باب: فِـي ذِكْرِ فَتْحِ مَكَّةَ


١٧٣٧. (م) (١٧٨٠) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَباحٍ قالَ: وفَدَت وُفُودٌ إلى مُعاوِيَةَ ﵁ وذَلكَ فِي رَمَضانَ، فَكانَ يَصنَعُ بَعضُنا لِبَعضٍ الطَّعامَ، فَكانَ أبُو هُرَيْرَةَ مِمّا يُكثِرُ أن يَدعُوَنا إلى رَحلِهِ، فَقُلتُ: ألا أصنَعُ طَعامًا فَأَدعُوَهُم إلى رَحلِي؟ فَأَمَرتُ بِطَعامٍ يُصنَعُ، ثُمَّ لَقِيتُ أبا هُرَيْرَةَ مِنَ العَشِيِّ فَقُلتُ: الدَّعوَةُ عِندِي اللَّيلَةَ، فَقالَ: سَبَقتَنِي. قُلتُ: نَعَم. فَدَعَوتُهُم، فَقالَ أبُو هُرَيْرَةَ: ألا أُعلِمُكُم بِحَدِيثٍ مِن حَدِيثِكم يا مَعشَرَ الأَنصارِ؟ ثُمَّ ذَكَرَ فَتحَ مَكَّةَ فَقالَ: أقبَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ حَتّى قَدِمَ مَكَّةَ، فَبَعَثَ الزُّبَيرَ عَلى إحدى المُجَنِّبَتَينِ، وبَعَثَ خالِدًا عَلى المُجَنِّبَةِ الأُخرى، وبَعَثَ أبا عُبَيدَةَ عَلى الحُسَّرِ، فَأَخَذُوا بَطنَ الوادِي، ورسُولُ الله ﷺ فِي كَتِيبَةٍ، قالَ: فَنَظَرَ فَرَآنِي فَقالَ: «أبُو هُرَيْرَةَ». قُلتُ: لَبَّيكَ يا رَسُولَ اللهِ، فَقالَ: «لا يَأتِينِي إلا أنصارِيٌّ»، فَقالَ: «اهتِف لِي بِالأَنصارِ». قالَ: فَأَطافُوا بِهِ، ووَبَّشَت قُرَيشٌ أوباشًا لَها وأَتباعًا، فَقالُوا: نُقَدِّمُ هَؤُلاءِ فَإن كانَ لَهُم شَيءٌ كُنّا مَعَهُم، وإن أُصِيبُوا أعطَينا الَّذِي سُئِلنا. فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «تَرَونَ إلى أوباشِ قُرَيشٍ وأَتباعِهِم»؛ ثُمَّ قالَ بِيَدَيهِ إحداهُما عَلى الأُخرى، ثُمَّ قالَ: «حَتّى تُوافُونِي بِالصَّفا». قالَ: فانطَلَقنا، فَما شاءَ أحَدٌ مِنّا أن يَقتُلَ أحَدًا إلا قَتَلَهُ، وما أحَدٌ مِنهُم يُوَجِّهُ إلَينا شَيئًا، قالَ: فَجاءَ أبُو سُفيانَ فَقالَ: يا رَسُولَ اللهِ؛ أُبِيحَت خَضراءُ قُرَيشٍ، لا قُرَيشَ بَعدَ اليَومِ. ثُمَّ قالَ: «مَن دَخَلَ دارَ أبِي سُفيانَ فَهُوَ آمِنٌ». فَقالَتِ الأَنصارُ بَعضُهُم لِبَعضٍ: أمّا الرَّجُلُ فَأَدرَكَتهُ رَغبَةٌ فِي قَريَتِهِ، ورَأفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ. قالَ أبُو هُرَيْرَةَ: وجاءَ الوَحيُ، وكانَ إذا جاءَ الوَحيُ لا يَخفى عَلَينا، فَإذا جاءَ فَلَيسَ أحَدٌ يَرفَعُ طَرفَهُ إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ حَتّى يَنقَضِيَ الوَحيُ، فَلَمّا انقَضى الوَحيُ قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «يا مَعشَرَ الأَنصارِ». قالُوا: لَبَّيكَ يا رَسُولَ اللهِ. قالَ: «قُلتُم: أمّا الرَّجُلُ فَأَدرَكَتهُ رَغبَةٌ فِي قَريَتِهِ؟» قالُوا: قَد كانَ ذاكَ. قالَ: «كَلا؛ إنِّي عَبدُ اللهِ ورَسُولُهُ، هاجَرتُ إلى اللهِ وإلَيكُم، والمَحيا مَحياكُم والمَماتُ مَماتُكُم». فَأَقبَلُوا إلَيهِ يَبكُونَ ويَقُولُونَ: واللهِ ما قُلنا الَّذِي قُلنا إلا الضِّنَّ بِاللهِ وبِرَسُولِهِ. فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إنَّ اللهَ ورَسُولَهُ يُصَدِّقانِكُم ويَعذِرانِكُم». قالَ: فَأَقبَلَ النّاسُ إلى دارِ أبِي سُفيانَ، وأَغلَقَ النّاسُ أبوابَهُم، قالَ: وأَقبَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ حَتّى أقبَلَ إلى الحَجَرِ فاستَلَمَهُ، ثُمَّ طافَ بِالبَيتِ، قالَ: فَأَتى عَلى صَنَمٍ إلى جَنبِ البَيتِ كانُوا يَعبُدُونَهُ، قالَ: وفِي يَدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَوسٌ، وهُوَ آخِذٌ بِسِيَةِ القَوسِ، فَلَمّا أتى عَلى الصَّنَمِ جَعَلَ يَطعَنُهُ فِي عَينِهِ، ويَقُولُ: ﴿جاءَ الحَقُّ وزَهَقَ الباطِلُ﴾ [الإسراء: ٨١]، فَلَمّا فَرَغَ مِن طَوافِهِ أتى الصَّفا فَعَلا عَلَيهِ حَتّى نَظَرَ إلى البَيتِ ورَفَعَ يَدَيهِ، فَجَعَلَ يَحمَدُ اللهَ ويَدعُو بِما شاءَ أن يَدعُوَ. وفي رواية: قالَ أبو سفيان: فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَن دَخَلَ دارَ أبِي سُفيانَ فَهُوَ آمِنٌ، ومَن ألقى السِّلاحَ فَهُوَ آمِنٌ، ومَن أغلَقَ بابَهُ فَهُوَ آمِنٌ».
-(فقالت الأنصار بعضهم لبعض: أما الرجل فأدركته رأفة بعشيرته، ورغبة في قريته) معنى هذه الجملة: أنهم رأوا رأفة النبي ﷺ بأهل مكة وكف القتل عنهم، فظنوا أنه يرجع إلى سكنى مكة والمقام فيها دائما، ويرحل عنهم ويهجر المدينة، فشق ذلك عليهم، فأوحى الله تعالى إليه ﷺ فأعلمهم بذلك، فقال لهم ﷺ: قلتم كذا وكذا؟ قالوا: نعم قد قلنا هذا، فهذه معجزة من معجزات النبوة (النووي).
-(هاجرت إلى الله وإليكم، المحيا محياكم والممات مماتكم) معناه: أني هاجرت إلى الله وإلى دياركم لاستيطانها فلا أتركها، ولا أرجع عن هجرتي الواقعة لله تعالى، بل أنا ملازم لكم (المحيا محياكم والممات مماتكم) أي: لا أحيا إلا عندكم ولا أموت إلا عندكم، وهذا أيضا من المعجزات، فلما قال لهم هذا بكوا واعتذروا، قالوا: والله ما قلنا كلامنا السابق إلا حرصا عليك وعلى مصاحبتك ودوامك عندنا لنستفيد منك، ونتبرك بك، وتهدينا الصراط المستقيم، كما قال الله تعالى: (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) (النووي).
-(فلما أتى على الصنم جعل يطعنه في عينه، ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ}) فيه استحباب قراءة هاتين الآيتين عند إزالة المنكر. (النووي)

١٧٣٨. (م) (١٧٨٢) عَنْ مُطِيعِ بْنِ الأَسْوَدِ ﵁ قالَ: سَمِعتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ يَومَ فَتحِ مَكَّةَ: «لا يُقتَلُ قُرَشِيٌّ صَبرًا بَعدَ هَذا اليَومِ إلى يَومِ القِيامَةِ». وفِي رِوايَةٍ زاد: ولَم يَكُن أسلَمَ أحَدٌ مِن عُصاةِ قُرَيشٍ غَيرَ مُطِيعٍ، كانَ اسمُهُ العاصِي فَسَمّاهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ مُطِيعًا.
- (لا يقتل قرشي صبرا بعد هذا اليوم إلى يوم القيامة) قال العلماء معناه الإعلام بأن قريشا يسلمون كلهم ولا يرتد أحد منهم كما ارتد غيرهم بعده ﷺ ممن حورب وقتل صبرًا وليس المراد أنهم لا يقتلون ظلما صبرًا فقد جرى على قريش بعد ذلك ما هو معلوم. (النووي)
-قال ابن عثيمين: وأن أرى أن المقصود بهذا أنه يُنهى عن قتل القرشيين صبرًا، أي: لا يُحبسوا وتُقطع أعناقهم، وهذا خاص بقريش.
-(ولم يكن أسلم أحد من عصاة قريش غير مطيع، كان اسمه العاصي فسماه رسول الله ﷺ مطيعا) قال القاضي عياض: عصاة هنا جمع العاص من أسماء الأعلام لا من الصفات، أي: ما أسلم ممن كان اسمه العاص مثل العاص بن وائل السهمي، والعاص بن هشام أبو البختري، والعاص بن سعيد بن العاص بن أمية، والعاص بن هشام بن المغيرة المخزومي، والعاص بن منبه بن الحجاج وغيرهم سوى العاص بن الأسود العذري، فغيّر النبي ﷺ اسمه فسماه مطيعا، وإلا فقد أسلمت عصاة قريش وعتاتهم كلهم بحمد الله تعالى، ولكن ترك أبا جندل بن سهيل بن عمرو وهو ممن أسلم، واسمه أيضا العاص، فإذا صح هذا فيحتمل أن هذا لما غلبت عليه كنيته وجهل اسمه لم يعرفه المخبر باسمه، فلم يستثنه كما استثنى مطيع بن الأسود. والله أعلم.

١٧٣٩. (خ) (٤٢٨٠) عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قالَ: لَمّا سارَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عامَ الفَتحِ، فَبَلَغَ ذَلكَ قُرَيشًا خَرَجَ أبُو سُفيانَ بنُ حَربٍ وحَكِيمُ بنُ حِزامٍ وبُدَيلُ بنُ ورقاءَ يَلتَمِسُونَ الخَبَرَ عَن رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَأَقبَلُوا يَسِيرُونَ حَتّى أتَوا مَرَّ الظَّهرانِ، فَإذا هُم بِنِيرانٍ كَأَنَّها نِيرانُ عَرَفَةَ، فَقالَ أبُو سُفيانَ: ما هَذِهِ؟ لَكَأَنَّها نِيرانُ عَرَفَةَ. فَقالَ بُدَيلُ بنُ ورقاءَ: نِيرانُ بَنِي عَمرٍو. فَقالَ أبُو سُفيانَ: عَمرٌو أقَلُّ مِن ذَلكَ. فَرَآهُم ناسٌ مِن حَرَسِ رَسُولِ اللهِ ﷺ فَأَدرَكُوهُم فَأَخَذُوهُم، فَأَتَوا بِهِم رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَأَسلَمَ أبُو سُفيانَ، فَلَمّا سارَ قالَ لِلعَبّاسِ: «احبِس أبا سُفيانَ عِنْدَ حَطمِ الخَيلِ حَتّى يَنظُرَ إلى المُسلِمِينَ». فَحَبَسَهُ العَبّاسُ، فَجَعَلَت القَبائِلُ تَمُرُّ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، تَمُرُّ كَتِيبَةً كَتِيبَةً عَلى أبِي سُفيانَ، فَمَرَّت كَتِيبَةٌ قالَ: يا عَبّاسُ؛ مَن هَذِهِ؟ قالَ: هَذِهِ غِفارُ. قالَ: ما لِي ولِغِفارَ. ثُمَّ مَرَّت جُهَينَةُ قالَ مِثلَ ذَلكَ، ثُمَّ مَرَّت سَعدُ بنُ هُذَيمٍ فَقالَ مِثلَ ذَلكَ، ومَرَّت سُلَيمُ فَقالَ مِثلَ ذَلكَ، حَتّى أقبَلَت كَتِيبَةٌ لَم يَرَ مِثلَها قالَ: مَن هَذِهِ؟ قالَ: هَؤُلاءِ الأَنصارُ، عَلَيهِم سَعدُ بنُ عُبادَةَ، مَعَهُ الرّايَةُ. فَقالَ سَعدُ بنُ عُبادَةَ: يا أبا سُفيانَ؛ اليَومُ يَومُ المَلحَمَةِ، اليَومُ تُستَحَلُّ الكَعبَةُ. فَقالَ أبُو سُفيانَ: يا عَبّاسُ؛ حَبَّذا يَومُ الذِّمارِ. ثُمَّ جاءَت كَتِيبَةٌ وهِيَ أقَلُّ الكَتائِبِ، فِيهِم رَسُولُ اللهِ ﷺ وأَصحابُهُ، ورايَةُ النَّبِيِّ ﷺ مَعَ الزُّبَيرِ بْنِ العَوّامِ، فَلَمّا مَرَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِأبِي سُفيانَ قالَ: ألَم تَعلَم ما قالَ سَعدُ بنُ عُبادَةَ؟ قالَ: «ما قالَ؟» قالَ: كَذا وكَذا، فَقالَ: «كَذَبَ سَعدٌ، ولَكِن هَذا يَومٌ يُعَظِّمُ اللهُ فِيهِ الكَعبَةَ، ويَومٌ تُكسى فِيهِ الكَعبَةُ». قالَ: وأَمَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أن تُركَزَ رايَتُهُ بِالحَجُونِ. قالَ عُروَةُ: وأَخبَرَنِي نافِعُ بنُ جُبَيرِ بْنِ مُطعِمٍ قالَ: سَمِعتُ العَبّاسَ ﵁ يَقُولُ لِلزُّبَيرِ بْنِ العَوّامِ ﵁: يا أبا عَبدِ اللهِ؛ ها هُنا أمَرَكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أن تَركُزَ الرّايَةَ. قالَ: وأَمَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَومَئِذٍ خالِدَ بنَ الوَلِيدِ أن يَدخُلَ مِن أعلى مَكَّةَ مِن كَداءٍ، ودَخَلَ النَّبِيُّ ﷺ مِن كُدا، فَقُتِلَ مِن خَيلِ خالِدِ بْنِ الوَلِيدِ ﵁ يَومَئِذٍ رَجُلانِ؛ حُبَيشُ بنُ الأَشعَرِ، وكُرزُ بنُ جابِرٍ الفِهرِيُّ.
-(فقال عليه الصلاة والسلام: كذب سعد) فيه إطلاق الكذب على الأخبار بغير ما سيقع ولو بناه قائله على غلبة الظن وقوّة القرينة (ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة) أي بإظهار الإسلام وأذان بلال على ظهرها وإزالة ما كان فيها من الأصنام، ومحو الصور التي كانت فيها، وغير ذلك (ويوم تكسى فيه الكعبة) لأنهم كانوا يكسونها في مثل ذلك اليوم. (القسطلاني)

١٧٤٠. (خ) (٤٣٠١) عَنِ الزُّهْرِيِّ؛ عَن سُنَينٍ أبِي جَمِيلَةَ، قالَ: أخبَرَنا ونَحنُ مَعَ ابْنِ المُسَيَّبِ، قالَ: وزَعَمَ أبُو جَمِيلَةَ أنَّهُ أدرَكَ النَّبِيَّ ﷺ، وخَرَجَ مَعَهُ عامَ الفَتحِ.
-فيه قول جمهور الأصوليين أن العدل المعاصر للرسول ﷺ إذا قال أنا صحابي يصدق فيه ظاهرًا. (الكرماني).

باب: إخْراجُ الأَصْنامِ مِن حَوْلِ الكَعْبَةِ


١٧٤١. (خ م) (١٧٨١) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ ﵁ قالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ ﷺ مَكَّةَ، وحَولَ الكَعبَةِ ثَلاثُ مِائَةٍ وسِتُّونَ نُصُبًا، فَجَعَلَ يَطعُنُها بِعُودٍ كانَ بِيَدِهِ، ويَقُولُ: «جاءَ الحَقُّ وزَهَقَ الباطِلُ، إنَّ الباطِلَ كانَ زَهُوقًا، جاءَ الحَقُّ، وما يُبدِئُ الباطِلُ وما يُعِيدُ». وفي رواية زادَ: يَومَ الفَتحِ.
-(يطعنها بعود) هذا من آيات النبي ﷺ؛ لأنه ليس من العادة أن هذه الأصنام المحكمة إذا طُعنت بعود أن تتهاوى. (ابن عثيمين)
-(يطعنها بعود) فيه أن هذا لإذلال الأصنام وعابديها ولإظهار أنها لا تضر ولا تنفع ولا تدفع عن نفسها (الكرماني).

باب: الـمُبايَعَةُ بَعْدَ الفَتْحِ عَلى الإسْلامِ والجِهادِ والخَيْرِ


١٧٤٢. (خ م) (١٨٦٣) عَنْ مُجاشِعِ بْنِ مَسْعُودٍ السُّلَمِيِّ ﵁ قالَ: جِئتُ بِأَخِي أبِي مَعبَدٍ إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ بَعدَ الفَتحِ، فَقُلتُ: يا رَسُولَ اللهِ؛ بايِعهُ عَلى الهِجرَةِ، قالَ: «قَد مَضَت الهِجرَةُ بِأَهلِها». قُلتُ: فَبِأَيِّ شَيءٍ تُبايِعُهُ؟ قالَ: «عَلى الإسلامِ، والجِهادِ، (والخَيرِ)». قالَ أبُو عُثمانَ: فَلَقِيتُ أبا مَعبَدٍ فَأَخبَرتُهُ بِقَولِ مُجاشِعٍ، فَقالَ: صَدَقَ.
-(قد مضت لأهلها) معناه أن الهجرة الممدوحة الفاضلة، التي لأصحابها المزية الطاهرة، قد مضت، وثبتت لأهلها، لأنها خصت بما وقع منها قبل الفتح (النووي).

باب: لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ ولَكِنْ جِهادٌ ونِيَّةٌ


١٧٤٣. (خ م) (١٣٥٣) عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﵄ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَومَ الفَتحِ فَتحِ مَكَّةَ: «لا هِجرَةَ، ولَكِن جِهادٌ ونِيَّةٌ، وإذا استُنفِرتُم فانفِرُوا». زادَ (خ): «لا هِجرَةَ بَعدَ الفَتحِ». ورَوى (م) عَن عائِشَةَ ﵂ قالَت: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَنِ الهِجرَةِ، فَقالَ: «لا هِجرَةَ بَعدَ الفَتحِ ...» مِثلَهُ. ورَوى (خ) عَن عَطاءِ بْنِ أبِي رَباحٍ قالَ: زُرتُ عائِشَةَ مَعَ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيرٍ، فَسَأَلَها عَنِ الهِجرَةِ؟ فَقالَت: لا هِجرَةَ اليَومَ، كانَ المُؤمِنُ يَفِرُّ أحَدُهُم بِدِينِهِ إلى اللَّهِ وإلى رَسُولِهِ ﷺ مَخافَةَ أن يُفتَنَ عَلَيهِ، فَأَمّا اليَومَ فَقَد أظهَرَ اللَّهُ الإسْلامَ، فالمُؤمِنُ يَعبُدُ رَبَّهُ حَيثُ شاءَ، ولَكِن جِهادٌ ونِيَّةٌ.
- (لا هجرة ولكن جهاد ونية) وقوله (لا هجرة بعد الفتح) أي بعد فتح مكة، قالوا: المعنى لا هجرة من مكة بعد أن فتحت، لأنها صارت دار إسلام فلا تقصد منها الهجرة، وقال غيرهم: قال النووي: وهو الأصح: إن معناه أن الهجرة الفاضلة مضت لأهلها الذين هاجروا قبل فتح مكة، لأن الإسلام قوي وعز بعد فتح مكة عزا ظاهرا، بخلاف ما قبله.
-(ولكن جهاد ونية) هذا الاستدراك يقتضي مخالفة حكم ما بعده لما قبله، والمعنى أن الهجرة التي هي مفارقة الوطن، التي كانت مطلوبة على الأعيان إلى المدينة انقطعت، إلا أن المفارقة بسبب الجهاد باقية، وكذلك المفارقة بسبب نية صالحة، كالفرار من دار الكفر، وكالخروج في طلب العلم، وكالفرار بالدين من الفتن، والنية في جميع ذلك. (الطيبي)
-(وإذا استنفرتم فانفروا) يريد أن الخير الذي انقطع بانقطاع الهجرة، يمكن تحصيله بالجهاد والنية الصالحة، وإذا أمركم الإمام بالخروج إلى الجهاد ونحوه من الأعمال الصالحة فاخرجوا إليه، وأصل النفير مفارقة مكان إلى مكان، لأمر حرك ذلك، والمراد منه هنا الخروج لمحاربة الكفار (النووي).
-قول عائشة رضي الله عنها: (لا هجرة اليوم، كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلى الله تعالى، وإلى رسوله، مخافة أن يفتن عليه، فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام، واليوم يعبد ربه حيث شاء، ولكن جهاد ونية) فأشارت رضي الله عنها إلى بيان حكمة مشروعية الهجرة، وأن سببها خوف الفتنة، والحكم يدور مع علته، فمقتضاه أن من قدر على عبادة الله في أي موضع، لم تجب عليه الهجرة منه، وإلا وجبت، وقال الحافظ ابن حجر: وكانت الحكمة أيضا في وجوب الهجرة على من أسلم أن يسلم من أذى ذويه من الكفار، فإنهم كانوا يعذبون من أسلم منهم، إلى أن يرجع عن دينه، وفيهم نزلت: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها} [النساء: 97] الآية. قال: وهذه الهجرة باقية الحكم في حق من أسلم في دار الكفر، وقدر على الخروج منها. ا.هـ (موسى شاهين).

باب: الأَمْرُ بِعَمَلِ الخَيْرِ لِـمَنِ اشْتَدَّتْ عَلَيْهِ الهِجْرَةُ


١٧٤٤. (خ م) (١٨٦٥) عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ ﵁؛ أنَّ أعرابِيًّا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَنِ الهِجرَةِ، فَقالَ: «ويحَكَ؛ إنَّ شَأنَ الهِجرَةِ لَشَدِيدٌ، فَهَل لَكَ مِن إبِلٍ؟» قالَ: نَعَم. قالَ: «فَهَل تُؤتِي صَدَقَتَها؟» قالَ: نَعَم. قالَ: «فاعمَل مِن وراءِ البِحارِ، فَإنَّ اللهَ لَن يَتِرَكَ مِن عَمَلِكَ شَيئًا». وفي رواية زاد: «فهل تحلُبُها يَومَ وِردِها؟» قال: نَعَم. زادَ (خ): «فَهَل تَمنَحُ مِنها شَيئًا؟» قالَ: نَعَم.
-(فاعمل من وراء البحار) قال النووي: قال العلماء: المراد بالبحار هنا القرى، والعرب تسمى القرى البحار، والقرية البحيرة، اهـ. أي فاعمل بالشريعة الإسلامية في البادية، من وراء البلاد والقرى.
-(فإن الله لن يَتِرَك من عملك شيئا) أي ينقصك، ومعنى ذلك أنَّه إذا قام بما يتعيّن عليه من الحقوق وبما يفعله من الخير فإن الله تعالى يثيبه على ذلك ولا يضيع شيئًا من عمله أينما كان من الأرض، ولا بُعْدَ في أن يُحصِّل الله له ثواب مهاجرٍ بِحُسْنِ نِيّته وفعْلِهِ الخير، والله تعالى أعلم. (القرطبي)
-(فهل تحلبها يوم وردها؟) كان العرب إذا اجتمعوا عند الماء حلبوا مواشيهم، وسقوا المحتاجين المجتمعين هناك من لبنها (موسى شاهين).
-المعنى أنك قد تدرك بالنية أجر المهاجر، وإن أقمت من وراء البحر وسكنت أقصى الأرض. (الخطابي)
-فيه دلالة على أن الهجرة إنما كان وجوبها على من أطاقها دون من لم يقدر عليها. (العظيم آبادي)
-(إن شأن الهجرة لشديد) هذا الأعرابي جاء من البادية إلى النبي ﷺ قبل الفتح، ويطلب البيعة على الهجرة، والبقاء في المدينة مع النبي ﷺ وترك أهله ووطنه، وكثير من الأعراب لا يتحملون ذلك، فقد بايع بعض الأعراب من قبل، ثم طلبوا الإقالة من البيعة، فخاف ﷺ على هذا الأعرابي أن يكون شأنه شأنهم، فنصحه بما يحقق له فضل الهجرة من غير الهجرة، أي إن شأنها ولازمها ومتطلباتها شديدة عليك، لا تحتملها (موسى شاهين).

باب: مَن أُذِنَ لَهُ فِـي البَدْوِ بَعْدَ الهِجْرَةِ


١٧٤٥. (خ م) (١٨٦٢) عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ ﵁؛ أنَّهُ دَخَلَ عَلى الحَجّاجِ، فَقالَ: يا ابنَ الأَكوَعِ؛ ارتَدَدتَ عَلى عَقِبَيكَ، تَعَرَّبتَ. قالَ: لا، ولَكِن رَسُولُ اللهِ ﷺ أذِنَ لِي فِي البَدوِ. زادَ (خ) عَن يَزِيدَ بْنِ أبِي عُبَيدٍ قالَ: لمّا قُتِل عُثْمانُ بنُ عَفّانَ خَرَجَ سَلَمَةُ بنُ الأَكوَعِ إلى الرَّبَذَةِ، وتَزَوَّجَ هُناكَ امرَأَةً ووَلَدَت لَهُ أولادًا، فَلَم يَزَلْ بِها حَتّى قَبلَ أن يَمُوتَ بِلَيالٍ نَزَلَ المَدِينَةَ.
- (ارتددت على عقبيك تعربت) قال القاضي عياض: أجمعت الأمة على تحريم ترك المهاجر وهجرته ورجوعه إلى وطنه وعلى أن ارتداد المهاجر أعرابيًا من الكبائر، ولهذا أشار الحجاج إلى أن أعلمه سلمة أن خروجه إلى البادية إنما هو بإذن النبي ﷺ، قال ولعله رجع إلى غير وطنه، أو لأن الغرض في ملازمة المهاجر أرضه التي هاجر إليها فرض ذلك عليه إنما كان في زمن النبي ﷺ لنصرته أو ليكون معه، أو لأن ذلك إنما كان قبل فتح مكة فلما كان الفتح وأظهر الله تعالى الإسلام على الدين كله وأذل الكفر وأعز المسلمين - سقط فرض الهجرة قال النبي ﷺ لا هجرة بعد الفتح وقال مضت الهجرة لأهلها أي الذين هاجروا من ديارهم وأموالهم قبل فتح مكة لمواساة النبي ﷺ وموازرته ونصرة دينه وضبط شريعته (النووي).
فيه أن سلمة لم يمت بالبادية بل بالمدينة (القسطلاني).

باب: غَزْوَةُ حُنَيْنٍ


١٧٤٦. (خ م) (١٧٧٦) عَنْ أبِي إسْحَقَ قالَ: قالَ رَجُلٌ لِلبَراءِ ﵁: يا أبا عُمارَةَ؛ أفَرَرتُم يَومَ حُنَينٍ؟ قالَ: لا، واللهِ ما ولّى رَسُولُ اللهِ ﷺ، ولَكِنَّهُ خَرَجَ شُبّانُ أصحابِهِ وأَخِفّاؤُهُم حُسَّرًا، لَيسَ عَلَيهِم سِلاحٌ أو كَثِيرُ سِلاحٍ، فَلَقُوا قَومًا رُماةً لا يَكادُ يَسقُطُ لَهُم سَهمٌ، جَمعَ هَوازِنَ وبَنِي نَصرٍ، فَرَشَقُوهُم رَشقًا ما يَكادُونَ يُخطِئُونَ، فَأَقبَلُوا هُناكَ إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ، ورسُولُ الله ﷺ عَلى بَغلَتِهِ البَيضاءِ، وأَبُو سُفيانَ بنُ الحارِثِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ يَقُودُ بِهِ، فَنَزَلَ فاستَنصَر، وقالَ: «أنا النَّبِيُّ لا كَذِب، أنا ابنُ عَبْدِ المُطَّلِب». ثُمَّ صَفَّهُم. وفي رواية (م): أشهَدُ عَلى نَبيِّ اللهِ ﷺ ما ولّى، وفِيها: فَرَمَوهُم بِرِشقٍ مِن نَبلٍ كَأَنَّها رِجلٌ مِن جَرادٍ فانكَشَفُوا، فَقالَ: «اللَّهُمَّ نَزِّل نَصرَكَ». قالَ البَراءُ: كُنّا واللهِ إذا احمَرَّ البَأسُ نَتَّقِي بِهِ، وإنَّ الشُجاعَ مِنّا لَلَّذِي يُحاذِي بِهِ، يَعنِي النَّبِيَّ ﷺ. وفي رواية: وإنّا لمّا حَمَلنا عَلَيهِم انكَشَفُوا، فاكبَبنا عَلى الغَنائم، فاستَقبَلُونا بِالسِّهام ...
-(أنا ابن عبد المطلب) فيه جواز الانتساب إلى الآباء ولو ماتوا في الجاهلية، والنهي عن ذلك محمول على ما هو خارج الحرب. قال النووي: فإن قيل: كيف قال النبي ﷺ: أنا ابن عبد الطلب؟ فانتسب إلى جده دون أبيه وافتخر بذلك؟ مع أن الافتخار في حق أكثر الناس من عمل الجاهلية؟ فالجواب أنه ﷺ كانت شهرته بجده أكثر؛ لأن أباه عبد الله توفي شابا في حياة أبيه عبد المطلب قبل اشتهار عبد الله، وكان عبد المطلب مشهورا شهرة ظاهرة شائعة، وكان سيد أهل مكة وكان كثير من الناس يدعون النبي ﷺ ابن عبد المطلب ينسبونه إلى جده لشهرته (موسى شاهين).
-فيه جواز الرجز والشعر والدعاء عند الحرب. (موسى شاهين)
-(كنا إذا احمر البأس نتقي به) أي: نجعل النبي ﷺ لنا وقاية أي نحتمي به واحمرار البأس كناية عن شدة الحرب واستعير ذلك لحمرة الدماء الحاصلة فيها عادة أو لاستعار الحرب واشتعالها كاحمرار الحجر والبأس الشدة في الحرب أو الحرب أو العذاب الشديد والبأساء المشقة والحرب الداهية. (موسى شاهين).
-(أنا النبي لا كذب) دليل على من أنشد ما يصادق الشعر لا يُعد شاعرًا، قال الله تعالى: {وما علمناه الشعر وما ينبغي له} يعني: لا يمكن أن يكون شاعرًا، ولكن البيت أو البيتين إذا أتيا من غير قصد الشعر فإن ذلك لا يؤدي بقائلهما إلى أن يكون من الشعراء. (ابن عثيمين)
-فيه شجاعة النبي ﷺ، حيث كان يركض بغلته نحو العدو ويعلن، يقول: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب). (ابن عثيمين)
-فيه جواز الإقسام بدون استقسام، إذا دعت الحاجة إليه؛ لأنه لما سأله قال: فررتم، قالوا: لا والله. (ابن عثيمين)

١٧٤٧. (م) (١٧٧٥) عَنْ كَثِيرِ بْنِ عَبّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ قالَ: قالَ عبّاسٌ ﵁: شَهِدتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ يَومَ حُنَينٍ، فَلَزِمتُ أنا وأَبُو سُفيانَ بنُ الحارِثِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ رَسُولَ اللهِ ﷺ فَلَم نُفارِقهُ، ورسُولُ الله ﷺ عَلى بَغلَةٍ لَهُ بَيضاءَ أهداها لَهُ فَروَةُ بنُ نُفاثَةَ الجُذامِيُّ، فَلَمّا التَقى المُسلِمُونَ والكُفّارُ ولّى المُسلِمُونَ مُدبِرِينَ، فَطَفِقَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَركُضُ بَغلَتَهُ قِبَلَ الكُفّارِ، قالَ عَبّاسٌ: وأَنا آخِذٌ بِلِجامِ بَغلَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ أكُفُّها إرادَةَ أن لا تُسرِعَ، وأَبُو سُفيانَ آخِذٌ بِرِكابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أي عَبّاسُ؛ نادِ أصحابَ السَّمُرَةِ». فَقالَ عَبّاسٌ وكانَ رَجُلًا صَيِّتًا: فَقُلتُ بِأَعلى صَوتِي: أينَ أصحابُ السَّمُرَةِ؟ قالَ: فَواللهِ لَكَأَنَّ عَطفَتَهُم حِينَ سَمِعُوا صَوتِي عَطفَةُ البَقَرِ عَلى أولادِها، فَقالُوا: يا لَبَّيكَ يا لَبَّيكَ. قالَ: فاقتَتَلُوا والكُفّارَ، والدَّعوَةُ فِي الأَنصارِ يَقُولُونَ: يا مَعشَرَ الأَنصارِ، يا مَعشَرَ الأَنصارِ. قالَ: ثُمَّ قُصِرَتِ الدَّعوَةُ عَلى بَنِي الحارِثِ بْنِ الخَزرَجِ، فَقالُوا: يا بَنِي الحارِثِ بْنِ الخَزرَجِ، يا بَنِي الحارِثِ بْنِ الخَزرَجِ. فَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وهُوَ عَلى بَغلَتِهِ كالمُتَطاوِلِ عَلَيها إلى قِتالِهِم، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «هَذا حِينَ حَمِيَ الوَطِيسُ». قالَ: ثُمَّ أخَذَ رَسُولُ اللهِ ﷺ حَصَياتٍ فَرَمى بِهِنَّ وُجُوهَ الكُفّارِ، ثُمَّ قالَ: «انهَزَمُوا ورَبِّ مُحَمَّدٍ». قالَ: فَذَهَبتُ أنظُرُ فَإذا القِتالُ عَلى هَيئَتِه فِيما أرى، قالَ: فَواللهِ ما هُوَ إلا أن رَماهُم بِحَصَياتِهِ، فَما زِلتُ أرى حَدَّهُم كَلِيلًا، وأَمرَهُم مُدبِرًا. وفي رواية: «انهَزَمُوا ورَبِّ الكَعبَةِ، انهَزَمُوا ورَبِّ الكَعبَةِ». وزادَ فِي الحديث: حَتّى هَزَمَهُمُ اللهُ، قالَ: وكَأَنِّي أنظُرُ إلى النَّبِيِّ ﷺ يَركُضُ خَلفَهُم عَلى بَغلَتِهِ.
-فيه ركوبه ﷺ البغلة إشارة إلى مزيد الثبات؛ لأن ركوب الفرس مظنة الاستعداد للفرار والتولي. قال النووي: فركوبه ﷺ البغلة -وهي أضعف من الفرس- في موطن الحرب وعند اشتداد الناس هو النهاية في الشجاعة والثبات، وإذا كان رأس الجيش قد وطن نفسه على عدم الفرار، وأخذ بأسباب ذلك كان ذلك أدعى لأتباعه على الثبات؛ وإنما فعل النبي ﷺ ذلك عمدا وإلا فقد كانت له أفراس معروفة. (موسى شاهين).
-ومن موقفه هذا ﷺ جواز التعرض إلى الهلاك في سبيل الله عز وجل (موسى شاهين).
-وفي الحديث معجزة الحصى (موسى شاهين).
-فيه شجاعة الصحابة وجهادهم في سبيل الله واستجابتهم لنداء الإسلام واعتزازهم بمواقفهم المشهورة (موسى شاهين).
-فيه دليل على أن فرارهم لم يكن بعيدا وأنه لم يحصل الفرار من جميعهم، وإنما فتحه عليهم من في قلبه مرض من مسلمة أهل مكة المؤلفة ومشركيها الذين لم يكونوا أسلموا؛ وإنما كانت هزيمتهم فجأة لانصبابهم عليهم دفعة واحدة ورشقهم بالسهام ولاختلاط أهل مكة معهم ممن لم يستقر الإيمان في قلبه وممن يتربص بالمسلمين الدوائر وفيهم نساء وصبيان خرجوا للغنيمة فتقدم أخفاؤهم فلما رشقوهم بالنبل ولّوا فانقلبت أولاهم على أخراهم إلى أن أنزل الله سكينته على المؤمنين كما ذكر الله تعالى في القرآن. (النووي).
-(أبو سفيان بن الحارث) أبو سفيان هذا هو ابن عم رسول الله ﷺ قال جماعة من العلماء اسمه هو كنيته وقال آخرون اسمه المغيرة (النووي).

١٧٤٨. (م) (١٧٧٧) عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ ﵁ قالَ: غَزَونا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ حُنَينًا، فَلَمّا واجَهنا العَدُوَّ تَقَدَّمتُ فَأَعلُو ثَنِيَّةً، فاستَقبَلَنِي رَجُلٌ مِنَ العَدُوِّ فَأَرمِيه بِسَهمٍ فَتَوارى عَنِّي، فَما دَرَيتُ ما صَنَعَ، ونَظَرتُ إلى القَومِ فَإذا هُم قَد طَلَعُوا مِن ثَنِيَّةٍ أُخرى، فالتَقَوا هُم وصَحابَةُ النَّبِيِّ ﷺ فَوَلّى صَحابَةُ النَّبِيِّ ﷺ، وأَرجِعُ مُنهَزِمًا وعَلَيَّ بُردَتانِ مُتَّزِرًا بِإحداهُما مُرتَدِيًا بِالأُخرى، فاستَطلَقَ إزارِي فَجَمَعتُهُما جَمِيعًا، ومَرَرتُ عَلى رَسُولِ اللهِ ﷺ مُنهَزِمًا وهُوَ عَلى بَغلَتِهِ الشَّهباءِ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَقَد رَأى ابنُ الأَكوَعِ فَزَعًا». فَلَمّا غَشُوا رَسُولَ اللهِ ﷺ نَزَلَ عَنِ البَغلَةِ، ثُمَّ قَبَضَ قَبضَةً مِن تُرابٍ مِن الأَرضِ، ثُمَّ استَقبَلَ بِهِ وُجُوهَهُم، فَقالَ: «شاهَتِ الوُجُوهُ». فَما خَلَقَ اللهُ مِنهُم إنسانًا إلا مَلأَ عَينَيهِ تُرابًا بِتِلكَ القَبضَةِ، فَوَلَّوا مُدبِرِينَ، فَهَزَمَهُمُ اللهُ ﷿، وقَسَمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ غَنائِمَهُم بَينَ المُسلِمِينَ.
١٧٤٩. (خ) (٤٣١٤) عَنْ إسْماعِيلَ بْنِ أبِي خالِدٍ: رَأَيتُ بِيَدِ ابْنِ أبِي أوفى ضَربَةً؛ قالَ: ضُرِبتُها مَعَ النَّبِيِّ ﷺ يَومَ حُنَينٍ. قلت: شَهِدتَ حُنَينًا؟ قالَ: قَبلَ ذَلكَ.
١٧٥٠. (خ) (٤٣١٨) عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ؛ أنَّ مَروانَ والمِسوَرَ بنَ مَخرَمَةَ أخبَراهُ؛ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قامَ حِينَ جاءَهُ وفدُ هَوازِنَ مُسلِمِينَ فَسَأَلُوهُ أن يَرُدَّ إلَيهِم أموالَهُم وسَبيَهُم فَقالَ لَهُم رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَعِي مَن تَرَونَ، وأَحَبُّ الحَدِيثِ إلَيَّ أصدَقُهُ، فاختارُوا إحدى الطّائِفَتَينِ: إمّا السَّبيَ، وإمّا المالَ، وقَد كُنتُ استَأنَيتُ بِكُم». وكانَ أنظَرَهُم رَسُولُ اللهِ ﷺ بِضعَ عَشرَةَ لَيلَةً حِينَ قَفَلَ مِن الطّائِفِ، فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُم أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ غَيرُ رادٍّ إلَيهِم إلا إحدى الطّائِفَتَينِ قالُوا: فَإنّا نَختارُ سَبيَنا. فَقامَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي المُسلِمِينَ، فَأَثنى عَلى اللهِ بِما هُوَ أهلُهُ، ثُمَّ قالَ: «أمّا بَعدُ؛ فَإنَّ إخوانَكُم قَد جاءُونا تائِبِينَ، وإنِّي قَد رَأَيتُ أن أرُدَّ إلَيهِم سَبيَهُم، فَمَن أحَبَّ مِنكُم أن يُطَيِّبَ ذَلكَ فَليَفعَل، ومَن أحَبَّ مِنكُم أن يَكُونَ عَلى حَظِّهِ حَتّى نُعطِيَهُ إيّاهُ مِن أوَّلِ ما يُفِيءُ اللهُ عَلَينا فَليَفعَل». فَقالَ النّاسُ: قَد طَيَّبنا ذَلكَ يا رَسُولَ اللهِ. فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إنّا لا نَدرِي مَن أذِنَ مِنكُم فِي ذَلكَ مِمَّن لَم يَأذَن، فارجِعُوا حَتّى يَرفَعَ إلَينا عُرَفاؤُكُم أمرَكُم». فَرَجَعَ النّاسُ، فَكَلَّمَهُم عُرَفاؤُهُم، ثُمَّ رَجَعُوا إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَأَخبَرُوهُ أنَّهُم قَد طَيَّبُوا وأَذِنُوا، هَذا الَّذِي بَلَغَنِي عَن سَبيِ هَوازِنَ.
-فيه من الفقه أن بيع المكره في الحق جائز، لأن النبي عليه الصلاة والسلام حَكَمَ برد السبي. (ابن بطال).
-قال المهلب: وفي رفع النبي عليه الصلاة والسلام إملاك الناس عن الرقيق، ولم يجعل إلى تملك أعيانهم سبيلا دليل على أن للإمام أن يستعين على مصالح المسلمين بأخذ بعض ما في أيدي الناس ما لم يجحف بهم، ويعد من لم تطب نفسه مما يأخذ منه بالعوض، ألا ترى قوله: (من أحب أن يطيب بذلك)، فأراد عليه السلام أن يطيب نفوس المسلمين لأهل هوازن بما أخذ منهم من العيال، ليرفع الشحناء والعداوة، ولا تبقى إحنة الغلبة لهم في انتزاع السبي منهم في قلوبهم، فيولد ذلك اختلاف الكلمة. (ابن بطال).
-فيه أنه يجوز للإمام إذا جاءه أهل الحرب مسلمين بعد أن غنم أهليهم وأموالهم أن يرد إليهم عيالهم إذا رأى ذلك صوابا كما فعل النبي - عليه السلام - لأن العيال ألزق بنفوس الرجال من المال، والعار عليهم فيهم أشد. (ابن بطال).
-(إنا لا ندرى من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم) إنما هذا تقص من النبي في استطابة نفوس الناس رجلا رجلا، وليعرف الحاضر منهم الغائب. (ابن بطال).

باب: فِـي غَزْوَةِ الطّائِفِ


١٧٥١. (خ م) (١٧٧٨) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو ﵄ قالَ: حاصَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أهلَ الطّائِفِ، فَلَم يَنَل مِنهُم شَيئًا، فَقالَ: «إنّا قافِلُونَ إن شاءَ اللهُ». قالَ أصحابُهُ: نَرجِعُ ولَم نَفتَتِحهُ. فَقالَ لَهُم رَسُولُ اللهِ ﷺ: «اغدُوا عَلى القِتالِ». فَغَدَوا عَلَيهِ، فَأَصابَهُم جِراحٌ، فَقالَ لَهُم رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إنّا قافِلُونَ غَدًا». قالَ: فَأَعجَبَهُم ذَلكَ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ. وفي رواية (خ): عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ ﵄ [وصَوَّبه الدّارَقُطنِيُّ وعَبدُ الحَقِّ].
-فيه أن النبي ﷺ كان قائدا حكيما وأنه كان رحيما بأصحابه عزيزا عليه عنتهم، وصدق الله العظيم إذ يقول: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} [التوبة: 128] (موسى شاهين).
-فيه أسلوب تربوي وهو: ترك المخالف للرأي الحكيم حتى يلمس بنفسه صحته ولو كانت النتيجة الكي. (موسى شاهين).
-فيه نتيجة مخالفة إشارة رسول الله ﷺ (موسى شاهين).
-فيه التبسم عند الإعجاب وبيان صحة الرأي لتنبيه المخالف إلى ما كان ينبغي لا شماتة فيه وفيما أصابه (موسى شاهين).

باب: بَعْثُ النَّبِيِّ ﷺ خالِدًا إلى بَنِي جَذِيمَةَ


١٧٥٢. (خ) (٤٣٣٩) عَنِ ابْنِ عُمَرَ ﵄ قالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ ﷺ خالِدَ بنَ الوَلِيدِ إلى بَنِي جَذِيمَةَ، فَدَعاهُم إلى الإسلامِ فَلَم يُحسِنُوا أن يَقُولُوا: أسلَمنا، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: صَبَأنا صَبَأنا. فَجَعَلَ خالِدٌ يَقتُلُ مِنهُم ويَأسِرُ، ودَفَعَ إلى كُلِّ رَجُلٍ مِنّا أسِيرَهُ، حَتّى إذا كانَ يَومٌ أمَرَ خالِدٌ أن يَقتُلَ كُلُّ رَجُلٍ مِنّا أسِيرَهُ، فَقلتُ: واللهِ لا أقتُلُ أسِيرِي، ولا يَقتُلُ رَجُلٌ مِن أصحابِي أسِيرَهُ، حَتّى قَدِمنا عَلى النَّبِيِّ ﷺ فَذَكَرناهُ، فَرَفَعَ النَّبِيُّ ﷺ يَدَهُ فَقالَ: «اللَّهُمَّ إنِّي أبرَأُ إلَيكَ مِمّا صَنَعَ خالِدٌ» مَرَّتَينِ.
-فيه أن القاضي إذا قضى بجور أو بخلاف أهل العلم فهو مردود، فإن كان على وجه الاجتهاد والتأويل كما صنع خالد فإن الإثم ساقط عنه، والضمان لازم في ذلك عند عامة أهل العلم (ابن بطال).
-فيه أنه يقبل الإيمان من جميع أهل الملل بألسنتهم، لكن عذره النبي ﷺ خالد بالتأويل؛ إذ كل متأول فلا عقوبة عليه ولا إثم (ابن بطال).
-فيه إنما نقم رسول الله ﷺ من خالد موضع العجلة، وترك التثبت في أمرهم إلى أن يتبين المراد من قولهم: صبأنا، لأن الصبأ معناه الخروج من دين، يُقال: صبأ الرجل فهو صابئٌ، إذا خرج من دين كان فيه إلى دين آخر، ولذلك كان المشركون يدعون رسول الله ﷺ الصابئ وذلك لمخالفته دين قومه وقولهم: صبأنا، كلام يحتمل أن يكون معناه خرجنا من ديننا إلى دين آخر غير الإسلام من يهودية أو غيرهما من الأديان والنحل، فلما لم يكن هذا القول صريحا في الانتقال إلى دين الإسلام نفَّذ خالد الأمر الأول في قتالهم، إذ لم يوجد شريطة حقن الدم بصريح الاسم، وقد يحتمل أن يكون خالدٌ إنما لم يكف عن قتالهم بهذا القول من قبل أنه ظن أنهم عدلوا عن اسم الإسلام إليه أنفة من الاستسلام والانقياد، فلم ير ذلك القول منهم إقرارا بالدين.

باب: بَعْثُ النَّبِيِّ ﷺ خالِدًا إلى اليَمَنِ ثُمَّ عَلِيَّ بْنَ أبِي طالِبٍ ﵃


١٧٥٣. (خ) (٤٣٤٩) عَنِ البَراءِ ﵁ قالَ: بَعَثَنا رَسُولُ اللهِ ﷺ مَعَ خالِدِ بْنِ الوَلِيدِ إلى اليَمَنِ، قالَ: ثُمَّ بَعَثَ عَلِيًّا بَعدَ ذَلكَ مَكانَهُ، فَقالَ: «مُر أصحابَ خالِدٍ؛ مَن شاءَ مِنهُم أن يُعَقِّبَ مَعَكَ فَليُعَقِّب، ومَن شاءَ فَليُقبِل». فَكُنتُ فِيمَن عَقَّبَ مَعَهُ، قالَ: فَغَنِمتُ أواقٍ ذَواتِ عَدَدٍ.
١٧٥٤. (خ) (٤٣٥٠) عَنْ بُرَيْدَةَ ﵁ قالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ ﷺ عَلِيًّا إلى خالِدٍ لِيَقبِضَ الخُمُسَ، وكُنتُ أُبغِضُ عَلِيًّا، وقَد اغتَسَلَ، فَقلت لِخالِدٍ: ألا تَرى إلى هَذا؟ فَلَمّا قَدِمنا عَلى النَّبِيِّ ﷺ ذَكَرتُ ذَلكَ لَهُ، فَقالَ: «يا بُرَيدَةُ؛ أتُبغِضُ عَلِيًّا؟» فَقلت: نَعَم، قالَ: «لا تُبغِضهُ، فَإنَّ لَهُ فِي الخُمُسِ أكثَرَ مِن ذَلكَ».

باب: غَزْوَةُ سِيفِ البَحْرِ وحَدِيثُ أبِي اليَسَرِ وجابِرٍ وجَبّارٍ ﵃


١٧٥٥. (خ م) (١٩٣٥) عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ﵄ قال: بَعَثَنا رَسُولُ اللهِ ﷺ ونَحنُ ثَلاثُ مِائَةِ راكِبٍ، وأَمِيرُنا أبُو عُبَيدَةَ بنُ الجَرّاحِ، نَرصُدُ عِيرًا لِقُرَيشٍ، فَأَقَمنا بِالسّاحِلِ نِصفَ شَهرٍ، فَأَصابَنا جُوعٌ شَدِيدٌ، حَتّى أكَلنا الخَبَطَ، فَسُمِّيَ جَيشَ الخَبَطِ، فَأَلقى لَنا البَحرُ دابَّةً يُقالُ لَها: العَنبَرُ، فَأَكَلنا مِنها نِصفَ شَهرٍ، وادَّهَنّا مِن ودَكِها، حَتّى ثابَت أجسامُنا، قالَ: فَأَخَذَ أبُو عُبَيدَةَ ضِلَعًا مِن أضلاعِهِ فَنَصَبَهُ، ثُمَّ نَظَرَ إلى أطوَلِ رَجُلٍ فِي الجَيشِ، وأَطوَلِ جَمَلٍ فَحَمَلَهُ عَلَيهِ، فَمَرَّ تَحتَهُ، (قالَ: وجَلَسَ فِي حَجاجِ عَينِهِ نَفَرٌ، قالَ: وأَخرَجنا مِن وقبِ عَينِهِ كَذا وكَذا قُلَّةَ ودَكٍ)، قالَ: وكانَ مَعَنا جِرابٌ مِن تَمرٍ، فَكانَ أبُو عُبَيدَةَ يُعطِي كُلَّ رَجُلٍ مِنّا قَبضَةً قَبضَةً، ثُمَّ أعطانا تَمرَةً تَمرَةً، فَلَمّا فَنِيَ وجَدنا فَقدَهُ.
وفي رواية: فَفَنِي زادُهُم، فَجَمَعَ أبُو عُبَيدَةَ زادَهُم فِي (مِزوَدٍ)، فَكانَ يُقَوِّتُنا ... وفي رواية (خ): فَجُمِعَ ذَلكَ كُلُّهُ، فَكانَ مِزْوَدَي تَمرٍ ... وفِيها: قالَ: ثُمَّ انتَهَينا إلى البَحرِ فَإذا حُوتٌ مِثلُ الظَّرِبِ ...
وفي رواية: عَن أبِي الزُّبَيرِ عَنهُ، وفِيها: فَلَمّا قَدِمنا المَدِينَةَ أتَينا رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَذَكَرنا ذَلكَ لَهُ، فَقالَ: «هُو رِزقٌ أخرَجَهُ اللهُ لَكُم، فَهَل مَعَكُم مِن لَحمِهِ شَيءٌ فَتُطْعِمُونا؟» قالَ: فَأَرسَلْنا إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ مِنهُ، فَأَكَلَهُ. (وفِي أوَّلِها: بَعَثنا رَسُولُ اللهِ ﷺ ... وزَوَّدنا جِرابًا مِن تَمرٍ لَم يَجِد لَنا غَيرَهُ ... وفِيها: قالَ: فَقُلتُ: كَيفَ كُنتُم تَصنَعُونَ بِها؟ قالَ: نَمَصُّها كَما يَمَصُّ الصَّبيُّ، ثُمًّ نَشرَبُ عَلَيها مِن الماءِ، فَتَكفِينا يَومَنا إلى اللَّيلِ، وكُنّا نَضرِبُ بِعِصِيِّنا الخَبَطَ، ثُمَّ نَبُلُّهُ بِالماءِ فَنَأكُلُهُ، وانطَلَقنا عَلى ساحِلِ البَحرِ، فَرُفِعَ لَنا عَلى ساحِلِ البَحرِ كَهَيئَةِ الكَثِيبِ الضَّخمِ، فَأَتَيناهُ، فَإذا هِيَ دابَّةٌ تُدْعى العَنبَرَ، قالَ: قالَ أبوعُبَيدَةَ: مَيتَةٌ، ثُمَّ قالَ: لا، بَل نَحنُ رُسُلُ رَسُولِ اللهِ ﷺ وفِي سَبِيلِ اللهِ، وقَد اضطُرِرتُم، فَكُلُوا. فَأَقَمْنا عَلَيهِ شَهرًا ... وفِيها: ولَقَد رَأيتُنا نَغتَرِفُ مِن وقْبِ عَينِهِ بِالقِلالِ الدُّهْنَ، ونَقتَطِعُ مِنهُ الفِدَر كالثَّورِ - أو كَقَدْرِ الثَّورِ - ... وفِيها: وتَزَوَدَّنا مِن لَحمِهِ وشائقَ ...).
وفي رواية: فَأَكَلَ مِنها الجَيشُ ثَمانيَ عَشَرَةَ لَيلَةً.
وفي رواية (م): بَعَثَ رَسُولُ اللهِ ﷺ سَرِيَّةً أنا فِيهِم إلى سِيفِ البَحرِ.
وفي رواية: ونَحنُ ثَلاثِمائَةٍ نَحمِلُ أزوادَنا عَلى رِقابِنا ...
وفي رواية: إنَّ رَجُلًا نَحَرَ ثَلاثَ جَزائرَ، ثُمَّ ثَلاثًا، ثُمَّ نَهاهُ أبُو عُبَيدَةَ. وفي رواية (خ) أنَّ قَيسَ بنَ سَعْدٍ قالَ لِأَبِيهِ: كُنْتُ فِي الجَيْشِ فَجاعُوا، قالَ: انْحَرْ. قالَ: نَحَرْتُ ثُمَّ جاعُوا. قالَ: انْحَرْ.
وفي رواية (خ): ثُمَّ أمَرَ أبُوعُبَيدةَ بِضِلَعَين مِن أضلاعِهِ فَنُصِبا.
-(وأخذ ضلعاً من أضلاعه، فأقامها، ثم رحل أعظم بعير معنا، فمر من تحتها) تصوير آخر لضخامة العنبر، كشيء من التسلية والغرابة، وذلك بأن أخذ القائد ضلعاً من أضلاع العنبر، بعد أن جردوها من اللحم، فغرسوا جزءاً منها في الأرض، وأقاموها، طرفها المعوج أعلاها، فصارت مثل عمود النور، ثم جاء بأعلى جمل في الجيش، وجاء بأطول رجل في الجيش، فأجلسه أو أوقفه فوق ظهر الجمل، فمر الجمل والرجل من تحت قوس الضلع، دون أن يمسها (موسى شاهين).
-فيه أن الجيوش لا بد لها من أمير، يضبطها، وينقادون لأمره ونهيه، وأنه ينبغي أن يكون الأمير أفضلهم. قالوا: ويستحب للرفقة -وإن قلوا أن يؤمروا بعضهم عليهم، وينقادوا له (موسى شاهين).
-فيه جواز صد أهل الحرب، والخروج لأخذ مالهم واغتنامه. (النووي)
- فيه من توزيع تمرة تمرة، وفقدان التمرة ما كان عليه الصحابة -رضي الله عنهم- من الزهد في الدنيا، والتقلل منها، والصبر على الجوع، وخشونة العيش، وإقدامهم على الغزو مع هذه الحال (موسى شاهين).
-فيه من اجتهاد أبي عبيدة في أكل الميتة اجتهاد الصحابة في الأحكام في عهد النبي ﷺ، كما يجوز بعده (موسى شاهين).
-فيه طلب النبي ﷺ من لحمه، وأكله، ما كان عليه ﷺ من تطييب نفوس أصحابه. (موسى شاهين).
-فيه أنه يستحب للمفتي أن يتعاطى بعض المباحات التي يشك فيها المستفتي، إذا لم يكن فيه مشقة على المفتي (موسى شاهين).
-فيه دليل على أنه لا بأس بسؤال الإنسان بعض مال صاحبه ومتاعه، إدلالاً عليه، وليس هو من السؤال المنهي عنه، إنما ذاك في حق الأجانب للتمول ونحوه، أما هذه فللمؤانسة والملاطفة (موسى شاهين).
-مشروعية المؤاساة بين الجيش عند وقوع المجاعة.
- فيه أن الاجتماع على الطعام يستدعي البركة فيه. (ابن حجر)
- فيه من ذبح الرجل للجزر ما كان عليه الصحابة من الجود والكرم والسخاء، وبخاصة في سبيل الله (موسى شاهين).

١٧٥٦. (م) (٣٠٠٦) عَنْ عُبادَةَ بْنِ الوَلِيدِ بْنِ عُبادَةَ بْنِ الصّامِتِ قالَ: خَرَجتُ أنا وأَبِي نَطلُبُ العِلمَ فِي هَذا الحَيِّ مِنَ الأَنصار قَبلَ أن يَهلِكُوا، فَكانَ أوَّلُ مَن لَقِينا أبا اليَسَرِ صاحِبَ رَسُولِ اللهِ ﷺ ومَعَهُ غُلامٌ لَهُ مَعَهُ ضِمامَةٌ مِن صُحُفٍ، وعَلى أبِي اليَسَرِ بُردَةٌ ومَعافِرِيٌّ، وعَلى غُلامِهِ بُردَةٌ ومَعافِرِيٌّ، فَقالَ لَهُ أبِي: يا عَمِّ؛ إنِّي أرى فِي وجهِكَ سَفعَةً مِن غَضَبٍ، قالَ: أجَل كانَ لِي عَلى فُلانِ بْنِ فُلانٍ الحَرامِيِّ مالٌ، فَأَتَيتُ أهلَهُ فَسَلَّمتُ فَقُلتُ: ثَمَّ هُوَ؟ قالُوا: لا. فَخَرَجَ عَلَيَّ ابنٌ لَهُ جَفرٌ فَقُلتُ: أينَ أبُوكَ؟ فَقالَ: سَمِعَ صَوتَكَ فَدَخَلَ أرِيكَةَ أُمِّي. فَقُلتُ: اخرُج إلَيَّ، فَقَد عَلِمتُ أينَ أنتَ، فَخَرَجَ فَقُلتُ: ما حَمَلَكَ عَلى أنِ اختَبَأتَ مِنِّي؟ قالَ: أنا واللهِ أُحَدِّثُكَ ثُمَّ لا أكذِبُكَ، خَشِيتُ واللهِ أن أُحَدِّثَكَ فَأَكذِبَكَ، وأَن أعِدَكَ فَأُخلِفَكَ، وكُنتَ صاحِبَ رَسُولَ اللهِ ﷺ، وكُنتُ واللهِ مُعسِرًا. قالَ: قُلتُ: آللهِ؟ قالَ: اللهِ. قُلتُ: آللهِ. قالَ: اللهِ. قُلتُ: آللهِ؟ قالَ: اللهِ. قالَ: فَأَتى بِصَحِيفَتِهِ فَمَحاها بِيَدِهِ، فَقالَ: إن وجَدتَ قَضاءً فاقضِنِي وإلا أنتَ فِي حِلٍّ، فَأَشهَدُ بَصَرُ عَينَيَّ هاتَينِ ووَضَعَ إصبَعَيهِ عَلى عَينَيهِ، وسَمعُ أُذُنَيَّ هاتَينِ، ووَعاهُ قَلبِي هذا وأَشارَ إلى مَناطِ قَلبِهِ رَسُولَ اللهِ ﷺ وهُوَ يَقُولُ: «مَن أنظَرَ مُعسِرًا أو وضَعَ عَنهُ أظَلَّهُ اللهُ فِي ظِلِّهِ».
قالَ: فَقُلتُ لَهُ أنا: يا عَمِّ؛ لَو أنَّكَ أخَذتَ بُردَةَ غُلامِكَ وأَعطَيتَهُ مَعافِرِيَّكَ، وأَخَذتَ مَعافِرِيَّهُ وأَعطَيتَهُ بُردَتَكَ فَكانَت عَلَيكَ حُلَّةٌ وعَلَيهِ حُلَّةٌ، فَمَسَحَ رَأسِي وقالَ: اللَّهُمَّ بارِك فِيهِ، يا ابنَ أخِي؛ بَصَرُ عَينَيَّ هاتَينِ وسَمعُ أُذُنَيَّ هاتَينِ ووَعاهُ قَلبِي هَذا -وأَشارَ إلى مَناطِ قَلبِهِ- رَسُولَ اللهِ ﷺ وهُوَ يَقُولُ: «أطعِمُوهُم مِمّا تَأكُلُونَ، وأَلبِسُوهُم مِمّا تَلبَسُونَ». وكانَ أن أعطَيتُهُ مِن مَتاعِ الدُّنيا أهوَنَ عَلَيَّ مِن أن يَأخُذَ مِن حَسَناتِي يَومَ القِيامَةِ.
ثُمَّ مَضَينا حَتّى أتَينا جابِرَ بنَ عَبْدِ اللهِ فِي مَسْجِدِهِ وهُوَ يُصَلِّي فِي ثَوبٍ واحِدٍ مُشتَمِلًا بِهِ، فَتَخَطَّيتُ القَومَ حَتّى جَلَستُ بَينَهُ وبَينَ القِبلَةِ، فَقُلتُ: يَرحَمُكَ اللهُ؛ أتُصَلِّي فِي ثَوبٍ واحِدٍ ورِداؤُكَ إلى جَنبِكَ؟ قالَ: فَقالَ بِيَدِهِ فِي صَدرِي هَكَذا وفَرَّقَ بَينَ أصابِعِهِ وقَوَّسَها، أرَدتُ أن يَدخُلَ عَلَيَّ الأَحمَقُ مِثلُكَ فَيَرانِي كَيفَ أصنَعُ فَيَصنَعُ مِثلَهُ، أتانا رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي مَسْجِدِنا هَذا وفِي يَدِهِ عُرجُونُ ابْنِ طابٍ، فَرَأى فِي قِبلَةِ المَسْجِدِ نُخامَةً فَحَكَّها بِالعُرجُونِ، ثُمَّ أقبَلَ عَلَينا فَقالَ: «أيُّكُم يُحِبُّ أن يُعرِضَ اللهُ عَنهُ؟» قالَ: فَخَشَعنا، ثُمَّ قالَ: «أيُّكُم يُحِبُّ أن يُعرِضَ اللهُ عَنهُ؟» قالَ: فَخَشَعنا، ثُمَّ قالَ: «أيُّكُم يُحِبُّ أن يُعرِضَ اللهُ عَنهُ؟» قُلنا: لا أيُّنا يا رَسُولَ اللهِ. قالَ: «فَإنَّ أحَدَكُم إذا قامَ يُصَلِّي فَإنَّ اللهَ تَبارَكَ وتَعالى قِبَلَ وجهِهِ، فَلا يَبصُقَنَّ قِبَلَ وجهِهِ ولا عَن يَمِينِهِ وليَبصُق عَن يَسارِهِ تَحتَ رِجلِهِ اليُسرى، فَإن عَجِلَت بِهِ بادِرَةٌ فَليَقُل بِثَوبِهِ هَكَذا». ثُمَّ طَوى ثَوبَهُ بَعضَهُ عَلى بَعضٍ فَقالَ: «أرُوني عَبِيرًا». فَقامَ فَتًى مِنَ الحَيِّ يَشتَدُّ إلى أهلِهِ فَجاءَ بِخَلُوقٍ فِي راحَتِهِ، فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَجَعَلَهُ عَلى رَأسِ العُرجُونِ ثُمَّ لَطَخَ بِهِ عَلى أثَرِ النُّخامَةِ، قالَ جابِرٌ: فَمِن هُناكَ جَعَلتُمُ الخَلُوقَ فِي مَساجِدِكُم.
سِرنا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي غَزوَةِ بَطنِ بُواطٍ وهُوَ يَطلُبُ المَجدِيَّ بنَ عَمْرٍو الجُهَنِيَّ، وكانَ النّاضِحُ يَعقُبُه مِنّا الخَمسَةُ والسِّتَّةُ والسَّبعَةُ، فَدارَت عُقبَةُ رَجُلٍ مِنَ الأَنصارِ عَلى ناضِحٍ لَهُ فَأَناخَهُ فَرَكِبَهُ، ثُمَّ بَعَثَهُ فَتَلَدَّنَ عَلَيهِ بَعضَ التَّلَدُّنِ، فَقالَ لَهُ: شَأ لَعَنَكَ اللهُ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَن هَذا اللاعِنُ بَعِيرَهُ؟» قالَ: أنا يا رَسُولَ اللهِ. قالَ: «انزِل عَنهُ فَلا تَصحَبنا بِمَلعُون، لا تَدعُوا عَلى أنفُسِكُم، ولا تَدعُوا عَلى أولادِكُم، ولا تَدعُوا عَلى أموالِكُم، لا تُوافِقُوا مِنَ اللهِ ساعَةً يُسأَلُ فِيها عَطاءٌ فَيَستَجِيبُ لَكُم».
سِرنا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، حَتّى إذا كانَت عُشَيشِيَةٌ ودَنَونا ماءً مِن مِياهِ العَرَبِ، قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَن رَجُلٌ يَتَقَدَّمُنا فَيَمدُرُ الحَوضَ فَيَشرَبُ ويَسقِينا؟» قالَ جابِرٌ: فَقُمتُ فَقُلتُ: هَذا رَجُلٌ يا رَسُولَ اللهِ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أيُّ رَجُلٍ مَعَ جابِرٍ؟» فَقامَ جَبّارُ بنُ صَخرٍ، فانطَلَقنا إلى البِئرِ فَنَزَعنا فِي الحَوضِ سَجلًا أو سَجلَينِ، ثُمَّ مَدَرناهُ، ثُمَّ نَزَعنا فِيهِ حَتّى أفهَقناهُ، فَكانَ أوَّلَ طالِعٍ عَلَينا رَسُولُ اللهِ ﷺ فَقالَ: «أتَأذَنانِ؟» قُلنا: نَعَم يا رَسُولَ اللهِ. فَأَشرَعَ ناقَتَهُ فَشَرِبَت، شَنَقَ لَها فَشَجَت فَبالَت، ثُمَّ عَدَلَ بِها فَأَناخَها، ثُمَّ جاءَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إلى الحَوضِ فَتَوَضَّأَ مِنهُ، ثُمَّ قُمتُ فَتَوَضَّأتُ مِن مُتَوَضَّإ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَذَهَبَ جَبّارُ بنُ صَخرٍ يَقضِي حاجَتَهُ، فَقامَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِيُصَلِّيَ، وكانَت عَلَيَّ بُردَةٌ ذَهَبتُ أن أُخالِفَ بَينَ طَرَفَيها فَلَم تَبلُغ لِي، وكانَت لَها ذَباذِبُ، فَنَكَّستُها ثُمَّ خالَفتُ بَينَ طَرَفَيها، ثُمَّ تَواقَصتُ عَلَيها، ثُمَّ جِئتُ حَتّى قُمتُ عَن يَسارِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَأَخَذَ بِيَدِي فَأَدارَنِي حَتّى أقامَنِي عَن يَمِينِهِ، ثُمَّ جاءَ جَبّارُ بنُ صَخرٍ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ جاءَ فَقامَ عَن يَسارِ رَسُولِ اللهِ ﷺ فَأَخَذَ بِيَدَينا جَمِيعًا فَدَفَعَنا حَتّى أقامَنا خَلفَهُ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَرمُقُني وأَنا لا أشعُرُ، ثُمَّ فَطِنتُ بِهِ، فَقالَ هَكَذا بِيَدِهِ؛ يَعنِي: شُدَّ وسَطَكَ، فَلَمّا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ ﷺ قالَ: «يا جابِرُ». قُلتُ: لَبَّيكَ يا رَسُولَ اللهِ، قالَ: «إذا كانَ واسِعًا فَخالِف بَينَ طَرَفَيهِ، وإذا كانَ ضَيِّقًا فاشدُدهُ عَلى حَقوِكَ».
سِرنا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ وكانَ قُوتُ كُلِّ رَجُلٍ مِنّا في كُلِّ يَومٍ تَمرَةً، فَكانَ يَمَصُّها ثُمَّ يَصُرُّها فِي ثَوبِهِ، وكُنّا نَختَبِطُ بِقِسِيِّنا ونَأكُلُ حَتّى قَرِحَت أشداقُنا، فَأُقسِمُ أُخطِئَها رَجُلٌ مِنّا يَومًا، فانطَلَقنا بِهِ نَنعَشُهُ، فَشَهِدنا أنَّهُ لَم يُعطَها، فَأُعطِيَها فَقامَ فَأَخَذَها.
سِرنا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ حَتّى نَزَلنا وادِيًا أفيَحَ، فَذَهَبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَقضِي حاجَتَهُ فاتَّبَعتُهُ بِإداوَةٍ مِن ماءٍ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَلَم يَرَ شَيئًا يَستَتِرُ بِهِ فَإذا شَجَرَتانِ بِشاطِئِ الوادِي، فانطَلَقَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إلى إحداهُما فَأَخَذَ بِغُصنٍ مِن أغصانِها فَقالَ: «انقادِي عَلَيَّ بِإذنِ اللهِ». فانقادَت مَعَهُ كالبَعِيرِ المَخشُوشِ الَّذِي يُصانِعُ قائِدَهُ، حَتّى أتى الشَّجَرَةَ الأُخرى فَأَخَذَ بِغُصنٍ مِن أغصانِها فَقالَ: «انقادِي عَلَيَّ بِإذنِ اللهِ». فانقادَت مَعَهُ كَذَلكَ، حَتّى إذا كانَ بِالمَنصَفِ مِمّا بَينَهُما لأَمَ بَينَهُما يَعنِي جَمَعَهُما، فَقالَ: «التَئِما عَلَيَّ بِإذنِ اللهِ». فالتَأَمَتا، قالَ جابِرٌ: فَخَرَجتُ أُحضِرُ مَخافَةَ أن يُحِسَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِقُربِي فَيَبتَعِدَ -وقالَ محمد بن عبّاد: فَيَتَبَعَّدَ- فَجَلَستُ أُحَدِّثُ نَفسِي فَحانَت مِنِّي لَفتَةٌ، فَإذا أنا بِرَسُولِ اللهِ ﷺ مُقبِلًا، وإذا الشَّجَرَتانِ قَدِ افتَرَقَتا فَقامَت كُلُّ واحِدَةٍ مِنهُما عَلى ساقٍ، فَرَأَيتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ وقَفَ وقفَةً فَقالَ بِرَأسِهِ هَكَذا -وأَشارَ أبُو إسماعِيلَ بِرَأسِهِ يَمِينًا وشِمالًا- ثُمَّ أقبَلَ فَلَمّا انتَهى إلَيَّ قالَ: «يا جابِرُ هَل رَأَيتَ مَقامِي؟» قُلتُ: نَعَم يا رَسُولَ اللهِ. قالَ: «فانطَلِق إلى الشَّجَرَتَينِ، فاقطَع مِن كُلِّ واحِدَةٍ مِنهُما غُصنًا فَأَقبِل بِهِما، حَتّى إذا قُمتَ مَقامِي فَأَرسِل غُصنًا عَن يَمِينِكَ وغُصنًا عَن يَسارِكَ». قالَ جابِرٌ: فَقُمتُ فَأَخَذتُ حَجَرًا فَكَسَرتُهُ وحَسَرتُهُ فانذَلَقَ لِي، فَأَتَيتُ الشَّجَرَتَينِ فَقَطَعتُ مِن كُلِّ واحِدَةٍ مِنهُما غُصنًا، ثُمَّ أقبَلتُ أجُرُّهُما حَتّى قُمتُ مَقامَ رَسُولِ اللهِ ﷺ أرسَلتُ غُصنًا عَن يَمِينِي وغُصنًا عَن يَسارِي، ثُمَّ لَحِقتُهُ فَقُلتُ: قَد فَعَلتُ يا رَسُولَ اللهِ، فَعَمَّ ذاكَ؟ قالَ: «إنِّي مَرَرتُ بِقَبرَينِ يُعَذَّبانِ، فَأَحبَبتُ بِشَفاعَتِي أن يُرَفَّهَ عَنهُما ما دامَ الغُصنانِ رَطبَينِ».
قالَ: فَأَتَينا العَسكَرَ فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «يا جابِرُ؛ نادِ بِوَضُوءٍ». فَقُلتُ: ألا وضُوءَ، ألا وضُوءَ، ألا وضُوءَ؟ قالَ: قُلتُ: يا رَسُولَ اللهِ؛ ما وجَدتُ فِي الرَّكبِ مِن قَطرَةٍ، وكانَ رَجُلٌ مِنَ الأَنصارِ يُبَرِّدُ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ الماءَ فِي أشجابٍ لَهُ عَلى حِمارَةٍ مِن جَرِيدٍ، قالَ فَقالَ لِيَ: «انطَلِق إلى فُلانِ بْنِ فُلانٍ الأَنْصارِيِّ فانظُر؛ هَل فِي أشجابِهِ مِن شَيءٍ؟» قالَ: فانطَلَقتُ إلَيهِ فَنَظَرتُ فِيها فَلَم أجِد فِيها إلاَّ قَطرَةً فِي عَزلاءِ شَجبٍ مِنها، لَو أنِّي أُفرِغُهُ لَشَرِبَهُ يابِسُهُ، فَأَتَيتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ فَقُلتُ: يا رَسُولَ اللهِ؛ لَم أجِد فِيها إلاَّ قَطرَةً فِي عَزلاءِ شَجبٍ مِنها لَو أنِّي أُفرِغُهُ لَشَرِبَهُ يابِسُهُ، قالَ: «اذهَب فَأتِنِي بِهِ». فَأَتَيتُهُ بِهِ، فَأَخَذَهُ بِيَدِهِ، فَجَعَلَ يَتَكَلَّمُ بِشَيءٍ لا أدرِي ما هُوَ؟ ويَغمِزُهُ بِيَدَيهِ، ثُمَّ أعطانِيهِ فَقالَ: «يا جابِرُ؛ نادِ بِجَفنَةٍ». فَقُلتُ: يا جَفنَةَ الرَّكبِ، فَأُتِيتُ بِها تُحمَلُ، فَوَضَعتُها بَينَ يَدَيهِ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِيَدِهِ فِي الجَفنَةِ هَكَذا؛ فَبَسَطَها وفَرَّقَ بَينَ أصابِعِهِ، ثُمَّ وضَعَها فِي قَعرِ الجَفنَةِ، وقالَ: «خُذ يا جابِرُ فَصُبَّ عَلَيَّ وقُل: بِاسمِ اللهِ». فَصَبَبتُ عَلَيهِ وقُلتُ: بِاسمِ اللهِ، فَرَأَيتُ الماءَ يَفُورُ بَينَ أصابِعِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، ثُمَّ فارَتِ الجَفنَةُ، ودارَت حَتّى امتَلأَت، فَقالَ: «يا جابِرُ؛ نادِ مَن كانَ لَهُ حاجَةٌ بِماءٍ». قالَ: فَأَتى النّاسُ فاستَقَوا حَتّى رَوُوا، قالَ: فَقُلتُ: هَل بَقِيَ أحَدٌ لَهُ حاجَةٌ؟ فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَدَهُ مِنَ الجَفنَةِ وهِيَ مَلأى.
وشَكا النّاسُ إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ الجُوعَ، فَقالَ: «عَسى اللهُ أن يُطعِمَكُم». فَأَتَينا سِيفَ البَحرِ فَزَخَرَ البَحرُ زَخرَةً فَأَلقى دابَّةً، فَأَورَينا عَلى شِقِّها النّارَ، فاطَّبَخنا واشتَوَينا وأَكَلنا حَتّى شَبِعنا، قالَ جابِرٌ: فَدَخَلتُ أنا وفُلانٌ وفُلانٌ حَتّى عَدَّ خَمسَةً فِي حِجاجِ عَينِها ما يَرانا أحَدٌ حَتّى خَرَجنا، فَأَخَذنا ضِلَعًا مِن أضلاعِهِ فَقَوَّسناهُ، ثُمَّ دَعَونا بِأَعظَمِ رَجُلٍ فِي الرَّكبِ وأَعظَمِ جَمَلٍ فِي الرَّكبِ وأَعظَمِ كِفلٍ فِي الرَّكبِ فَدَخَلَ تَحتَهُ ما يُطَأطِئُ رَأسَهُ.
- فيه الرحلة في طلب العلم من الابن وأبيه، والحرص على الإفادة من كبار العلماء قبل أن يرحلوا، وطلب الإسناد العالي وسؤال التلميذ الشيخ عن حاله الخاص، واستصحاب الشيخ غلاما يحمل له الكتب (موسى شاهين).
-فيه ذهاب الدائن إلى بيت المدين وسؤال أهله عنه وتسليم الرجال على النساء، وكشف ستر المدين وإحراجه إذا استخفى من الدائن، وفيه صدق المدين وحسن اعتذاره خير له من الكذب (موسى شاهين).
-فيه توثيق راوي الحديث بروايته. (موسى شاهين).
-فيه جزاء من أنظر معسرًا أو وضع عنه. (موسى شاهين).
-فيه سؤال التلميذ الشيخ عما يُشكل عليه ولو في أمور الدنيا كالملبس (موسى شاهين).
-فيه رفق العالم بالمتعلم وتأنيسه والمسح على رأسه ورفع إشكاله بالدليل (موسى شاهين).
-فيه دقة الاستجابة الحرفية لمطالب الشرع في معاملة الخدم والأتباع (موسى شاهين).
- فيه من حديث جابر اتخاذ الإنسان مسجدا يعرف به (موسى شاهين)
- فيه فعل المعلم فعلا يثير تساؤل التلاميذ ليعلمهم جواز الفعل وإن كان غيره أولى (موسى شاهين).
- فيه جواز الصلاة في ثوب واحد مع وجود ثياب غيره (موسى شاهين).
- فيه جواز تخطي الناس في المسجد للوصول للشيخ مع عدم الإيذاء (موسى شاهين).
- فيه جواز جلوس التلميذ بين الشيخ والقبلة، ولا يعد ذلك إساءة أدب (موسى شاهين).
- فيه الدعاء للمرء كالتماس للعذر قبل اللوم (موسى شاهين).
- فيه شدّة جابر رضي الله عنه في تأديب تلاميذه إذا أحس منهم قسوة في سؤالهم (موسى شاهين).
- فيه تحمل التلميذ لتأديب شيخه له (موسى شاهين).
- فيه ذهاب الرسول ﷺ إلى مساجد أصحابه للاطمئنان على سير عباداتهم (موسى شاهين).
- فيه تواضع الكبير ومحوه الأذى بنفسه وعدم استخدام التابع في ذلك (موسى شاهين).
- فيه حسن خلقه ﷺ وتطبيقه النظريات بالعمل (موسى شاهين).
- فيه حرمة البصق والنخامة في قبلة المسجد (موسى شاهين).
- فيه استحباب البصق تحت الرجل اليسرى في الأرض الرملية في المسجد إذا استدعت الضرورة البصق (موسى شاهين).
- فيه جواز البصق في الثوب ونحوه عند الضرورة وطي بعضه على بعض هذا إذا لم يكن معه منديل ونحوه وغلبه البصاق أو رشح الأنف (موسى شاهين).
- فيه تعظيم المساجد وتنزيهها من الأوساخ ونحوها (موسى شاهين).
-فيه استحباب تطييب المساجد بالزعفران والخلوق ونحوها (موسى شاهين).
-فيه ما لاقى الصحابة من الجهد والمشقة في غزوة بواط (موسى شاهين).
-فيه اعتقاب البعير متواليا بشرط طاقته (موسى شاهين).
-فيه تحريم لعن الدواب (موسى شاهين).
-فيه النهي عن الدعاء على النفس أو المال أو الأولاد خشية الإجابة (موسى شاهين).
-فيه الندب لخدمة القوم من يتطوع بها (موسى شاهين).
-فيه فضيلة لجابر بن عبد الله وصاحبه جبار بن صخر (موسى شاهين).
-فيه من قوله ﷺ (أتأذنان) تعليمه لأمته الآداب الشرعية، والورع والاحتياط والاستئذان في مثل هذا وإن كان يعلم أنهما راضيان، وقد أرصدا ذلك له ﷺ ثم لمن بعده (موسى شاهين).
-فيه جواز الوضوء من الحوض الذي شربت منه الإبل ونحوها من الحيوان الطاهر، وأنه لا كراهة فيه (موسى شاهين).
-فيه أن المأموم إذا كان واحدًا وقف عن يمين الإمام، وإذا كانا اثنين فأكثر وقفوا خلف الإمام (موسى شاهين).
-فيه جواز العمل اليسير في الصلاة، لأن الرسول ﷺ أخذ بيد جابر وأداره إلى اليمين (موسى شاهين).
- وفي الشهادة مع الرجل الذي لم يأخذ تمرته جواز الشهادة على النفي في المحصور الذي يحاط به (موسى شاهين).
-فيه معجزة الرسول ﷺ في الشجرتين وصاحبي القبرين ووضع الأخضر على القبر (موسى شاهين).
- وفيه معجزة الرسول ﷺ في تكثير الماء وفي قذف البحر ما أطعمهم (موسى شاهين).
- وفيه تحديث المرء عن نفسه بما فيه ثناء عليه مادام يأمن العجب والزهو (موسى شاهين).

١ المبايعة بعد الفتح تكون على:

٥/٠