باب: قِتالُ الأَنْصارِ يَوْمَ أُحُدٍ


١٧٠٧. (م) (١٧٨٩) عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ ﵁؛ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ أُفرِدَ يَومَ أُحُدٍ فِي سَبعَةٍ مِنَ الأَنصارِ ورَجُلَينِ مِن قُرَيشٍ، فَلَمّا رَهِقُوهُ قالَ: «مَن يَرُدُّهُم عَنّا ولَهُ الجَنَّةُ، أو هُوَ رَفِيقِي فِي الجَنَّةِ؟» فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الأَنصارِ فَقاتَلَ حَتّى قُتِلَ، ثُمَّ رَهِقُوهُ أيضًا، فَقالَ: «مَن يَرُدُّهُم عَنّا ولَهُ الجَنَّةُ، أو هُوَ رَفِيقِي فِي الجَنَّةِ؟» فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الأَنصارِ فَقاتَلَ حَتّى قُتِلَ، فَلَم يَزَل كَذَلكَ حَتّى قُتِلَ السَّبعَةُ فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِصاحِبَيهِ: «ما أنصَفنا أصحابَنا».
- فيه فضل الأنصارِ رضي الله عنهم.
- في قوله (ما أنصفنا أصحابنا)، كأنه كالعتب على المهاجرين إذ تقدم الأنصار فقاتلوا دونهم. (ابن هبيرة).

١٧٠٨. (خ) (٤٠٧٨) عَنْ قَتادَةَ قالَ: ما نَعلَمُ حَيًّا مِن أحياءِ العَرَبِ أكثَرَ شَهِيدًا أعَزَّ يَومَ القِيامَةِ مِن الأَنصارِ، قالَ قَتادَةُ: وحَدَّثَنا أنَسُ بنُ مالِكٍ؛ أنَّهُ قُتِلَ مِنهُم يَومَ أُحُدٍ سَبعُونَ، ويَومَ بِئرِ مَعُونَةَ سَبعُونَ، ويَومَ اليَمامَةِ سَبعُونَ، قالَ: وكانَ بِئرُ مَعُونَةَ عَلى عَهدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، ويَومُ اليَمامَةِ عَلى عَهدِ أبِي بَكرٍ يَومَ مُسَيلِمَةَ الكَذّابِ.
-فيه بيان فضيلة الأنصار، فإن الله تعالى أكرمهم بالشهادة كما أكرموا رسول الله ﷺ.
-فيه معرفة النبي ﷺ لفضل الأنصار، لما قاموا به من واجب نصرتهم له، حتى أوصى بهم ودعا لهم ولأبنائهم.
-فيه حرص الأنصار عن عدم التأخر عن الغزو مع النبي ﷺ، ومع خلفائه من بعده.
-فيه الدلالة على حرص ووفاء النبي ﷺ ومن بعده في إحصائهم لعدد المستشهدين من الأنصار.

باب: غَزْوَةُ الرَّجِيعِ


١٧٠٩. (خ) (٣٠٤٥) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁ قالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَشَرَةَ رَهطٍ سَرِيَّةً عَينًا، وأَمَّرَ عَلَيهِم عاصِمَ بنَ ثابِتٍ الأَنْصارِيَّ جَدَّ عاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ، فانطَلَقُوا، حَتّى إذا كانُوا بِالهَدَأَةِ وهُوَ بَينَ عُسفانَ ومَكَّةَ ذُكِرُوا لِحَيٍّ مِن هُذَيلٍ يُقالُ لَهُم: بَنُو لَحيانَ، فَنَفَرُوا لَهُم قَرِيبًا مِن مِائَتَي رَجُلٍ كُلُّهُم رامٍ، فاقتَصُّوا آثارَهُم، حَتّى وجَدُوا مَأكَلَهُم تَمرًا تَزَوَّدُوهُ مِن المَدِينَةِ، فَقالُوا: هَذا تَمرُ يَثرِبَ. فاقتَصُّوا آثارَهُم، فَلَمّا رَآهُم عاصِمٌ وأَصحابُهُ لَجَئُوا إلى فَدفَدٍ، وأَحاطَ بِهِم القَومُ، فَقالُوا لَهُم: انزِلُوا وأَعطُونا بِأَيدِيكُم ولَكُم العَهدُ والمِيثاق، ولا نَقتُلُ مِنكُم أحَدًا. قالَ عاصِمُ بنُ ثابِتٍ أمِيرُ السَّرِيَّة: أمّا أنا فَواللهِ لا أنزِلُ اليَومَ فِي ذِمَّةِ كافِرٍ، اللَّهُمَّ أخبِر عَنّا نَبِيَّكَ. فَرَمَوهُم بِالنَّبلِ فَقَتَلُوا عاصِمًا فِي سَبعَةٍ، فَنَزَلَ إلَيهِم ثَلاثَةُ رَهطٍ بِالعَهدِ والمِيثاقِ، مِنهُم خُبَيبٌ الأَنْصارِيُّ وابنُ دَثِنَةَ ورَجُلٌ آخَرُ، فَلَمّا استَمكَنُوا مِنهُم أطلَقُوا أوتارَ قِسِيِّهِم فَأَوثَقُوهُم، فَقالَ الرَّجُلُ الثّالِثُ: هَذا أوَّلُ الغَدرِ، واللهِ لا أصحَبُكُم، إنَّ لِي فِي هَؤُلاءِ لأُسوَةً. يُرِيدُ القَتلى، فَجَرَّرُوهُ وعالَجُوهُ عَلى أن يَصحَبَهُم فَأَبى فَقَتَلُوهُ، فانطَلَقُوا بِخُبَيبٍ وابنِ دَثِنَةَ حَتّى باعُوهُما بِمَكَّةَ بَعدَ وقعَةِ بَدرٍ، فابتاعَ خُبَيبًا بَنُو الحارِثِ بْنِ عامِرِ بْنِ نَوفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنافٍ، وكانَ خُبَيبٌ هُوَ قَتَلَ الحارِثَ بنَ عامِرٍ يَومَ بَدرٍ، فَلَبِثَ خُبَيبٌ عِندَهُم أسِيرًا، فَأَخبَرَنِي عُبَيدُ اللهِ بنُ عِياضٍ أنَّ بِنتَ الحارِثِ أخبَرَتهُ؛ أنَّهُم حِينَ اجتَمَعُوا استَعارَ مِنها مُوسى يَستَحِدُّ بِها فَأَعارَتهُ، فَأَخَذَ ابنًا لِي وأَنا غافِلَةٌ حِينَ أتاهُ، قالَت: فَوَجَدتُهُ مُجلِسَهُ عَلى فَخِذِهِ والمُوسى بِيَدِهِ، فَفَزِعتُ فَزعَةً عَرَفَها خُبَيبٌ فِي وجهِي، فَقالَ: تَخشَينَ أن أقتُلَهُ؟ ما كُنتُ لأَفعَلَ ذَلكَ. واللهِ ما رَأَيتُ أسِيرًا قَطُّ خَيرًا مِن خُبَيبٍ، واللهِ لَقَد وجَدتُهُ يَومًا يَأكُلُ مِن قِطفِ عِنَبٍ فِي يَدِهِ وإنَّهُ لَمُوثَق فِي الحَدِيدِ وما بِمَكَّةَ مِن ثَمَرٍ، وكانَت تَقُولُ: إنَّهُ لَرِزقٌ مِن اللهِ رَزَقَهُ خُبَيبًا. فَلَمّا خَرَجُوا مِن الحَرَمِ لِيَقتُلُوهُ فِي الحِلِّ قالَ لَهُم خُبَيبٌ: ذَرُونِي أركَع رَكْعَتَيْنِ. فَتَرَكُوهُ، فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قالَ: لَولا أن تَظُنُّوا أنَّ ما بِي جَزَعٌ لَطَوَّلتُها، اللَّهُمَّ أحصِهِم عَدَدًا:
فَلَسْتُ أُبالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا *** عَلى أيِّ شِقٍّ كانَ للهِ مَصْرَعِي
وذَلِكَ فِي ذاتِ الإلَهِ وإنْ يَشَأْ *** يُبارِكْ عَلى أوْصالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
فَقَتَلَهُ ابنُ الحارِثِ، فَكانَ خُبَيبٌ هُوَ سَنَّ الرَّكعَتَينِ لِكُلِّ امرِئٍ مُسلِمٍ قُتِلَ صَبرًا، فاستَجابَ اللهُ لِعاصِمِ بْنِ ثابِتٍ يَومَ أُصِيبَ، فَأَخبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أصحابَهُ خَبَرَهُم وما أُصِيبُوا، وبَعَثَ ناسٌ مِن كُفّارِ قُرَيشٍ إلى عاصِمٍ حِينَ حُدِّثُوا أنَّهُ قُتِلَ لِيُؤتَوا بِشَيءٍ مِنهُ يُعرَفُ، وكانَ قَد قَتَلَ رَجُلًا مِن عُظَمائِهِم يَومَ بَدرٍ، فَبُعِثَ عَلى عاصِمٍ مِثلُ الظُّلَّةِ مِن الدَّبرِ، فَحَمَتهُ مِن رَسُولِهِم، فَلَم يَقدِرُوا عَلى أن يَقطَعَ مِن لَحمِهِ شَيئًا. وفي رواية: واللهِ لَولا أن تَحسِبُوا أنَّ ما بِي جَزَعٌ لَزِدتُ، اللَّهُمَّ أحصِهِم عَدَدًا، واقتُلهُم بَدَدًا، ولا تُبقِ مِنهُم أحَدًا ...
- فيه بيان أن الله يحفظ عباده المؤمنين في الحياة وبعد الممات، وأن الموت شهادة ليس هلاكا للمسلم وإنما هو كرامة وفضل.
- فيه أن المسلم الحقّ لا يغدر بمن غدر به.
- فيه منقبة وفضيلة ظاهرة لعاصم بن ثابت الأنصاري وخبيب بن عدي رضي الله عنهما.
- فيه إثبات كرامات الأولياء، وحفظ الله تعالى لعباده وأوليائه الصالحين، واستجابتهم لدعوتهم.

باب: غَزْوَةُ الأَحْزابِ وهِيَ الخَنْدَقُ


١٧١٠. (خ م) (١٨٠٣) عَنِ البَراءِ ﵁ قالَ: كانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَومَ الأحزابِ يَنقُلُ مَعَنا التُّرابَ، ولَقَد وارى التُّرابُ بَياضَ بَطنِهِ، وهُوَ يَقُولُ: «واللهِ لَولا أنتَ ما اهتَدَينا، ولا تَصَدَّقنا ولا صَلَّينا، فَأَنزِلَن سَكِينَةً عَلَينا، (إنَّ الأُلى قَد أبَوا عَلَينا)» قالَ: ورُبَّما قالَ: «إنَّ المَلا قَد أبَوا عَلَينا، إذا أرادُوا فِتنَةً أبَينا». ويَرفَعُ بِها صَوتَهُ. زادَ (خ): «أبَينا أبَينا». وفي رواية (خ): قالَ: ثُمَّ يَمُدُّ صَوتَهُ بِآخِرِها. وفي رواية (خ): حَتّى وارى عَنِّي الغُبارُ جِلدَةَ بَطنِهِ وكانَ كَثِيرَ الشَّعَرِ فَسَمِعتُهُ يَرتَجِزُ بِكَلِماتِ ابْنِ رَواحَةَ.
١٧١١. (خ م) (١٨٠٥) عَنْ أنَسٍ ﵁؛ أنَّ أصحابَ مُحَمَّدٍ ﷺ كانُوا يَقُولُونَ يَومَ الخَندَقِ: نَحنُ الَّذِينَ بايَعُوا مُحَمَّدًا، عَلى الإسلامِ ما بَقِينا أبَدًا. أو قالَ: عَلى الجِهادِ شَكَّ حَمّادٌ، والنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إنَّ الخَيرَ خَيرُ الآخِرَه، فاغفِر لِلأَنصارِ والمُهاجِرَه».
وفي رواية (خ): جَعَلَ المُهاجِرُونَ والأَنصارُ يَحفِرُونَ الخَنْدَقَ حَولَ المَدِينَةَ ويَنقُلُونَ التُّرابَ عَلى مُتُونِهِم وهُم يَقُولُونَ ... وهُو يُجِيبُهُم: «... فَبارِك فِي الأَنصارِ والمُهاجِرَةِ». قالَ: يُؤتُونَ بِمِلءِ كَفَّي مِن الشَّعِيرِ فَيُصْنَعُ لَهُم بإهالةٍ سَنِخَةٍ تُوضَعُ بَينَ يَدَي القَومِ، والقَومُ جِياعٌ، وهِيَ بَشِعَةٌ فِي الحَلْق، ولَها رِيحٌ مُنتنٌ.
وفي رواية (خ): فَإذا المُهاجِرُونَ والأَنصارُ يَحفِرُونَ فِي غَداةٍ بارِدَةٍ، فَلَم يَكُن لَهُم عَبِيدٌ يَعمَلُونَ ذَلكَ لَهُم، فَلَمّا رَأى ما بِهِم مِن النَّصَبِ والجَوعِ قالَ: «اللَّهُمَّ إنَّ العَيشَ ...». فَقالُوا مُجِيبِينَ لَهُ: نَحنُ الَّذِينَ ...
[[- فيه إنشاد الشعر الحماسيّ أثناء العمل؛ تشجيعا للعاملين وترغيبا لهم، وتسلية وتنشيطا.
- فيه تواضع النبي ﷺ، وحسن أخلاقه مع صحابته حتى في وقت الحرب.
- فيه بيان لجمال نفسية النبي ﷺ ومحبته لصحابته رضي الله عنهم.
- فيه استشهاد النبي ﷺ من الشعر.

١٧١٢. (م) (١٧٨٨) عَنْ إبْراهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ أبِيهِ قالَ: كُنّا عِنْدَ حُذَيْفَةَ ﵁، فَقالَ رَجُلٌ: لَو أدرَكتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ قاتَلتُ مَعَهُ وأَبلَيتُ. فَقالَ حُذَيْفَةُ: أنتَ كُنتَ تَفعَلُ ذَلكَ؟ لَقَد رَأَيتُنا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ لَيلَةَ الأَحزابِ، وأَخَذَتنا رِيحٌ شَدِيدَةٌ وقُرٌّ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «ألا رَجُلٌ يَأتِينِي بِخَبَرِ القَومِ، جَعَلَهُ اللهُ مَعِي يَومَ القِيامَةِ؟» فَسَكَتنا فَلَم يُجِبهُ مِنّا أحَدٌ، ثُمَّ قالَ: «ألا رَجُلٌ يَأتِينا بِخَبَرِ القَومِ، جَعَلَهُ اللهُ مَعِي يَومَ القِيامَةِ؟» فَسَكَتنا فَلَم يُجِبهُ مِنّا أحَدٌ، ثُمَّ قالَ: «ألا رَجُلٌ يَأتِينا بِخَبَرِ القَومِ، جَعَلَهُ اللهُ مَعِي يَومَ القِيامَةِ؟» فَسَكَتنا فَلَم يُجِبهُ مِنّا أحَدٌ، فَقالَ: «قُم يا حُذَيْفَةُ؛ فَأتِنا بِخَبَرِ القَومِ». فَلَم أجِد بُدًّا إذ دَعانِي بِاسمِي أن أقُومَ، قالَ: «اذهَب فَأتِنِي بِخَبَرِ القَومِ، ولا تَذعَرهُم عَلَيَّ». فَلَمّا ولَّيتُ مِن عِندِهِ جَعَلتُ كَأَنَّما أمشِي فِي حَمّامٍ حَتّى أتَيتُهُم، فَرَأَيتُ أبا سُفيانَ يَصلِي ظَهرَهُ بِالنّار، فَوَضَعتُ سَهمًا فِي كَبِدِ القَوسِ فَأَرَدتُ أن أرمِيَهُ، فَذَكَرتُ قَولَ رَسُولِ اللهِ ﷺ: «ولا تَذعَرْهُم عَلَيَّ»، ولَو رَمَيتُهُ لأَصَبتُهُ، فَرَجَعتُ وأَنا أمشِي فِي مِثلِ الحَمّامِ، فَلَمّا أتَيتُهُ فَأَخبَرتُهُ بِخَبَرِ القَومِ وفَرَغتُ قُرِرتُ، فَأَلبَسَنِي رَسُولُ اللهِ ﷺ مِن فَضْلِ عَباءَةٍ كانَت عَلَيهِ يُصَلِّي فِيها، فَلَم أزَل نائِمًا حَتّى أصبَحتُ، فَلَمّا أصبَحتُ قالَ: «قُم يا نَومانُ».
١٧١٣. (خ) (٤١١٠) عَنْ سُلَيْمانَ بْنِ صُرَدٍ ﵁ قالَ: سَمِعتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ حِينَ أُجلِي الأَحزابُ عَنهُ: «الآنَ نَغزُوهُم ولا يَغزُونَنا، نَحنُ نَسِيرُ إلَيهِم».
- فيه أنه لما عين النبي ﷺ حذيفة رضي الله عنه باسمه، وجبت عليه الإجابة لدعوته.
- فيه أن ما حصل لحذيفة رضي الله عنه من دفء حاله رغم البرد الشديد هي من بركة إجابته لأمر رسول الله ﷺ.
- فيه أن حذيفة رضي الله عنه حينما فرغ من مهمة النبي ﷺ التي أمره بها، أحس بالبرد فغطاه النبي بعباءته ونام.
- حسن دعابة النبي ﷺ لصحابته خصوصا وقت الحرب والأزمات.
- فيه جواز أن يتمنى الرجل الخير ويأتي بلفظ (لو) نحو قول هذا الرجل "لو أدركت رسول الله ﷺ". (ابن هبيرة)
- وفيه دليل على أن المؤمنين يبتلون. (ابن هبيرة)
- فيه أن قوله (جعله الله معي يوم القيامة) يجوز أن يكون هنا دعاء له، ويجوز أن يكون خبرًا عن حاله، وتكريره ﷺ ذلك ثلاث مرات يدل على حسن خلق رسول الله ﷺ ورفقه بأصحابه. (ابن هبيرة)
- وهو أيضًا تعليم لأمير الجيوش أنه في مثل هذا المقام لا يجوز أن يكلف الأمير الشخص منهم أن يبعث به في مثل هذا المقام قهرًا أو جبرًا فإنه سبيل شديد الخطر، ولكن يدعو له ويرغبه في الثواب لينهض طوعًا، فإن عاد عاد مأجورًا، وإن ذهب ذهب شهيدًا. (ابن هبيرة)
- فيه أن في قوله (قم يا حذيفة) فإنه لما لم يكن يحسن أن يتنامى إلى المشركين أن رسول الله ﷺ حض أصحابه ثلاث مرات متتابعات لينهض منهم واحد يأتيه بخبر القوم فلم يندب منهم أحد، رأى حينئذ رسول الله ﷺ أن يعين حذيفة لمعنى رآه فيه. (ابن هبيرة)

باب: قِصَّةُ الحُدَيْبِيَةِ وصُلْحُ النَّبِيِّ ﷺ مَعَ قُرَيْشٍ


١٧١٤. (خ م) (١٧٨٣) عَنِ البَراءِ ﵁ قالَ: لَمّا أُحصِرَ النَّبِيُّ ﷺ عِنْدَ البَيتِ صالَحَهُ أهلُ مَكَّةَ عَلى أن يَدخُلَها فَيُقِيمَ بِها ثَلاثًا، ولا يَدخُلَها إلا بِجُلُبّانِ السِّلاحِ السَّيفِ وقِرابِهِ، ولا يَخرُجَ بِأَحَدٍ مَعَهُ مِن أهلِها، ولا يَمنَعَ أحَدًا يَمكُثُ بِها مِمَّن كانَ مَعَهُ، قالَ لِعَلِيٍّ: «اكتُب الشَّرطَ بَينَنا: بِسمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذا ما قاضى عَلَيهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ». فَقالَ لَهُ المُشرِكُونَ: لَو نَعلَمُ أنَّكَ رَسُولُ اللهِ تابَعناكَ، ولَكِن اكتُب: مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ. فَأَمَرَ عَلِيًّا أن يَمحاها، فَقالَ عَلِيٌّ: لا، واللهِ لا أمحاها. فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أرِنِي مَكانَها». فَأَراهُ مَكانَها فَمَحاها، وكَتَبَ: ابنُ عَبْدِ اللهِ. فَأَقامَ بِها ثَلاثَةَ أيّامٍ، فَلَمّا أن كانَ يَومُ الثّالِثِ قالُوا لِعَلِيّ: هَذا آخِرُ يَومٍ مِن شَرطِ صاحِبِكَ، فَأمُرهُ فَليَخرُج. فَأَخبَرَهُ بِذَلكَ، فَقالَ: «نَعَم»، فَخَرَجَ. زاد (خ): فَخَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ، فَتَبِعَتهُم ابنَةُ حَمزَةَ: يا عَمِّ؛ يا عَمِّ. فَتَناوَلها عَليُّ بنُ أبي طالِبٍ ﵁ فَأَخَذَ بَيَدِها، وقالَ لِفاطِمةَ: دُونَكِ ابنَةَ عَمِّكِ احمِلِيها. فاختَصَمَ فِيها عَليٌ وزَيدٌ وجَعفرٌ، فَقالَ عَليٌّ: أنا أحَقُّ بِها، وهِي ابنَةُ عَمِّي. وقالَ جَعفرٌ: ابنَةُ عَمِّي وخالَتُها تَحتِي. وقالَ زَيدٌ: ابنَةُ أخِي. فَقَضى بِها النَّبِيُّ ﷺ لِخالَتِها، وقالَ: «الخالَةُ بِمَنزِلةِ الأُمِّ». وقالَ لِعَليٍّ: «أنتَ مِنِّي وأَنا مِنكَ». وقالَ لِجَعفَرٍ: «أشبَهتَ خَلقِي وخُلُقِي». وقالَ لِزَيدٍ: «أنتَ أخُونا ومَولانا». ورَوى (م) عَن أنَسٍ نَحوَ حَدِيثِ البَراءِ، وفِيهِ: فاشتَرَطُوا عَلى النَّبِيِّ ﷺ أن مَن جاءَ مِنكُم لَم نَرُدَّهُ عَلَيكُم، ومَن جاءَكُم مِنّا رَدَدتُمُوهُ عَلَينا، فَقالُوا: يا رَسُولَ اللهِ؛ أنَكتُبُ هَذا؟ قالَ: «نَعَم، إنَّهُ مَن ذَهَبَ مِنّا إلَيهِم فَأَبعَدَهُ اللهُ، ومَن جاءَنا مِنهُم سَيَجعَلُ اللهُ لَهُ فَرَجًا ومَخرَجًا».
- فيه أنه حينما تبعتهم ابنة حمزة بن عبد المطلب واسمها (أمامة) رغم صغر سنها إلا أنها اختارت أن ترحل معهم.
- فيه حسن التعامل مع الأحداث وقت الأزمات والتخاصم، فالنبي ﷺ عرف كيف يرضي أصحابه حيث قال لعلي رضي الله عنه: أنت مني: أي في النسب والمحبة والأسبقية في الإسلام، إلى غيرها من الفضائل.
وقال لجعفر رضي الله عنه: أشبهت خلقي، وهو الصورة الظاهرة، وخلقي هي الباطنة من الأخلاق والفضائل.
وقال لزيد رضي الله عنه: أنت أخونا ومولانا: أي أخونا في الإسلام وعتيقنا، والولاء لحمته كلحمة النسب.
-فيه قال العلماء والمصلحة المترتبة على إتمام هذا الصلح ما ظهر من ثمراته الباهرة وفوائده المتظاهرة التي كانت عاقبتها فتح مكة وإسلام أهلها كلها ودخول الناس في دين الله أفواجا. (النووي).
-فيه أن الدين هو دين المعاملة، فأهل مكة حين حصل صلح الحديبية اختلطوا بالمسلمين وجاءوا إلى المدينة وذهب المسلمون إلى مكة وحلوا بأهلهم وأصدقائهم وغيرهم ممن يستنصحونه وسمعوا منهم أحوال النبي ﷺ مفصلة بجزئياتها ومعجزاته الظاهرة وأعلام نبوته المتظاهرة وحسن سيرته وجميل طريقته وعاينوا بأنفسهم كثيرا من ذلك فما زلت نفوسهم إلى الإيمان حتى بادر خلق منهم إلى الإسلام قبل فتح مكة فأسلموا. (النووي)
-فيه الدلالة على ثقة النبي ﷺ بصلاح حالهم وسلامتهم بقوله: "سيجعل الله له فرجاً ومخرجاً". وأما إمساكهم من صار إليهم منا فلا إشكال فيه؛ لأنه كافر مثلهم، وقد بينه ﷺ بقوله: "ومن ذهب منا إليهم فابعده الله".

١٧١٥. (خ م) (١٧٨٥) عَنْ أبِي وائِلٍ قالَ: قامَ سَهلُ بنُ حُنَيفٍ ﵁ يَومَ صِفِّينَ فَقالَ: أيُّها النّاسُ اتَّهِمُوا أنفُسَكُم، لَقَد كُنّا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ يَومَ الحُدَيبِيَةِ، ولَو نَرى قِتالًا لَقاتَلنا، وذَلكَ فِي الصُّلحِ الَّذِي كانَ بَينَ رَسُولِ اللهِ ﷺ وبَينَ المُشرِكِينَ، فَجاءَ عُمَرُ بنُ الخَطّابِ فَأَتى رَسُولَ اللهِ ﷺ فَقالَ: يا رَسُولَ اللهِ؛ ألَسنا عَلى حَقٍّ وهُم عَلى باطِلٍ؟ قالَ: «بَلى». قالَ: ألَيسَ قَتلانا فِي الجَنَّةِ وقَتلاهُم فِي النّارِ؟ قالَ: «بَلى». قالَ: فَفِيمَ نُعطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنا، ونَرجِعُ ولَمّا يَحكُمِ اللهُ بَينَنا وبَينَهُم؟ فَقالَ: «يا ابنَ الخَطّابِ؛ إنِّي رَسُولُ اللهِ، ولَن يُضَيِّعَنِي اللهُ أبَدًا». قالَ: فانطَلَقَ عُمَرُ فَلَم يَصبِر مُتَغَيِّظًا، فَأَتى أبا بَكرٍ فَقالَ: يا أبا بَكرٍ؛ ألَسنا عَلى حَقٍّ وهُم عَلى باطِلٍ؟ قالَ: بَلى. قالَ: ألَيسَ قَتلانا فِي الجَنَّةِ وقَتلاهُم فِي النّارِ؟ قالَ: بَلى. قالَ: فَعَلامَ نُعطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنا ونَرجِعُ ولَمّا يَحكُمِ اللهُ بَينَنا وبَينَهُم؟ فَقالَ: يا ابنَ الخَطّابِ؛ إنَّهُ رَسُولُ اللهِ، ولَن يُضَيِّعَهُ اللهُ أبَدًا. قالَ: فَنَزَلَ القُرآنُ عَلى رَسُولِ اللهِ ﷺ بِالفَتحِ، فَأَرسَلَ إلى عُمَرَ فَأَقرَأَهُ إيّاهُ، فَقالَ: يا رَسُولَ اللهِ؛ أوفَتحٌ هُوَ؟ قالَ: «نَعَم». (فَطابَت نَفسُهُ ورَجَعَ).
وفي رواية: عَن سَهلِ بْنِ حُنَيفٍ يقول بِصِفِّينَ: أيُّها النّاسُ؛ اتَّهِمُوا رأيَكُم، والله لقد رأيتُنِي يَوْمَ أبي جَنْدَلٍ ولو أنِّي أستَطِيعُ أن أرُدَّ أمْرَ رَسُولِ اللهِ ﷺ لَرَدَدتُهُ، والله ما وضَعْنا سيوفنا على عواتِقِنا إلى أمْرٍ قَطُّ إلا أسْهَلْنَ بنا إلى أمرٍ نَعْرِفُهُ إلاَّ أمرَكُم هذا.
وفي رواية: إلى أمْرٍ يُفظِعُنا.
وفي رواية زادَ: اتهَمُوا رَأيَكُم عَلى دِينِكُم ... وفِيها: ما فَتَحنا مِنهُ فِي خُصْمٍ إلا انفَجَرَ عَلَينا مِنهُ خُصْمٌ.
لَفظُ (خ): ما نَسُدُّ مِنها خُصْمًا إلا انفَجَرَ عَلَينا خُصْمٌ، ما نَدرِي كَيفَ نَأتِي لَهُ؟.
- فيه أن جواب النبي ﷺ بما جاوبه به من تثبته ووعده الفتح الذي كان من خيبر ثم من مكة، ولم يكن ما كان من عمر رضى الله عنه وسؤاله له ﷺ عما سأله عنه من عمر ولا ريباً، بل كشفاً لما خفي عنه من ذلك، وحثاً على إذلال الكفر، وحرصاً على ظهور المسلمين، بما كان عليه من القوة والعزة في دين الله. (القاضي عياض)
- فيه أن موافقة جواب أبي بكر لما جاوبه به النبي ﷺ دليل على فضل علمه وإيمانه، وقوة يقينه على سائرهم. (القاضي عياض)

١٧١٦. (خ) (٤١٧٨) عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ؛ عَنِ المِسوَرِ بْنِ مَخرَمَةَ ومَروانَ بْنِ الحَكَمِ يَزِيدُ أحَدُهُما عَلى صاحِبِهِ قالا: خَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ عامَ الحُدَيبِيَةِ فِي بِضعَ عَشرَةَ مِائَةً مِن أصحابِهِ، فَلَمّا أتى ذا الحُلَيفَةِ قَلَّدَ الهَديَ وأَشعَرَهُ، وأَحرَمَ مِنها بِعُمرَةٍ، وبَعَثَ عَينًا لَهُ مِن خُزاعَةَ، وسارَ النَّبِيُّ ﷺ حَتّى كانَ بِغَدِيرِ الأشطاطِ، أتاهُ عَينُهُ قالَ: إنَّ قُرَيشًا جَمَعُوا لَكَ جُمُوعًا، وقَد جَمَعُوا لَكَ الأَحابِيشَ، وهُم مُقاتِلُوكَ وصادُّوكَ عَنِ البَيتِ ومانِعُوكَ. فَقالَ: «أشِيرُوا أيُّها النّاسُ عَلَيَّ؛ أتَرَونَ أن أمِيلَ إلى عِيالِهِم وذَرارِيِّ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أن يَصُدُّونا عَنِ البَيتِ، فَإن يَأتُونا كانَ اللهُ ﷿ قَد قَطَعَ عَينًا مِن المُشرِكِينَ وإلا تَرَكناهُم مَحرُوبِينَ؟» قالَ أبُو بَكرٍ: يا رَسُولَ اللهِ؛ خَرَجتَ عامِدًا لِهَذا البَيتِ لا تُرِيدُ قَتلَ أحَدٍ، ولا حَربَ أحَدٍ، فَتَوَجَّه لَهُ، فَمَن صَدَّنا عَنهُ قاتَلناهُ. قالَ: «امضُوا عَلى اسمِ اللهِ».
- فيه جواز الاستتار عن طلائع المشركين ومفاجأتهم بالجيش طلبا لغرتهم. (ابن حجر)
- فيه جواز السفر وحده للحاجة، وجواز التنكيب عن الطريق السهلة إلى الوعرة للمصلحة. (ابن حجر)
- جواز الحكم على الشيء بما عرف من عادته وإن جاز أن يطرأ عليه غيره فإذا وقع من شخص هفوة لا يعهد منه مثلها لا ينسب إليها ويرد على من نسبه إليها. (ابن حجر)
- فيه الدلالة على أن من أحرم يمشي تطوعًا عمرة أو حجة ثم صُدَّ أنه يجزئه ولا قضاء عليه (ابن الملقن).

١٧١٧. (خ) (٢٧٣١) عَنِ المِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ ومَرْوانَ بْنِ الحَكَمِ يُصَدِّقُ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما حَدِيثَ صاحِبِهِ قالا: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ ﷺ زَمَنَ الحُدَيبِيَةِ حَتّى إذا كانُوا بِبَعضِ الطَّرِيقِ قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إنَّ خالِدَ بنَ الوَلِيدِ بِالغَمِيمِ، فِي خَيلٍ لِقُرَيشٍ طَلِيعَةً، فَخُذُوا ذاتَ اليَمِينِ». فَوَ اللهِ ما شَعَرَ بِهِم خالِدٌ حَتّى إذا هُم بِقَتَرَةِ الجَيشِ، فانطَلَقَ يَركُضُ نَذِيرًا لِقُرَيشٍ، وسارَ النَّبِيُّ ﷺ حَتّى إذا كانَ بِالثَّنِيَّةِ الَّتِي يُهبَطُ عَلَيهِم مِنها بَرَكَت بِهِ راحِلَتُهُ، فَقالَ النّاسُ: حَل حَل. فَأَلَحَّت، فَقالُوا: خَلأَت القَصواءُ، خَلأَت القَصواءُ. فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «ما خَلأَت القَصواءُ، وما ذاكَ لَها بِخُلُقٍ، ولَكِن حَبَسَها حابِسُ الفِيلِ»، ثُمَّ قالَ: «والَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ؛ لا يَسأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيها حُرُماتِ اللهِ إلا أعطَيتُهُم إيّاها». ثُمَّ زَجَرَها فَوَثَبَت، قالَ: فَعَدَلَ عَنهُم حَتّى نَزَلَ بِأَقصى الحُدَيبِيَةِ، عَلى ثَمَدٍ قَلِيلِ الماءِ يَتَبَرَّضُهُ النّاسُ تَبَرُّضًا، فَلَم يُلَبِّثهُ النّاسُ حَتّى نَزَحُوهُ، وشُكِيَ إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ العَطَشُ، فانتَزَعَ سَهمًا مِن كِنانَتِهِ، ثُمَّ أمَرَهُم أن يَجعَلُوهُ فِيهِ، فَواللهِ ما زالَ يَجِيشُ لَهُم بِالرِّيِّ حَتّى صَدَرُوا عَنهُ، فَبَينَما هُم كَذَلكَ إذ جاءَ بُدَيلُ بنُ ورقاءَ الخُزاعِيُّ فِي نَفَرٍ مِن قَومِهِ مِن خُزاعَةَ، وكانُوا عَيبَةَ نُصحِ رَسُولِ اللهِ ﷺ مِن أهلِ تِهامَةَ، فَقالَ: إنِّي تَرَكتُ كَعبَ بنَ لُؤَيٍّ وعامِرَ بنَ لُؤَيٍّ نَزَلُوا أعدادَ مِياهِ الحُدَيبِيَةِ ومَعَهُم العُوذُ المَطافِيلُ، وهُم مُقاتِلُوكَ وصادُّوكَ عَنِ البَيتِ. فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إنّا لَم نَجِئ لِقِتالِ أحَدٍ، ولَكِنّا جِئنا مُعتَمِرِينَ، وإنَّ قُرَيشًا قَد نَهِكَتهُم الحَربُ وأَضَرَّت بِهِم، فَإن شاءُوا مادَدتُهُم مُدَّةً ويُخَلُّوا بَينِي وبَينَ النّاسِ، فَإن أظهَر فَإن شاءُوا أن يَدخُلُوا فِيما دَخَلَ فِيهِ النّاسُ فَعَلُوا، وإلا فَقَد جَمُّوا، وإن هُم أبَوا؛ فَوالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لأُقاتِلَنَّهُم عَلى أمرِي هَذا حَتّى تَنفَرِدَ سالِفَتِي، ولَيُنفِذَنَّ اللهُ أمرَهُ». فَقالَ بُدَيلٌ: سَأُبَلِّغُهُم ما تَقُولُ. قالَ: فانطَلَقَ حَتّى أتى قُرَيشًا قالَ: إنّا قَد جِئناكُم مِن هَذا الرَّجُلِ، وسَمِعناه يَقُولُ قَولًا؛ فَإن شِئتُم أن نَعرِضَهُ عَلَيكُم فَعَلنا. فَقالَ سُفَهاؤُهُم: لا حاجَةَ لَنا أن تُخبِرَنا عَنهُ بِشَيءٍ. وقالَ ذَوُو الرَّأيِ مِنهُم: هاتِ ما سَمِعتَهُ. يَقُولُ: قالَ: سَمِعتُهُ يَقُولُ كَذا وكَذا. فَحَدَّثَهُم بِما قالَ النَّبِيُّ ﷺ، فَقامَ عُروَةُ بنُ مَسْعُودٍ فَقالَ: أي قَومِ؛ ألَستُم بِالوالِدِ؟ قالُوا: بَلى. قالَ: أوَلَستُ بِالوَلَدِ؟ قالُوا: بَلى. قالَ: فَهَل تَتَّهِمُونِي؟ قالُوا: لا. قالَ: ألَستُم تَعلَمُونَ أنِّي استَنفَرتُ أهلَ عُكاظَ، فَلَمّا بَلَّحُوا عَلَيَّ جِئتُكُم بِأَهلِي ووَلَدِي ومَن أطاعَنِي؟ قالُوا: بَلى. قالَ: فَإنَّ هَذا قَد عَرَضَ لَكُم خُطَّةَ رُشدٍ اقبَلُوها، ودَعُونِي آتِيهِ. قالُوا: ائتِهِ. فَأَتاهُ فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ ﷺ، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: نَحوًا مِن قَولِهِ لِبُدَيلٍ، فَقالَ عُروَةُ عِنْدَ ذَلكَ: أي مُحَمَّدُ؛ أرَأَيتَ إن استَأصَلتَ أمرَ قَومِكَ؛ هَل سَمِعتَ بِأَحَدٍ مِن العَرَبِ اجتاحَ أهلَهُ قَبلَكَ؟ وإن تَكُنِ الأُخرى فَإنِّي واللهِ لأَرى وُجُوهًا؛ وإنِّي لأَرى أشوابًا مِن النّاسِ خَلِيقًا أن يَفِرُّوا ويَدَعُوكَ. فَقالَ لَهُ أبُو بَكرٍ الصِّدِّيقُ ﵁: امصُص بَظرَ اللاتِ؛ أنَحنُ نَفِرُّ عَنهُ ونَدَعُهُ؟ فَقالَ: مَن ذا؟ قالُوا: أبُو بَكرٍ. قالَ: أما والَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ؛ لَولا يَدٌ كانَت لَكَ عِندِي لَم أجزِكَ بِها لأَجَبتُكَ. قالَ: وجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ ﷺ، فَكُلَّما تَكَلَّمَ أخَذَ بِلِحيَتِهِ، والمُغِيرَةُ بنُ شُعبَةَ قائِمٌ عَلى رَأسِ النَّبِيِّ ﷺ ومَعَهُ السَّيفُ وعَلَيهِ المِغفَرُ، فَكُلَّما أهوى عُروَةُ بِيَدِهِ إلى لِحيَةِ النَّبِيِّ ﷺ ضَرَبَ يَدَهُ بِنَعلِ السَّيفِ، وقالَ لَهُ: أخِّر يَدَكَ عَن لِحيَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ. فَرَفَعَ عُروَةُ رَأسَهُ فَقالَ: مَن هَذا؟ قالُوا: المُغِيرَةُ بنُ شُعبَةَ. فَقالَ: أي غُدَرُ؛ ألَستُ أسعى فِي غَدرَتِكَ؟ وكانَ المُغِيرَةُ صَحِبَ قَومًا فِي الجاهِلِيَّةِ فَقَتَلَهُم وأَخَذَ أموالَهُم ثُمَّ جاءَ فَأَسلَمَ، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «أمّا الإسلامَ فَأَقبَلُ، وأَمّا المالَ فَلَستُ مِنهُ فِي شَيءٍ». ثُمَّ إنَّ عُروَةَ جَعَلَ يَرمُقُ أصحابَ النَّبِيِّ ﷺ بِعَينَيهِ، قالَ: فَوَ اللهِ ما تَنَخَّمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ نُخامَةً إلا وقَعَت فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنهُم فَدَلَكَ بِها وجهَهُ وجِلدَهُ، وإذا أمَرَهُم ابتَدَرُوا أمرَهُ، وإذا تَوَضَّأَ كادُوا يَقتَتِلُونَ عَلى وضُوئِهِ، وإذا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أصواتَهُم عِندَهُ، وما يُحِدُّونَ إلَيهِ النَّظَرَ تَعظِيمًا لَهُ. فَرَجَعَ عُروَةُ إلى أصحابِهِ فَقالَ: أي قَومِ؛ واللهِ لَقَد وفَدتُ عَلى المُلُوكِ، ووَفَدتُ عَلى قَيصَرَ وكِسرى والنَّجاشِيِّ، واللهِ إن رَأَيتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أصحابُهُ ما يُعَظِّمُ أصحابُ مُحَمَّدٍ ﷺ مُحَمَّدًا، واللهِ إن تَنَخَّمَ نُخامَةً إلا وقَعَت فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنهُم فَدَلَكَ بِها وجهَهُ وجِلدَهُ، وإذا أمَرَهُم ابتَدَرُوا أمرَهُ، وإذا تَوَضَّأَ كادُوا يَقتَتِلُونَ عَلى وضُوئِهِ، وإذا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أصواتَهُم عِندَهُ، وما يُحِدُّونَ إلَيهِ النَّظَرَ تَعظِيمًا لَهُ، وإنَّهُ قَد عَرَضَ عَلَيكُم خُطَّةَ رُشدٍ فاقبَلُوها. فَقالَ رَجُلٌ مِن بَنِي كِنانَةَ: دَعُونِي آتِيهِ. فَقالُوا: ائتِهِ فَلَمّا أشرَفَ عَلى النَّبِيِّ ﷺ وأَصحابِهِ قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «هَذا فُلانٌ، وهُوَ مِن قَومٍ يُعَظِّمُونَ البُدنَ، فابعَثُوها لَهُ». فَبُعِثَت لَهُ، واستَقبَلَهُ النّاسُ يُلَبُّونَ، فَلَمّا رَأى ذَلكَ قالَ: سُبحانَ اللهِ؛ ما يَنبَغِي لِهَؤُلاءِ أن يُصَدُّوا عَنِ البَيتِ. فَلَمّا رَجَعَ إلى أصحابِهِ قالَ: رَأَيتُ البُدنَ قَد قُلِّدَت وأُشعِرَت، فَما أرى أن يُصَدُّوا عَنِ البَيتِ. فَقامَ رَجُلٌ مِنهُم يُقالُ لَهُ: مِكرَزُ بنُ حَفصٍ فَقالَ: دَعُونِي آتِيهِ. فَقالُوا: ائتِهِ فَلَمّا أشرَفَ عَلَيهِم قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «هَذا مِكرَزٌ، وهُوَ رَجُلٌ فاجِرٌ». فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ ﷺ، فَبَينَما هُوَ يُكَلِّمُهُ إذ جاءَ سُهَيلُ بنُ عَمْرٍو، قالَ مَعمَرٌ: فَأَخبَرَنِي أيُّوبُ، عَن عِكرِمَةَ، أنَّهُ لَمّا جاءَ سُهَيلُ بنُ عَمْرٍو قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لَقَد سَهُلَ لَكُم مِن أمرِكُم». قالَ مَعمَرٌ: قالَ الزُّهرِيُّ فِي حَدِيثِهِ: فَجاءَ سُهَيلُ بنُ عَمْرٍو فَقالَ: هاتِ اكتُب بَينَنا وبَينَكُم كِتابًا. فَدَعا النَّبِيُّ ﷺ الكاتِبَ، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «بِسمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ». قالَ سُهَيلٌ: أمّا الرَّحمَنُ، فَوَ اللهِ ما أدرِي ما هُوَ؟ ولَكِن اكتُب: بِاسمِكَ اللَّهُمّ، كَما كُنتَ تَكتُبُ. فَقالَ المُسلِمُونَ: واللهِ لا نَكتُبُها إلا بِسمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «اكتُب بِاسمِكَ اللَّهُمَّ»، ثُمَّ قالَ: «هَذا ما قاضى عَلَيهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ». فَقالَ سُهَيلٌ: واللهِ لَو كُنّا نَعلَمُ أنَّكَ رَسُولُ اللهِ ما صَدَدناكَ عَنِ البَيتِ ولا قاتَلناكَ، ولَكِن اكتُب: مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ. فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «واللهِ إنِّي لَرَسُولُ اللهِ وإن كَذَّبتُمُونِي، اكتُب: مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ». قالَ الزُّهرِيُّ: وذَلكَ لِقَولِهِ: «لا يَسأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيها حُرُماتِ اللهِ إلا أعطَيتُهُم إيّاها». فَقالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: «عَلى أن تُخَلُّوا بَينَنا وبَينَ البَيتِ فَنَطُوفَ بِهِ». فَقالَ سُهَيلٌ: واللهِ لا تَتَحَدَّثُ العَرَبُ أنّا أُخِذنا ضُغطَةً، ولَكِن ذَلكَ مِن العامِ المُقبِلِ. فَكَتَبَ، فَقالَ سُهَيلٌ: وعَلى أنَّهُ لا يَأتِيكَ مِنّا رَجُلٌ وإن كانَ عَلى دِينِكَ إلا رَدَدتَهُ إلَينا. قالَ المُسلِمُونَ: سُبحانَ اللهِ؛ كَيفَ يُرَدُّ إلى المُشرِكِينَ وقَد جاءَ مُسلِمًا؟ فَبَينَما هُم كَذَلكَ إذ دَخَلَ أبُو جَندَلِ بنُ سُهَيلِ بْنِ عَمْرٍو يَرسُفُ فِي قُيُودِهِ، وقَد خَرَجَ مِن أسفَلِ مَكَّةَ حَتّى رَمى بِنَفسِهِ بَينَ أظهُرِ المُسلِمِينَ، فَقالَ سُهَيلٌ: هَذا يا مُحَمَّدُ أوَّلُ ما أُقاضِيكَ عَلَيهِ؛ أن تَرُدَّهُ إلَيَّ. فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إنّا لَم نَقضِ الكِتابَ بَعدُ». قالَ: فَوَ اللهِ إذًا لَم أُصالِحكَ عَلى شَيءٍ أبَدًا. قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «فَأَجِزهُ لِي». قالَ: ما أنا بِمُجِيزِهِ لَكَ. قالَ: «بَلى، فافعَل». قالَ: ما أنا بِفاعِلٍ. قالَ مِكرَزٌ: بَل قَد أجَزناهُ لَكَ. قالَ أبُو جَندَلٍ: أي مَعشَرَ المُسلِمِينَ؛ أُرَدُّ إلى المُشرِكِينَ وقَد جِئتُ مُسلِمًا؟ ألا تَرَونَ ما قَد لَقِيتُ. وكانَ قَد عُذِّبَ عَذابًا شَدِيدًا فِي اللهِ. قالَ: فَقالَ عُمَرُ بنُ الخَطّابِ: فَأَتَيتُ نَبِيَّ اللهِ ﷺ فَقلت: ألَستَ نَبِيَّ اللهِ حَقًّا؟ قالَ: «بَلى». قلت: ألَسنا عَلى الحَقِّ وعَدُوُّنا عَلى الباطِلِ؟ قالَ: «بَلى». قلت: فَلِمَ نُعطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنا إذًا؟ قالَ: «إنِّي رَسُولُ اللهِ ولَستُ أعصِيهِ، وهُوَ ناصِرِي». قلت: أوَلَيسَ كُنتَ تُحَدِّثُنا أنّا سَنَأتِي البَيتَ فَنَطُوفُ بِهِ؟ قالَ: «بَلى؛ فَأَخبَرتُكَ أنّا نَأتِيهِ العامَ؟» قالَ: قلت: لا. قالَ: «فَإنَّكَ آتِيهِ ومُطَّوِّفٌ بِهِ». قالَ: فَأَتَيتُ أبا بَكرٍ فَقلت: يا أبا بَكرٍ؛ ألَيسَ هَذا نَبِيَّ اللهِ حَقًّا؟ قالَ: بَلى. قلت: ألَسنا عَلى الحَقِّ وعَدُوُّنا عَلى الباطِلِ؟ قالَ: بَلى. قلت: فَلِمَ نُعطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنا إذًا؟ قالَ: أيُّها الرَّجُلُ؛ إنَّهُ لَرَسُولُ اللهِ ﷺ ولَيسَ يَعصِي رَبَّهُ، وهُوَ ناصِرُهُ، فاستَمسِك بِغَرزِهِ، فَوَ اللهِ إنَّهُ عَلى الحَقِّ. قلت: ألَيسَ كانَ يُحَدِّثُنا أنّا سَنَأتِي البَيتَ ونَطُوفُ بِهِ؟ قالَ: بَلى، أفَأَخبَركَ أنَّكَ تَأتِيهِ العامَ؟ قلت: لا. قالَ: فَإنَّكَ آتِيهِ ومُطَّوِّفٌ بِهِ. قالَ الزُّهرِيُّ: قالَ عُمَرُ: فَعَمِلتُ لِذَلكَ أعمالًا. قالَ: فَلَمّا فَرَغَ مِن قَضِيَّةِ الكِتابِ قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لأَصحابِهِ: «قُومُوا فانحَرُوا، ثُمَّ احلِقُوا». قالَ: فَواللهِ ما قامَ مِنهُم رَجُلٌ حَتّى قالَ ذَلكَ ثَلاثَ مَرّاتٍ، فَلَمّا لَم يَقُم مِنهُم أحَدٌ دَخَلَ عَلى أُمِّ سَلَمَةَ، فَذَكَرَ لَها ما لَقِيَ مِن النّاسِ، فَقالَت أُمُّ سَلَمَةَ: يا نَبِيَّ اللهِ؛ أتُحِبُّ ذَلكَ؟ اخرُج ثُمَّ لا تُكَلِّم أحَدًا مِنهُم كَلِمَةً حَتّى تَنحَرَ بُدنَكَ، وتَدعُوَ حالِقَكَ فَيَحلِقَكَ. فَخَرَجَ فَلَم يُكَلِّم أحَدًا مِنهُم حَتّى فَعَلَ ذَلكَ؛ نَحَرَ بُدنَهُ ودَعا حالِقَهُ فَحَلَقَهُ، فَلَمّا رَأَوا ذَلكَ قامُوا فَنَحَرُوا، وجَعَلَ بَعضُهُم يَحلِقُ بَعضًا حَتّى كادَ بَعضُهُم يَقتُلُ بَعضًا غَمًّا، ثُمَّ جاءَهُ نِسوَةٌ مُؤمِناتٌ، فَأَنزَلَ اللهُ تَعالى: ﴿ياأَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا جاءَكُمُ المُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فامْتَحِنُوهُنَّ﴾، حَتّى بَلَغَ ﴿بِعِصَمِ الكَوافِرِ [الممتحنة: ١٠]، فَطَلَّقَ عُمَرُ يَومَئِذٍ امرَأَتَينِ كانَتا لَهُ فِي الشِّركِ، فَتَزَوَّجَ إحداهُما مُعاوِيَةُ بنُ أبِي سُفيانَ، والأُخرى صَفوانُ بنُ أُمَيَّةَ، ثُمَّ رَجَعَ النَّبِيُّ ﷺ إلى المَدِينَةِ، فَجاءَهُ أبُو بَصِيرٍ رَجُلٌ مِن قُرَيشٍ وهُوَ مُسلِمٌ، فَأَرسَلُوا فِي طَلَبِهِ رَجُلَينِ، فَقالُوا: العَهدَ الَّذِي جَعَلتَ لَنا. فَدَفَعَهُ إلى الرَّجُلَينِ، فَخَرَجا بِهِ حَتّى بَلَغا ذا الحُلَيفَةِ، فَنَزَلُوا يَأكُلُونَ مِن تَمرٍ لَهُم، فَقالَ أبُو بَصِيرٍ لأَحَدِ الرَّجُلَينِ: واللهِ إنِّي لأَرى سَيفَكَ هَذا يا فُلانُ جَيِّدًا. فاستَلَّهُ الآخَرُ فَقالَ: أجَل، واللهِ إنَّهُ لَجَيِّدٌ، لَقَد جَرَّبتُ بِهِ ثُمَّ جَرَّبتُ. فَقالَ أبُو بَصِيرٍ: أرِنِي أنظُر إلَيهِ. فَأَمكَنَهُ مِنهُ، فَضَرَبَهُ حَتّى بَرَدَ، وفَرَّ الآخَرُ حَتّى أتى المَدِينَةَ، فَدَخَلَ المَسْجِدَ يَعدُو فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ حِينَ رَآهُ: «لَقَد رَأى هَذا ذُعرًا». فَلَمّا انتَهى إلى النَّبِيِّ ﷺ قالَ: قُتِلَ واللهِ صاحِبِي وإنِّي لَمَقتُولٌ. فَجاءَ أبُو بَصِيرٍ فَقالَ: يا نَبِيَّ اللهِ؛ قَد واللهِ أوفى اللهُ ذِمَّتَكَ، قَد رَدَدتَنِي إلَيهِم ثُمَّ أنجانِي اللهُ مِنهُم. قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «ويلُ أُمِّهِ، مِسعَرَ حَربٍ لَو كانَ لَهُ أحَدٌ». فَلَمّا سَمِعَ ذَلكَ عَرَفَ أنَّهُ سَيَرُدُّه إلَيهِم، فَخَرَجَ حَتّى أتى سِيفَ البَحرِ، قالَ: ويَنفَلِتُ مِنهُم أبُو جَندَلِ بنُ سُهَيلٍ فَلَحِقَ بِأبِي بَصِيرٍ، فَجَعَلَ لا يَخرُجُ مِن قُرَيشٍ رَجُلٌ قَد أسلَمَ إلا لَحِقَ بِأبِي بَصِيرٍ، حَتّى اجتَمَعَت مِنهُم عِصابَةٌ، فَواللهِ ما يَسمَعُونَ بِعِيرٍ خَرَجَت لِقُرَيشٍ إلى الشَّأمِ إلا اعتَرَضُوا لَها فَقَتَلُوهُم وأَخَذُوا أموالَهُم، فَأَرسَلَت قُرَيشٌ إلى النَّبِيِّ ﷺ تُناشِدُهُ بِاللهِ والرَّحِمِ؛ لَمّا أرسَلَ؛ فَمَن أتاهُ فَهُوَ آمِنٌ، فَأَرسَلَ النَّبِيُّ ﷺ إلَيهِم، فَأَنزَلَ اللهُ تَعالى: ﴿وهُوَ الَّذِي كَفَّ أيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أنْ أظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ﴾، حَتّى بَلَغَ ﴿الحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الجاهِلِيَّةِ﴾ [الفتح: ٢٤٢٦]. وكانَت حَمِيَّتُهُم أنَّهُم لَم يُقِرُّوا أنَّهُ نَبِيُّ اللهِ، ولَم يُقِرُّوا بِبِسمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وحالُوا بَينَهُم وبَينَ البَيتِ.
وفي رواية: وأَبى سُهَيلٌ أن يُقاضِيَ رَسُولَ اللهِ ﷺ إلا عَلى ذَلِكَ، فَكَرِهَ المُؤمِنُونَ ذَلِكَ وامَّعَضُوا، فَتَكَلَّمُوا فِيهِ، فَلَمّا أبى سُهَيلٌ أن يُقاضِيَ رَسُولَ اللهِ ﷺ إلا عَلى ذَلِكَ كاتَبَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ ... وفيها: وجاءَت المُؤمِناتُ مُهاجِراتٍ، فَكانَت أُمُّ كُلثُومٍ بِنتُ عُقبَةَ بْنِ أبِي مُعَيطٍ مِمَّن خَرَجَ إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ وهِيَ عاتِقٌ، فَجاءَ أهلُها يَسأَلُونَ رَسُولَ اللهِ ﷺ أن يَرجِعَها إلَيهِم حَتّى أنزَلَ اللهُ تَعالى فِي المُؤمِناتِ ما أنزَلَ.
وفي رواية: فَلَم يَرجِعها إلَيهِم لِما أنزَلَ اللهُ فِيهِنَّ: ﴿ياأَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا جاءَكُمُ المُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أعْلَمُ بِإيمانِهِنَّ﴾ إلى قَولِهِ ﴿ولا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ﴾ [الممتحنة: ١٠].
وروى عن الزهري؛ عن عُروَةَ؛ فَأَخبَرَتنِي عائِشَةُ؛ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كانَ يَمتَحِنُهُنَّ بِهَذِهِ الآيَةِ: ﴿ياأَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا جاءَكُمُ المُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فامْتَحِنُوهُنَّ﴾ إلى ﴿غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [الممتحنة: ١٠-١٢].
-فيه حرمة مكة والكعبة وعظمها عند الله.
-الإعجاز والبركة النبوية المتمثلة في تكثيره ﷺ لماء الحفرة كما في الحديث.
-قوة أبو بكر رضي الله عنه وحسن رده وإهانته لآلة الكفار.
-شدة إعجاب وتعجب عروة بقوة علاقة الصحابة بالنبي ﷺ، حتى إنه قارنها بعلاقة أصحاب الملوك بملوكهم، ومعاينته للمفارقة الكبيرة بين هؤلاء وهؤلاء.
-سرعة بديهة النبي ﷺ وفهمه لنفسيات الأشخاص ومثاله تقليده البدن وإشعارها.
-لعل الصحابة تأخروا في تنفيذ أمر النبي ﷺ رجاء نزول الوحي بإبطال الصلح المذكور ليتم لهم قضاء نسكهم.
-حسن اقتداء الصحابة بالنبي ﷺ وعدم مخالفتهم له.

١ أمره رسول الله ﷺ أن يأتي بخبر الأحزاب:

٥/٠