كِتابُ فَضائلِ النَّبِيِّ ﷺ


باب: فَضْلُ نَسَبِ النَّبِيِّ ﷺ


٢١١٨. (م) (٢٢٧٦) عَنْ واثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ ﵁ قالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «إنَّ اللهَ اصطَفى كِنانَةَ مِن ولَدِ إسماعِيلَ، واصطَفى قُرَيشًا مِن كِنانَةَ، واصطَفى مِن قُرَيشٍ بَنِي هاشِمٍ، واصطَفانِي مِن بَنِي هاشِمٍ».
-لعله يؤخذ من الحديث جواز ذكر النسب من باب التعارف والعلم لا من باب التفاخر.

٢١١٩. (خ) (٣٤٩١) عَنْ كُلَيْبِ بْنِ وائِلٍ قالَ: حَدَّثَتنِي رَبِيبَةُ النَّبِيِّ ﷺ زَينَبُ ابنةُ أبِي سَلَمَةَ؛ قالَ: قُلْتُ لَها: أرَأَيْتِ النَّبِيَّ ﷺ؛ أكانَ مِن مُضَرَ؟ قالَت: فَمِمَّن كانَ؟ إلا مِن مُضَرَ، مِن بَنِي النَّضرِ بْنِ كِنانَةَ.

باب: مَثَلُ ما بُعِثَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ الهُدى والعِلْمِ


٢١٢٠. (خ م) (٢٢٨٢) عَنْ أبِي مُوسى ﵁، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «إنَّ مَثَلَ ما بَعَثَنِيَ اللهُ بِهِ مِن الهُدى والعِلمِ كَمَثَلِ غَيثٍ أصابَ أرضًا، فَكانَت مِنها طائِفَةٌ (طَيِّبَةٌ) قَبِلَت الماءَ فَأَنبَتَت الكَلأَ والعُشبَ الكَثِيرَ، وكانَ مِنها أجادِبُ أمسَكَت الماءَ فَنَفَعَ اللهُ بِها النّاسَ، فَشَرِبُوا مِنها، وسَقَوا ورَعَوا، وأَصابَ طائِفَةً مِنها أُخرى؛ إنَّما هِيَ قِيعانٌ لا تُمسِكُ ماءً ولا تُنبِتُ كَلأً، فَذَلكَ مَثَلُ مَن فَقُهَ فِي دِينِ اللهِ ونَفَعَهُ بِما بَعَثَنِيَ اللهُ بِهِ، فَعَلِمَ وعَلَّمَ، ومَثَلُ مَن لَم يَرفَع بِذَلكَ رَأسًا، ولَم يَقبَل هُدى اللهِ الَّذِي أُرسِلتُ بِه». لَفظُ (خ): «نَقِيَّةٌ».
-قوله "الكلأ " , وقوله " والعشب " : هو من ذكر الخاص بعد العام لأن الكلأ يطلق على النبت الرطب واليابس معا, والعشب للرطب فقط.
- ضرب النبي ﷺ لما جاء به من الدين مثلا بالغيث العام الذي يأتي الناس في حال حاجتهم إليه, وكذا كان حال الناس قبل مبعثه فكما أن الغيث يحيي البلد الميت فكذا علوم الدين تحيي القلب الميت, ثم شبه السامعين له بالأرض المختلفة التي ينزل بها الغيث, فمنهم العالم العامل المعلم فهو بمنزلة الأرض الطيبة شربت فانتفعت في نفسها وأنبتت فنفعت غيرها, ومنهم الجامع للعلم المستغرق لزمانه فيه غير أنه لم يعمل بنوافله, أو لم يتفقه فيما جمع لكنه أداه لغيره فهو بمنزلة الأرض التي يستقر فيها الماء فينتفع الناس به وهو المشار إليه بقوله: " نضر الله امرأ سمع مقالتي فأداها كما سمعها", ومنهم من يسمع العلم فلا يحفظه ولا يعمل به ولا ينقله لغيره فهو بمنزلة الأرض السبخة أو الملساء التي لا تقبل الماء أو تفسده على غيرها, وإنما جمع في المثل بين الطائفتين الأوليين المحمودتين لاشتراكهما في الانتفاع بهما, وأفرد الطائفة الثالثة المذمومة لعدم النفع بها والله أعلم. ثم ظهر لي أن في كل مثل طائفتين : فالأول قد أوضحناه, والثاني الأولى منه من دخل في الدين ولم يسمع العلم أو سمعه فلم يعمل به ولم يعلمه, ومثالها من الأرض السباخ, وأشير إليها بقوله ﷺ " من لم يرفع بذلك رأسا " أي أعرض عنه فلم ينتفع به ولا نفع, والثانية منه من لم يدخل في الدين أصلا بل بلغه فكفر به, ومثالها من الأرض الصماء الملساء المستوية التي يمر عليها الماء فلا ينتفع به, وأشير إليها بقوله ﷺ " ولم يقبل هدى الله الذي جئت به ". (ابن حجر)

٢١٢١. (خ م) (٢٢٨٣) عَنْ أبِي مُوسى ﵁، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «إنَّ مَثَلِي ومَثَلَ ما بَعَثَنِيَ اللهُ بِهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ أتى قَومَهُ، فَقالَ: يا قَومِ؛ إنِّي رَأَيتُ الجَيشَ بِعَينَيَّ، وإنِّي أنا النَّذِيرُ العُريانُ، فالنَّجاءَ، فَأَطاعَهُ طائِفَةٌ مِن قَومِهِ فَأَدلَجُوا، فانطَلَقُوا عَلى مُهلَتِهِم، وكَذَّبَت طائِفَةٌ مِنهُم، فَأَصبَحُوا مَكانَهُم، فَصَبَّحَهُم الجَيشُ فَأَهلَكَهُم واجتاحَهُم، فَذَلكَ مَثَلُ مَن أطاعَنِي واتَّبَعَ ما جِئتُ بِهِ، ومَثَلُ مَن عَصانِي وكَذَّبَ ما جِئتُ بِهِ مِن الحَقِّ».
- (لأني أنا النذير العريان) قال العلماء : أصله أن الرجل إذا أراد إنذار قومه وإعلامهم بما يوجب المخافة نزع ثوبه وأشار به إليهم إذا كان بعيدا منهم ليخبرهم بما دهمهم, وأكثر ما يفعل هذا ربيئة القوم وهو طليعتهم ورقيبهم، قالوا : وإنما يفعل ذلك لأنه أبين للناظر وأغرب وأشنع منظرا فهو أبلغ في استحثاثهم في التأهب للعدو، وقيل معناه أنا النذير الذي أدركني جيش العدو فأخذ ثيابي فأنا أنذركم عريانا. (النووي)

باب: تَتْمِيمُ الأَنْبِياءِ وخَتْمُهُمْ بِالنَّبِيِّ ﷺ


٢١٢٢. (خ م) (٢٢٨٦) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁؛ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ: «مَثَلِي ومَثَلُ الأَنبِياءِ مِن قَبلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنى بُنيانًا، فَأَحسَنَهُ وأَجمَلَهُ إلا مَوضِعَ لَبِنَةٍ مِن زاوِيَةٍ مِن زَواياهُ، فَجَعَلَ النّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ، ويَعجَبُونَ لَهُ، ويَقُولُونَ هَلاَّ وُضِعَت هَذِهِ اللَّبِنَةُ، قالَ: فَأَنا اللَّبِنَةُ، وأَنا خاتَمُ النَّبِيِّينَ».
ولَهُما عَن جابِرٍ نَحوُهُ؛ وفِيهِ: «فَجَعَلَ النّاسُ يَدخُلُونَها ويَتَعَجَّبُونَ مِنها».
(قوله باب خاتم النبيين) أي أن المراد بالخاتم في أسمائه أنه خاتم النبيين, ومنه في حديث العرباض بن سارية " إني عبد الله وخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته " الحديث. (ابن حجر)
-قوله " مثلي ومثل الأنبياء كرجل بنى دارا " : قيل المشبه به واحد والمشبه جماعة فكيف صح التشبيه؟ وجوابه : أنه جعل الأنبياء كرجل واحد ؛ لأنه لا يتم ما أراد من التشبيه إلا باعتبار الكل, وكذلك الدار لا تتم إلا باجتماع البنيان, ويحتمل أن يكون من التشبيه التمثيلي, وهو أن يوجد وصف من أوصاف المشبه, ويشبه بمثله من أحوال المشبه به فكأنه شبه الأنبياء وما بعثوا به من إرشاد الناس ببيت أسست قواعده ورفع بنيانه, وبقي منه موضع به يتم صلاح ذلك البيت. (ابن حجر)

باب: قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: «أنا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النّارِ»


٢١٢٣. (خ م) (٢٢٨٤) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قالَ: «مَثَلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ استَوقَدَ نارًا، فَلَمّا أضاءَت ما حَولَها جَعَلَ الفَراشُ وهَذِهِ الدَّوابُّ الَّتِي فِي النّارِ يَقَعنَ فِيها، وجَعَلَ يَحجُزُهُنَّ ويَغلِبنَهُ فَيَتَقَحَّمنَ فِيها، قالَ: فَذَلكَم مَثَلِي ومَثَلُكُم؛ أنا آخِذٌ بِحُجَزِكُم عَنِ النّارِ؛ (هَلُمَّ عَنِ النّارِ، هَلُمَّ عَنِ النّارِ، فَتَغلِبُونِي) تَقَحَّمُونَ فِيها». وفي رواية: «إنَّما مَثَلي ومَثَلُ أُمَّتِي».
-فيه إشارة إلى أن الإنسان إلى النذير أحوج منه إلى البشير لأن جبلته مائلة إلى الحظ العاجل دون الحظ الآجل. (ابن حجر)
-وفيه ما كان فيه ﷺ من الرأفة والرحمة والحرص على نجاة الأمة. (ابن حجر)
-قوله عن النار وضع المسبب موضع السبب ؛ لأن المراد أنه يمنعهم من الوقوع في المعاصي التي تكون سببا لولوج النار. (ابن حجر)
-ومقصود الحديث أنه ﷺ شبه تساقط الجاهلين والمخالفين بمعاصيهم وشهواتهم في نار الآخرة, وحرصهم على الوقوع في ذلك مع منعه إياهم وقبضه على مواضع المنع منهم بتساقط الفراش في نار الدنيا لهواه وضعف تمييزه, وكلاهما حريص على هلاك نفسه ساع في ذلك لجهله. (النووي)
-قال القاضي أبو بكر ابن العربي : هذا مثل كثير المعاني, والمقصود أن الخلق لا يأتون ما يجرهم إلى النار على قصد الهلكة وإنما يأتونه على قصد المنفعة واتباع الشهوة, كما أن الفراش يقتحم النار لا ليهلك فيها بل لما يعجبه من الضياء, وقيل : إنها تكون في ظلمة فإذا رأت الضياء اعتقدت أنها كوة يظهر منها النور فتقصده لأجل ذلك فتحترق وهي لا تشعر, وهي من شدة طيرانها تجاوزه فتقع في الظلمة فترجع إلى أن تحترق. (ابن حجر)

باب: تَسْلِيمُ الحَجَرِ عَلَيْهِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ


٢١٢٤. (م) (٢٢٧٧) عَنْ جابِرِ بْنِ سَمُرَةَ ﵁ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إنِّي لأَعرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبلَ أن أُبعَثَ، إنِّي لأَعرِفُهُ الآنَ».
-فيه معجزة له ﷺ وفي هذا إثبات التمييز في بعض الجمادات، وهو موافق لقوله تعالى في الحجارة ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا﴾ (ابن حجر)

باب: فِـي مُعْجِزاتِ النَّبِيِّ ﷺ


٢١٢٥. (خ م) (٢٢٧٩) عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ ﵁؛ أنَّ نَبِيَّ اللهِ ﷺ وأَصحابَهُ بِالزَّوراءِ، (قالَ: والزَّوراءُ بِالمَدِينَةِ عِنْدَ السُّوقِ والمَسْجِدِ فِيما ثَمَّه،) دَعا بِقَدَحٍ فِيهِ ماءٌ، فَوَضَعَ كَفَّهُ فِيهِ، فَجَعَلَ يَنبُعُ مِن بَينِ أصابِعِهِ، فَتَوَضَّأَ جَمِيعُ أصحابِهِ، قالَ: قُلتُ: كَم كانُوا يا أبا حَمزَةَ؟ قالَ: كانُوا زُهاءَ الثَّلاثِ مِائَةِ.
ولَهُما عَنهُ؛ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ دَعا بِماءٍ فَأُتِيَ بِقَدَحٍ رَحْراحٍ، فَجَعَلَ القَومُ يَتَوَضَّؤُونَ، فَحَزَرْتُ ما بَينَ السِّتِينَ إلى الثَّمانِينَ. قالَ: فَجَعَلْتُ أنْظُرُ إلى الماءِ يَنْبُعُ مِن بَيْنِ أصابِعِهِ. لَفظُ (خ): ما بَينَ السَّبعِينَ إلى الثَّمانِينَ.
-أكثر العلماء أن معناه أن الماء كان يخرج من نفس أصابعه ﷺ وينبع من ذاتها, قالوا وهو أعظم في المعجزة من نبعه من حجر, ويؤيد هذا أنه جاء في رواية فرأيت الماء ينبع من أصابعه, والثاني يحتمل أن الله كثر الماء في ذاته فصار يفور من بين أصابعه لا من نفسها وكلاهما معجزة ظاهرة وآية باهرة. (النووي)

٢١٢٦. (خ م) (٢٠٣٩) عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ﵄؛ قالَ: لَمّا حُفِرَ الخَندَقُ رَأَيتُ بِرَسُولِ اللهِ ﷺ خَمَصًا، فانكَفَأتُ إلى امرَأَتِي فَقُلتُ لَها: هَل عِندَكِ شَيءٌ؟ فَإنِّي رَأَيتُ بِرَسُولِ اللهِ ﷺ خَمَصًا شَدِيدًا، فَأَخرَجَت لِي جِرابًا فِيهِ صاعٌ مِن شَعِيرٍ، ولَنا بُهَيمَةٌ داجِنٌ، قالَ: فَذَبَحتُها، وطَحَنَت، فَفَرَغَت إلى فَراغِي، فَقَطَّعتُها فِي بُرمَتِها، ثُمَّ ولَّيتُ إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقالَت: لا تَفضَحنِي بِرَسُولِ اللهِ ﷺ ومَن مَعَهُ. قالَ: فَجِئتُهُ فَسارَرتُه، فَقُلتُ: يا رَسُولَ اللهِ؛ إنّا قَد ذَبَحنا بُهَيمَةً لَنا، وطَحَنَت صاعًا مِن شَعِيرٍ كانَ عِندَنا، فَتَعالَ أنتَ فِي نَفَرٍ مَعَكَ، فَصاحَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وقالَ: «يا أهلَ الخَندَقِ؛ إنَّ جابِرًا قَد صَنَعَ لَكُم سُورًا، فَحَيَّ هَلًا بِكُم». وقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لا تُنزِلُنَّ بُرمَتَكُم، ولا تَخبِزُنَّ عَجِينَتَكُم حَتّى أجِيءَ». فَجِئتُ وجاءَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَقدَمُ النّاسَ، حَتّى جِئتُ امرَأَتِي، فَقالَت: بِكَ، وبِكَ. فَقُلتُ: قَد فَعَلتُ الَّذِي قُلتِ لِي، فَأَخرَجتُ لَهُ عَجِينَتَنا فَبَصَقَ فِيها وبارَكَ، ثُمَّ عَمَدَ إلى بُرمَتِنا فَبَصَقَ فِيها وبارَكَ، ثُمَّ قالَ: ادعِي خابِزَةً فَلتَخبِز مَعَكِ، واقدَحِي مِن بُرمَتِكُم ولا تُنزِلُوها، وهُم ألفٌ، فَأُقسِمُ باللهِ لأَكَلُوا حَتّى تَرَكُوهُ وانحَرَفُوا، وإنَّ بُرمَتَنا لَتَغِطُّ كَما هِيَ، وإنَّ عَجِينَتَنا (أو كَما قالَ الضَّحّاكُ) لَتُخبَزُ كَما هُوَ.
وفي رواية (خ): عَن جابِرٍ ﵁ قالَ: إنّا يَومَ الخَندَقِ نَحفِرُ فَعَرَضَت كُديَةٌ شَدِيدَةٌ، فَجاءُوا النَّبِيَّ ﷺ، فَقالُوا: هَذِهِ كُديَةٌ عَرَضَت فِي الخَندَقِ، فَقالَ: «أنا نازِلٌ». ثُمَّ قامَ وبَطنُهُ مَعصُوبٌ بِحَجَرٍ، ولَبِثنا ثَلاثَةَ أيّامٍ لا نَذُوقُ ذَواقًا، فَأَخَذَ النَّبِيُّ ﷺ المِعوَلَ فَضَرَبَ فَعادَ كَثِيبًا أهيَلَ أو أهيَمَ، فَقُلتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ؛ ائذَن لِي إلى البَيتِ، فَقُلتُ لِامرَأَتِي: رَأَيتُ بِالنَّبِيِّ ﷺ شَيئًا ما كانَ فِي ذَلِكَ صَبرٌ، فَعِندَكِ شَيءٌ؟ قالَت: عِندِي شَعِيرٌ وعَناقٌ. فَذَبَحَت العَناقَ، وطَحَنَت الشَّعِيرَ، حَتّى جَعَلنا اللَّحمَ فِي البُرمَةِ، ثُمَّ جِئتُ النَّبِيَّ ﷺ والعَجِينُ قَد انكَسَرَ والبُرمَةُ بَينَ الأَثافِيِّ قَد كادَت أن تَنضَجَ، فَقُلتُ: طُعَيِّمٌ لِي، فَقُم أنتَ يا رَسُولَ اللَّهِ ورَجُلٌ أو رَجُلانِ. قالَ: «كَم هُوَ؟» فَذَكَرتُ لَهُ، قالَ: «كَثِيرٌ طَيِّبٌ» قالَ: «قُل لَها: لا تَنزِع البُرمَةَ ولا الخُبزَ مِن التَّنُّورِ حَتّى آتِيَ». فَقالَ: «قُومُوا» فَقامَ المُهاجِرُونَ والأَنصارُ، فَلَمّا دَخَلَ عَلى امرَأَتِهِ قالَ: ويحَكِ جاءَ النَّبِيُّ ﷺ بِالمُهاجِرِينَ والأَنصارِ ومَن مَعَهُم. قالَت: هَل سَأَلَكَ؟ قُلتُ: نَعَم، فَقالَ: «ادخُلُوا ولا تَضاغَطُوا». فَجَعَلَ يَكسِرُ الخُبزَ ويَجعَلُ عَلَيهِ اللَّحمَ ويُخَمِّرُ البُرمَةَ والتَّنُّور إذا أخَذَ مِنهُ، ويُقَرِّبُ إلى أصحابِهِ، ثُمَّ يَنزِعُ، فَلَم يَزَل يَكسِرُ الخُبزَ ويَغرِفُ حَتّى شَبِعُوا وبَقِيَ بَقِيَّةٌ، قالَ: «كُلِي هَذا وأَهدِي فَإنَّ النّاسَ أصابَتهُم مَجاعَةٌ».
-(فجئته فساررته...) فيه جواز المساررة بالحاجة بحضرة الجماعة, وإنما نهى أن يتناجى اثنان دون الثالث. (النووي)
-تضمن هذا الحديث علمين من أعلام النبوة أحدهما : تكثير الطعام القليل, والثاني علمه ﷺ بأن هذا الطعام القليل الذي يكفي في العادة خمسة أنفس أو نحوهم سيكثر فيكفي ألفا وزيادة, فدعا له ألفا قبل أن يصل إليه, وقد علم أنه صاع شعير وبهيمة والله أعلم. (النووي)
-فائدة ربط الحجر على البطن أنها تضمر من الجوع فيخشى على إنحناء الصلب بواسطة ذلك, فإذا وضع فوقها الحجر وشد عليها العصابة استقام الظهر, وقال الكرماني لعله لتسكين حرارة الجوع ببرد الحجر, ولأنها حجارة رقاق قدر البطن تشد الأمعاء فلا يتحلل شيء مما في البطن, فلا يحصل ضعف زائد بسبب التحلل. (ابن حجر)

٢١٢٧. (خ م) (٢٠٥٦) عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبِي بَكْرٍ ﵄ قالَ: كُنّا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ ثَلاثِينَ ومِائَةً، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «هَل مَعَ أحَدٍ مِنكُم طَعامٌ؟» فَإذا مَعَ رَجُلٍ صاعٌ مِن طَعامٍ أو نَحوُهُ، فَعُجِنَ، ثُمَّ جاءَ رَجُلٌ مُشرِكٌ مُشعانٌّ طَوِيلٌ بِغَنَمٍ يَسُوقُها، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «أبَيعٌ أم عَطِيَّةٌ، أو قالَ: أم هِبَةٌ؟» فَقالَ: لا بَل بَيعٌ. فاشتَرى مِنهُ شاةً، فَصُنِعَت، وأَمَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِسَوادِ البَطنِ أن يُشوى، قالَ: وايمُ اللهِ ما مِن الثَّلاثِينَ ومِائَةٍ إلا حَزَّ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ حُزَّةً حُزَّةً مِن سَوادِ بَطنِها، إن كانَ شاهِدًا أعطاهُ، وإن كانَ غائِبًا خَبَأَ لَهُ، قالَ: وجَعَلَ قَصعَتَينِ فَأَكَلنا مِنهُما أجمَعُونَ، وشَبِعنا، وفَضَلَ فِي القَصعَتَينِ، فَحَمَلتُهُ عَلى البَعِيرِ، أو كَما قالَ.
٢١٢٨. (خ م) (٢٠٥٧) عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبِي بَكْرٍ ﵄؛ أنَّ أصحابَ الصُّفَّةِ كانُوا ناسًا فُقَراءَ، وإنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ مَرَّةً: «مَن كانَ عِندَهُ طَعامُ اثنَينِ فَليَذهَب بِثَلاثَةٍ، ومَن كانَ عِندَهُ طَعامُ أربَعَةٍ فَليَذهَب بِخامِسٍ، بِسادِسٍ». أو كَما قالَ، وإنَّ أبا بَكرٍ جاءَ بِثَلاثَةٍ، وانطَلَقَ نَبِيُّ اللهِ ﷺ بِعَشَرَةٍ، وأَبُو بَكرٍ بِثَلاثَةٍ، قالَ: فَهُوَ وأَنا وأَبِي وأُمِّي، ولا أدرِي هَل قالَ: وامرَأَتِي وخادِمٌ بَينَ بَيتِنا وبَيتِ أبِي بَكرٍ، قالَ: وإنَّ أبا بَكرٍ تَعَشّى عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ، ثُمَّ لَبِثَ حَتّى صُلِّيَت العِشاءُ، ثُمَّ رَجَعَ فَلَبِثَ حَتّى نَعَسَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَجاءَ بَعدَما مَضى مِن اللَّيلِ ما شاءَ اللهُ، قالَت لَهُ امرَأَتُهُ: ما حَبَسَكَ عَن أضيافِكَ، أو قالَت: ضَيفِكَ؟ قالَ: أوَ ما عَشَّيتِهِم؟ قالَت: أبَوا حَتّى تَجِيءَ، قَد عَرَضُوا عَلَيهِم فَغَلَبُوهُم. قالَ: فَذَهَبتُ أنا فاختَبَأتُ، وقالَ: يا غُنثَرُ، فَجَدَّعَ وسَبَّ، وقالَ: كُلُوا لا هَنِيئًا، وقالَ: واللهِ لا أطعَمُهُ أبَدًا. قالَ: فايمُ اللهِ ما كُنّا نَأخُذُ مِن لُقمَةٍ إلا رَبا مِن أسفَلِها أكثَرَ مِنها، قالَ: حَتّى شَبِعنا، وصارَت أكثَرَ مِمّا كانَت قَبلَ ذَلكَ، فَنَظَرَ إلَيها أبُو بَكرٍ فَإذا هِيَ كَما هِيَ أو أكثَرُ، قالَ لامرَأَتِهِ: يا أُختَ بَنِي فِراسٍ؛ ما هَذا؟ قالَت: لا وقُرَّةِ عَينِي، لَهِيَ الآنَ أكثَرُ مِنها قَبلَ ذَلكَ بِثَلاثِ مِرارٍ، قالَ: فَأَكَلَ مِنها أبُو بَكرٍ، وقالَ: إنَّما كانَ ذَلكَ مِن الشَّيطانِ. يَعنِي يَمِينَهُ، ثُمَّ أكَلَ مِنها لُقمَةً، ثُمَّ حَمَلَها إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَأَصبَحَت عِندَهُ، قالَ: وكانَ بَينَنا وبَينَ قَومٍ عَقدٌ، فَمَضى الأجَلُ، فَعَرَّفنا اثنا عَشَرَ رَجُلًا، مَعَ كُلِّ رَجُلٍ مِنهُم أُناسٌ، اللهُ أعلَمُ كَم مَعَ كُلِّ رَجُلٍ؟ إلا أنَّهُ بَعَثَ مَعَهُم، فَأَكَلُوا مِنها أجمَعُونَ، أو كَما قالَ. وفي رواية: فَقالَ أبُو بَكرٍ: فَوَ اللهِ لا أطعَمُهُ اللَّيلةَ، قالَ: فَقالُوا: فَوَ اللهِ لا نَطعَمُهُ حَتّى تَطعَمَهُ. قالَ: فَما رَأَيتُ كالشَرِّ كاللَّيلَةِ قَطُّ، ويلَكُم؛ مالَكُم أن لا تَقبَلُوا عَنّا قِراكُم؟ قالَ: ثُمَّ قالَ: أمّا الأُولى فَمِنَ الشَّيطانِ، هَلُمُّوا قِراكُم. قالَ: فَجِيءَ بِالطَّعامِ، فَسَمّى، فَأَكَلَ وأَكَلُوا، قالَ: فَلَمّا أصبَحَ غَدا عَلى النبيِّ ﷺ، (فَقالَ: يا رَسُولَ اللهِ؛ بَرُّوا وحَنِثتُ. قالَ: فَأَخبَرَهُ، فَقالَ: «بَل أنتَ أبَرُّهُم وأَخيَرُهُم». قالَ: ولَم تَبلُغنِي كَفّارةٌ).
-استحباب إيثار الفقراء بالشبع من الطعام ومواساتهم فيه، فلهذا أمر من كان عنده طعام اثنين أن يذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة أن يذهب بخامس - أو سادس-. (ابن رجب)
-وفي هذا الحديث إشارة إلى أن البركة تتضاعف مع الكثرة والاجتماع على الطعام. (ابن رجب)
-أخذ النبي ﷺ عشرة على قدر قوته على الإيثار، وما خصه الله به من الجود والكرم في اليسر والإعسار. (ابن رجب)
-أنه إذ أتى الأنسان بضيوف إلى منزله، فإنه يجوز له أن يكلهم إلى أهله وولده، ولا يحضر معهم في الأكل؛ فإن في ذلك كفاية إذا وثق من أهله وولده بالقيام بحقهم. (ابن رجب)
-اختصاص أبي بكر بالنبي ﷺ في عشائه عنده، واحتباسه إلى أن يمضي ما شاء الله من الليل. (ابن رجب)
-غضب أبا بكر على ولده؛ لظنه أنه قصر في حق ضيفه، ولم يقم به كما ينبغي. (ابن رجب)
-جواز الإهداء إلى الإخوان الطعام بالليل، مع العلم بأنهم قد تعشوا واكتفوا، وإن أدى ذلك إلى أن يبيت الطعام عندهم. واستمرت هذه الآية في ذلك الطعام حتى أكل منه الجمع الكثير من الغد. (ابن رجب)
-من حلف على يمين، فرأى غيرها خيراً منها، فإنه يأتي الذي هو خير، ولا تحرم عليه يمينه فعل ما حلف على الامتناع منه، وهذا قول جمهور العلماء. (ابن رجب)
-كانت يمين أبي بكر ألا يأكل هذا الطعام في غضب، ولهذا قال: إنما ذلك من الشيطان -يعني: يمينه. (ابن رجب)
-دليل على انعقاد يمين الغضبان. (ابن رجب)
- جواز الحلف بقرة العين؛ فإن امرأة أبي بكر حلفت بذلك، ولم ينكره عليها. وقرة عين المؤمن: هو ربه وكلامه وذكره وطاعته. (ابن رجب)
- جواز السمر عند الأهل والضيف؛ فإن أبا بكر سمر عند أهله وضيفه لما رجع من عند النبي ﷺ بعد أن ذهب من الليل ما ذهب منه. (ابن رجب)

٢١٢٩. (خ م) (٢٠٤٠) عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ ﵁؛ قالَ: قالَ أبُو طَلْحَةَ لأُمِّ سُلَيمٍ: قَد سَمِعتُ صَوتَ رَسُولِ اللهِ ﷺ ضَعِيفًا أعرِفُ فِيهِ الجُوعَ؛ فَهَل عِندَكِ مِن شَيءٍ؟ فَقالَت: نَعَم. فَأَخرَجَت أقراصًا مِن شَعِيرٍ، ثُمَّ أخَذَت خِمارًا لَها فَلَفَّت الخُبزَ بِبَعضِهِ، ثُمَّ دَسَّتهُ تَحتَ ثَوبِي، ورَدَّتنِي بِبَعضِه، ثُمَّ أرسَلَتنِي إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ، قالَ: فَذَهَبتُ بِهِ، فَوَجَدتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ جالِسًا فِي المَسْجِدِ، ومَعَهُ النّاسُ، فَقُمتُ عَلَيهِم، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أرسَلَكَ أبُو طَلْحَةَ؟» قالَ: فَقُلتُ: نَعَم. فَقالَ: «ألِطَعامٍ؟» فَقُلتُ: نَعَم. فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِمَن مَعَهُ: «قُومُوا». قالَ: فانطَلَقَ، وانطَلَقتُ بَينَ أيدِيهِم، حَتّى جِئتُ أبا طَلْحَةَ فَأَخبَرتُهُ، فَقالَ أبُو طَلْحَةَ: يا أُمَّ سُلَيمٍ؛ قَد جاءَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِالنّاسِ، ولَيسَ عِندَنا ما نُطعِمُهُم، فَقالَت: اللهُ ورَسُولُهُ أعلَمُ. قالَ: فانطَلَقَ أبُو طَلْحَةَ حَتّى لَقِيَ رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَأَقبَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مَعَهُ حَتّى دَخَلا، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «هَلُمِّي ما عِندَكِ يا أُمَّ سُلَيمٍ». فَأَتَت بِذَلكَ الخُبزِ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَفُتَّ، وعَصَرَت عَلَيهِ أُمُّ سُلَيمٍ عُكَّةً لَها فَأَدَمَتهُ، ثُمَّ قالَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ ما شاءَ اللهُ أن يَقُولَ، ثُمَّ قالَ: «ائذَن لِعَشَرَةٍ». فَأَذِنَ لَهُم فَأَكَلُوا حَتّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قالَ: «ائذَن لِعَشَرَةٍ». فَأَذِنَ لَهُم فَأَكَلُوا حَتّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قالَ: «ائذَن لِعَشَرَةٍ». حَتّى أكَلَ القَومُ كُلُّهُم وشَبِعُوا، والقَومُ سَبعُونَ رَجُلًا أو ثَمانُونَ. وفي رِوايَةِ (م): فَقامَ أبُو طَلْحَةَ عَلى البابِ حَتّى أتى رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَقالَ لَهُ: يا رَسُولَ اللهِ؛ إنَّما كانَ شَيءٌ يَسِيرٌ. قالَ: «هَلُمَّهُ؛ فَإنَّ اللهَ سَيَجعَلُ فِيهِ البَرَكَةَ».
وفي رواية (م): فَوَضَعَ النَّبِيُّ ﷺ يَدَهُ، وسَمّى عَلَيهِ، ثُمَّ قالَ: «ائذَنْ لِعَشَرَةٍ». فَأَذِنَ لَهُم فَدَخَلُوا، فَقالَ: «كُلُوا، وسَمُّوا اللهَ».
وفي رواية (م): رَأى أبُو طَلْحَةَ رَسُولَ اللهِ ﷺ مُضطَجِعًا فِي المَسْجِدِ يَتَقَلَّبُ ظَهرًا لِبَطنٍ، فَأَتى أُمَّ سُلَيمٍ ...
-فيه دليل على جواز الشبع, وما جاء من النهي عنه محمول على الشبع الذي يثقل المعدة, ويثبط صاحبه عن القيام للعبادة ويفضي إلى البطر والأشر والنوم والكسل, وقد تنتهي كراهته إلى التحريم بحسب ما يترتب عليه من المفسدة. (ابن حجر)
-(أرسلك أبو طلحة فقلت نعم) وقوله (الطعام فقلت نعم) هذان علمان من أعلام النبوة, وذهابه ﷺ بهم علم ثالث كما سبق وتكثير الطعام علم رابع. (النووي)
-ابتلاء الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه والاختبار بالجوع وغيره من المشاق ليصبروا فيعظم أجرهم ومنازلهم -وفيه ما كانوا عليه من كتمان ما بهم. (النووي)
-وفيه ما كانت الصحابة رضي الله عنهم عليه من الاعتناء بأحوال رسول الله ﷺ. (النووي)
-وفيه استحباب بعث الهدية وإن كانت قليلة بالنسبة إلى مرتبة المبعوث إليه لأنها وإن قلت فهي خير من العدم. (النووي)
-وفيه جلوس العالم لأصحابه يفيدهم ويؤدبهم واستحباب ذلك في المساجد. (النووي)
-وفيه انطلاق صاحب الطعام بين يدي الضيفان وخروجه ليتلقاهم. (النووي)
-وفيه منقبة لأم سليم رضي الله عنها ودلالة على عظيم فقهها ورجحان عقلها لقولها " الله ورسوله أعلم " ومعناه : أنه قد عرف الطعام فهو أعلم بالمصلحة, فلو لم يعلمها في مجيء الجمع العظيم لم يفعلها فلا تحزن من ذلك. (النووي)
-إنما أذن لعشرة عشرة ليكون أرفق بهم؛ فإن القصعة التي فت فيها تلك الأقراص لا يتحلق عليها أكثر من عشرة إلا بضرر يلحقهم لبعدها عنهم والله أعلم. (النووي)

٢١٣٠. (م) (٢٢٨٠) عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ﵄؛ أنَّ أُمَّ مالِكٍ كانَت تُهدِي لِلنَّبِيِّ ﷺ فِي عُكَّةٍ لَها سَمنًا، فَيَأتِيها بَنُوها فَيَسأَلُونَ الأُدمَ ولَيسَ عِندَهُم شَيءٌ، فَتَعمِدُ إلى الَّذِي كانَت تُهدِي فِيهِ لِلنَّبِيِّ ﷺ فَتَجِدُ فِيهِ سَمنًا، فَما زالَ يُقِيمُ لَها أُدمَ بَيتِها حَتّى عَصَرَتهُ، فَأَتَتِ النَّبِيَّ ﷺ فَقالَ: «عَصَرتِيها؟» قالَت: نَعَم. قالَ: «لَو تَرَكتِيها ما زالَ قائِمًا».
٢١٣١. (م) (٢٢٨١) عَنْ جابِرٍ ﵁؛ أنَّ رَجُلًا أتى النَّبِيَّ ﷺ يَستَطعِمُهُ فَأَطعَمَهُ شَطرَ وسقِ شَعِيرٍ، فَما زالَ الرَّجُلُ يَأكُلُ مِنهُ وامرَأَتُهُ وضَيفُهُما حَتّى كالَهُ، فَأَتى النَّبِي ﷺ فَقالَ: «لَو لَم تَكِلهُ لأَكَلتُم مِنهُ ولَقامَ لَكُم».
٢١٣٢. (م) (٧٠٦) عَنْ مُعاذِ بْنِ جَبَلٍ ﵁ قالَ: خَرَجنا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ عامَ غَزوَةِ تَبُوكَ، فَكانَ يَجمَعُ الصَّلاةَ، فَصَلّى الظُّهرَ والعَصرَ جَمِيعًا، والمَغرِبَ والعِشاءَ جَمِيعًا، حَتّى إذا كانَ يَومٌ أخَّرَ الصَّلاةَ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلّى الظُّهرَ والعَصرَ جَمِيعًا، ثُمَّ دَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ بَعدَ ذَلكَ فَصَلّى المَغرِبَ والعِشاءَ جَمِيعًا، ثُمَّ قالَ: «إنَّكُم سَتَأتُونَ غَدًا إن شاءَ اللهُ عَينَ تَبُوكَ، وإنَّكُم لَن تَأتُوها حَتّى يُضحِيَ النَّهارُ، فَمَن جاءَها مِنكُم فَلا يَمَسَّ مِن مائِها شَيئًا حَتّى آتِيَ». فَجِئناها وقَد سَبَقَنا إلَيها رَجُلانِ، والعَينُ مِثلُ الشِّراكِ تَبِضُّ بِشَيءٍ مِن ماءٍ، قالَ: فَسَأَلَهُما رَسُولُ اللهِ ﷺ: «هَل مَسَستُما مِن مائِها شَيئًا؟» قالا: نَعَم. فَسَبَّهُما النَّبِيُّ ﷺ وقالَ لَهُما ما شاءَ اللهُ أن يَقُولَ، قالَ: ثُمَّ غَرَفُوا بِأَيدِيهِم مِنَ العَينِ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتّى اجتَمَعَ في شَيءٍ، قالَ: وغَسَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِيهِ يَدَيهِ ووَجهَهُ، ثُمَّ أعادَهُ فِيها، فَجَرَتِ العَينُ بِماءٍ مُنهَمِرٍ أو قالَ غَزِيرٍ حَتّى استَقى النّاسُ، ثُمَّ قالَ: «يُوشِكُ يا مُعاذُ إن طالَت بِكَ حَياةٌ أن تَرى ما هاهُنا قَد مُلِئَ جِنانًا».
-فيه الجمع بين الصلاتين في السفر. (النووي)
-المعجزة الظاهرة في تكثير الماء. (النووي)

٢١٣٣. (خ) (٣٥٧٩) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ ﵁ قالَ: كُنّا نَعُدُّ الآياتِ بَرَكَةً، وأَنتُم تَعُدُّونَها تَخوِيفًا، كُنّا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي سَفَرٍ فَقَلَّ الماءُ، فَقالَ: «اطلُبُوا فَضلَةً مِن ماءٍ». فَجاءُوا بِإناءٍ فِيهِ ماءٌ قَلِيلٌ، فَأَدخَلَ يَدَهُ فِي الإناءِ، ثُمَّ قالَ: «حَيَّ عَلى الطَّهُورِ المُباركِ، والبَرَكَةُ مِن اللهِ». فَلَقَد رَأَيتُ الماءَ يَنبُعُ مِن بَينِ أصابِعِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، ولَقَد كُنّا نَسمَعُ تَسبِيحَ الطَّعامِ وهُوَ يُؤكَلُ.
-قوله بركة وأنتم تعدونها تخويفا: الذي يظهر أنه أنكر عليهم عد جميع الخوارق تخويفا, وإلا فليس جميع الخوارق بركة فإن التحقيق يقتضي عد بعضها بركة من الله كشبع الخلق الكثير من الطعام القليل, وبعضها بتخويف من الله ككسوف الشمس والقمر, كما قال ﷺ: " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده", وكأن القوم الذين خاطبهم عبد الله بن مسعود بذلك تمسكوا بظاهر قوله تعالى {وما نرسل بالآيات إلا تخويفا} (ابن حجر)
-والحكمة في طلبه ﷺ في هذه المواطن فضلة الماء ؛ لئلا يظن أنه الموجد للماء, ويحتمل أن يكون إشارة إلى أن الله أجرى العادة في الدنيا غالبا بالتوالد, وأن بعض الأشياء يقع بينها التوالد وبعضها لا يقع, ومن جملة ذلك ما نشاهده من فوران بعض المائعات إذا خمرت وتركت زمانا, ولم تجر العادة في الماء الصرف بذلك فكانت المعجزة بذلك ظاهرة جدا. (ابن حجر)

باب: انْشِقاقُ القَمَرِ


٢١٣٤. (خ م) (٢٨٠٠) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ ﵁؛ قالَ: بَينَما نَحنُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ بِمِنىً إذا انفَلَقَ القَمَرُ فِلقَتَينِ، فَكانَت فِلقَةٌ وراءَ الجَبَلِ، وفِلقَةٌ دُونَهُ، فَقالَ لَنا رَسُولُ اللهِ ﷺ: «اشهَدُوا».
٢١٣٥. (خ م) (٢٨٠٢) عَنْ أنَسٍ ﵁؛ أنَّ أهلَ مَكَّةَ سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ ﷺ أن يُرِيَهُم آيَةً، فَأَراهُم انشِقاقَ القَمَرِ (مَرَّتَينِ). لَفظُ (خ): شِقَّتَينِ، حَتّى رَأَوا حِراءَ بَينَهُما.
- تأييد الله تعالى لنبيه ﷺ بالمعجزات الدالة على نبوته، وقد رأى مشركو مكة الكثير منها، ومنها انشقاق القمر نصفين، فلم يكذبوا رؤيتهم للقمر منشقاً، ولم يجدوا أما هذه الآية الباهرة إلا أن يتهموا النبي ﷺ بالسحر ويمعنوا في عنادهم واستكبارهم.
- انشقاق القمر آية عظيمة؛ وذلك أنه ظهر في ملكوت السماء خارجاً من جبلة طباع ما في هذا العالم، فليس مما يطمع في الوصول إليه بحيلة، فلذلك صار البرهان به أظهر. (الخطابي)

باب: مَنعُ النَّبِيِّ ﷺ مِمَّنْ هَمَّ بِأَذاهُ وقَتْلِهِ وشَتْمِهِ


٢١٣٦. (م) (٢٧٩٧) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁ قالَ: قالَ أبُو جَهلٍ: هَل يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وجهَهُ بَينَ أظهُرِكُم؟ قالَ: فَقِيلَ: نَعَم. فَقالَ: واللاتِ والعُزّى لَئِن رَأَيتُهُ يَفعَلُ ذَلكَ لأَطَأَنَّ عَلى رَقَبَتِهِ، أو لأُعَفِّرَنَّ وجهَهُ فِي التُّرابِ. قالَ: فَأَتى رَسُولَ اللهِ ﷺ وهُوَ يُصَلِّي، زَعَمَ لِيَطَأَ عَلى رَقَبَتِهِ، قالَ: فَما فَجِئَهُم مِنهُ إلا وهُوَ يَنكُصُ عَلى عَقِبَيهِ، ويَتَّقِي بِيَدَيهِ، قالَ: فَقِيلَ لَهُ: ما لَكَ؟ فَقالَ: إنَّ بَينِي وبَينَهُ لَخَندَقًا مِن نارٍ وهَولًا وأَجنِحَةً. فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَو دَنا مِنِّي لاختَطَفَتهُ المَلائِكَةُ عُضوًا عُضوًا». (قالَ: فَأَنزَلَ اللهُ ﷿ لا نَدرِي فِي حَدِيثِ أبِي هُرَيرَة أو شَيءٌ بَلَغَهُ: ﴿كَلاَّ إنَّ الإنسانَ لَيَطْغى (٦) أن رَّآهُ اسْتَغْنى (٧) إنَّ إلى رَبِّكَ الرُّجْعى (٨) أرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْدًا إذا صَلّى (١٠) أرَأَيْتَ إن كانَ عَلى الهُدى (١١) أوْ أمَرَ بِالتَّقْوى (١٢) أرَأَيْتَ إن كَذَّبَ وتَوَلّى﴾ [العلق: ٦-١٣] يَعنِي أبا جَهلٍ ﴿ألَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (١٤) كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنّاصِيَةِ (١٥) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٨) كَلاَّ لا تُطِعْهُ واسْجُدْ واقْتَرِبْ﴾ [العلق: ١٤-١٩]، قالَ: وأَمَرَهُ بِما أمَرَهُ بِهِ). وفي رواية (م): ﴿فَلْيَدْعُ نادِيَهُ؛ يَعنِي: قَومَهُ. لَفظُ (خ) مُختَصَرٌ جِدًا: عَن ابْنِ عَبّاسٍ ﵄ قالَ: قالَ أبُو جَهلٍ: لَئِن رَأَيتُ مُحمَّدًا يُصلِّي عِنْدَ الكَعبَةِ لَأَطَأنّ عَلى عُنُقِهِ. فَبَلَغَ النَّبِيَّ ﷺ فَقالَ: «لَو فَعَلَهُ لَأخَذَتهُ المَلائِكَةُ».
-شدة عداوة أبي جهل للنبي ﷺ وشتمه وتكذيبه وإيذاؤه له بالقول والفعل.
-قوله ﷺ : " لو دنا منى لاختطفته الملائكة عضواً عضواً ": هذا من جملة آياته - عليه السلام - وعلامات نبوته؛ ولهذا الحديث أمثلة كثيرة في عصمته من أبى جهل وغيره ممن أراد ضره، وحماية الله له بما ذكر، مما أراه الله من خنادق النار وأجنحة الملائكة - والله أعلم.(القاضي عياض)
- فيه ما يشد قلوب المؤمنين، وأن الله سبحانه وتعالى أخر ذلك عن الكافر إلى يوم بدر نقلا إلى أيدي المؤمنين ليسلمه الله سبحانه للمؤمنين ؛ ليواف قتله يوم بدر، فنزلت فيه هذه الآيات. (ابن هبيرة)

٢١٣٧. (خ م) (٢١٩٠) عَنْ أنَسٍ ﵁؛ أنَّ امرَأَةً يَهُودِيَّةً أتَت رَسُولَ اللهِ ﷺ بِشاةٍ مَسمُومَةٍ، فَأَكَلَ مِنها، فَجِيءَ بِها إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ، (فَسَأَلَها عَن ذَلكَ، فَقالَت: أرَدتُ لأَقتُلَكَ. قالَ: «ما كانَ اللهُ لِيُسَلِّطَكِ عَلى ذاكِ، قالَ: أو قالَ: عَلَيَّ»). قالَ: قالُوا: ألا نَقتُلُها؟ قالَ: «لا». قالَ: فَما زِلتُ أعرِفُها فِي لَهَواتِ رَسُولِ اللهِ ﷺ. ورَوى (خ) -مُعَلَّقًا- عَن عائِشَةَ ﵂ قالَت: كانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي ماتَ فِيهِ: «يا عائِشَةُ؛ ما أزالُ أجِدُ ألَمَ الطَّعامِ الَّذِي أكَلتُ بِخَيبرَ، فَهَذا أوانُ وجَدتُ انقِطاعَ أبْهَرِي مِن ذَلكَ السُّمِّ».
-فيه قبول هدية أهل الكتاب والأكل من طعامهم. (موسى لاشين)
-فيه بيان عصمته ﷺ من الناس، كما قال تعالى: {والله يعصمك من الناس}، وهي معجزة لرسول الله ﷺ في سلامته من السم المهلك لغيره، وفي إعلام الله تعالى له بأنها مسمومة وكلام عضو منه له.
-لم يقتل ﷺ هذه اليهودية في الحال؛ لأنه كان لا ينتقم لنفسه ﷺ.
أن الله عز وجل جمع للنبي ﷺ إلى منصب النبوة مقام الشهادة, ولذلك كان يقول ابن مسعود رضي الله عنه : إنه - ﷺ - مات شهيداً من ذلك السم، وهذا قاله في مرض موته. (الصنعاني)

٢١٣٨. (خ) (٣١٦٩) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁ قالَ: لَمّا فُتِحَت خَيبَرُ أُهدِيَت لِلنَّبِيِّ ﷺ شاةٌ فِيها سُمٌّ، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «اجمَعُوا إلَيَّ مَن كانَ ها هُنا مِن يَهُودَ». فَجُمِعُوا لَهُ، فَقالَ: «إنِّي سائِلُكُم عَن شَيءٍ؛ فَهَل أنتُم صادِقِيَّ عَنهُ؟» فَقالُوا: نَعَم. قالَ لَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ: «مَن أبُوكُم؟» قالُوا: فُلانٌ. فَقالَ: «كَذَبتُم، بَل أبُوكُم فُلانٌ». قالُوا: صَدَقتَ. قالَ: «فَهَل أنتُم صادِقِيَّ عَن شَيءٍ إن سَأَلتُ عَنهُ؟» فَقالُوا: نَعَم، يا أبا القاسِمِ، وإن كَذَبنا عَرَفتَ كَذِبَنا كَما عَرَفتَهُ فِي أبِينا. فَقالَ لَهُم: «مَن أهلُ النّارِ؟» قالُوا: نَكُونُ فِيها يَسِيرًا، ثُمَّ تَخلُفُونا فِيها. فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «اخسَئُوا فِيها، واللهِ لا نَخلُفُكُم فِيها أبَدًا». ثُمَّ قالَ: «هَل أنتُم صادِقِيَّ عَن شَيءٍ إن سَأَلتُكُم عَنهُ؟» فَقالُوا: نَعَم، يا أبا القاسِمِ. قالَ: «هَل جَعَلتُم فِي هَذِهِ الشّاةِ سُمًّا؟» قالُوا: نَعَم. قالَ: «ما حَمَلَكُم عَلى ذَلكَ؟» قالُوا: أرَدنا إن كُنتَ كاذِبًا نَستَرِيحُ، وإن كُنتَ نَبِيًّا لَم يَضُرَّكَ.
- إطلاع الله تعالى لنبيه ﷺ على الأمور الغيبية.
- معاندة اليهود وكذبهم.
- قولهم : (ثم تخلفوننا): دعوى كاذبة باطلة منهم، هم لا يخرجون منها، فلا يمكِن فيهم الإخْلاف، والعُصاة من المُؤْمنين الموحدين وإنْ دخَلوا النَّارَ لكنَّهم يخرُجون منها قطْعًا، فافتَرق الفريقان.(البرماوي)

٢١٣٩. (خ) (٣٥٣٣) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «ألا تَعجَبُونَ كَيفَ يَصرِفُ اللهُ عَنِّي شَتمَ قُرَيشٍ ولَعنَهُم؟ يَشتِمُونَ مُذَمَّمًا، ويَلعَنُونَ مُذَمَّمًا، وأَنا مُحَمَّدٌ».
- أن الله سبحانه وتعالى صرف عن رسول الله ﷺ شر قريش.
- تنزيه اسم النبي ﷺ من أن يعلق به أذى مشرك.
- من صور حماية الله لنبيه ﷺ، وكفايته إياه استهزاء المستهزئين أن يصرف الشتيمة والذم والاستهزاء إلى غيره, فإذا بالشاتم يريد أن يشتمه فيشتم غيره من حيث لا يشعر، قال ابن حجر: كان الكفار من قريش من شدة كراهتهم في النبي ﷺ لا يسمونه باسمه الدال على المدح، فيعدلون إلى ضده فيقولون: مذمم، وإذا ذكروه بسوء قالوا: فعل الله بمذمم. ومذمم ليس اسمه، ولا يعرف به، فكان الذي يقع منهم مصروفًا إلى غيره!

باب: فِـي إصابَةِ النَّبِيِّ ﷺ فِـي الخَرْصِ


٢١٤٠. (خ م) (١٣٩٢) عَنْ أبِي حُمَيْدٍ ﵁ قالَ: خَرَجنا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ غَزوَةَ تَبُوكَ، فَأَتَينا وادِيَ القُرى عَلى حَدِيقَةٍ لامرَأَةٍ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «اخرُصُوها». فَخَرَصناها، وخَرَصَها رَسُولُ اللهِ ﷺ عَشَرَةَ أوسُقٍ، وقالَ: «أحصِيها حَتّى نَرجِعَ إلَيكِ إن شاءَ اللهُ». وانطَلَقنا حَتّى قَدِمنا تَبُوكَ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «سَتَهُبُّ عَلَيكُم اللَّيلَةَ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، فَلا يَقُم فِيها أحَدٌ مِنكُم، فَمَن كانَ لَهُ بَعِيرٌ فَليَشُدَّ عِقالَهُ». فَهَبَّت رِيحٌ شَدِيدَةٌ، فَقامَ رَجُلٌ فَحَمَلَتهُ الرِّيحُ حَتّى ألقَتهُ بِجَبَلَي طَيِّئٍ، وجاءَ رَسُولُ ابنِ العَلماءِ صاحِبِ أيلَةَ إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ بِكِتابٍ، وأَهدى لَهُ بَغلَةً بَيضاءَ، فَكَتَبَ إلَيهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وأَهدى لَهُ بُردًا، ثُمَّ أقبَلنا حَتّى قَدِمنا وادِيَ القُرى، فَسَأَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ المَرأَةَ عَن حَدِيقَتِها: «كَم بَلَغَ ثَمَرُها؟» فَقالَت: عَشَرَةَ أوسُقٍ. فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إنِّي مُسرِعٌ، فَمَن شاءَ مِنكُم فَليُسرِع مَعِيَ، ومَن شاءَ فَليَمكُث». فَخَرَجنا حَتّى أشرَفنا عَلى المَدِينَةِ، فَقالَ: «هَذِهِ طابَةُ، وهَذا أُحُدٌ، وهُوَ جَبَلٌ يُحِبُّنا ونُحِبُّهُ». ثُمَّ قالَ: «إنَّ خَيرَ دُورِ الأَنصارِ دارُ بَنِي النَّجّارِ، ثُمَّ دارُ بَنِي عَبدِ الأَشهَلِ، ثُمَّ دارُ بَنِي عَبدِ الحارِثِ بْنِ الخَزرَجِ، ثُمَّ دارُ بَنِي ساعِدَةَ، وفِي كُلِّ دُورِ الأَنصارِ خَيرٌ». فَلَحِقَنا سَعدُ بنُ عُبادَةَ، فَقالَ أبُو أُسَيدٍ: ألَم تَرَ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ خَيَّرَ دُورَ الأَنصارِ فَجَعَلَنا آخِرًا. فَأَدرَكَ سَعدٌ رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَقالَ: يا رَسُولَ اللهِ؛ خَيَّرتَ دُورَ الانصارِ فَجَعَلتَنا آخِرًا. فَقالَ: «أوَ لَيسَ بِحَسبِكُم أن تَكُونُوا مِن الخِيارِ؟».
لَفظُ (خ): «إني مُتَعَجِّلٌ إلى المَدِينَةِ، فَمَن أرادَ مِنكُم أن يَتَعَجَّلَ مَعِي فَليَتَعَجَّل».
-فيه مشروعية الخرص.
-في طلبه ﷺ أن يخرص أصحابه ثمر نخل الحديقة استحباب امتحان العالم أصحابه بمثل هذا التمرين.(النووي)
-في خرصه ﷺ وصحته ودقته ما كان عليه ﷺ من العلم وبعد النظر.(موسى لاشين)
-إخباره ﷺ عن الريح في تلك الليلة من أعلام النبوة.(ابن حجر)
-فيه تدريب الأتباع وتعليمهم أمور الدنيا كما يعلمهم أمور الآخرة (ابن الملقن)
-أخذ الحذر مما يتوقع الخوف منه (ابن حجر)
-فيه ما كان عليه ﷺ من الشفقة على أمته والرحمة لهم والاعتناء بمصالحهم، وتحذيرهم ما يضرهم في دين أو دنيا. (النووي)
-فيه قبول هدية الكافر. (النووي)
-مشروعية الهدية والمكافأة عليها (ابن حجر)
-فضل المدينة وميزة جبل أحد وتفاضل قبائل الأنصار ومناقبهم رضي الله عنهم. (ابن حجر، موسى لاشين)
-مشروعية المفاضلة بين الفضلاء بالإجمال والتعيين (ابن حجر)
-تفضيل بني النجار لسبقهم في الإسلام وآثارهم الجميلة في الدين.(النووي)
في سؤال سعد رضي الله عنه ما يدل على تنافسهم في الخير.(موسى لاشين)

باب: كانَ النَّبِيُّ ﷺ أعْلَمَهُم بِاللهِ وأَشدَّهُمْ لَهُ خَشْيَةً


٢١٤١. (خ م) (٢٣٥٦) عَنْ عائِشَةَ ﵂ قالَت: صَنَعَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أمرًا، فَتَرَخَّص فِيهِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ َناسًا مِن أصحابِهِ، فَكَأنّهُم كَرِهُوهُ وتَنَزَّهُوا عَنَه، فَبَلَغَهُ ذَلكَ فَقامَ خَطِيبًا فَقالَ: «ما بالُ رِجالٍ بَلَغَهُم عَنِّي أمرٌ تَرخَّصت فيهِ فَكَرِهُوهُ، وتَنَزَّهُوا عَنهُ، فوَ اللهِ لأَنا أعلَمُهُم باللهِ، وأَشَدُّهُم لَهُ خَشيَةً». وفي رواية (م) زادَ: فَبَلَغَ ذَلكَ النَّبِيَّ ﷺ فَغَضِبَ، حَتّى بانَ الغَضَبُ فِي وجهِهِ. لَفظُ (خ): فَخَطَبَ فَحَمِدَ اللهَ، ثُمَّ قالَ: «ما بالُ أقوامٍ يَتَنَزَّهُون عَنِ الشَّيءِ أصنَعُهُ ...».
- فيه حسن معاشرته ﷺ ورفقه بأمته وحرصه على التخفيف عنهم، فلذلك خفف عنهم العتاب، ولم يواجههم به، بل يرسل التعزير والإنكار في الجمع ولا يعين فاعله، فيقال: ما بال أقوام ونحو ذلك، هذا إِذا كَانَ فِي خَاصَّة نَفسه: كالصبر على جهل الْجُهَّال وجفاء الْأَعْرَاب، وَأما إِذا انتهكت من الدّين حُرْمَة فَإِنَّهُ لَا يتْرك العتاب عَلَيْهَا, والتقريع فِيهَا (النووي)
- التنزه عما ترخص به الشارع من أعظم الذنوب. (ابن الملقن)
- في الحديث حث على الاقتداء به - ﷺ -، والنهي عن التعمق في العبادة، وذم المتنزه عن المباح شكا في إباحته. (النووي)
- فيه أن القرب إلى الله سبب لزيادة الخشية (النووي)
- فيه أن التقوى والخشية عمدتها ما وقع في القلوب من معرفة الله والإيمان به تعالى, لا كثرة الأعمال وترك المباحات، كما دل له صدر الحديث فإنه لما كان - ﷺ - لا يعرف الله أحدُ معرفته, ولا يؤمن أحد إيمانه كان أتقى الناس وأخشاهم له. (النووي)
- فيه الغضب عند انتهاك حرمات الشرع، وإن كان المنتهك متأولا ً تأويلاً باطلاً. (النووي)
- كان ﷺ يغضب من ذلك غضبا شديدا لما في هذا الظن من القدح في هديه ومتابعته والاقتداء به.(ابن رجب)
- قَوْله ﷺ : إِنِّي لأعلمهم إِشَارَة إِلَى الْقُوَّة العلمية. قَوْله: وأشدهم لَهُ خشيَة إِشَارَة إِلَى الْقُوَّة العملية.(العيني)
- قَدَّمَ الْعِلْمَ عَلَى الْخَشْيَةِ لِأَنَّهَا نَتِيجَتُهُ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (القاري)
- (فوَ اللهِ لأَنَا أَعلَمُهُم باللهِ، وَأَشَدُّهُم لَهُ خَشيَةً ) قاله بيانًا لا تزكية - ﷺ - وهو الزكي - ﷺ -.(ابن باز)
- فيه أن الرجل يجوز له الإخبار بفضيلته إذا دعت الحاجة لذلك. (النووي)

باب: بُعْدُ النَّبِيِّ ﷺ مِنَ الآثامِ وقِيامُهُ لِـمَحارِمِ اللهِ تَعالى


٢١٤٢. (خ م) (٢٣٢٧) عَنْ عائِشَةَ ﵂ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ قالَت: ما خُيِّرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بَينَ أمرَينِ إلا أخَذَ أيسَرَهُما ما لَم يَكُن إثمًا، فَإن كانَ إثمًا كانَ أبعَدَ النّاسِ مِنهُ، وما انتَقَمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِنَفسِهِ إلا أن تُنتَهَكَ حُرمَةُ اللهِ ﷿. وفي رواية (م): قالَت: ما ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ شَيئًا قَطُّ بِيَدِهِ، ولا امرَأَةً، ولا خادِمًا، إلاَّ أن يُجاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وما نِيلَ مِنهُ شَيءٌ قَطُّ فَيَنتَقِمَ مِن صاحِبِهِ إلاَّ أن يُنتَهَكَ شَيءٌ مِن مَحارِمِ اللهِ فَيَنتقِمَ للهِ ﷿.
- قال عياض: ويحتمل أن يكون التخيير هنا من الله تعالى مما فيه عقوبتان، أو فيما بينه وبين الكفار من القتال وأخذ الجزية، أو فيما يخيره فيه المنافقون من المواعدة والمحاربة ، أو أمته من الشدة في العبادة أو القصد وكان يذهب في كل هذا إلى اليسر.
- فيه أن المرءَ ينبغي له ترك ما عسر من أمور الدنيا والآخرة، وترك الإلحاح فيه إذا لم يضطر إليه، والميلُ إلى اليسر. (ابن الملقن)
- ينْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى الرُّخْصَةِ وَالسَّعَةِ مَا لَمْ يَخَفِ الْمَأْثَمَ. (ابن عبد البر)
- فيه الأخذ برخص الله ورسوله والعلماء ما لم يكن القول خطأ بيناً. (ابن الملقن)
- فيه أن للعالم أن يعفو إن أحب أن يتأسى بالرسول ﷺ، وأن على العالم أن يغضب عند المنكر ويغيره إذا لم يكن لنفسه. (ابن الملقن)
- فيه دليل على جواز ضرب النساء والخدم للأدب؛ إذ لو لم يكن مباحًا لم يتحرج بالتنزه عنه. (القاضي عياض)
- فيه ما كان عليه ﷺ من الحلم والصبر، وما كان عليه السلام من القيام بالحق والصلابة فيه، وهذا هو الخلق الحسن المحمود، فإنه لو كان يترك ذلك كله في حق الله تعالى وفى حق غيره كان ضعفاً ومهانة، ولو كان ينتقم أيضاً لنفسه في كل شيء لم يكن ثَمَّ صبر ولا حلم ولا احتمال، وكان هذا الخلق بطشًا وانتقامًا، فانتفى عنه الطرفان المذمان، وبقي وسطها وأعدلها وأكملها, وخيرها. (القاضي عياض)
- قَوْلُهَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «إلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةٌ لِلَّهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ بِهَا» يُرِيدُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يُؤْذَى أَذًى فِيهِ غَضَاضَةٌ عَلَى الدِّينِ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ انْتِهَاكًا لِحُرُمَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ بِذَلِكَ إعْظَامًا لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى. (الباجي)
- فيه استحباب الْأَخْذ بالأيسر والأرفق مالم يكن حراماً أو مكروهاً.(النووي)
- فيه أَنه يسْتَحبّ للحكام والأئمة والقضاة التخلق بِهَذَا الْخلق الْكَرِيم فَلَا ينْتَقم لنَفسِهِ وَلَا يهمل حق الله تَعَالَى، قال القاضي عياض: وقد أجمع العلماء على أن القاضي لا يقضي لنفسه، ولا لمن لا يجوز شهادته له. ( النووي )
- النَّدْبُ إِلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَمَحَلُّهُ مَا لَمْ يُفْضِ إِلَى مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ. (الزرقاني)
- استحباب العفو وترك الانتقام للنفس.

باب: قَوْلُهُ ﷺ: «أفَلا أكُونُ عَبْدًا شَكُورًا»


٢١٤٣. (خ م) (٢٨١٩) عَنِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ﵁؛ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَلّى حَتّى انتَفَخَت قَدَماهُ، فَقِيلَ لَهُ: أتَكَلَّفُ هَذا، وقَد غَفَرَ اللهُ لَكَ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وما تَأَخَّرَ؟ فَقالَ: «أفَلا أكُونُ عَبدًا شَكُورًا».
ولَهُما عَن عائِشَةَ نَحوُهُ، وفِيهِ: حَتّى تَفَطَّرَ رِجلاهُ، قالَت عائِشَةُ: أتَصْنَعُ هَذا ... نَحْوُهُ.
-فيه: أنه كان يفعل من العبادة ما ينهى عنه أمته؛ لعلمه بقوة نفسه؛ ولما لا يخشى عليه من الملول في ذلك.(ابن الملقن)
-أخبر ﷺ أن عبادته شكر لمولاه على غفرانه له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. (الصنعاني)
-ظَنَّ مَنْ سَأَلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ سَبَبِ تَحَمُّلِهِ الْمَشَقَّةَ فِي الْعِبَادَةِ أَنَّ سَبَبَهَا إِمَّا خَوْفُ الذَّنْبِ، أَوْ رَجَاءُ الْمَغْفِرَةِ، فَأَفَادَهُمْ أَنَّ لَهَا سَبَبًا آخَرَ أَتَمَّ وَأَكْمَلَ، وَهُوَ الشُّكْرُ عَلَى التَّأَهُّلِ لَهَا مَعَ الْمَغْفِرَةِ وَإِجْزَالِ النِّعْمَةِ. (ابن حجر)
-فيه أن غضبه ﷺ من قولهم دليل أنه لا يجب أن يَتَّكل العامل على عمله، وأن يكون بين الرجاء والخوف. (ابن بطال)
-فيه: أن السجود والصلاة شكر النعم.(ابن الملقن)
-فيه: أَخْذ الإنسان على نفسه بالشدة في العبادة وإن أضر ذلك ببدنه؛ لأنه حلال، وله أن يأخذ بالرخصة، ويكلف نفسه ما عفت له به وسمحت، إِلَّا أَن الْأَخْذ بالشدة أفضل ؛ لِأَنَّهُ إِذا فعل - ﷺ َ - وَقد غفر لَهُ فَكيف من لم يعلم أَنه اسْتحق النَّار أم لَا (ابن بطال)
-أن أولى العباد بالاجتهاد في العبادة الأنبياء؛ لما حباهم به من معرفته، فهم دائبون في شكره معترفون له بالتقصير ولا يُدلّون عليه بالأعمال؛ مستكنون خاشعون. (ابن الملقن)
-كان اجتهاده ﷺ في الدعاء والاعتراف بالذل والتقصير والإقرار بالافتقار إلى الله شكرًا لربه، كما كان اجتهاده حتى ترم قدماه شكرًا لربه، إذ الدعاء لله من أعظم العبادة له، وليسُن ذلك لأمته فيستشعروا الخوف والحذر، ولا يركنوا إلى الأمن، وإن كثرت أعمالهم وعبادتهم إلى الله تعالى.
-فيه من الفقه: أن الرجل الصالح يلزمه من التقوى والخشية ما يلزم المذنب التائب، لا يُؤَمِّن الصالح صلاحه، ولا يوئس المذنب ذنبه ويقنطه، بل الكل خائف راجٍ، وكذلك أراد تعالى أن يكون عباده واقفين تحت الخوف والرجاء اللذين ساس بهما خلقه سياسة حكمة لا انفكاك منها. (ابن بطال)
-قال طلق بن حبيب: إن حقوق الله أعظم من أن يقوم بها العباد، ونعمه أكثر من أن تحصى ولكن أصبحوا قانتين وأمسوا تائبين، وهذا كله مفهوم من قوله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء}.
-أَن الشُّكْر يكون بِالْعَمَلِ كَمَا يكون بِاللِّسَانِ وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {اعْمَلُوا آل دَاوُد شكرا} فَإِذا وَفقه الله تَعَالَى لعمل صَالح شكر ذَلِك بِعَمَل آخر, ثمَّ يكون شكر ذَلِك الْعمل الثَّانِي بِعَمَل آخر ثَالِث فيتسلسل ذَلِك إِلَى غير نِهَايَة. (العيني)

باب: فِـي حَوْضِ النَّبِيِّ ﷺ


٢١٤٤. (خ م) (٢٢٩٠) عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ﵁؛ قالَ: سَمِعتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «أنا فَرَطُكُم عَلى الحَوضِ، مَن ورَدَ شَرِبَ، ومَن شَرِبَ لَم يَظمَأ أبَدًا، ولَيَرِدَنَّ عَلَيَّ أقوامٌ أعرِفُهُم ويَعرِفُونِي، ثُمَّ يُحالُ بَينِي وبَينَهُم». وعَن أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ ﵁ يَزِيدُ: «فَيَقُولُ: إنَّهُم مِنِّي، فَيُقالُ: إنَّكَ لا تَدرِي ما عَمِلُوا بَعدَكَ. فَأَقُولُ: سُحقًا، سُحقًا لِمَن بَدَّلَ بَعدِي».
-بيان ما أكرم الله به نبيه ﷺ بنعمة الحوض في عرصات القيامة.
-فيه ثبوت الحوض وأنه مجتمع الماء في الجنة.
-ظاهر هذا الحديث أن الشرب منه يكون بعد الحساب والنجاة من النار ، فهذا هو الذي لا يظمأ بعده، وقيل : لا يشرب منه إلا من قدر له السلامة من النار ، قال : ويحتمل أن من شرب منه من هذه الأمة وقدر عليه دخول النار لا يعذب فيها بالظمأ ، بل يكون عذابه بغير ذلك ؛ لأن ظاهر هذا الحديث أن جميع الأمة يشرب منه إلا من ارتد وصار كافراً. (القاضي عياض)
-قوله: (وَلَيَرِدَنَّ عَلَيَّ أَقوَامٌ أَعرِفُهُم وَيَعرِفُونِي، ثُمَّ يُحَالُ بَينِي وَبَينَهُم):قال ابن عبد البر : كل من أحدث في الدين فهو من المطرودين عن الحوض, كالخوارج والروافض وسائر أصحاب الأهواء ، قال : وكذلك الظلمة المسرفون في الجور, وطمس الحق, والمعلنون بالكبائر، قال : وكل هؤلاء يخاف عليهم أن يكونوا ممن عنوا بهذا الخبر، والله أعلم .
-هذا مما اختلف العلماء في المراد به على أقوال ؛ أحدها : أن المراد به المنافقون والمرتدون ، فيجوز أن يحشروا بالغرة والتحجيل فيناديهم النبي ﷺ للسيما التي عليهم فيقال : ليس هؤلاء مما وعدت بهم إن هؤلاء بدلوا بعدك ، أي : لم يموتوا على ما ظهر من إسلامهم ، والثاني : أن المراد من كان في زمن النبي ﷺ ثم ارتد بعده ، فيناديهم النبي ﷺ وإن لم يكن عليهم سيما الوضوء لما كان يعرفه ﷺ في حياته من إسلامهم فيقال : ارتدوا بعدك ، والثالث : أن المراد به أصحاب المعاصي والكبائر الذين ماتوا على التوحيد وأصحاب البدع الذين لم يخرجوا ببدعتهم عن الإسلام ، وعلى هذا القول لا يقطع لهؤلاء الذين يذادون بالنار ، بل يجوز أن يذادوا عقوبة لهم ثم يرحمهم الله سبحانه وتعالى فيدخلهم الجنة بغير عذاب . ( النووي )
- وحاصل ما حمل عليه حال المذكورين أنهم إن كانوا ممن ارتد عن الإسلام فلا إشكال في تبري النبي ﷺ منهم وإبعادهم، وإن كانوا ممن لم يرتد لكن أحدث معصية كبيرة من أعمال البدن, أو بدعة من اعتقاد القلب, فقد أجاب بعضهم بأنه يحتمل أن يكون أعرض عنهم ولم يشفع لهم اتباعا لأمر الله فيهم حتى يعاقبهم على جنايتهم، ولا مانع من دخولهم في عموم شفاعته لأهل الكبائر من أمته فيخرجون عند إخراج الموحدين من النار، والله أعلم. ( ابن حجر )

٢١٤٥. (خ م) (٢٣٠٢) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁؛ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «لأَذُودَنَّ عَن حَوضِي رِجالًا كَما تُذادُ الغَرِيبَةُ مِن الإبِلِ». ورَوى (خ) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «بَينا أنا قائِمٌ إذا زُمرَةٌ حَتّى إذا عَرَفتُهُم خَرَجَ رَجُلٌ مِن بَينِي وبَينِهِم فَقالَ: هَلُمَّ. فَقُلتُ: أينَ؟ قالَ: إلى النّارِ واللَّهِ. قُلتُ: وما شَأنُهُم؟ قالَ: إنَّهُم ارتَدُّوا بَعدَكَ عَلى أدبارِهِم القَهقَرى، ثُمَّ إذا زُمرَةٌ حَتّى إذا عَرَفتُهُم خَرَجَ رَجُلٌ مِن بَينِي وبَينِهِم فَقالَ: هَلُمَّ. قُلتُ: أينَ؟ قالَ: إلى النّارِ واللَّهِ. قُلتُ: ما شَأنُهُم؟ قالَ: إنَّهُم ارتَدُّوا بَعدَكَ عَلى أدبارِهِم القَهقَرى فَلا أُراهُ يَخلُصُ مِنهُم إلّا مِثلُ هَمَلِ النَّعَمِ».
-استدل به البخاري على أَنَّ صَاحِبَ الْحَوْضِ وَالْقِرْبَةِ أَحَقُّ بِمَائِهِ.
-في أحاديث الحوض جمال وجلال، ورهبة وإشفاق، اللهم اجعلنا من أهله الوافدين عليه, ونعوذ بك أن نرجع على أعقابنا, أو نفتن عن ديننا.

٢١٤٦. (خ م) (٢٢٩٦) عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عامِرٍ ﵁؛ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ خَرَجَ يَومًا فَصَلّى عَلى أهلِ أُحُدٍ صَلاتَهُ عَلى المَيِّتِ، ثُمَّ انصَرَفَ إلى المِنبَرِ فَقالَ: «إنِّي فَرَطٌ لَكُم، وأَنا شَهِيدٌ عَلَيكُم، وإنِّي واللهِ لأَنظُرُ إلى حَوضِي الآنَ، وإنِّي قَد أُعطِيتُ مَفاتِيحَ خَزائِنِ الأَرضِ أو مَفاتِيحَ الأَرضِ، وإنِّي واللهِ ما أخافُ عَلَيكُم أن تُشرِكُوا بَعدِي، ولَكِن أخافُ عَلَيكُم أن تَتَنافَسُوا فِيها». وفي رواية: ثم صَعِدَ المنبَرَ كالمودِّعِ للأحياءِ والأمواتِ. زادَ (م) فِيها: «وتَقتَتِلُوا، فَتَهلِكُوا كَما هَلَكَ مَن كانَ قَبلَكُم». قالَ عُقبَةُ: فَكانَت آخِرَ ما رَأَيتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَلى الِمنبَرِ. زادَ (خ): بَعدَ ثَمانِي سِنِينَ كالمُوَدِّعِ.
- في الحديث معجزة للنبي ﷺ حيث نظر إليه في الدنيا وأخبر عنه، وهو من علامات النبوة.
- قوله ﷺ : ( وإنني والله ، لأنظر إلى حوضي الآن ) ‏هذا تصريح بأن الحوض حوض حقيقي على ظاهره، وأنه مخلوق موجود اليوم ، وفيه جواز الحلف من غير استحلاف لتفخيم الشيء وتوكيده. ( النووي)
- قوله ﷺ ؛ (وأنا شهيد عليكم): أي شهيد لكم بأنكم آمنتم وصدقتموني, وفيه تشريف لهم وتعظيم وإلا فالأمر معلوم عنده تعالى والله تعالى أعلم . (السندي)
- فيه أنه ﷺ لا يخاف على أمته من الشرك، وإنما يخاف عليهم من التنافس ، فيقع التحاسد والتباخل بينكم.
- قال النووي: في هذا الحديث معجزات لرسول الله ﷺ فإن معناه الإخبار بأن أمته تملك خزائن الأرض، وقد وقع ذلك، وأنها لا ترتد جملة، وقد عصمها الله تعالى من ذلك، وأنها تتنافس في الدنيا وقد وقع كل ذلك.
- شدة محبة الصحابة رضي الله عنهم للنبي ﷺ , وحزنهم على فراقه ﷺ .

٢١٤٧. (خ م) (٢٢٩٢) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاصِ ﵄؛ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «حَوضِي مَسِيرَةُ شَهرٍ، (وزَواياهُ سَواءٌ)، وماؤُهُ أبيَضُ مِن (الوَرِقِ)، ورِيحُهُ أطيَبُ مِن المِسكِ، وكِيزانُهُ كَنُجُومِ السَّماءِ، فَمَن شَرِبَ مِنهُ فَلا يَظمَأُ بَعدَهُ أبَدًا». قالَ: وقالَت أسماءُ بِنتُ أبِي بَكرٍ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إنِّي عَلى الحَوضِ حَتّى أنظُرَ مَن يَرِدُ عَلَيَّ مِنكُم، وسَيُؤخَذُ أُناسٌ دُونِي، فَأَقُولُ: يا رَبِّ؛ مِنِّي ومِن أُمَّتِي، فَيُقالُ: أما شَعَرتَ ما عَمِلُوا بَعدَكَ، واللهِ ما بَرِحُوا بَعدَكَ يَرجِعُونَ عَلى أعقابِهِم». قالَ: فَكانَ ابنُ أبِي مُلَيكَةَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنّا نَعُوذُ بِكَ أن نَرجِعَ عَلى أعقابِنا، أو أن نُفتَنَ عَن دِينِنا. لَفظُ (خ): «ماؤُهُ أبيضُ مِنَ اللَّبَنِ».
ورَوى (م) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ؛ وفِيهِ: «لَهُوَ أشَدُّ بَياضًا مِن الثَّلج، وأَحلى مِن العَسَلِ بِاللَّبَنِ». ورَوى (م) عَن ثَوبانَ؛ أنَّ نَبِيَّ اللهِ ﷺ قالَ: «إني لَبِعُقْرِ حَوضِي، أذُودُ النّاسَ لِأَهلِ اليَمَنِ، أضرِبُ بِعَصايَ حَتّى يَرْفَضَّ عَلَيهِم». فَسُئِلَ عَن عَرضِهِ، فَقالَ: «مِن مُقامِي إلى عَمّان». وسُئِلَ عَن شَرابِهِ ... وفِيهِ: «يَغُتُّ فِيهِ مِيزابانِ يَمُدّانِهِ مِن الجَنَّةِ، أحَدُهُما مِن ذَهَبٍ، والآخَرُ مِن ورِقٍ».
٢١٤٨. (خ م) (٢٣٠٣) عَنْ أنَسٍ ﵁؛ أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قالَ: «قَدرُ حَوضِي كَما بَينَ أيلَةَ وصَنعاءَ مِنَ اليمنِ، وإنَّ فِيهِ مِنَ الأَبارِيقِ كَعَدَدِ نُجُومِ السَّماءِ».
ولهما عَن حارِثَةَ بْنِ وهبٍ ﵁؛ أنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «حَوضُهُ ما بَينَ صَنعاءَ والمَدِينَةِ».
٢١٤٩. (خ م) (٢٢٩٩) عَنِ ابْنِ عُمَرَ ﵄، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «إنَّ أمامَكُم حَوضًا ما بَينَ ناحِيَتَيهِ كَما بَينَ جَرباءَ وأَذرُحَ».
-بيان صفة حوض النبي ﷺ، وآنيته، ووصفه لمائه بأنه أشد بياضاً من اللبن ، وأطيب رائحة من المسك، وأحلى من العسل.
-آنيته أكثر من عدد نجوم السماء وكواكبها.
-يتدفق ويسل في الحوض ميزابان من الجنة، وهو ما يركب في السقف ليسيل منه الماء.
-عرضه مثل طوله، وبيانه ﷺ لعرض الحوض هو على سبيل التقريب لا التحديد والله أعلم.
-قوله: (أذود الناس لأهل اليمن أضرب بعصاي حتى يرفضّ عليهم): معناه أطرد الناس عنه غير أهل اليمن ؛ ليرفض على أهل اليمن، وهذه كرامة لأهل اليمن في تقديمهم في الشرب منه، مجازاة لهم بحسن صنيعهم، وتقدمهم في الإسلام، والأنصار من اليمن، فيدفع غيرهم حتى يشربوا كما دفعوا في الدنيا عن النبي ﷺ أعداءه والمكروهات. (النووي)

١ س١) من معجزات النبي -ﷺ- التي ذُكرت في ورد اليوم:

٥/٠