كِتابُ ذِكْرِ الأَنْبِياءِ وفَضْلِهِم


باب: ذِكْرُ إبْراهِيمَ ﵇


٢٢٠٣. (خ م) (٢٣٧٠) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «اختَتَنَ إبراهِيمُ النَّبِيُّ وهُوَ ابنُ ثَمانِينَ سَنَةً بِالقَدُومِ». وفي رواية (خ): «بِالقَدُّومِ».
- فيه أن الختان سنة موروثة عن أبي الأنبياء عليهم السلام، وهو مما أقرته التوراة، وجاء به الإسلام، ولم يزل الختان مشروعا إلى زمن عيسى عليه السلام، فغير النصارى ما جاء في التوراة من ذلك، عداء لليهود، وغيروا ما جاء في حكم التوراة، فتركوا المشروع من الختان، فهم لا يختتنون، مع أنه شريعة في جميع الأديان السماوية!. (الصابوني)

٢٢٠٤. (خ م) (١٥١) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁؛ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ: «نَحنُ أحَقُّ بِالشَّكِّ مِن إبراهِيمَ إذ قالَ: ﴿رَبِّ أرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتى قالَ أوَلَمْ تُؤْمِن قالَ بَلى ولَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة: ٢٦٠]، ويَرحَمُ اللهُ لُوطًا، لَقَد كانَ يَأوِي إلى رُكنٍ شَدِيدٍ، ولَو لَبِثتُ فِي السِّجنِ طُولَ لَبثِ يُوسُفَ لأَجَبتُ الدّاعِيَ».
- " نحن أحق بالشك ": أي لو كان الشك متطرقا إلى الأنبياء لكنت أنا أحق به منهم، وقد علمتم أني لم أشك فاعلموا أنه لم يشك. وإنما قال ذلك تواضعا منه ﷺ. " ابن حجر "
- قال ابن الجوزي: إنما صار أحق من إبراهيم لما عانى من تكذيب قومه وردهم عليه وتعجبهم من أمر البعث، فقال: أنا أحق أن أسأل ما سأل إبراهيم، لعظيم ما جرى لي مع قومي المنكرين لإحياء الموتى، ولمعرفتي بتفضيل الله لي، ولكن لا أسأل في ذلك. " ابن حجر "
- " ولو لبثت في السجن...." أي لأسرعت الإجابة في الخروج من السجن ولما قدمت طلب البراءة، فوصفه بشدة الصبر حيث لم يبادر بالخروج وإنما قاله ﷺ تواضعا، والتواضع لا يحط مرتبة الكبير بل يزيده رفعة وجلالا." ابن حجر "
-فيه الثناء العاطر على أبي الأنبياء " إبراهيم " عليه السلام، في إيمانه ويقينه، ودفع ما فيه لبس عنه، بأسلوب في غاية البيان والإبداع." الصابوني "
- فيه نزاهة يوسف عليه السلام عن مقارفة الفاحشة، ولتفضيله السجن على الإغراء من جهة النساء، وصبره على هذه المحنة، التي امتدت به سنين عديدة." الصابوني "
- فيه التذكير برعاية الله وحفظه، لمن اعتمد على الله عز وجل، في أموره." الصابوني "
- فيه أن الأنبياء معصومون من الذنوب والآثام،لأن الله تعالى جعلهم أسوة للخلق." الصابوني "

٢٢٠٥. (خ م) (٢٣٧١) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁؛ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ: «لَم يَكذِب إبراهِيمُ النَّبِيُّ قَطُّ إلا ثَلاثَ كَذَباتٍ، ثِنتَينِ فِي ذاتِ اللهِ؛ قَولُهُ: ﴿إنِّي سَقِيمٌ﴾، وقَولُهُ: ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذا﴾، (وواحِدَةٌ فِي شَأنِ سارَةَ)؛ فَإنَّهُ قَدِمَ أرضَ جَبّارٍ ومَعَهُ سارَةُ، وكانَت أحسَنَ النّاسِ، فَقالَ لَها: إنَّ هَذا الجَبّارَ إن يَعلَم أنَّكِ امرَأَتِي يَغلِبنِي عَلَيكِ، فَإن سَأَلَكِ فَأَخبِرِيهِ أنَّكِ أُختِي، فَإنَّكِ أُختِي فِي الإسلامِ، فَإنِّي لا أعلَمُ فِي الأَرضِ مُسلِمًا غَيرِي وغَيرَكِ. فَلَمّا دَخَلَ أرضَهُ (رَآها بَعضُ أهلِ الجَبّارِ أتاهُ، فَقالَ لَهُ: لَقَد قَدِمَ أرضَكَ امرَأَةٌ لا يَنبَغِي لَها أن تَكُونَ إلا لَكَ). فَأَرسَلَ إلَيها، فَأُتِيَ بِها، (فَقامَ إبراهِيمُ إلى الصَّلاةِ)، فَلَمّا دَخَلَت عَلَيهِ لَم يَتَمالَك أن بَسَطَ يَدَهُ إلَيها، فَقُبِضَت يَدُهُ قَبضَةً شَدِيدَةً، فَقالَ لَها: ادعِي اللهَ أن يُطلِقَ يَدِي ولا أضُرُّكِ. فَفَعَلَت، فَعادَ فَقُبِضَت أشَدَّ مِن القَبضَةِ الأُولى، فَقالَ لَها مِثلَ ذَلكَ، فَفَعَلَت، فَعادَ فَقُبِضَت أشَدَّ مِن القَبضَتَينِ الأُولَيَينِ، فَقالَ: ادعِي اللهَ أن يُطلِقَ يَدِي، فَلَكِ اللهَ أن لا أضُرَّكِ. فَفَعَلَت، وأُطلِقَت يَدُهُ، ودَعا الَّذِي جاءَ بِها، فَقالَ لَهُ: إنَّكَ إنَّما أتَيتَنِي بِشَيطانٍ، (ولَم تَأتِنِي بِإنسانٍ، فَأَخرِجها مِن أرضِي)، وأَعطِها هاجَرَ. قالَ: فَأَقبَلَت تَمشِي، فَلَمّا رَآها إبراهِيمُ انصَرَفَ، فَقالَ لَها: مَهيَم. قالَت: خَيرًا، كَفَّ اللهُ يَدَ الفاجِرِ، وأَخدَمَ خادِمًا». قالَ أبُو هُرَيْرَةَ: فَتِلكَ أُمُّكُم يا بَنِي ماءِ السَّماءِ. لَفظُ (خ): وقالَ: بَينا هُو ذاتَ يَومٍ وسارَةُ إذ أتى عَلى جبّارٍ ... وفِيها: فَأَرسَلَ إلَيهِ فَسَأَلَهُ عَنها؛ فَقالَ: مَن هَذِهِ؟ قالَ: أُختِي ... وفِيها: فَأَخْبَرْتُهُ أنَّكِ أُختِي فَلا تُكَذِّبِيني ... وفِيها: مُؤمِنٌ غَيرِي وغَيرَكِ ... وفِيها: ذَهَبَ يَتَناوَلُها بِيَدِهِ فَأُخِذَ ... وفِيها: فَأَتَتهُ وهُو قائِمٌ يُصَلِّي، فَأَومَأَ بِيَدِهِ: مَهْيا، قالَت: رَدَّ اللهُ كَيدَ الكافِرِ أو الفاجِرِ فِي نَحرِهِ، وأَخْدَمَ هاجَرَ.
وفي رواية (خ): «فَقامَ إلَيها، فَقامَت تَوَضَّأُ وتُصَلِّي، فَقالَت: اللَّهُمَّ إن كُنتُ آمَنتُ بِكَ وبِرَسُولِكَ، وأَحصَنتُ فَرجِي إلّا عَلى زَوجِي، فَلا تُسَلِّطَ عَلَيَّ الكافِرَ، فَغُطَّ حَتّى رَكَضَ بِرِجلِهِ».
- في الحديث بيان مشروعية أن يقال أخي في غير النسب ويراد به الأخوة في الإسلام.
- فيه قبول صلة الملك الظالم وقبول هدية المشرك.
- فيه إجابة الدعاء بإخلاص النية.
- فيه أن الله يبتلي الصالحين ليرفع درجاتهم.
- فيه أن من نابه أمر مهم من الكرب ينبغي له أن يفزع إلى الصلاة.
- فيه بيان أن الوضوء كان مشروعا للأمم قبلنا، وليس مختصا بهذه الأمة، ولا بالأنبياء، وإنما الذي اختصت به هذه الأمة هو الغرة والتحجيل.
- قوله: (قال أبو هريرة: فتلك أمكم يا بني ماء السماء): قال النووي: قال كثيرون: المراد ببني ماء السماء العرب كلهم، لخلوص نسبهم، وصفائه. وقيل: لأن أكثرهم أصحاب مواشي، وعيشهم من المرعى والخصب، وما ينبت بماء السماء.
- وقوله: ( وواحدة في شأن سارة )، هذه الواحدة هي من إبراهيم عليه السلام مدافعة عن حكم الله تعالى الذي هو: تحريم سارة على الجبار، والثنتان المتقدمتان مدافعة عن وجود الله تعالى، فافترقا، فلذلك فرق في الإخبار بين النوعين.
- الأنبياء منزهون عن الكذب الحقيقي، لأنهم إذا كانوا يفرقون من مثل هذه المعاريض التي يجادلون بها عن الله تعالى، وعن دينه، وهي من باب الواجب وتعد عليهم، كان أحرى وأولى أن لا يصدر عنهم شيء من الكذب الممنوع، وفي هذا ما يدل على جواز المعاريض والحيل في التخلص من الظلمة. بل نقول: إنه إذا لم يخلص من الظالم إلا الكذب الصراح جاز أن يكذبه، بل قد يجب في بعض الصور بالاتفاق بين الفرق، ككذبة تنجي نبيا، أو وليا ممن يريد قتله، أو أمنا من المسلمين من عدوهم.
- وفيه: ما يدل على أن العمل بالأسباب المعتادة التي يرجى بها دفع مضرة، أو جلب منفعة لا يقدح في التوكل، خلافا لما ذهب إليه الجهال.

٢٢٠٦. (م) (٢٣٦٩) عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ ﵁ قالَ: جاءَ رَجُلٌ إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقالَ: يا خَيرَ البَرِيَّةِ. فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «ذاكَ إبراهِيمُ».
- قال العلماء:إنما قال ﷺ هذا تواضعا واحتراما لإبراهيم عليه السلام لخلته وأبوته، وإلا فنبينا ﷺ أفضل كما قال ﷺ:" أنا سيد ولد آدم " ولم يقصد به الافتخار ولا التطاول على من تقدمه، بل قاله بيانا لما أمر ببيانه وتبليغه، ولهذا قال ﷺ:" ولا فخر " لينفي ما قد يتطرق إلى بعض الأفهام السخيفة. النووي"

٢٢٠٧. (خ) (٣٣٥٠) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁؛ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «يَلقى إبراهِيمُ أباهُ آزَرَ يَومَ القِيامَةِ، وعَلى وجهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وغَبَرَةٌ، فَيَقُولُ لَهُ إبراهِيمُ: ألَم أقُل لَكَ لا تَعصِنِي؟ فَيَقُولُ أبُوهُ: فاليَومَ لا أعصِيكَ. فَيَقُولُ إبراهِيمُ: يا رَبِّ؛ إنَّكَ وعَدتَنِي أن لا تُخزِيَنِي يَومَ يُبعَثُونَ، فَأَيُّ خِزيٍ أخزى مِن أبِي الأَبعَدِ؟ فَيَقُولُ اللهُ تَعالى: إنِّي حَرَّمتُ الجَنَّةَ عَلى الكافِرِينَ. ثُمَّ يُقالُ: يا إبراهِيمُ؛ ما تَحتَ رِجلَيكَ؟ فَيَنظُرُ فَإذا هُوَ بِذِيخٍ مُلتَطِخٍ، فَيُؤخَذُ بِقَوائِمِهِ فَيُلقى فِي النّارِ».
- تبرأ إبراهيم عليه السلام من أبيه لما مات مشركا فترك الاستغفار له، لكن لما رآه يوم القيامة أدركته الرأفة والرقة فسأل فيه، فلما رآه مسخ يئس منه حينئذ فتبرأ منه تبرءً أبديا." ابن حجر "
- فيه أن الوعيد كان مشروطا بالإيمان، وإنما استغفر له وفاء بما وعده، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه." ابن حجر "
- في الحديث أن آزر والد إبراهيم عليه السلام لم يؤمن بالله ومات على الكفر." الصابوني"
- فيه أن الحسب والنسب لا ينفع يوم القيامة، إذا لم يؤمن الإنسان بالله، فلذلك لم يستطع إبراهيم عليه السلام الشفاعة لأبيه." الصابوني "
- فيه أن عمل الإنسان يتمثل له يوم القيامة بصورة حسنة، أو قبيحة، حسب عمله في الدنيا." الصابوني "
- فيه أن الكفر لا يضر إلا صاحبه، فلم يؤثر كفر " آزر " على ابنه إبراهيم." الصابوني "

٢٢٠٨. (خ) (٣٣٦٤) عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﵄ قالَ: أوَّلَ ما اتَّخَذَ النِّساءُ المِنطَقَ مِن قِبَلِ أُمِّ إسماعِيلَ، اتَّخَذَت مِنطَقًا لَتُعَفِّيَ أثَرَها عَلى سارَةَ، ثُمَّ جاءَ بِها إبراهِيمُ وبِابنِها إسماعِيلَ وهِيَ تُرضِعُهُ حَتّى وضَعَهُما عِنْدَ البَيتِ، عِنْدَ دَوحَةٍ فَوقَ زَمزَمَ فِي أعلى المَسْجِدِ، ولَيسَ بِمَكَّةَ يَومَئِذٍ أحَدٌ، ولَيسَ بِها ماءٌ، فَوَضَعَهُما هُنالِكَ، ووَضَعَ عِندَهُما جِرابًا فِيهِ تَمرٌ وسِقاءً فِيهِ ماءٌ، ثُمَّ قَفّى إبراهِيمُ مُنطَلِقا، فَتَبِعَتهُ أُمُّ إسماعِيلَ فَقالَت: يا إبراهِيمُ؛ أينَ تَذهَبُ وتَترُكُنا بِهَذا الوادِي الَّذِي لَيسَ فِيهِ إنسٌ ولا شَيءٌ؟ فَقالَت لَهُ ذَلكَ مِرارًا وجَعَلَ لا يَلتَفِتُ إلَيها، فَقالَت لَهُ: أللهُ الَّذِي أمَرَكَ بِهَذا؟ قالَ: نَعَم. قالَت: إذَن لا يُضَيِّعُنا. ثُمَّ رَجَعَت، فانطَلَقَ إبراهِيمُ حَتّى إذا كانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيثُ لا يَرَونَهُ استَقبَلَ بِوَجهِهِ البَيتَ ثُمَّ دَعا بِهَؤُلاءِ الكَلِماتِ، ورَفَعَ يَدَيهِ فَقالَ: ﴿رَّبَّنا إنِّي أسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ﴾ حَتّى بَلَغَ: ﴿يَشْكُرُونَ﴾ [إبراهيم: ٣٧] وجَعَلَت أُمُّ إسماعِيلَ تُرضِعُ إسماعِيلَ، وتَشرَبُ مِن ذَلكَ الماءِ، حَتّى إذا نَفِدَ ما فِي السِّقاءِ عَطِشَت وعَطِشَ ابنُها، وجَعَلَت تَنظُرُ إلَيهِ يَتَلَوّى أو قالَ: يَتَلَبَّطُ، فانطَلَقَت كَراهِيَةَ أن تَنظُرَ إلَيهِ، فَوَجَدَت الصَّفا أقرَبَ جَبَلٍ فِي الأرضِ يَلِيها، فَقامَت عَلَيهِ ثُمَّ استَقبَلَت الوادِيَ تَنظُرُ؛ هَل تَرى أحَدًا؟ فَلَم تَرَ أحَدًا، فَهَبَطَت مِن الصَّفا حَتّى إذا بَلَغَت الوادِيَ رَفَعَت طَرَفَ دِرعِها، ثُمَّ سَعَت سَعيَ الإنسانِ المَجهُودِ حَتّى جاوَزَت الوادِيَ، ثُمَّ أتَت المَروَةَ فَقامَت عَلَيها، ونَظَرَت؛ هَل تَرى أحَدًا؟ فَلَم تَرَ أحَدًا، فَفَعَلَت ذَلكَ سَبعَ مَرّاتٍ، قالَ ابنُ عَبّاسٍ: قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «فَذَلكَ سَعيُ النّاسِ بَينَهُما». فَلَمّا أشرَفَت عَلى المَروَةِ سَمِعَت صَوتًا؛ فَقالَت: صَهٍ. تُرِيدُ نَفسَها، ثُمَّ تَسَمَّعَت فَسَمِعَت أيضًا، فَقالَت: قَد أسمَعتَ إن كانَ عِندَكَ غُـِواثٌ. فَإذا هِيَ بِالمَلَكِ عِنْدَ مَوضِعِ زَمزَمَ، فَبَحَثَ بِعَقِبِهِ أو قالَ: بِجَناحِهِ حَتّى ظَهَرَ الماءُ، فَجَعَلَت تُحَوِّضُهُ، وتَقُولُ بِيَدِها هَكَذا، وجَعَلَت تَغرِفُ مِن الماءِ فِي سِقائِها، وهُوَ يَفُورُ بَعدَ ما تَغرِفُ، قالَ ابنُ عَبّاسٍ: قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «يَرحَمُ اللهُ أُمَّ إسماعِيلَ؛ لَو تَرَكَت زَمزَمَ أو قالَ: لَو لَم تَغرِف مِن الماءِ لَكانَت زَمزَمُ عَينًا مَعِينًا». قالَ: فَشَرِبَت وأَرضَعَت ولَدَها. فَقالَ لَها المَلَكُ: لا تَخافُوا الضَّيعَةَ، فَإنَّ ها هُنا بَيتَ اللهِ يَبنِي هَذا الغُلامُ وأَبُوهُ، وإنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أهلَهُ. وكانَ البَيتُ مُرتَفِعًا مِن الأرضِ كالرّابِيَةِ تَأتِيهِ السُّيُولُ، فَتَأخُذُ عَن يَمِينِهِ وشِمالِهِ، فَكانَت كَذَلكَ، حَتّى مَرَّت بِهِم رُفقَةٌ مِن جُرهُمَ أو أهلُ بَيتٍ مِن جُرهُمَ مُقبِلِينَ مِن طَرِيقِ كَداءٍ، فَنَزَلُوا فِي أسفَلِ مَكَّةَ، فَرَأَوا طائِرًا عائِفًا، فَقالُوا: إنَّ هَذا الطّائِرَ لَيَدُورُ عَلى ماءٍ، لَعَهدُنا بِهَذا الوادِي وما فِيهِ ماءٌ. فَأَرسَلُوا جَرِيًّا أو جَرِيَّينِ، فَإذا هُم بِالماءِ، فَرَجَعُوا فَأَخبَرُوهُم بِالماءِ، فَأَقبَلُوا، قالَ: وأُمُّ إسماعِيلَ عِنْدَ الماءِ، فَقالُوا: أتَأذَنِينَ لَنا أن نَنزِلَ عِندَكِ؟ فَقالَت: نَعَم، ولَكِن لا حَقَّ لَكُم فِي الماءِ. قالُوا: نَعَم. قالَ ابنُ عَبّاسٍ: قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «فَأَلفى ذَلكَ أُمَّ إسماعِيلَ وهِيَ تُحِبُّ الأُنسَ». فَنَزَلُوا وأَرسَلُوا إلى أهلِيهِم، فَنَزَلُوا مَعَهُم، حَتّى إذا كانَ بِها أهلُ أبياتٍ مِنهُم وشَبَّ الغُلامُ وتَعَلَّمَ العَرَبِيَّةَ مِنهُم وأَنفَسَهُم وأَعجَبَهُم حِينَ شَبَّ، فَلَمّا أدرَكَ زَوَّجُوهُ امرَأَةً مِنهُم، وماتَت أُمُّ إسماعِيلَ، فَجاءَ إبراهِيمُ بَعدَما تَزَوَّجَ إسماعِيلُ يُطالِعُ تَرِكَتَهُ، فَلَم يَجِد إسماعِيلَ، فَسَأَلَ امرَأَتَه عَنهُ، فَقالَت: خَرَجَ يَبتَغِي لَنا. ثُمَّ سَأَلَها عَن عَيشِهِم وهَيئَتِهِم فَقالَت: نَحنُ بِشَرٍّ، نَحنُ فِي ضِيقٍ وشِدَّةٍ. فَشَكَت إلَيهِ، قالَ: فَإذا جاءَ زَوجُكِ فاقرَئِي ﵇، وقُولِي لَهُ يُغَيِّر عَتَبَةَ بابِهِ. فَلَمّا جاءَ إسماعِيلُ كَأَنَّهُ آنَسَ شَيئًا، فَقالَ: هَل جاءَكُم مِن أحَدٍ؟ قالَت: نَعَم، جاءَنا شَيخٌ كَذا وكَذا، فَسَأَلَنا عَنكَ، فَأَخبَرتُهُ، وسَأَلَنِي: كَيفَ عَيشُنا؟ فَأَخبَرتُهُ أنّا فِي جَهدٍ وشِدَّةٍ. قالَ: فَهَل أوصاكِ بِشَيءٍ؟ قالَت: نَعَم، أمَرَنِي أن أقرَأَ عَلَيكَ السَّلامَ، ويَقُولُ: غَيِّر عَتَبَةَ بابِكَ. قالَ: ذاكِ أبِي، وقَد أمَرَنِي أن أُفارِقَكِ، الحَقِي بِأَهلِكِ. فَطَلَّقَها، وتَزَوَّجَ مِنهُم أُخرى، فَلَبِثَ عَنهُم إبراهِيمُ ما شاءَ اللهُ، ثُمَّ أتاهُم بَعدُ فَلَم يَجِدهُ، فَدَخَلَ عَلى امرَأَتِهِ فَسَأَلَها عَنهُ، فَقالَت: خَرَجَ يَبتَغِي لَنا. قالَ: كَيفَ أنتُم؟ وسَأَلَها عَن عَيشِهِم وهَيئَتِهِم، فَقالَت: نَحنُ بِخَيرٍ وسَعَةٍ. وأَثنَت عَلى اللهِ، فَقالَ: ما طَعامُكُم؟ قالَت: اللَّحمُ. قالَ: فَما شَرابُكُم؟ قالَت: الماءُ. قالَ: اللَّهُمَّ بارِك لَهُم فِي اللَّحمِ والماءِ. قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «ولَم يَكُن لَهُم يَومَئِذٍ حَبٌّ، ولَو كانَ لَهُم دَعا لَهُم فِيهِ». قالَ: فَهُما لا يَخلُو عَلَيهِما أحَدٌ بِغَيرِ مَكَّةَ إلا لَم يُوافِقاهُ. قالَ: فَإذا جاءَ زَوجُكِ فاقرَئِي ﵇، ومُرِيهِ يُثبِتُ عَتَبَةَ بابِهِ. فَلَمّا جاءَ إسماعِيلُ قالَ: هَل أتاكُم مِن أحَدٍ؟ قالَت: نَعَم، أتانا شَيخٌ حَسَنُ الهَيئَةِ، وأَثنَت عَلَيهِ، فَسَأَلَنِي عَنكَ فَأَخبَرتُهُ، فَسَأَلَنِي؛ كَيفَ عَيشُنا؟ فَأَخبَرتُهُ أنّا بِخَيرٍ. قالَ: فَأَوصاكِ بِشَيءٍ؟ قالَت: نَعَم، هُوَ يَقرَأُ عَلَيكَ السَّلامَ، ويَأمُرُكَ أن تُثبِتَ عَتَبَةَ بابِكَ. قالَ: ذاكِ أبِي، وأَنتِ العَتَبَةُ، أمَرَنِي أن أُمسِكَكِ. ثُمَّ لَبِثَ عَنهُم ما شاءَ اللهُ، ثُمَّ جاءَ بَعدَ ذَلكَ وإسماعِيلُ يَبرِي نَبلًا لَهُ تَحتَ دَوحَةٍ قَرِيبًا مِن زَمزَمَ، فَلَمّا رَآهُ قامَ إلَيهِ فَصَنَعا كَما يَصنَعُ الوالِدُ بِالوَلَدِ والوَلَدُ بِالوالِدِ، ثُمَّ قالَ: يا إسماعِيلُ؛ إنَّ اللهَ أمَرَنِي بِأَمرٍ. قالَ: فاصنَع ما أمَرَكَ رَبُّكَ. قالَ: وتُعِينُنِي؟ قالَ: وأُعِينُكَ. قالَ: فَإنَّ اللهَ أمَرَنِي أن أبنِيَ ها هُنا بَيتًا. وأَشارَ إلى أكَمَةٍ مُرتَفِعَةٍ عَلى ما حَولَها، قالَ: فَعِندَ ذَلكَ رَفَعا القَواعِدَ مِن البَيتِ، فَجَعَلَ إسماعِيلُ يَأتِي بِالحِجارَةِ، وإبراهِيمُ يَبنِي، حَتّى إذا ارتَفَعَ البِناءُ جاءَ بِهَذا الحَجَرِ فَوَضَعَهُ لَهُ، فَقامَ عَلَيهِ وهُوَ يَبنِي، وإسماعِيلُ يُناوِلُهُ الحِجارَةَ، وهُما يَقُولانِ: ﴿رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾ [البقرة: ١٢٧] قالَ: فَجَعَلا يَبنِيانِ حَتّى يَدُورا حَولَ البَيتِ، وهُما يَقُولانِ: ﴿رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾.
- بيان الحكمة من مجيء إبراهيم و " هاجر " وولده " إسماعيل" وهي أن يعمر الله هذه الأرض الطاهرة، ببناء ( البيت العتيق ) فيه " وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت " أي أرشدناه إلى مكان البيت. " الصابوني "
- فيه أن " هاجر " أم إسماعيل عليه السلام، أول من سكن أرض مكة، مع ولدها الصغير، حيث لم يكن بمكة ساكن ولا أنيس. " الصابوني "
- فيه أن الغيرة تحصل بين النساء، فقد غارت " سارة " عليها السلام من " هاجر " فأبعدها سيدنا إبراهيم عليه السلام عنها، وقدم بها مع وليدها إلى بطحاء مكة، بإلهام من الله وتوجيه. " الصابوني "
- وفيه بيان قوة يقين إبراهيم عليه السلام بربه، حيث ترك زوجه وولده الصغير، بذلك المكان القفر، ثقة منه بحفظ الله لهما. " الصابوني "
- فيه بيان لقوة إيمان " هاجر " حيث قالت لزوجها إبراهيم: بعد أن تركها في ذلك الوادي: " ألله الذي أمرك بهذا "؟ قال: نعم. قالت: إذن لا يضيعنا.وذلك دليل قوة الإيمان. " الصابوني "
- فيه بيان كرامة الله عز وجل لهذه الأسرة المؤمنة، حيث أنبع لهم ماء زمزم، فكانت عينا معينا. " الصابوني "
- فيه أن من وثق بالله كفاه الله كل ما يهمه، وأكرمه بكل فضل ونعمه. " الصابوني "
- فيه بيان لحكمة مشروعية ( السعي بين الصفا والمروة )، إ فيه إحياء لذكرى قصة هاجر، حيث ترددت بين الصفا والمروة مرات، وهي تبحث عن الماء حتى ظهر لها الملك، ولهذا قال النبي ﷺ: " فذلك سعي الناس بينهما "." الصابوني "
- فيه جواز استعمال الكناية في الطلاق، ويقع الطلاق إذا نواه، لقوله: " قولي له يغير عتبة بابه " فلذلك طلقها إسماعيل عليه السلام. " الصابوني "
- فيه أن إسماعيل عليه السلام أول من تكلم اللغة العربية تعلمها من قبيلة " جرهم " ثم انتشرت بين القبائل العربية. " الصابوني "

باب: فِـي قِصَّةِ مُوسى مَعَ الخَضِرِ


٢٢٠٩. (خ م) (٢٣٨٠) عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قالَ: قُلتُ لابنِ عَبّاسٍ: إنَّ نَوفًا البِكالِيَّ يَزعُمُ أنَّ مُوسى ﵇ صاحِبَ بَنِي إسرائِيلَ لَيسَ هُوَ مُوسى صاحِبَ الخَضِرِ، فَقالَ: كَذَبَ عَدُوُّ اللهِ، سَمِعتُ أُبَيَّ بنَ كَعبٍ يَقُولُ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: «قامَ مُوسى خَطِيبًا فِي بَنِي إسرائِيلَ، فَسُئِلَ: أيُّ النّاسِ أعلَمُ؟ فَقالَ: أنا أعلَمُ. قالَ: فَعَتَبَ اللهُ عَلَيهِ إذ لَم يَرُدَّ العِلمَ إلَيهِ، فَأَوحى اللهُ إلَيهِ: أنَّ عَبدًا مِن عِبادِي بِمَجمَعِ البَحرَينِ هُوَ أعلَمُ مِنكَ، قالَ مُوسى: أي رَبِّ؛ كَيفَ لِي بِهِ؟ فَقِيلَ لَهُ: احمِل حُوتًا فِي مِكتَلٍ، فَحَيثُ تَفقِدُ الحُوتَ فَهُوَ ثَمَّ، فانطَلَقَ وانطَلَقَ مَعَهُ فَتاهُ، وهُوَ يُوشَعُ بنُ نُونٍ، فَحَمَلَ مُوسى حُوتًا فِي مِكتَلٍ، وانطَلَقَ هُوَ وفَتاهُ يَمشِيانِ، حَتّى أتَيا الصَّخرَةَ، فَرَقَدَ مُوسى وفَتاهُ، فاضطَرَبَ الحُوتُ فِي المِكتَلِ، حَتّى خَرَجَ مِن المِكتَلِ فَسَقَطَ فِي البَحرِ، قالَ: وأَمسَكَ اللهُ عَنهُ جِريَةَ الماء، حَتّى كانَ مِثلَ الطّاقِ، فَكانَ لِلحُوتِ سَرَبًا، وكانَ لِمُوسى وفَتاهُ عَجَبًا، فانطَلَقا بَقِيَّةَ يَومِهِما ولَيلَتِهِما، ونَسِيَ صاحِبُ مُوسى أن يُخبِرَهُ، فَلَمّا أصبَحَ مُوسى ﵇ قالَ لِفَتاهُ: ﴿آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِن سَفَرِنا هَذا نَصَبًا﴾ [الكهف: ٦٢]. قالَ: ولَم يَنصَب حَتّى جاوَزَ المَكانَ الَّذِي أُمِرَ بِهِ، قالَ: ﴿قالَ أرَأَيْتَ إذْ أوَيْنا إلى الصَّخْرَةِ فَإنِّي نَسِيتُ الحُوتَ وما أنسانِيهُ إلاَّ الشَّيْطانُ أنْ أذْكُرَهُ واتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ عَجَبًا﴾. قالَ مُوسى: ﴿ذَلِكَ ما كُنّا نَبْغِ فارْتَدّا عَلى آثارِهِما قَصَصًا﴾. قالَ: يَقُصّانِ آثارَهُما، حَتّى أتَيا الصَّخرَةَ، فَرَأى رَجُلًا مُسَجّىً عَلَيهِ بِثَوبٍ، فَسَلَّمَ عَلَيهِ مُوسى، فَقالَ لَهُ الخَضِرُ: أنّى بِأَرضِكَ السَّلامُ؟ قالَ: أنا مُوسى. قالَ: مُوسى بَنِي إسرائِيلَ؟ قالَ: نَعَم. قالَ: إنَّكَ عَلى عِلمٍ مِن عِلمِ اللهِ عَلَّمَكَهُ اللهُ لا أعلَمُهُ، وأَنا عَلى عِلمٍ مِن عِلمِ اللهِ عَلَّمَنِيهِ لا تَعلَمُهُ. ﴿قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أتَّبِعُكَ عَلى أن تُعَلِّمَنِ مِمّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (٦٦) قالَ إنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (٦٧) وكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (٦٨) قالَ سَتَجِدُنِي إن شاءَ اللَّهُ صابِرًا ولا أعْصِي لَكَ أمْرًا﴾. قالَ لَهُ الخَضِرُ: ﴿فَإنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتّى أُحْدِثَ لَكَ مِنهُ ذِكْرًا﴾ [الكهف: ٧٠]، قالَ: نَعَم. فانطَلَقَ الخَضِرُ ومُوسى يَمشِيانِ عَلى ساحِلِ البَحرِ، فَمَرَّت بِهِما سَفِينَةٌ، فَكَلَّماهُم أن يَحمِلُوهُما، فَعَرَفُوا الخَضِرَ، فَحَمَلُوهُما بِغَيرِ نَولٍ، فَعَمَدَ الخَضِرُ إلى لَوحٍ مِن ألواحِ السَّفِينَةِ فَنَزَعَهُ، فَقالَ لَهُ مُوسى: قَومٌ حَمَلُونا بِغَيرِ نَولٍ عَمَدتَ إلى سَفِينَتِهِم فَخَرَقتَها، ﴿لِتُغْرِقَ أهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إمْرًا (٧١) قالَ ألَمْ أقُلْ إنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (٧٢) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ ولا تُرْهِقْنِي مِن أمْرِي عُسْرًا﴾ [الكهف: ٧١-٧٣]. ثُمَّ خَرَجا مِن السَّفِينَةِ، فَبَينَما هُما يَمشِيانِ عَلى السّاحِلِ إذا غُلامٌ يَلعَبُ مَعَ الغِلمانِ، فَأَخَذَ الخَضِرُ بِرَأسِهِ فاقتَلَعَهُ بِيَدِهِ فَقَتَلَهُ، فَقالَ مُوسى: أقَتَلتَ نَفسًا زاكِيَةً ﴿بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا (٧٤) قالَ ألَمْ أقُل لَّكَ إنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا﴾. قالَ: وهَذِهِ أشَدُّ مِن الأُولى، ﴿قالَ إن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا (٧٦) فانطَلَقا حَتّى إذا أتَيا أهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أهْلَها فَأَبَوْا أن يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِدارًا يُرِيدُ أنْ يَنقَضَّ فَأَقامَهُ﴾ [الكهف: ٧٦، ٧٧]، يَقُولُ: مائِلٌ، قالَ الخَضِرُ بِيَدِهِ هَكَذا فَأَقامَهُ، قالَ لَهُ مُوسى: قَومٌ أتَيناهُم فَلَم يُضَيِّفُونا ولَم يُطعِمُونا ﴿لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أجْرًا﴾ ﴿قالَ هَذا فِراقُ بَيْنِي وبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا﴾» قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «يَرحَمُ اللهُ مُوسى، لَوَدِدتُ أنَّهُ كانَ صَبَرَ حَتّى يُقَصَّ عَلَينا مِن أخبارِهِما». قالَ: وقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «كانَت الأُولى مِن مُوسى نِسيانًا، قالَ: وجاءَ عُصفُورٌ حَتّى وقَعَ عَلى حَرفِ السَّفِينَةِ، ثُمَّ نَقَرَ فِي البَحرِ، فَقالَ لَهُ الخَضِرُ: ما نَقَصَ عِلمِي وعِلمُكَ مِن عِلمِ اللهِ إلا مِثلَ ما نَقَصَ هَذا العُصفُورُ مِن البَحرِ». قالَ سَعِيدُ بنُ جُبَيرٍ: وكانَ يَقرَأُ: «وكانَ أمامَهُم مَلِكٌ يَأخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صالِحَةٍ غَصبًا». وكانَ يَقرَأُ: «وأَمّا الغُلامُ فَكانَ كافِرًا».
وفي رواية (م): «إنَّ الغُلامَ الَّذِي قَتَلَهُ الخَضِرُ طُبِعَ كافِرًا، ولَوعاشَ لأَرهَقَ أبَوَيهِ طُغيانًا وكُفرًا». وفي رواية (م): «إنَّهُ بَينما مُوسى في قَومِهِ؛ يُذَكِّرُهُم بِأيّامِ اللهِ، وأيّامُ اللهِ نَعماؤُهُ وبَلاؤُهُ ... وفِيها: فانطَلَقَ إلى أحَدِهِم بادِيَ الرَّأي فَقَتَلَهُ، فَذُعِرَ عِندَها مَوسى ذَعرَةً مُنكَرَةً» ... فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عِنْدَ هَذا المكانِ: «رَحمَةُ اللهِ عَلينا وعَلى مُوسى لَولا أنّهُ عَجَّلَ لَرَأى العَجَبَ، ولَكِنَّهُ أخَذَتهُ مِن صاحِبِهِ ذَمامَةٌ ...»، قالَ: وكانَ إذا ذَكَرَ أحَدًا مِن الأَنبِياء بَدَأ بِنَفسِهِ: «رَحمَةُ اللهِ عَلينا وعَلى أخِي كَذا ...»، وفِيها: «حَتّى إذا أتَيا أهلَ قَريَةٍ لِئامًا، فَطافا فِي المَجالِسِ، فاستَطعَما أهلَها ...».
وفي رواية (خ): «مُوسى رَسُولُ اللهِ، قالَ: ذَكَّرَ النّاسَ يَومًا، حَتّى إذا فاضَتِ العُيُونُ، ورقَّتِ القُلُوبُ ولّى، فأدرَكَهُ رَجُلٌ ... وفِيها: قالَ: خُذ نُونًا مَيِّتًا، حَيثُ يُنفَخُ فِيهِ الرُّوحُ ... فَقالَ لِفَتاهُ: لا أُكَلِّفُكَ إلا أن تخبِرَني بِحَيثُ يُفارِقُكَ الحُوتُ، قالَ: ما كَلَّفتَ كَثِيرًا ... وفِيها: فَقالَ فَتاهُ: لا أُوقِظُهُ. حَتّى إذا استَيقَظَ نَسِيَ أن يُخبِرَه ... وفِيها: فَوَجَدا خَضِرًا. قالَ لِي عُثْمانُ بنُ أبِي سُليمانَ: عَلى طِنفِسَةٍ خَضراء عَلى كَبِدِ البَحرِ، قالَ سعِيدُ بنُ جُبِيرٍ: مُسَجّىً بِثَوبِهِ، قَد جَعَلَ طَرَفَهُ تَحتَ رجِلَيهِ وطَرَفَهُ تَحتَ رَأسِهِ، فَسَلَّم عَلَيهِ مُوسى، فَكَشَفَ عَن وجهِهِ ... وفِيها: قالَ: أما يَكفِيكَ أنَّ التَّوراةَ بِيَدَيكَ، وأَنَّ الوَحيَ يَأتِيكَ؟ ... وفِيها: حَتّى إذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ وجَدا مَعابِرَ صِغارًا، تَحمِلُ أهلَ هَذا السّاحِلِ إلى أهلِ هَذا السّاحِلِ الآخَرِ، عَرَفُوهُ، فَقالُوا: عَبدُ اللهِ الصّالِحُ ... وفِيها: كانَت الأَولى نِسيانًا، والوُسطى شَرطًا، والثّالِثَةُ عَمدًا ... وفِيها: فَأَخَذَ غُلامًا كافِرًا ظَرِيفًا فَأَضَجَعَهُ، ثُمَّ ذَبَحَهُ بِالسِّكِينَ، قالَ: أقَتَلتَ نَفسًا زَكِيَّةً بِغَيرِ نَفسٍ، لَم تَعمَل بِالحِنثِ»، وكانَ ابنُ عَبّاسٍ قَرأها: «زَكِيَّةً زاكِيَةً مُسلِمَةً ...».
- قوله: ( فعتب الله عليه إذ لن يرد العلم إليه )، قال النووي: أي كان حقه أن يقول: الله أعلم، فإن مخلوقات الله تعالى لا يعلمها إلا هو. قال الله تعالى: { وما يعلم جنود ربك إلا هو }.
- قال النووي: وفيه أنه يستحب للعالم وإن كان من العلم بمحل عظيم أن يأخذه ممن هو أعلم منه، ويسعى إليه في تحصيله.
- قال النووي: وفي هذا الحديث الأدب مع العالم، وحرمة المشايخ، وترك الاعتراض عليهم، وتأويل ما لا يفهم ظاهره من أفعالهم وحركاتهم وأقوالهم، والوفاء بعهودهم، والاعتذار عند مخالفة عهدهم.
- قال النووي: وفيه جواز سؤال الطعام عند الحاجة، وجواز إجازة السفينة، وجواز ركوب السفينة والدابة وسكنى الدار ولبس الثوب ونحو ذلك بغير أجرة برضى صاحبه؛ لقوله: ( حملونا بغير نول ).
- قال النووي: وفيه الحكم بالظاهر حتى يتبين خلافه لإنكار موسى عليه السلام.
- قوله: ( فعمد إلى لوح من ألواح السفينة فنزعه )، قال النووي: استدل به العلماء على النظر في المصالح عند تعارض الأمور، وأنه إذا تعارضت مفسدتان دفع أعظمهما بارتكاب أخفهما، كما خرق السفينة لدفع غصبها وذهاب جملتها.
- قال القاضي عياض: وفيه جواز إفساد بعض المال لإصلاح باقيه.
- قال القاضي عياض: واختلف العلماء في قول موسى: لقد جئت شيئا إمرا وشيئا نكرا أيهما أشد؟ فقيل: إمرا لأنه العظيم، ولأنه في مقابلة خرق السفينة الذي يترتب عليه في العادة هلاك الذي فيها وأموالهم، وهو أعظم من قتل الغلام، فإنها نفس واحد، وقيل: نكرا أشد لأنه ما قاله عند مباشرة القتل حقيقة، وأما القتل في خرق السفينة فمظنون، وقد يسلمون في العادة، وقد سلموا في هذه القضية، وليس فيه ما هو محقق إلا مجرد الخرق.
- قوله ﷺ: ( رحمة الله علينا وعلى موسى )، قال النووي: قال أصحابنا: فيه استحباب ابتداء الإنسان بنفسه في الدعاء وشبهه من أمور الآخرة، وأما حظوظ الدنيا فالأدب فيها الإيثار وتقديم غيره على نفسه.
- قال النووي: وفي الحديث أنه لا بأس على العالم والفاضل أن يخدمه المفضول ويقضي له حاجة، ولا يكون هذا من أخذ العوض على تعليم العلم والآداب، بل من مروءة الأصحاب، وحسن العشرة، ودليله من هذه القصة حمل فتاه غداءهما، وحمل أصحاب السفينة موسى والخضر بغير أجره لمعرفتهم الخضر بالصلاح.
- قال النووي: وفيه الحث على التواضع في علمه وغيره، وأنه لا يدعي أنه أعلم الناس، وأنه إذا سئل عن أعلم الناس يقول: الله أعلم.
- قال النووي: وفيه بيان أصل عظيم من أصول الإسلام، وهو وجوب التسليم لكل ما جاء به الشرع، وإن كان بعضه لا تظهر حكمته للعقول، ولا يفهمه أكثر الناس، وقد لا يفهمونه كلهم كالقدر. موضع الدلالة قتل الغلام، وخرق السفينة، فإن صورتهما صورة المنكر، وكان صحيحا في نفس الأمر له حكم بينه، لكنها لا تظهر للخلق، فإذا أعلمهم الله تعالى بها علموها، ولهذا قال: { وما فعلته عن أمري }، يعني بل بأمر الله تعالى.
- فيه من الفقه: العمل بالمصالح، إذا تحقق وجهها.
- وقد أضاف الخضر عليه السلام قضية استخراج كنز الغلامين لله تعالى، وأضاف عيب السفينة إلى نفسه تنبيها على التأدب في إطلاق الكلمات على الله تعالى، فيضاف إليه ما يستحسن منها، ويطلق عليه، ولا يضاف ما يستقبح منها إليه، وهذا كما قاله تعالى: " بيدك الخير " واقتصر عليه، ولم ينسب الشر إليه، وإن كان بيده الخير والشر، والنفع والضر، إذ هو على كل شيء قدير، وبكل شيء خبير.
- وفيه تنبيه على أصول عظيمة: منها:
- أن لله تعالى بحكم مِلكه ويفعل ما يريد، ويحكم في خلقه بما يشاء، فلا مدخل لعقولنا في أفعاله، ولا معارضة لأحكامه، بل يجب علينا الرضا والتسليم، فإنه إدراك العقل لأسرار أحكام الربوبية قاصر سقيم، فإن لله تعالى فيما يجريه حكما وأسرارا، ومصالح راجعة إلى خلقه، فحذار من الاعتراض والإنكار! فإن مآل ذلك إلى الخيبة وعذاب النار.

٢٢١٠. (خ) (٣٤٠٢) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «إنَّما سُمِّيَ الخَضِرُ؛ أنَّهُ جَلَسَ عَلى فَروَةٍ بَيضاءَ، فَإذا هِيَ تَهتَزُّ مِن خَلفِهِ خَضراءَ».
- ذكر إحدى كرامات الخضر، وأنه كان يجلس على أرض بيضاء مجدبة، فتهتز من تحته خضراء.
- حكي عن مجاهد أنه قيل له الخضر لأنه كان إذا صلى اخّضر ما حوله.

باب: فِـي قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «لا تُفَضِّلُوا بَيْنَ أنْبِياءِ اللهِ»


٢٢١١. (خ م) (٢٣٧٣) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁ قالَ: بَينَما يَهُودِيٌّ يَعرِضُ سِلعَةً لَهُ، أُعطِيَ بِها شَيئًا كَرِهَهُ (أو لَم يَرضَهُ، -شَكَّ عَبدُ العَزِيزِ-)، قالَ: لا والَّذِي اصطَفى مُوسى عَلى البَشَرِ. قالَ: فَسَمِعَهُ رَجُلٌ مِن الأَنصارِ، فَلَطَمَ وجهَهُ، قالَ: تَقُولُ: والَّذِي اصطَفى مُوسى عَلى البَشَرِ، ورسُولُ الله ﷺ بَينَ أظهُرِنا. قالَ: فَذَهَبَ اليَهُودِيُّ إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقالَ: يا أبا القاسِمِ؛ إنَّ لِي ذِمَّةً وعَهدًا، وقالَ: فُلانٌ لَطَمَ وجهِي. فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لِمَ لَطَمتَ وجهَهُ؟» قالَ: قالَ يا رَسُولَ اللهِ؛ والَّذِي اصطَفى مُوسى عَلى البَشَرِ، وأَنتَ بَينَ أظهُرِنا. قالَ: فَغَضِبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ حَتّى عُرِفَ الغَضَبُ فِي وجهِهِ، ثُمَّ قالَ: «لا تُفَضِّلُوا بَينَ أنبِياءِ اللهِ، فَإنَّهُ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَيَصعَقُ مَن فِي السَّماواتِ ومَن فِي الأَرضِ إلا مَن شاءَ اللهُ، قالَ: ثُمَّ يُنفَخُ فِيهِ أُخرى فَأَكُونُ أوَّلَ مَن بُعِثَ، (أو فِي أوَّلِ مَن بُعِثَ)، فَإذا مُوسى آخِذٌ بِالعَرشِ، فَلا أدرِي أحُوسِبَ بِصَعقَتِهِ يَومَ الطُّورِ، أو بُعِثَ قَبلِي، ولا أقُولُ: إنَّ أحَدًا أفضَلُ مِن يُونُسَ بْنِ مَتّى». وفي رواية: «فَإذا أنا بِمُوسى آخِذٌ بِقائمَةٍ مِن قَوائمِ العَرشِ». وفي رواية (خ): قالَ: «إنِّي أوَّلُ مَن يَرفَعُ رَأسَهُ بَعدَ النَّفخَةِ الآخِرَةِ فَإذا أنا بِمُوسى مُتَعَلِّقٌ بِالعَرشِ».
- يحمل الحديث على ظاهره من منع إطلاق لفظ التفضيل بين الأنبياء، فلا يجوز في المعين منهم، ولا غيرهم، ولا يقال: فلان النبي أفضل من الأنبياء كلهم، ولا من فلان، ولا خير، كما هو ظاهر هذا النهي، لما ذكر من توهم النقص في المفضول، وإن كان غير معين، ولأن النبوة خصلة واحدة لا تفاضل فيها، وإنما تفاضلوا بأمور غيرها.
ثم إن هذا النهي يقتضي منع إطلاق ذلك اللفظ لا منع اعتقاد ذلك المعنى، فإن الله تعالى قد أخبرنا بأن الرسل متفاضلون كما قال تعالى: { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض} وكما قد علمنا أن نبينا ﷺ قد خص بخصائص من الكرامات والفضائل بما لم يخص به أحد منهم، ومع ذلك فلا نقول: نبينا خير من الأنبياء، ولا من فلان النبي اجتنابا لما نهى عنه، وتأدبا بأدبه، وعملا باعتقاد ما تضمنه القرآن من التفضيل، ورفعا لما يتوهم من المعارضة بين السنة والتنزيل. ( القرطبي )
-( فلا أدري أحوسب بصعقة الطور، أو بعث قبلي ): وقد تحصل من هذا الحديث: أن نبينا محمدا ﷺ محقق أنه أول من يفيق، وأول من يخرج من قبره قبل الناس كلهم، الأنبياء وغيرهم، إلا موسى عليه السلام فإنه حصل له فيه تردد: هل بعث قبله، أو بقي على الحالة التي كان عليها قبل نفخة الصعق، وعلى أي الحالين كان فهي فضيلة عظيمة لموسى عليه السلام ليست لغيره، والله تعالى أعلم.
- أهل الذمة لهم ما لنا، وعليهم ما علينا.
- فضيلة يونس عليه السلام.

باب: فِـي وفاةِ مُوسى ﵇


٢٢١٢. (خ م) (٢٣٧٢) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁ قالَ: «أُرسِلَ مَلَكُ المَوتِ إلى مُوسى، فَلَمّا جاءَهُ صَكَّهُ (فَفَقَأَ عَينَهُ)، فَرَجَعَ إلى رَبِّهِ فَقالَ: أرسَلتَنِي إلى عَبدٍ لا يُرِيدُ المَوتَ. قالَ: فَرَدَّ اللهُ إلَيهِ عَينَهُ، وقالَ: ارجِع إلَيهِ، فَقُل لَهُ يَضَعُ يَدَهُ عَلى مَتنِ ثَورٍ، فَلَهُ بِما غَطَّت يَدُهُ بِكُلِّ شَعرَةٍ سَنَةٌ. قالَ: أي رَبِّ؛ ثُمَّ مَه؟ قالَ: ثُمَّ المَوتُ. قالَ: فالآنَ. فَسَأَلَ اللهَ أن يُدنِيَهُ مِن الأرضِ المُقَدَّسَةِ رَميَةً بِحَجَرٍ»، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «فَلَو كُنتُ ثَمَّ لأَرَيتُكُم قَبرَهُ إلى جانِبِ الطَّرِيقِ، تَحتَ الكَثِيبِ الأَحمَرِ».
- من قصة موسى عليه السلام وملك الموت، أن الملك يتمثل بصورة الإنسان، وقد جاء ذلك في أحاديث مشهورة.
- قال ابن خزيمة: أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث، وقالوا: إن كان موسى عرفه فقد استخف به، وإن كان لم يعرفه فكيف لم يقتص له من فقء عينه؟ قال: والجواب أن الله لم يبعث ملك الموت لموسى، وهو يريد قبض روحه حينئذ، وإنما بعثه إليه اختبارا، وإنما لطم موسى ملك الموت لأنه رأى آدميا، دخل داره بغير إذنه، ولم يعلم أنه ملك الموت، وقد أباح الشرع فقء عين الناظر في دار المسلم بغير إذن، وقد جاءت الملائكة إلى إبراهيم، وإلى لوط في صورة آدميين، فلم يعرفهم ابتداء، ولو عرفهم إبراهيم لما قدم لهم المأكول، ولو عرفهم لوط لما خاف عليهم من قومه.
- لا يمتنع أن يأذن الله لموسى في هذه اللطمة، امتحانا للملطوم. وقال غيره: إنما لطمه لأنه جاء لقبض روحه، من قبل أن يخبره، لما ثبت أنه لم يقبض نبي حتى يخبر، فلهذا لما خيره في المره الثانية أذعن. ( النووي )
- واستدل به على جواز الزيادة في العمر، وقد قال به قوم في قوله تعالى: {وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب }، وأنه زيادة ونقص في الحقيقة. ومنع قوم ذلك، وأجابوا عن قصة موسى بأن أجله قد كان قرب حضوره، ولم يبق منه إلا مقدار ما دار بينه وبين ملك الموت من المراجعتين، فأمر بقبض روحه أولا، مع سبق علم الله أن ذلك لا يقع إلا بعد المراجعة، وإن لم يطلع ملك الموت على ذلك أولا.
- وفيه فضل الدفن في الأماكن المقدسة، والفاضلة، والمواطن المباركة، والقرب من مدافن الصالحين. (النووي )

باب: فِـي ذِكْرِ يُوسُفَ ﵇


٢٢١٣. (خ م) (٢٣٧٨) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁ قالَ: قِيلَ: يا رَسُولَ اللهِ؛ مَن أكرَمُ النّاسِ؟ قالَ: «أتقاهُم». قالُوا: لَيسَ عَن هَذا نَسأَلُكَ. قالَ: «فَيُوسُفُ نَبِيُّ اللهِ ابنُ نَبِيِّ اللهِ ابْنِ نَبِيِّ اللهِ ابْنِ خَلِيلِ اللهِ». قالُوا: لَيسَ عَن هَذا نَسأَلُكَ. قالَ: «فَعَن مَعادِنِ العَرَبِ تَسأَلُونِي، خِيارُهُم فِي الجاهِلِيَّةِ خِيارُهُم فِي الإسلامِ إذا فَقُهُوا».
ورَوى (خ) عَن ابْنِ عُمَرَ ﵄، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «الكَرِيمُ ابنُ الكَرِيمِ ابْنِ الكَرِيمِ ابْنِ الكَرِيمِ: يُوسِفُ بنُ يَعقُوبَ بْنِ إسحاقَ بْنِ إبراهِيمَ ﵈».
- أن ميزان التفاضل عند الله تعالى ليس بالأحساب والأنساب وإنما بالتقوى والإيمان والعمل الصالح.
- منزلة وفضل الفقه في الدين وأثره على صاحبه المؤمن، قال ﷺ: " من يرد الله به خيرا يفقه في الدين ".
- فضل أنبياء الله ورسله، ومنهم إبراهيم ويوسف عليهم السلام.
- تواضع النبي ﷺ.
- قوله: ( قالوا يا نبي الله ليس عن هذا نسألك، قال: فأكرم الناس يوسف )قال ابن حجر: الجواب الأول من جهة الشرف بأعمال الصالحة، والثاني من جهة الشرف بالنسب الصالح.
- الخيرية قرينة العلم والفهم والتطبيق.
- الثناء العظيم من رسول الله ﷺ على يوسف الصديق عليه السلام وآبائه الأنبياء والمرسلين.

باب: فِـي ذِكْرِ أيُّوبَ ﵇


٢٢١٤. (خ) (٣٣٩١) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁؛ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «بَينَما أيُّوبُ يَغتَسِلُ عُريانًا خَرَّ عَلَيهِ رِجلُ جَرادٍ مِن ذَهَبٍ، فَجَعَلَ يَحثِي فِي ثَوبِهِ، فَناداهُ رَبُّهُ: يا أيُّوبُ؛ ألَم أكُن أغنَيتُكَ عَمّا تَرى؟ قالَ: بَلى يا رَبِّ، ولَكِن لا غِنى لِي عَن بَرَكَتِكَ».
- جواز الحرص على الاستكثار من الحلال في حق من وثق من نفسه بالشكر عليه." ابن حجر "
- تسمية المال الذي يكون من هذه الجهة بركة." ابن حجر "
- فيه فضل الغني الشاكر." ابن حجر "
- إنما حرص عليه أيوب عليه السلام لأنه قريب عهد بربه، كما حسر نبينا - ﷺ - ثوبه حين نزل المطر، وقيل: لأنه نعمة جديدة خارقة للعادة، وكل ما نشأ عنها فهو بركة.

باب: فِـي ذِكْرِ يُونُسَ ﵇


٢٢١٥. (خ م) (٢٣٧٦) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «(قالَ يَعنِي اللهَ تَبارَكَ وتَعالى-): لا يَنبَغِي لِعَبدٍ (لِي) أن يَقُولَ أنا خَيرٌ مِن يُونُسَ بْنِ مَتّى».
ورَوى (خ) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «مَن قالَ: أنا خَيرٌ مِن يُونِسَ بْنِ مَتّى فَقَد كَذَبَ».
- يرفع رسول الله ﷺ من قدر أخيه نبي الله ( يونس بن متى ) عليه السلام، فإنه أحد رسل الله الكرام الذين أرسلهم الله لهداية البشر.
- قال النووي: قال العلماء هذه الأحاديث تحتمل وجهين:
أحدهما: أنه ﷺ قال هذا قبل أن يعلم أنه أفضل من يونس، فلما علم ذلك قال: أنا سيد ولد آدم، ولم يقل هنا إن يونس أفضل منه، أو من غيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.
والثاني: أنه ﷺ قال هذا زجرا عن أن يتخيل أحد من الجاهلين شيئا من حط مرتبة يونس عليه السلام من أجل ما في القرآن العزيز من قصته، وقال العلماء وما جرى ليونس ﷺ لم يحطه من النبوة مثقال ذرة، وخص يونس بالذكر لما ذكرناه في القرآن بما ذكر.
وأما قوله ﷺ ما ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس فالضمير في أنا: قيل: يعود إلى النبي ﷺ.
وقيل: يعود إلى القائل، أي لا يقول ذلك بعض الجاهلين من المجتهدين في عبادة أو علم او غير ذلك من الفضائل فإنه لو بلغ من الفضائل ما بلغ لم يبلغ درجة النبوة.

باب: فِـي ذِكْرِ داوُدَ ﵇


٢٢١٦. (خ) (٣٤١٧) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁؛ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «خُفِّفَ عَلى داوُدَ ﵇ القُرآنُ، فَكانَ يَأمُرُ بِدَوابِّهِ فَتُسرَجُ، فَيَقرَأُ القُرآنَ قَبلَ أن تُسرَجَ دَوابُّهُ، ولا يَأكُلُ إلا مِن عَمَلِ يَدِهِ».
- قراءة كل نبي تطلق على كتابه الذي أوحي إليه، وإنما سماه قرآنا للإشارة إلى وقوع المعجزة به كوقوع المعجزة بالقرآن." ابن حجر "
- أن البركة قد تقع في الزمن اليسير حتى يقع فيه العمل الكثير." ابن حجر "
- الدلالة على أن الله يطوي الزمان لمن يشاء من عباده، فداوود عليه السلام سهل الله له تلاوة الزبور في زمن قصير، وهذه إحدى المعجزات التي منحها الله لرسوله داوود عليه السلام. " الصابوني ".
- ( ولا يأكل إلا من عمل يده ): فيه دليل على أنه أفضل المكاسب." ابن حجر "
- مشروعية الإجارة من جهة أن عمل اليد أعم من أن يكون للغير أو للنفس." ابن حجر "
- أيد الله داوود عليه السلام بإلانة الحديد، حتى كان يصنع منها السيوف والدروع، فكانت بين يديه كالعجين بين يدي الخباز وهذه معجزة، كما قال تعالى:" وألنا له الحديد {أن اعمل سابغات وقدر في السرد }. " الصابوني "

باب: فِـي ذِكْرِ زَكَرِيّاءَ ﵇


٢٢١٧. (م) (٢٣٧٩) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁؛ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ: «كانَ زَكَرِيّاءُ نَجّارًا».
يدل على شرف النجارة، وعلى أن التحرُّف بالصناعات لا يغض من مناصب أهل الفضائل، بل نقول: إن الحرف والصناعات غير الركيكة زيادة في فضيلة أهل الفضل، يحصل لهم بذلك التواضع في أنفسهم، والاستغناء عن غيرهم، وكسب الحلال الخلي عن الامتنان الذي هو خير المكاسب.

باب: فِـي ذكْرُ عِيسى ﵇


٢٢١٨. (خ م) (٢٣٦٥) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁، عَن رَسُولِ اللهِ ﷺ قالَ: «أنا أولى النّاسِ بِعِيسى ابْنِ مَريَمَ فِي الأُولى والآخِرَةِ». (قالُوا: كَيفَ يا رَسُولَ اللهِ؟) قالَ: «الأَنبِياءُ إخوَةٌ مِن عَلاَّتٍ، وأُمَّهاتُهُم شَتّى ودِينُهُم واحِدٌ، فَلَيسَ بَينَنا نَبِيٌّ». وفي رواية: «أولادُ عَلاَّتٍ».
ورَوى (خ) عَن سَلمانَ قالَ: فَترَةٌ بَينَ عِيسى ﵇ ومُحمَّدٍ ﷺ سِتُّمِائَةِ سَنَةٍ.
- الرسل بينهم قرابة، تشبه قرابة النسب، فإن الله بعثهم بدين واحد، فكأنهم إخوة من الأب، يجمعهم أصل واحد، وهو ( الإسلام ) كما قال سبحانه: {إن الدين عند الله الإسلام }، وإن كانت شرائعهم مختلفة، لكن الأصل يظل واحدا بالرابطة المتينة، التي تجمع بين الأنبياء والمرسلين." الصابوني "
- الأمور الفقهية الشرعية، المتعلقة بالجزئيات والفرعيات، فهي مختلفة تبعا لكل أمة، وكل عصر وزمان، وحسب مصالح الناس في ذلك الزمان، قال تعالى: { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا }." الصابوني "
- في هذا الحديث تمثيل رائع بديع، لأخوة الدينية التي تجمع بين جميع المرسلين، حيث شبههم بإخوة من الأب، أبوهم واحد، وأمهاتهم مختلفة، و يا له من تمثيل بالغ الحسن والجمال!. " الصابوني "

٢٢١٩. (خ م) (٢٣٦٦) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁؛ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ: «ما مِن مَولُودٍ يُولَدُ إلا نَخَسَهُ الشَّيطانُ، فَيَستَهِلُّ صارِخًا مِن نَخسَةِ الشَّيطانِ، إلا ابنَ مَريَمَ وأُمَّهُ». ثُمَّ قالَ أبُو هُرَيْرَةَ: اقرَؤوا إن شِئتُم: ﴿وِإنِّي أُعِيذُها بِكَ وذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ﴾ [آل عمران: ٣٦]. وفي رواية (خ): «كُلُّ بَنِي آدَمَ يَطعُنُ الشَّيطانُ فِي جَنبَيهِ بِإصبَعِهِ حِينَ يُولَدُ، غَيرَ عِيسى ابْنِ مَريَمَ، ذَهَبَ يَطعُنُ فَطَعَنَ فِي الحِجابِ». ورَوى (م) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «صِياحُ المُولُودِ حِينَ يَقَعُ نَزغَةٌ مِنَ الشَّيطانِ».
- هذه فضيلة ظاهرة وظاهر الحديث اختصاصها بعيسى وأمه. واختار القاضي عياض أن جميع الأنبياء يتشاركون فيها. " النووي "
- لا يفهم من هذا أن نخس الشيطان يلزم منه إضلال المنخوس وإغواؤه، فإن ذلك ظن فاسد، وكم قد تعرض الشيطان للأنبياء، والأولياء بأنواع الإفساد، والإغواء، ومع ذلك يعصمهم الله مما يرومه الشيطان، كما قال: { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان }.

٢٢٢٠. (خ م) (٢٣٦٨) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁، عَن رَسُولِ اللهِ ﷺ قالَ: «رَأى عِيسى ابنُ مَريَمَ رَجُلًا يَسرِقُ، فَقالَ لَهُ عِيسى: سَرَقتَ. قالَ: كَلاَّ والَّذِي لا إلَهَ إلا هُوَ. فَقالَ عِيسى: آمَنتُ باللهِ، وكَذَّبتُ نَفسِي». لَفظُ (خ): «وكَذَّبتُ عَينِي».
- دليل على درء الحد بالشبهات، ولذلك لم يعاقبه عيسى عليه السلام.
- فيه المبالغة بتصديق الحالف حسب الظاهر، لا حسب الباطن.
- فيه تعظيم أمر الحلف بالله، محقا كان أو مبطلا!

باب: فِـي ذِكْرِ الحُنَفاءِ قَبْلَ البِعْثَةِ


٢٢٢١. (خ) (٣٨٢٦) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ ﵄؛ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَقِيَ زَيدَ بنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيلٍ بِأَسفَلِ بَلدَحٍ قَبلَ أن يَنزِلَ عَلى النَّبِيِّ ﷺ الوَحيُ، فَقُدِّمَت إلى النَّبِيِّ ﷺ سُفرَةٌ، فَأَبى أن يَأكُلَ مِنها، ثُمَّ قالَ زَيدٌ: إنِّي لَستُ آكُلُ مِمّا تَذبَحُونَ عَلى أنصابِكُم، ولا آكُلُ إلا ما ذُكِرَ اسمُ اللهِ عَلَيهِ. وأَنَّ زَيدَ بنَ عَمْرٍو كانَ يَعِيبُ عَلى قُرَيشٍ ذَبائِحَهُم، ويَقُولُ: الشّاةُ خَلَقَها اللهُ، وأَنزَلَ لَها مِن السَّماءِ الماءَ، وأَنبَتَ لَها مِن الأَرضِ، ثُمَّ تَذبَحُونَها عَلى غَيرِ اسمِ اللهِ. إنكارًا لِذَلكَ وإعظامًا لَهُ.
٢٢٢٢. (خ) (٣٨٢٧) عَنِ ابْنِ عُمَرَ ﵄ أنَّ زَيدَ بنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيلٍ خَرَجَ إلى الشَّأمِ يَسأَلُ عَن الدِّينِ ويَتبَعُهُ، فَلَقِيَ عالِمًا مِن اليَهُودِ فَسَأَلَهُ عَن دِينِهِم، فَقالَ: إنِّي لَعَلِّي أن أدِينَ دِينَكُم، فَأَخبِرنِي. فَقالَ: لا تَكُونُ عَلى دِينِنا حَتّى تَأخُذَ بِنَصِيبِكَ مِن غَضَبِ اللهِ. قالَ زَيدٌ: ما أفِرُّ إلا مِن غَضَبِ اللهِ، ولا أحمِلُ مِن غَضَبِ اللهِ شَيئًا أبَدًا، وأَنّى أستَطِيعُهُ، فَهَل تَدُلُّنِي عَلى غَيرِهِ؟ قالَ: ما أعلَمُهُ إلا أن يَكُونَ حَنِيفًا. قالَ زَيدٌ: وما الحَنِيفُ؟ قالَ: دِينُ إبراهِيمَ، لَم يَكُن يَهُودِيًّا ولا نَصرانِيًّا، ولا يَعبُدُ إلا اللهَ. فَخَرَجَ زَيدٌ فَلَقِيَ عالِمًا مِن النَّصارى فَذَكَرَ مِثلَهُ، فَقالَ: لَن تَكُونَ عَلى دِينِنا حَتّى تَأخُذَ بِنَصِيبِكَ مِن لَعنَةِ اللهِ. قالَ: ما أفِرُّ إلا مِن لَعنَةِ اللهِ، ولا أحمِلُ مِن لَعنَةِ اللهِ ولا مِن غَضَبِهِ شَيئًا أبَدًا، وأَنّى أستَطِيعُ، فَهَل تَدُلُّنِي عَلى غَيرِهِ؟ قالَ: ما أعلَمُهُ إلا أن يَكُونَ حَنِيفًا. قالَ: وما الحَنِيفُ؟ قالَ: دِينُ إبراهِيمَ، لَم يَكُن يَهُودِيًّا ولا نَصرانِيًّا، ولا يَعبُدُ إلا اللهَ، فَلَمّا رَأى زَيدٌ قَولَهُم فِي إبراهِيمَ ﵇ خَرَجَ، فَلَمّا بَرَزَ رَفَعَ يَدَيهِ فَقالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أشهَدُ أنِّي عَلى دِينِ إبراهِيمَ.
- فيه أن " زيد بن نفيل " كان على الفطرة، لم يكن يعبد الأصنام، ولا يأكل مما ذبح على الأصنام والأوثان، قال تعالى: { وما ذبح على النصب } أي ذبح من أجل الأصنام والأوثان." الصابوني "
- فيه أنه كان ذا بصيرة، لإنكاره على المشركين ما يفعلون، فالشاة خلقها الله ورزقها، ثم هم يذبحونها، ولا يذكرون اسم الله عند الذبح، بل يذبحونها للأصنام، وهذا عمل منكر قبيح، يخالف العقل." الصابوني "

١ س١) سمي الخضر بذلك لأنه جلس على فروة:

٥/٠