَّ دَعا عَلَيهِم، (وكانَ إذا دَعا دَعا ثَلاثًا، وإذا سَأَلَ سَأَلَ ثَلاثًا)، ثُمَّ قالَ: «اللَّهُمَّ عَلَيكَ بِقُرَيشٍ». ثَلاثَ مَرّاتٍ، (فَلَمّا سَمِعُوا صَوتَهُ ذَهَبَ عَنهُم الضِّحكُ) وخافُوا دَعوَتَهُ، ثُمَّ قالَ: «اللَّهُمّ عَلَيكَ بِأَبِي جَهلِ بْنِ هِشامٍ، وعُتبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وشَيبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، (والوَلِيدِ بْنِ عُقبَةَ)، وأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وعُقبَةَ بْنِ أبِي مُعَيطٍ». (وذَكَرَ السّابِعَ ولَم أحفَظهُ)، فَوالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا ﷺ بِالحَقِّ لَقَد رَأَيتُ الَّذِينَ سَمّى صَرعى يَومَ بَدرٍ، ثُمَّ سُحِبُوا إلى القَلِيبِ قَلِيبِ بَدرٍ. (قالَ أبُو إسحاقَ: الوَلِيدُ بنُ عُقبَةَ غَلَطٌ فِي هَذا الحَدِيثِ). لَفظُ (خ): «الوَلِيدُ بْنُ عُتبَةَ». وفي رواية: إذ جاءَ عُقبَةُ بنُ أبِي مُعَيطٍ بِسَلا جَزُورِ ... (وفِيها: فَقالَ: «اللَّهُمَّ عَلَيكَ المَلَأَ مِن قُرَيشٍ ...»)، وفِيها: قالَ: فَأُلقُوا فِي بِئرٍ غَيرَ أنَّ أُميَّةَ أو أُبيًّا تَقَطَّعتْ أوصالُهُ، فَلَم يُلْقَ فِي البِئرِ. زادَ (خ): فَإنَّهُ كانَ رَجُلًا ضَخْمًا. قالَ (خ): والصَّحِيحُ أُميَّةُ.
وفي رواية (خ): قالَ: وكانُوا يَرَونَ أنَّ الدَّعوَةَ فِي ذَلكَ البَلدِ مُستَجابةٌ.
وفي رواية (خ): فِي آخِرِها: ثُمَّ قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «وأُتبِعَ أصحابُ القَلِيبِ لَعنَةً».
- وقوله: (وَأَنَا قَائِمٌ أَنْظُرُ) جملة حالية؛ أي: قال ابن مسعود رضي الله عنه : فعلوا هذا، والحال أني أنظر إلى ما يفعلون (محمد بن علي الأتيوبي).
- وقوله: (لَوْ كَانَتْ لِي مَنَعَة)؛ قال النوويّ: لو كان لي قوة تمنع أذاهم أو كان لي عشيرة بمكة تمنعني.
- قال النووي: وفي هذا الحديث إشكال فإنه يقال كيف استمر في الصلاة مع وجود النجاسة على ظهره؟ والجواب المرضي أنه ﷺ لم يعلم ما وضع على ظهره فاستمر في سجوده استصحابا للطهارة.
- وفيه استحباب تكرار الدعاء ثلاثا (النووي)
- قوله: (لَقَد رَأَيتُ الَّذِينَ سَمَّى صَرعَى يَومَ بَدرٍ)؛ قال النووي: هذه إحدى دعواته ﷺ المجابة، والقليب: هي البئر التي لم تطو وإنما وضعوا في القليب تحقيرا لهم ولئلا يتأذى الناس برائحتهم، وليس هو دفنا؛ لأن الحربي لا يجب دفنه.
- قوله: (وَذَكَرَ السَّابِعَ وَلَم أَحفَظه)؛ قال النووي: وقد وقع في رواية البخاري تسمية السابع أنه عمارة بن الوليد.
- قوله: (وَالوَلِيدِ بْنِ عُقبَةَ) غلط في هذا الحديث؛ قال النووي: قال العلماء والوليد بن عقبة -بالقاف -هو ابن أبي معيط، ولم يكن ذلك الوقت موجودا أو كان طفلا صغيرا جدا، فقد أُتِي به النبي يوم الفتح وهو قد ناهز الاحتلام ليمسح على رأسه.
- وفيه قوة نفس فاطمة رضي الله عنها من صغرها لشرفها في قومها ونفسها لكونها صرخت بشتمهم وهم رءوس قريش فلم يردوا عليها (موسى شاهين).
- استدل بقوله: (أشقى القوم) على أن المباشر للجريمة أكبر جرما من المتسبب فيها والمخطط لها والمعين عليها، قال الحافظ ابن حجر: ولهذا قتلوا في الحرب، وقتل عقبة صبرا (موسى شاهين).
- وفيه تعظيم الدعاء بمكة قبل الإسلام وعند الكفار، وما ازدادت عند المسلمين إلا تعظيما (موسى شاهين).
- وفيه معرفة الكفار لصدقه ﷺ لخوفهم من دعائه ولكن حملهم الحسد على ترك الانقياد له (موسى شاهين).
- واستدل به على أن أجساد الكفار لا ثمن لها، ولا يؤخذ لها ثمن إذ لو أن أهل قتلى بدر لو فهموا أنه يقبل فداء أجسادهم لبذلوا فيها ما شاء الله (موسى شاهين).
- مدى ما تحمل الرسول ﷺ من الأذى في سبيل الدعوة (موسى شاهين).

١٦٧٤. (خ) (٣٨٥٦) عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قالَ: سَأَلتُ ابنَ عَمْرِو بْنِ العاصِ: أخبِرنِي بِأَشَدِّ شَيءٍ صَنَعَهُ المُشرِكُونَ بِالنَّبِيِّ ﷺ؟ قالَ: بَيْنا النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي فِي حِجرِ الكَعبَةِ، إذ أقبَلَ عُقبَةُ بنُ أبِي مُعَيطٍ فَوَضَعَ ثَوبَهُ فِي عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ خَنقًا شَدِيدًا، فَأَقبَلَ أبُو بَكرٍ حَتّى أخَذَ بِمَنكِبِهِ ودَفَعَهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قالَ: ﴿أتَقْتُلُونَ رَجُلًا أن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ﴾ [غافر: ٢٨] الآيَةَ.
عُقبَةُ بنُ أَبِي مُعَيطٍ: قتل يوم بدر كافرا بعد انصرافه -ﷺ- منه بيوم.
- قوله: ﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ﴾؛ قال أبو بكر بن العربي: وفي هذا علم وافر وهو أنه لما أراد دفعهم عنه وذهب عنه الحول رجع إلي الحلية بالعلم فكأنه قال لهم: أتقتلون رجلا بغير ذنب إذ لم تنقموا عليه؛ إلا أن قال ربي الله وذلك أمر مختص به مع أنه اعتصم بالله الذي إليه يرجع الكل منكم ومن آلهتكم فإذا تعلق بالأصل لم يستحق القتل علي ترك الفرع.
- وذكر ابن العربي مناقب أبو بكر ومنها هذه المنقبة العظيمة فقال: نقول إن أبا بكر إذا وزن بالأمة رجحهم من وجوه وذكر منها: "فهو أول من فدي رسول الله ﷺ بنفسه وانتزعه من أيدي أعدائه وقال: ﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ﴾".

باب: صَبْرُ الأَنْبِياءِ عَلى أذى قَوْمِهِمْ


١٦٧٥. (خ م) (١٧٩٢) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ ﵁ قالَ: كَأَنِّي أنظُرُ إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ يَحكِي نَبِيًّا مِن الأنبِياء ضَرَبَهُ قَومُهُ، وهُوَ يَمسَحُ الدَّمَ عَن وجهِهِ، ويَقُولُ: «رَبِّ اغفِر لِقَومِي فَإنَّهُم لا يَعلَمُونَ».
- في هذا الحديث أن رسول الله ﷺ ذكر ما جرى لنبي قبله من الأذى ليشعر أصحابه وأمته أن صبره على أذى قومه قد سبقه الأنبياء إليه، وليس هو عن عجز ولا عن ذل كما يظنه أهل الجاهلية، وإنما هو الرفق بالخلق والأناة بهم والصبر عليهم، ولا سيما إذا كانوا لا يعلمون فيصبر انتظارًا لهم أن يؤمنوا؛ فيكون صبره ذلك نوعًا من المجاهدة في سبيل الله عز وجل. (ابن هبيرة)
- وقوله: (يَمسَحُ الدَّمَ عَن وَجهِهِ)؛ يعني أنه بلغ الأمر به إلى أن اجترأ عليه قومه حتى ضربوه وأدموه في وجهه وذلك من أشق ما لقي الأنبياء. (ابن هبيرة)
- وفيه أيضًا دليل على أن النبي ﷺ لا يولي المشركين ظهره بل يلقاهم بوجهه؛ ولذلك شج رسول الله ﷺ في وجهه وكسرت رباعيته أي أنه كان مقبلًا غير مدبر ﷺ (ابن هبيرة).
- وفيه ما كان عليه الأنبياء من الحلم والصبر وعفوهم عن أعدائهم الذين آذوهم والدعاء لهم بالهداية والمغفرة فترتفع بذلك درجاتهم ويتأسى بهم أتباعهم (موسى شاهين).

باب: أوَّلُ مَن قَدِمَ الـَمدِينَةَ قَبْلَ الهِجْرَةِ


١٦٧٦. (خ) (٣٩٢٥) عَنِ البَراءِ بْنِ عازِبٍ ﵁ قالَ: أوَّلُ مَن قَدِمَ عَلَينا مُصعَبُ بنُ عُمَيرٍ وابنُ أُمِّ مَكتُومٍ، وكانا يُقرِئان النّاسَ، فَقَدِمَ بِلالٌ وسَعدٌ وعَمّارُ بنُ ياسِرٍ، ثُمَّ قَدِمَ عُمَرُ بنُ الخَطّابِ فِي عِشرِينَ مِن أصحابِ النَّبِيِّ ﷺ، ثُمَّ قَدِمَ النَّبِيُّ ﷺ، فَما رَأَيتُ أهلَ المَدِينَةِ فَرِحُوا بِشَيءٍ فَرَحَهُم بِرَسُولِ اللهِ ﷺ، حَتّى جَعَلَ الإماءُ يَقُلنَ: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ. فَما قَدِمَ حَتّى قَرَأتُ: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلى﴾ [الأعلى: ١] فِي سُوَرٍ مِن المُفَصَّلِ.

باب: فِـي هِجْرَةِ النَّبِيِّ ﷺ


١٦٧٧. (خ م) (٢٠٠٩) عَنِ البَراءِ بْنِ عازِبٍ ﵄ يَقُولُ: جاءَ أبُو بَكرٍ الصِّدِّيقُ إلى أبِي فِي مَنزِلِهِ، فاشتَرى مِنهُ رَحلًا، فَقالَ لِعازِبٍ: ابعَث مَعِيَ ابنَكَ يَحمِلهُ مَعِي إلى مَنزِلِي. فَقالَ لِي أبِي: احمِلهُ. فَحَمَلتُهُ، وخَرَجَ أبِي مَعَهُ يَنتَقِدُ ثَمَنَهُ، فَقالَ لَهُ أبِي: يا أبا بَكرٍ؛ حَدِّثنِي كَيفَ صَنَعتُما لَيلَةَ سَرَيتَ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ؟ قالَ: نَعَم أسرَينا لَيلَتَنا كُلَّها، حَتّى قامَ قائِمُ الظَّهِيرَةِ وخَلا الطَّرِيقُ فَلا يَمُرُّ فِيهِ أحَدٌ، حَتّى رُفِعَت لَنا صَخرَةٌ طَوِيلَةٌ لَها ظِلٌّ لَم تَأتِ عَلَيهِ الشَّمسُ بَعدُ، فَنَزَلنا عِندَها، فَأَتَيتُ الصَّخرَةَ، فَسَوَّيتُ بِيَدِي مَكانًا يَنامُ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ فِي ظِلِّها، ثُمَّ بَسَطتُ عَلَيهِ فَروَةً، ثُمَّ قُلتُ: نَم يا رَسُولَ اللهِ، وأَنا أنفُضُ لَكَ ما حَولَكَ، فَنامَ، وخَرَجتُ أنفُضُ ما حَولَهُ، فَإذا أنا بِراعِي غَنَمٍ مُقبِلٍ بِغَنَمِهِ إلى الصَّخرَةِ يُرِيدُ مِنها الَّذِي أرَدنا، فَلَقِيتُهُ فَقُلتُ: لِمَن أنتَ يا غُلامُ؟ فَقالَ: لِرَجُلٍ مِن أهلِ المَدِينَةِ. قُلتُ: أفِي غَنَمِكَ لَبَنٌ؟ قالَ: نَعَم. قُلتُ: أفَتَحلُبُ لِي؟ قالَ: نَعَم. فَأَخَذَ شاةً، فَقُلتُ لَهُ: انفُض الضَّرعَ مِن الشَّعَرِ والتُّرابِ والقَذى قالَ: فَرَأَيتُ البَراءَ يَضرِبُ بِيَدِهِ عَلى الأخرى يَنفُضُ، فَحَلَبَ لِي فِي قَعبٍ مَعَهُ كُثبَةً مِن لَبَنٍ، قالَ: ومَعِي إداوَةٌ أرتَوِي فِيها لِلنَّبِيِّ ﷺ لِيَشرَبَ مِنها ويَتَوَضَّأَ، قالَ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ، وكَرِهتُ أن أُوقِظَهُ مِن نَومِهِ، فَوافَقتُهُ استَيقَظَ، فَصَبَبتُ عَلى اللَّبَنِ مِن الماءِ حَتّى بَرَدَ أسفَلُهُ، فَقُلتُ: يا رَسُولَ اللهِ؛ اشرَب مِن هَذا اللَّبَن، قالَ: فَشَرِبَ حَتّى رَضِيتُ، ثُمَّ قالَ: «ألَم يَأنِ لِلرَّحِيلِ؟» قُلتُ: بَلى، قالَ: فارتَحَلنا بَعدَما زالَت الشَّمسُ، واتَّبَعَنا سُراقَةُ بنُ مالِكٍ، قالَ: ونَحنُ فِي جَلَدٍ مِن الأرضِ، فَقُلتُ: يا رَسُولَ اللهِ؛ أُتِينا، فَقالَ: «لا تَحزَن، إنَّ اللهَ مَعَنا». فَدَعا عَلَيهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ فارتَطَمَت فَرَسُهُ إلى بَطنِها أُرى، فَقالَ: إنِّي قَد عَلِمتُ أنَّكُما قَد دَعَوتُما عَلَيَّ، فادعُوا لِي، فاللهُ لَكُما أن أرُدَّ عَنكُما الطَّلَبَ. فَدَعا اللهَ فَنَجا، فَرَجَعَ لا يَلقى أحَدًا إلا قالَ: قَد كَفَيتُكُم ما هاهُنا. فَلا يَلقى أحَدًا إلا رَدَّهُ، قالَ: ووَفى لَنا.
وفي رواية (م) قالَ: ولَكَ عَلَيَّ لَأُعمِّينَّ عَلى مَن ورائِي، وهَذِهِ كِنانَتي، فَخُذ سَهمًا مِنها، فَإنَّكَ سَتَمُرُّ عَلى إبِلِي وغِلمانِي بِمَكانِ كَذا وكَذا، فَخُذ مِنها حاجَتَكَ. قالَ: «لا حاجَةَ لِي فِي إبِلِكَ». فَقَدِمنا المَدِينَةَ لَيلًا، فَتَنازَعُوا أيُّهُم يَنزِلُ عَلَيهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَقالَ: «أنزِلُ عَلى بَنِي النَّجّارِ، أخوالِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، أُكرِمُهُم بِذَلكَ». فَصَعَدَ الرِّجالُ والنِّساءُ فَوقَ البُيُوتِ، وتَفَرَّقَ الغِلمانُ والخَدَمُ فِي الطُّرُقِ يُنادُونَ: يا مُحمَّدُ، يا رَسُولَ اللهِ، يا مُحمَّدُ، يا رَسُولَ اللهِ. وفي رواية: اشتَرى أبُو بَكرٍ مِن أبِي رَحْلًا بِثَلاثَةَ عَشَرَ دِرهمًا ...
وفي رواية (خ): ثُمَّ ارتَحَلنا والطَّلَبُ فِي إثْرِنا. وزادَ: قالَ البَراءُ: فَدَخَلتُ مَعَ أبِي بَكرٍ عَلى أهلِهِ، فَإذا عائِشَةُ ابنَتُهُ مُضطَجِعَةٌ قَد أصابَتها حُمّى، فَرَأَيتُ أباها، فَقَبَّل خَدَّها، وقالَ: كَيفَ أنتِ يا بُنيَّةُ؟
ورَوى (خ) عَن سُراقةَ بْنِ جُعْشُمٍ يَقُولُ: جاءَنا رُسُلُ كُفّارِ قُرَيشٍ يَجعَلُونَ فِي رَسُولِ اللهِ ﷺ وأَبِي بَكرٍ دِيَةَ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما مَن قَتَلَهُ أو أسَرَهُ، فَبَينَما أنا جالِسٌ فِي مَجلِسٍ مِن مَجالِسِ قَومِي بَنِي مُدْلِجٍ؛ أقبَلَ رَجُلٌ مِنهُم حَتّى قامَ عَلَينا ونَحنُ جُلُوسٌ، فَقالَ: يا سُراقَةُ؛ إني قَد رَأَيتُ آنفًا أسْوِدَةً بِالسّاحِلِ أُراها مُحمدًا وأَصحابَهُ. قالَ سُراقةُ: فَعَرَفتُ أنَّهُم هُم، فَقُلتُ لَهُ: إنَّهُم لَيسُوا بِهِم، ولَكِنَّكَ رَأَيتَ فُلانًا وفُلانًا انطَلَقُوا بِأَعيُنِنا، يَبتَغُونَ ضَآلَةً لَهُم، ثُمَّ لَبِثتُ فِي المَجلِسِ ساعَةً، ثُمَّ قُمتُ، فَدَخَلتُ، فَأَمَرتُ جارِيَتِي أن تَخْرُجَ بِفَرَسِي وهِيَ مِن وراءِ أكَمَةٍ، فَتَحبِسَها عَلَيَّ، وأَخَذتُ رُمحِي فَخَرَجتُ بِهِ مِن ظَهرِ البَيتِ، فَحَطَطْتُ بِزُجِّهِ الأَرضَ وخَفَضتُ عالِيَهُ، حَتّى أتَيتُ فَرَسِي فَرَكبتُها، فَرَفَعتُها تُقَرِّبُ بِي، حَتّى دَنَوتُ مِنهُم، فَعَثَرَت بِي فَرَسِي، فَخَرَرْتُ عَنها، فَقُمتُ فَأَهوَيتُ يَدِي إلى كِنانَتِي فاستَخرَجتُ مِنها الأَزْلامَ، فاستَقسَمتُ بِها؛ أضُرُّهُم أم لا؟ فَخَرَجَ الَّذِي أكرَهُ، فَرَكِبتُ فَرَسِي وعَصَيتُ الأَزلامَ، تُقَرِّبُ بي، حَتّى إذا سَمِعتُ قِراءَةَ رَسُولِ اللهِ ﷺ وهُو لا يَلتَفِتُ، وأَبُو بَكرٍ يُكْثِرُ الالتِفاتَ، ساخَتْ يَدا فَرَسِي فِي الأَرضِ حَتّى بَلَغَتا الرُّكبَتَينِ، فَخَرَرْتُ عَنها، ثُمَّ زَجَرَتُها فَنَهَضَتْ فَلَم تَكَد تُخْرِجُ يَدَيها، فَلَمّا استَوَتْ قائِمَةً إذا لِأَثَرِ يَدَيْها عُثانٌ ساطِعٌ فِي السَّماءِ مِثلَ الدُّخانَ، فاستَقسَمتُ بِالأَزلامِ فَخَرَجَ الَّذِي أكرَهُ، فَنادَيتُهُم بِالأَمانِ فَوَقَفُوا، فَرَكِبتُ فَرَسِي حَتّى جِئتُهُم، ووَقَعَ فِي نَفسِي حِينَ لَقِيتُ ما لَقِيتُ مِن الحَبْسِ عَنهُم أن سَيَظهَرُ أمْرُ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقُلتُ لَهُ: إنَّ قَومَكَ قَد جَعَلُوا فِيكَ الدِّيَةَ، وأَخبَرتُهُم أخبارَ ما يُرِيدُ النّاسُ بِهِم، وعَرَضْتُ عَلَيهِم الزّادَ والمَتاعَ، فَلَم يَرزَآنِي وِلَم يَسأَلانِي إلّا أن قالَ: «أخْفِ عَنّا». فَسَأَلتُهُ أن يَكتُبَ لِي كِتابَ أمْنٍ، فَأَمَرَ عامِرَ بنَ فُهَيَرةَ فَكَتَبَ فِي رُقْعَةٍ مِن أدِيمٍ، ثُمَّ مَضى رَسُولُ اللهِ ﷺ.
قالَ ابنُ شِهابٍ: فَأَخَبَرنِي عُروَةُ بنُ الزُّبَيرِ؛ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ لَقِيَ الزُّبَيرَ فِي رَكبٍ مِن المُسلِمِينَ كانُوا تُجّارًا قافِلِينَ مِن الشّامِ، فَكَسا الزُّبَيرُ رَسُولَ الله ﷺ وأَبا بَكرٍ ثِيابَ بَياضٍ، وسَمِعَ المُسلِمُونَ بِالمَدِينَةِ مَخرَجَ رَسُولِ اللهِ ﷺ مِن مَكَّةَ، فَكانُوا يَغدُونَ كُلَّ غَداةٍ إلى الحَرَّةِ فَيَنتَظِرُونَهُ حَتّى يَرُدَّهُمْ حَرُّ الظَّهِيرَةِ، فانقَلَبُوا يَومًا بَعدَ ما أطالُوا انتِظارَهُم، فَلَمّا أوَوا إلى بُيُوتِهِم أوْفى رَجُلٌ مِن يَهُودَ عَلى أُطُمٍ مِن آطامِهِم لِأَمرٍ يَنظُرُ إلَيهِ، فَبَصُرَ بِرَسُولِ اللهِ ﷺ وأَصحابِهِ مُبَيَّضِينَ يَزُولُ بِهِم السَّرابُ، فَلَم يَملِكِ اليَهُودِيُّ أن قالَ بَأَعلى صَوتِهِ: يا مَعاشِرَ العَرَبِ؛ هَذا جَدُّكُمُ الَّذِي تَنتَظِرُونَ. فَثارَ المُسلِمُونَ إلى السِّلاحِ فَتَلَقَّوا رَسُولَ اللهِ ﷺ بِظَهْرِ الحَرَّة، فَعَدَلَ بِهِم ذاتَ اليَمِينِ حَتّى نَزَلَ بِهِم فِي بَنِي عَمْروٍ بْنِ عَوفٍ، وذَلكَ يَومَ الاثنَينِ مِن شَهرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ، فَقامَ أبُو بَكرٍ لِلنّاسِ، وجَلَسَ رَسُولُ اللهِ ﷺ صامِتًا، فَطَفِقَ مَن جاءَ مِن الأَنصارِ مَمَّن لَم يَرَ رَسُولَ اللهِ ﷺ يُحَيِّي أبا بَكرٍ، حَتّى أصابَت الشَّمسُ رَسُولَ الله ﷺ، فَأَقبَلَ أبُو بَكرٍ حَتّى ظَلَّلَ عَلَيهِ بِرِدائِهِ، فَعَرَفَ النّاسُ رَسُولَ اللهِ ﷺ عِنْدَ ذَلكَ، فَلَبِثَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي بَنِي عَمرو بْنِ عَوفٍ بِضْعَ عَشرَةَ لَيلَةً، وأُسِّسَ المَسْجِدُ الَّذِي أُسِّسَ عَلى التَّقوى، وصَلّى فِيهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ، ثُمَّ رَكِبَ راحِلَتَهُ فَسارَ يَمشِي مَعَهُ النّاسُ حَتّى بَرَكَتْ عِنْدَ مَسْجِدِ الرَّسولِ ﷺ بِالمَدِينَةِ، وهُو يُصَلِّي فِيهِ يَومَئِذٍ رَجالٌ مِن المُسلِمِينَ، وكانَ مِرْبَدًا لِلتَّمرِ لِسُهَيلٍ وسَهلٍ غَلامَينِ يَتِيمَينِ فِي حِجرِ أسعَدَ بْنِ زُرارَةَ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ حِينَ بَرَكَت بِهِ راحِلَتُهُ: «هَذا إن شاءَ اللهُ المَنزِلَ». ثُمَّ دَعا رَسُولُ الله ﷺ الغَلامَينِ فَساوَمَهُمُا بِالمَربَدِ لِيَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا، فَقالا: لا، بَل نَهَبُهُ لَكَ يا رَسُولَ اللهِ. فَأَبى رَسُولُ اللهِ أن يَقبَلَهُ مِنهُما هِبَةً حَتّى ابتاعَهُ مِنهُما، ثُمَّ بَناهُ مَسجدًا، وطَفِقَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَنقُلُ مَعَهُم اللَّبِنَ فِي بُنيانِهِ، ويَقُولُ وهُو يَنقُلُ اللَّبِنَ: «هَذا الحِمالُ لا حِمالُ خَيبَرَ، هَذا أبَرُّ رَبِّنا وأَطْهَرُ»، ويَقُولُ: «اللَّهُمَّ إنَّ الأَجرَ أجرُ الآخِرَه، فارحَمِ الأَنصارَ والمُهاجِرَه». فَتَمَثَّلَ بِشِعْرِ رَجُلٍ مِن المُسلِمِينَ لَم يُسَمَّ لِي. قالَ ابنُ شِهابٍ: ولَم يَبلُغنا فِي الأَحادِيثِ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ تَمثَّلَ بِبَيتِ شِعرٍ تامٍّ غَيرَ هَذا البَيتِ.
وفي رواية: قالت: استَأذَنَ النَّبِيَّ ﷺ أبُو بَكْرٍ فِي الخُرُوجِ حِينَ اشتَدَّ عَلَيهِ الأذى، فَقال لَهُ: «أقِم». فَقال: يا رَسُولَ اللهِ؛ أتَطمَعُ أن يُؤذَنَ لَكَ؟ فَكانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «إنِّي لأرجُو ذَلِكَ». قالت: فانتَظَرَهُ أبُو بَكرٍ فَأَتاهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ ذاتَ يَومٍ ظُهرًا فَناداهُ فَقال: أخرِج مَن عِندَكَ ... وفيها: فَأَعطى النَّبِيَّ ﷺ إحداهُما وهِيَ الجَدعاءُ، فَرَكِبا فانطَلَقا حَتّى أتَيا الغارَ، وهُوَ بِثَورٍ فَتَوارَيا فِيهِ، فَكانَ عامِرُ بنُ فُهَيرَةَ غُلامًا لِعَبدِ اللهِ بْنِ الطُّفَيلِ بْنِ سَخبَرَةَ أخُو عائِشَةَ لأُمِّها، وكانَت لأَبِي بَكرٍ مِنحَةٌ، فَكانَ يَرُوحُ بِها ويَغدُو عَلَيهِم ويُصبِحُ فَيَدَّلِجُ إلَيهِما، ثُمَّ يَسرَحُ فَلا يَفطُنُ بِهِ أحَدٌ مِن الرِّعاءِ، فَلَمّا خَرَجَ خَرَجَ مَعَهُما يُعقِبانِهِ حَتّى قَدِما المَدِينَةَ، فَقُتِلَ عامِرُ بنُ فُهَيرَةَ يَومَ بِئرِ مَعُونَةَ.
-وهذا الحديث مما يسأل عنه فيقال: كيف شربوا اللبن من الغلام وليس هو مالكه؟ وجوابه من أوجه:
‏أحدها: أنه محمول على عادة العرب أنهم يأذنون للرعاة إذا مر بهم ضيف أو عابر سبيل أن يسقوه اللبن ونحوه.
‏والثاني: أنه كان لصديق لهم يدلون عليه، وهذا جائز.
‏والثالث: أنه مال حربي لا أمان له، ومثل هذا جائز.
‏والرابع: لعلهم كانوا مضطرين، والجوابان الأولان أجود. (النووي)
-وفي هذا الحديث يظهر لنا هذه المعجزة الظاهرة لرسول الله ﷺ، وفضيلة ظاهرة لأبي بكر رضي الله عنه من وجوه.
-وفيه خدمة التابع للمتبوع.
-وفيه استصحاب الركوة والإبريق ونحوهما في السفر للطهارة والشرب.
-وفيه فضل التوكل على الله سبحانه وتعالى وحسن عاقبته.
- ‏وفيه فضائل الأنصار لفرحهم بقدوم رسول الله ﷺ، وظهور سرورهم به.
-وفيه فضيلة صلة الأرحام، سواء قربت القرابة والرحم أم بعدت، وأن الرجل الجليل إذا قدم بلدا له فيه أقارب ينزل عندهم يكرمهم بذلك، والله أعلم. ( النووي)

١٦٧٨. (خ) (٣٩١١) عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ ﵁ قالَ: أقبَلَ نَبِيُّ اللهِ ﷺ إلى المَدِينَةِ وهُوَ مُردِفٌ أبا بَكرٍ، وأَبُو بَكرٍ شَيخٌ يُعرَفُ، ونَبِيُّ اللهِ ﷺ شابٌّ لا يُعرَفُ، قالَ: فَيَلقى الرَّجُلُ أبا بَكرٍ فَيَقُولُ: يا أبا بَكرٍ؛ مَن هَذا الرَّجُلُ الَّذِي بَينَ يَدَيكَ؟ فَيَقُولُ: هَذا الرَّجُلُ يَهدِينِي السَّبِيلَ. قالَ: فَيَحسِبُ الحاسِبُ أنَّهُ إنَّما يَعنِي الطَّرِيقَ وإنَّما يَعنِي سَبِيلَ الخَيرِ فالتَفَتَ أبُو بَكرٍ فَإذا هُوَ بِفارِسٍ قَد لَحِقَهُم فَقالَ: يا رَسُولَ اللهِ؛ هَذا فارِسٌ قَد لَحِقَ بِنا. فالتَفَتَ نَبِيُّ اللهِ ﷺ فَقالَ: «اللَّهُمَّ اصرَعهُ». فَصَرَعَهُ الفَرَسُ. ثُمَّ قامَت تُحَمحِمُ فَقالَ: يا نَبِيَّ اللهِ؛ مُرنِي بِما شِئتَ. قالَ: «فَقِف مَكانَكَ لا تَترُكَنّ أحَدًا يَلحَقُ بِنا». قالَ: فَكانَ أوَّلَ النَّهارِ جاهِدًا عَلى نَبِيِّ اللهِ ﷺ، وكانَ آخِرَ النَّهارِ مَسلَحَةً لَهُ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ جانِبَ الحَرَّةِ، ثُمَّ بَعَثَ إلى الأَنصارِ فَجاءُوا إلى نَبِيِّ اللهِ ﷺ وأَبِي بَكرٍ فَسَلَّمُوا عَلَيهِما، وقالُوا: اركَبا آمِنَينِ مُطاعَينِ. فَرَكِبَ نَبِيُّ اللهِ ﷺ وأَبُو بَكرٍ وحَفُّوا دُونَهُما بِالسِّلاحِ فَقِيلَ فِي المَدِينَةِ: جاءَ نَبِيُّ اللهِ، جاءَ نَبِيُّ اللهِ ﷺ. فَأَشرَفُوا يَنظُرُونَ ويَقُولُونَ: جاءَ نَبِيُّ اللهِ جاءَ نَبِيُّ اللهِ. فَأَقبَلَ يَسِيرُ حَتّى نَزَلَ جانِبَ دارِ أبِي أيُّوبَ، فَإنَّهُ لَيُحَدِّثُ أهلَهُ إذ سَمِعَ بِهِ عَبدُ اللهِ بنُ سَلامٍ وهُوَ فِي نَخلٍ لِأَهلِهِ يَختَرِفُ لَهُم، فَعَجِلَ أن يَضَعَ الَّذِي يَختَرِفُ لَهُم فِيها فَجاءَ وهِيَ مَعَهُ، فَسَمِعَ مِن نَبِيِّ اللهِ ﷺ ثُمَّ رَجَعَ إلى أهلِهِ، فَقالَ نَبِيُّ اللهِ ﷺ: «أيُّ بُيُوتِ أهلِنا أقرَبُ؟» فَقالَ أبُو أيُّوبَ: أنا يا نَبِيَّ اللهِ هَذِهِ دارِي وهَذا بابِي. قالَ: «فانطَلِق فَهَيِّئ لَنا مَقِيلًا». قالَ: قُوما عَلى بَرَكَةِ اللهِ. فَلَمّا جاءَ نَبِيُّ اللهِ ﷺ جاءَ عَبدُ اللهِ بنُ سَلامٍ فَقالَ: أشهَدُ أنَّكَ رَسُولُ اللهِ، وأَنَّكَ جِئتَ بِحَقٍّ، وقَد عَلِمَت يَهُودُ أنِّي سَيِّدُهُم وابنُ سَيِّدِهِم، وأَعلَمُهُم وابنُ أعلَمِهِم، فادعُهُم فاسأَلهُم عَنِّي قَبلَ أن يَعلَمُوا أنِّي قَد أسلَمتُ، فَإنَّهم إن يَعلَمُوا أنِّي قَد أسلَمتُ قالُوا فِيَّ ما لَيسَ فِيَّ. فَأَرسَلَ نَبِيُّ اللهِ ﷺ فَأَقبَلُوا فَدَخَلُوا عَلَيهِ فَقالَ لَهُم رَسُولُ اللهِ ﷺ: «يا مَعشَرَ اليَهُودِ؛ ويلَكُم اتَّقُوا اللهَ فَوَ اللهِ الَّذِي لا إلَهَ إلّا هُوَ إنَّكُم لَتَعلَمُون أنِّي رَسُولُ اللهِ حَقًّا، وأَنِّي جِئتُكُم بِحَقٍّ، فَأَسلِمُوا». قالُوا: ما نَعلَمُهُ. قالُوا لِلنَّبِيِّ ﷺ، قالَها ثَلاثَ مِرارٍ قالَ: «فَأَيُّ رَجُلٍ فِيكُم عَبدُ اللهِ بنُ سَلامٍ؟» قالُوا: ذاكَ سَيِّدُنا وابنُ سَيِّدِنا، وأَعلَمُنا وابنُ أعلَمِنا قالَ: «أفَرَأَيتُم إن أسلَمَ؟» قالُوا: حاشى لِلَّهِ ما كانَ لِيُسلِمَ. قالَ: «أفَرَأَيتُم إن أسلَمَ؟» قالُوا: حاشى لِله ما كانَ لِيُسلِمَ. قالَ: «أفَرَأَيتُم إن أسلَمَ؟» قالُوا: حاشى لِله ما كانَ لِيُسلِمَ قالَ: «يا ابنَ سَلامٍ اخرُج عَلَيهِم». فَخَرَجَ فَقالَ: يا مَعشَرَ اليَهُودِ، اتَّقُوا الله، فَوَ الله الَّذِي لا إلَهَ إلّا هُوَ إنَّكُم لَتَعلَمُونَ أنَّهُ رَسُولُ الله، وأَنَّهُ جاءَ بِحَقٍّ. فَقالُوا: كَذَبتَ. فَأَخرَجَهُم رَسُولُ اللهِ ﷺ.
١٦٧٩. (خ) (٣٩٠٥) عَنْ عائِشَةَ ﵂ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ قالَت: لَم أعقِل أبَوَيَّ قَطُّ إلا وهُما يَدِينانِ الدِّينَ، ولَم يَمُرَّ عَلَينا يَومٌ إلا يَأتِينا فِيهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ طَرَفَي النَّهارِ بُكرَةً وعَشِيَّةً، فَلَمّا ابتُلِيَ المُسلِمُونَ خَرَجَ أبُو بَكرٍ مُهاجِرًا نَحوَ أرضِ الحَبَشَةِ، حَتّى بَلَغَ بَرْكَ الغِمادِ لَقِيَهُ ابنُ الدَّغِنَةِ، وهُوَ سَيِّدُ القارَةِ، فَقالَ: أينَ تُرِيدُ يا أبا بَكرٍ؟ فَقالَ أبُو بَكرٍ: أخرَجَنِي قَومِي، فَأُرِيدُ أن أسِيحَ فِي الأَرضِ وأَعبُدَ رَبِّي. قالَ ابنُ الدَّغِنَةِ: فَإنَّ مِثلَكَ يا أبا بَكرٍ لا يَخرُجُ ولا يُخرَجُ، إنَّكَ تَكسِبُ المَعدُومَ، وتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَحمِلُ الكَلَّ، وتَقرِي الضَّيفَ، وتُعِينُ عَلى نَوائِبِ الحَقِّ، فَأَنا لَكَ جارٌ، ارجِع واعبُد رَبَّكَ بِبَلَدِكَ. فَرَجَعَ وارتَحَلَ مَعَهُ ابنُ الدَّغِنَةِ، فَطافَ ابنُ الدَّغِنَةِ عَشِيَّةً فِي أشرافِ قُرَيشٍ، فَقالَ لَهُم: إنَّ أبا بَكرٍ لا يَخرُجُ مِثلُهُ ولا يُخرَجُ، أتُخرِجُونَ رَجُلًا يَكسِبُ المَعدُوم، ويَصِلُ الرَّحِمَ، ويَحمِلُ الكَلَّ، ويَقرِي الضَّيفَ، ويُعِينُ عَلى نَوائِبِ الحَقِّ. فَلَم تُكَذِّب قُرَيشٌ بِجِوارِ ابْنِ الدَّغِنَةِ، وقالُوا لابنِ الدَّغِنَةِ: مُر أبا بَكرٍ فَليَعبُد رَبَّهُ فِي دارِهِ، فَليُصَلِّ فِيها وليَقرَأ ما شاءَ، ولا يُؤذِينا بِذَلكَ، ولا يَستَعلِن بِهِ، فَإنّا نَخشى أن يَفتِنَ نِساءَنا وأَبناءَنا. فَقالَ ذَلكَ ابنُ الدَّغِنَةِ لأَبِي بَكرٍ، فَلَبِثَ أبُو بَكرٍ بِذَلكَ يَعبُدُ رَبَّهُ فِي دارِهِ، ولا يَستَعلِنُ بِصَلاتِهِ، ولا يَقرَأُ فِي غَيرِ دارِهِ، ثُمَّ بَدا لأَبِي بَكرٍ فابتَنى مَسْجِدًا بِفِناءِ دارِهِ، وكانَ يُصَلِّي فِيهِ ويَقرَأُ القُرآنَ، فَيَنقَذِفُ عَلَيهِ نِساءُ المُشرِكِينَ وأَبناؤُهُم، وهُم يَعجَبُونَ مِنهُ ويَنظُرُونَ إلَيهِ، وكانَ أبُو بَكرٍ رَجُلًا بَكّاءً لا يَملِكُ عَينَيهِ إذا قَرَأَ القُرآنَ، وأَفزَعَ ذَلكَ أشرافَ قُرَيشٍ مِن المُشرِكِينَ، فَأَرسَلُوا إلى ابْنِ الدَّغِنَةِ فَقَدِمَ عَلَيهِم، فَقالُوا: إنّا كُنّا أجَرنا أبا بَكرٍ بِجِوارِكَ عَلى أن يَعبُدَ رَبَّهُ فِي دارِهِ، فَقَد جاوَزَ ذَلكَ فابتَنى مَسْجِدًا بِفِناءِ دارِهِ، فَأَعلَنَ بِالصَّلاةِ والقِراءَةِ فِيهِ، وإنّا قَد خَشِينا أن يَفتِنَ نِساءَنا وأَبناءَنا، فانهَهُ، فَإن أحَبَّ أن يَقتَصِرَ عَلى أن يَعبُدَ رَبَّهُ فِي دارِهِ فَعَلَ، وإن أبى إلا أن يُعلِنَ بِذَلكَ فَسَلهُ أن يَرُدَّ إلَيكَ ذِمَّتَكَ، فَإنّا قَد كَرِهنا أن نُخفِرَكَ، ولَسنا مُقِرِّينَ لأَبِي بَكرٍ الاستِعلانَ. قالَت عائِشَةُ: فَأَتى ابنُ الدَّغِنَةِ إلى أبِي بَكرٍ، فَقالَ: قَد عَلِمتَ الَّذِي عاقَدتُ لَكَ عَلَيهِ، فَإمّا أن تَقتَصِرَ عَلى ذَلكَ، وإمّا أن تَرجِعَ إلَيَّ ذِمَّتِي، فَإنِّي لا أُحِبُّ أن تَسمَعَ العَرَبُ أنِّي أُخفِرتُ فِي رَجُلٍ عَقَدتُ لَهُ. فَقالَ أبُو بَكرٍ: فَإنِّي أرُدُّ إلَيكَ جِوارَكَ، وأَرضى بِجِوارِ اللهِ ﷿. والنَّبِيُّ ﷺ يَومَئِذٍ بِمَكَّةَ، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ لِلمُسلِمِينَ: «إنِّي أُرِيتُ دارَ هِجرَتِكُم ذاتَ نَخلٍ بَينَ لابَتَينِ». وهُما الحَرَّتانِ، فَهاجَرَ مَن هاجَرَ قِبَلَ المَدِينَةِ، ورَجَعَ عامَّةُ مَن كانَ هاجَرَ بِأَرضِ الحَبَشَةِ إلى المَدِينَةِ، وتَجَهَّزَ أبُو بَكرٍ قِبَلَ المَدِينَةِ، فَقالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «عَلى رِسلِكَ، فَإنِّي أرجُو أن يُؤذَنَ لِي». فَقالَ أبُو بَكرٍ: وهَل تَرجُو ذَلكَ بِأبِي أنتَ؟ قالَ: «نَعَم». فَحَبَسَ أبُو بَكرٍ نَفسَهُ عَلى رَسُولِ اللهِ ﷺ لِيَصحَبَهُ، وعَلَفَ راحِلَتَينِ كانَتا عِندَهُ ورَقَ السَّمُرِ وهُوَ الخَبَطُ أربَعَةَ أشهُرٍ، قالَت عائِشَةُ: فَبَينَما نَحنُ يَومًا جُلُوسٌ فِي بَيتِ أبِي بَكرٍ فِي نَحرِ الظَّهِيرَةِ قالَ قائِلٌ لأبِي بَكرٍ: هَذا رَسُولُ اللهِ ﷺ مُتَقَنِّعًا. فِي ساعَةٍ لَم يَكُن يَأتِينا فِيها، فَقالَ أبُو بَكرٍ: فِداءٌ لَهُ أبِي وأُمِّي؛ واللهِ ما جاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السّاعَةِ إلا أمرٌ. قالَت: فَجاءَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فاستَأذَنَ، فَأُذِنَ لَهُ فَدَخَلَ، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ لأبِي بَكرٍ: «أخرِج مَن عِندَكَ». فَقالَ أبُو بَكرٍ: إنَّما هُم أهلُكَ بِأبِي أنتَ يا رَسُولَ اللهِ. قالَ: «فَإنِّي قَد أُذِنَ لِي فِي الخُرُوجِ». فَقالَ أبُو بَكرٍ: الصَّحابَةُ بِأبِي أنتَ يا رَسُولَ اللهِ. قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «نَعَم». قالَ أبُو بَكرٍ: فَخُذ بِأبِي أنتَ يا رَسُولَ اللهِ إحدى راحِلَتَيَّ هاتَينِ. قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «بِالثَّمَنِ». قالَت عائِشَةُ: فَجَهَّزناهُما أحَثَّ الجَهازِ، وصَنَعنا لَهُما سُفرَةً فِي جِرابٍ، فَقَطَعَت أسماءُ بِنتُ أبِي بَكرٍ قِطعَةً مِن نِطاقِها، فَرَبَطَت بِهِ عَلى فَمِ الجِرابِ، فَبِذَلكَ سُمِّيَت ذاتَ النِّطاقِ، قالَت: ثُمَّ لَحِقَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وأَبُو بَكرٍ بِغارٍ فِي جَبَلِ ثَورٍ، فَكَمَنا فِيهِ ثَلاثَ لَيالٍ، يَبِيتُ عِندَهُما عَبدُ اللهِ بنُ أبِي بَكرٍ، وهُوَ غُلامٌ شابٌّ ثَقِفٌ لَقِنٌ، فَيُدلِجُ مِن عِندِهِما بِسَحَرٍ، فَيُصبِحُ مَعَ قُرَيشٍ بِمَكَّةَ كَبائِتٍ، فَلا يَسمَعُ أمرًا يُكتادانِ بِهِ إلا وعاهُ، حَتّى يَأتِيَهُما بِخَبَرِ ذَلكَ حِينَ يَختَلِطُ الظَّلامُ، ويَرعى عَلَيهِما عامِرُ بنُ فُهَيرَةَ مَولى أبِي بَكرٍ مِنحَةً مِن غَنَمٍ، فَيُرِيحُها عَلَيهِما حِينَ تَذهَبُ ساعَةٌ مِن العِشاءِ، فَيَبِيتانِ فِي رِسلٍ، وهُوَ لَبَنُ مِنحَتِهِما ورَضِيفِهِما، حَتّى يَنعِقَ بِها عامِرُ بنُ فُهَيرَةَ بِغَلَسٍ، يَفعَلُ ذَلكَ فِي كُلِّ لَيلَةٍ مِن تِلكَ اللَّيالِي الثَّلاثِ، واستَأجَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وأَبُو بَكرٍ رَجُلًا مِن بَنِي الدِّيلِ وهُوَ مِن بَنِي عَبدِ بْنِ عَدِيٍّ هادِيًا خِرِّيتًا والخِرِّيتُ الماهِرُ بِالهِدايَةِ، قَد غَمَسَ حِلفًا فِي آلِ العاصِ بْنِ وائِلٍ السَّهمِيِّ، وهُوَ عَلى دِينِ كُفّارِ قُرَيشٍ، فَأَمِناهُ، فَدَفَعا إلَيهِ راحِلَتَيهِما، وواعَداهُ غارَ ثَورٍ بَعدَ ثَلاثِ لَيالٍ بِراحِلَتَيهِما صُبحَ ثَلاثٍ، وانطَلَقَ مَعَهُما عامِرُ بنُ فُهَيرَةَ والدَّلِيلُ، فَأَخَذَ بِهِم طَرِيقَ السَّواحِلِ.
-والنطاق ما يشد به الوسط، وقيل: هو إزار فيه تكة، وقيل: هو ثوب تلبسه المرأة ثم تشد وسطها بحبل ثم ترسل الأعلى على الأسفل. قاله أبو عبيد الهروي، قال: وسميت ذات النطاقين؛ لأنها كانت تجعل نطاقا على نطاق. وقيل: كان لها نطاقان تلبس أحدهما وتجعل في الآخر الزاد. (ابن حجر)

١ أشدّ يومٍ لقيه رسول الله ﷺ من قومه:

٥/٠