كِتابُ الظُّلْمِ


باب: فِـي تَحْرِيمِ الظُّلْمِ والتَّحْذِيرِ مِنهُ


٢٤٧٢. (خ م) (٢٥٧٩) عَنِ ابْنِ عُمَرَ ﵁؛ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إنَّ الظُّلمَ ظُلُماتٌ يَومَ القِيامَةِ».
ورَوى (م) عَن جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ؛ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ: «اتَّقُوا الظُّلمَ؛ فَإنَّ الظُّلمَ ظُلُماتٌ يَومَ القِيامَةِ، واتَّقُوا الشُّحَّ، فَإنَّ الشُّحَّ أهلَكَ مَن كانَ قَبلَكُم، حَمَلَهُم عَلى أن سَفَكُوا دِماءَهُم، واستَحَلُّوا مَحارِمَهُم».
- الظلم يشتمل على معصيتين: أخذ مال الغير بغير حق، ومبارزة الرب بالمخالفة، والمعصية فيه أشد من غيرها؛ لأنه لا يقع غالبا إلا بالضعيف الذي لا يقدر على الانتصار. ( ابن الجوزي)
- الظلم نوعان: ظلم يتعلق بحقوق الله عز وجل، وظلم يتعلق بحقوق العباد، وأعظمها المتعلقة بحقوق الله والإشراك به. ( ابن عثمين)

٢٤٧٣. (خ م) (٢٥٨٠) عَنِ ابْنِ عُمَرَ ﵁؛ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ: «المُسلِمُ أخُو المُسلِمِ، لا يَظلِمُهُ، ولا يُسلِمُهُ، مَن كانَ فِي حاجَةِ أخِيهِ كانَ اللهُ فِي حاجَتِهِ، ومَن فَرَّجَ عَن مُسلِمٍ كُربَةً فَرَّجَ اللهُ عَنهُ بِها كُربَةً مِن كُرَبِ يَومِ القِيامَةِ، ومَن سَتَرَ مُسلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَومَ القِيامَةِ».
- قوله" المسلم أخو المسلم " هذه أخوة الإسلام فإن كل إتفاق بين شيئين يطلق بينهما اسم الأخوة، ويشترك في ذلك الحر والعبد والبالغ والمميز. ( ابن حجر)
- وفي الحديث حض على التعاون وحسن التعاشر والألفة. ( ابن حجر)
- وفيه أن المجازاة تقع من جنس الطاعات، وأن من حلف أن فلانا أخوه وأراد أخوة الإسلام لم يحنث. ( ابن حجر)
- وفيه إشارة إلى ترك الغيبة لأن من أظهر مساوئ أخيه لم يستره. ( ابن حجر)
- وفي هذا إشارة إلى من اشتغل بحوائج الناس أعانه الله على حوائجه الخاصة. ( ابن عثيمين)

٢٤٧٤. (خ م) (٢٥٨٣) عَنْ أبِي مُوسى ﵁ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إنَّ اللهَ يُملِي لِلظّالِمِ، فَإذا أخَذَهُ لَم يُفلِتهُ»، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وكَذَلِكَ أخْذُ رَبِّكَ إذا أخَذَ القُرى وهِيَ ظالِمَةٌ إنَّ أخْذَهُ ألِيمٌ شَدِيدٌ﴾ [هود: ١٠٢].
- على الظالم أن لا يغتر بنفسه ولا بإملاء الله له، فإن ذلك مصيبة فوق مصيبته؛ لأن الإنسان إذا عوقب بالظلم عاجلا، فربما يتذكر ويتعظ ويدع الظلم، لكن إذا أملي له واكتسب اَثاما، أو ازداد ظلما، ازدادت عقوبته – والعياذ بالله - فيؤخذ على غرة، حتى إذا أخذه الله لم يفلته.( ابن عثيمين)

٢٤٧٥. (م) (٢٥٧٧) عَنْ أبِي ذَرٍّ ﵁؛ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِيما رَوى عَن اللهِ تبارك وتعالى أنَّهُ قالَ: «يا عِبادِي إنِّي حَرَّمتُ الظُّلمَ عَلى نَفسِي وجَعَلتُهُ بَينَكُم مُحَرَّمًا فَلا تَظالَمُوا، يا عِبادِي كُلُّكُم ضالٌّ إلا مَن هَدَيتُهُ، فاستَهدُونِي أهدِكُم، يا عِبادِي كُلُّكُم جائِعٌ إلا مَن أطعَمتُهُ، فاستَطعِمُونِي أُطعِمكُم، يا عِبادِي كُلُّكُم عارٍ إلا مَن كَسَوتُهُ، فاستَكسُونِي أكسُكُم، يا عِبادِي إنَّكُم تُخطِئُونَ بِاللَّيلِ والنَّهارِ وأَنا أغفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فاستَغفِرُونِي أغفِر لَكُم، يا عِبادِي إنَّكُم لَن تَبلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، ولَن تَبلُغُوا نَفعِي فَتَنفَعُونِي، يا عِبادِي لَو أنَّ أوَّلَكُم وآخِرَكُم وإنسَكُم وجِنَّكُم كانُوا عَلى أتقى قَلبِ رَجُلٍ واحِدٍ مِنكُم ما زادَ ذَلكَ فِي مُلكِي شَيئًا، يا عِبادِي لَو أنَّ أوَّلَكُم وآخِرَكُم وإنسَكُم وجِنَّكُم كانُوا عَلى أفجَرِ قَلبِ رَجُلٍ واحِدٍ ما نَقَصَ ذَلكَ مِن مُلكِي شَيئًا، يا عِبادِي لَو أنَّ أوَّلَكُم وآخِرَكُم وإنسَكُم وجِنَّكُم قامُوا فِي صَعِيدٍ واحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعطَيتُ كُلَّ إنسانٍ مَسأَلَتَه ما نَقَصَ ذَلكَ مِمّا عِندِي إلا كَما يَنقُصُ المِخيَطُ إذا أُدخِلَ البَحرَ، يا عِبادِي إنَّما هِيَ أعمالُكُم أُحصِيها لَكُم ثُمَّ أُوَفِّيكُم إيّاها، فَمَن وجَدَ خَيرًا فَليَحمَدِ اللهَ، ومَن وجَدَ غَيرَ ذَلكَ فَلا يَلُومَنَّ إلا نَفسَهُ».
- ( وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا): أي لا تتظالموا، والمراد لا يظلم بعضكم بعضا، وهذا توكيد لقوله تعالى:"يا عبادي... وجعلته بينكم محرما" وزيادة تغليظ في تحريمه. ( النووي)
-حرم الله الظلم على عباده، ونهاهم أن يتظالموا بينهم.
-جميع الخلق مفتقرون إلى الله في جلب مصالحهم، ودفع مضاربهم في أمور دينهم ودنياهم. ( محمد الاتيوبي)
-في الحديث دليل أن الله يحب أن يسأله العباد جميع مصالح دينهم ودنياهم من الطعام والشراب والكسوة كما يسألونه الهداية والمغفرة. ( محمد الاتيوبي)
-الأصل في التقوى والفجور هي القلوب، فإذا بر واتقى برت الجوارح، وإذا فجر القلب فجرت الجوارح.
-التوكل على الله في الرزق المتضمن جلب المنفعة كالطعام، ودفع المضرة كاللباس.

باب: القِصاصُ مِنَ الظّالِمِ وأَخْذُ الحَقِّ لِلْمَظْلُومِ


٢٤٧٦. (م) (٢٥٨١) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁؛ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ: «أتَدرُونَ ما المُفلِسُ؟» قالُوا: المُفلِسُ فِينا مَن لا دِرهَمَ لَهُ ولا مَتاعَ. فَقالَ: «إنَّ المُفلِسَ مِن أُمَّتِي يَأتِي يَومَ القِيامَةِ بِصَلاةٍ وصِيامٍ وزَكاةٍ، ويَأتِي قَد شَتَمَ هَذا وقَذَفَ هَذا وأَكَلَ مالَ هَذا وسَفَكَ دَمَ هَذا وضَرَبَ هَذا، فَيُعطى هَذا مِن حَسَناتِهِ وهَذا مِن حَسَناتِهِ، فَإن فَنِيَت حَسَناتُهُ قَبلَ أن يُقضى ما عَلَيهِ أُخِذَ مِن خَطاياهُم فَطُرِحَت عَلَيهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النّارِ».
- بيان شدة حقوق الناس فمن اعتدى عليها فسوف يجازى أصعب المجازاة، وذلك بأن تؤخذ حسناته فتعطى أصحاب الحقوق، فإن وقت فيها وإلا أخذت خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار.
- احتج بهذا الحديث من قال بإحباط السيئة الحسنة.
- معناه أن هذا حقيقة المفلس، وأما من ليس له مال، ومن قل ماله فالناس يسمونه مفلسا، وليس هو حقيقة المفلس؛ لأن هذا أمر يزول وينقطع بموته، وربما ينقطع بيسار يحصل له بعد ذلك في حياته، وإنما حقيقة المفلس هذا المذكور في الحديث فهو الهلاك التام والمعدوم الإعدام المقطع، فتؤخذ حسناته لغرمائه فإذا فرغت حسناته أخذ من سيئاتهم فوضع عليه ثم ألقى في النار، فتمت خسارته وهلاكه وإفلاسه. ( النووي)
- وفي هذا: التحذير من العدوان على الخلق، وأنه يجب على الإنسان أن يؤدي ما للناس في حياته قبل مماته، حتى يكون القصاص في الدنيا مما يستطيع، أما في الأخرة فليس هناك درهم ولا دينار حتى يفدي نفسه، ليس فيه إلا الحسنات.( ابن عثيمين)

٢٤٧٧. (م) (٢٥٨٢) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁؛ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ: «لَتُؤَدُّنَّ الحُقُوقَ إلى أهلِها يَومَ القِيامَةِ حَتّى يُقادَ لِلشّاةِ الجَلحاءِ مِنَ الشّاةِ القَرناءِ».
- فإثبات البعث والنشور في الاَخرة، وأن الخلائق كلهم يحشرون عقلائهم وغير عقلائهم.
- وأما القصاص من القرناء للجلحاء فليس هو من قصاص التكليف إذ لا تكليف عليها، بل هو قصاص مقابلة، والجلحاء هي الجماء التي لا قرن لها.
- وفيه بيان شدة الحقوق، فقد أوجب الله فيها القصاص، حتى البهائم فكيف بالعقلاء المكلفين؟ فالواجب على العاقل المبادرة بالتخلص من الحقوق قبل ذلك اليوم.

٢٤٧٨. (م) (٢٥٨٧) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁؛ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ: «المُستَبّانِ ما قالا، فَعَلى البادِئِ ما لَم يَعتَدِ المَظلُومُ».
- الزجر عن التساب، لأن واجب المسلم تجاه أخيه المسلم نصره واحترامه وتعظيمه لا خذلانه واحتقاره وإيذاؤه.
- معناه: أن إثم السباب الواقع من اثنين مختص بالبادئ منهما كله إلا أن يتجاوز الثاني قدر الانتصار، فيقول للبادئ أكثر مما قال له، وفي هذا جواز الانتصار ولا خلاف في جوازه، وقد تظاهرت عليه دلائل الكتاب والسنة، قال الله تعالى: { ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل}. الشورى ( النووي)

٢٤٧٩. (خ) (٢٤٤٩) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁ قالَ: قالَ رَسُول اللهِ ﷺ: «مَن كانَت لَهُ مَظلَمَةٌ لأَخِيهِ مِن عِرضِهِ أو شَيءٍ فَليَتَحَلَّلهُ مِنهُ اليَومَ قَبلَ أن لا يَكُونَ دِينارٌ ولا دِرهَمٌ، إن كانَ لَهُ عَمَلٌ صالِحٌ أُخِذَ مِنهُ بِقَدرِ مَظلَمَتِهِ، وإن لَم تَكُن لَهُ حَسَناتٌ أُخِذَ مِن سَيِّئاتِ صاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيه».
-عظم شأن الحقوق بين العباد، وما عظم شأنه رسول الله ﷺ حق للمسلم الفطن تعظيمه، وإدراك خطورته.
-فهذا الحديث أصرح النصوص في هذه المسألة؛ إذ نص على العرض، ثم عمم جميع الحقوق بقوله: "أو شيء". والحاصل أن التحلل مشروع مطلقا، فتبصر، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.( محمد الإتيوبي)

باب: الوَعِيدُ لِـمَن يُعَذِّبُ النّاسَ بِغَيْرِ حَقٍّ


٢٤٨٠. (م) (٢٦١٣) عَنْ عُرْوَةَ قالَ: مَرَّ هِشامُ بنُ حَكِيمِ بْنِ حِزامٍ ﵁ عَلى أُناسٍ مِنَ الأَنباطِ بِالشّامِ قَد أُقِيمُوا فِي الشَّمسِ، فَقالَ: ما شَأنُهُم؟ قالُوا: حُبِسُوا فِي الجِزيَةِ. فَقالَ هِشامٌ: أشهَدُ لَسَمِعتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «إنَّ اللهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النّاسَ فِي الدُّنيا». وفي رواية: قَد أُقِيمُوا فِي الشَّمسِ، وصُبَّ عَلى رُؤُوسِهِمُ الزَّيتُ، فَقالَ: ما هَذا؟ قِيلَ: يُعَذَّبُونَ فِي الخَراجِ. وفي رواية زاد: وأَمِيرُهُم يَومَئِذٍ عُمَيرُ بنُ سَعْدٍ عَلى فِلَسطِينَ، فَدَخَلَ عَلَيهِ فَحَدَّثَهُ، فَأَمَرَ بِهِم فَخُلُّوا. وفي رواية: وهو عَلى حِمصَ.
-" إن الله يعذب الذي يعذبون الناس "يعني إذا عذبوهم ظالمين، إما في أصل التعذيب، فيعذبونهم في موضع لا يجوز فيه التعذيب، أو بزيادة على المشروع في التعذيب: إما في المقدار، وإما في الصفة.
-" إن الله يعذب الذي يعذبون الناس "، هذا محمول على التعذيب بغير حق، فلا يدخل فيه التعذيب بحق كالقصاص، والحدود، والتعزير، ونحو ذلك.( النووي)
-وفيه بيان أن العالم يجب عليه إذا رأى ارتكاب ظلم ونحوه أن يذكر ما عنده من العلم حتى يرتدع الناس به، وينكفوا عن الظلم.

٢٤٨١. (م) (٢٨٥٧) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «يُوشِكُ إن طالَت بِكَ مُدَّةٌ أن تَرى قَومًا فِي أيدِيهِم مِثلُ أذنابِ البَقَرِ يَغدُونَ فِي غَضَبِ اللهِ، ويَرُوحُونَ فِي سَخَطِ اللهِ». وفي رواية: «ويَرُوحُونَ فِي لَعنَتِهِ».
-قوله: "يغدون، ويروحون" إما الدوام والاستمرار، كما في قوله تعالى: {يدعون ربهم بالغداة والعشي} [الأنعام: 52]؛ يعنى: أنهم أبدا في غضب الله، وسخطه، لا يحلم عليهم، ولا يرضى عنهم، وإن أريد بهما الوقتان المخصوصان؛ فالمعنى: يصبحون يؤذون الناس، ويروعونهم، ولا يرحمون عليهم، فغضب الله تعالى عليهم، ويمسون يتفكرون فيما لا يرضى عنهم الله تعالى، من الإيذاء، والروع. ( الطيبي)

باب: لِيَنْصُرَ الرَّجُلُ أخاهُ ظالِـمًا أوْ مَظْلُومًا


٢٤٨٢. (خ م) (٢٥٨٤) عَنْ جابِرٍ ﵁ قالَ: اقتَتَلَ غُلامانِ؛ غُلامٌ مِن المُهاجِرِينَ وغُلامٌ مِن الأَنصارِ، فَنادى المُهاجِرُ أو المُهاجرُونَ: يا لَلمُهاجِرِينَ. ونادى الأَنْصارِيُّ: يا لَلأَنصارِ. فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَقالَ: «ما هَذا؟ دَعوى أهلِ الجاهِلِيَّةِ». قالُوا: لا، يا رَسُولَ اللهِ، إلا أنَّ غُلامَينِ اقتَتَلا، فَكَسَعَ أحَدُهُما الآخَرَ. قالَ: «فَلا بَأسَ، وليَنصُرْ الرَّجُلُ أخاهُ ظالِمًا أو مَظلُومًا، إن كانَ ظالِمًا فَليَنهَهُ، فَإنَّهُ لَهُ نَصرٌ، وإن كانَ مَظلُومًا فَليَنصُرهُ». رَوى (خ) آخِرَهُ عَن أنَسٍ ﵁؛ وفِيهِ: أفَرَأَيتَ إذا كانَ ظالِمًا؛ كَيفَ أنصُرُهُ؟ قالَ: «تَحجُزُهُ أو تَمنَعُهُ مِنَ الظُّلمِ، فَإنَّ ذَلكَ نَصرَهُ». وفي رواية (خ): «تَأخُذُ فَوقَ يَدَيهِ».
-وتسميتها: دعوى الجاهلية، لأنها كانت من شعارهم وكانت تأخذ حقها بالعصبية فجاء الإسلام بإبطال ذلك، وفصل القضاء بالأحكام الشرعية إذا تعدى إنسان على آخر حكم الحاكم بينهما وألزم كلا ما لزمه.( العيني)
-قوله: "فقال: تأخذ فوق يديه" كنى به عن كفه عن الظلم بالفعل، إن لم يكف بالقول، وعبر بالفوقية إشارة إلى الأخذ بالاستعلاء والقوة.( ابن حجر)
-النصر عند العرب: الإعانة، وتفسيره لنصر الظالم بمنعه من الظلم، من تسمية الشيء بما يؤول إليه، وهو من وجيز البلاغة.( ابن بطال)
-قوله" فلا بأس" فمعناه لم يحصل من هذه القصة بأس مما كنت خفته، فإنه خاف أن يكون حدث أمر عظيم، يوجب فتنة، وفسادا، وليس هو عائدا إلى رفع كراهة الدعاء بدعوى الجاهلية.( النووي)

باب: فِـي دُخُولِ مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنْفُسَهُم


٢٤٨٣. (خ م) (٢٩٨٠) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ قالَ: مَرَرنا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ عَلى الحِجرِ، فَقالَ لَنا رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لا تَدخُلُوا مَساكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفُسَهُم إلا أن تَكُونُوا باكِينَ؛ حَذَرًا أن يُصِيبَكُم مِثلُ ما أصابَهُم». (ثُمَّ زَجَرَ) فَأَسرَعَ حَتّى خَلَّفَها. لَفظُ (خ) ثُمَّ قَنَّعَ رَأسَهُ وأَسرَعَ السَّيرَ حَتّى أجازَ الوادِيَ. وفي رواية: «فَإنَّ لَم تَكُونُوا باكِينَ فَلا تَدخُلُوا ...».
-ويستفاد منه كراهة دخول أمثال تلك المواضع والمقابر، فإن كان ولا بد من دخولها فعلى الصفة التي أرشد إليها النبي - ﷺ - من الاعتبار، والخوف، والإسراع. ( محمد الإتيوبي)

٢٤٨٤. (خ م) (٢٩٨١) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ ﵄؛ أنَّ النّاسَ نَزَلُوا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ عَلى الحِجرِ أرضِ ثَمُودَ، فاستَقَوا مِن آبارِها، وعَجَنُوا بِهِ العَجِينَ، فَأَمَرَهُم رَسُولُ اللهِ ﷺ أن يُهَرِيقُوا ما استَقَوا، ويَعلِفُوا الإبِلَ العَجِينَ، وأَمَرَهُم أن يَستَقُوا مِن البِئرِ الَّتِي كانَت تَرِدُها النّاقَةُ.
- فيه الحث على المراقبة والخشية والخوف عند المرور بديار الظالمين ومواضع العذاب.( موسى لاشين)
- ومثلة الإسراع في وادي محسر؛ لأن أصحاب الفيل هلكوا هناك، فينبغي للمار في هذه المواضع التذكر والاعتبار والخوف والبكاء وأن يستعيذ بالله من غضب الله. ( موسى لاشين)

كِتابُ القَدَرِ


باب: فِـي إثْباتِ القَدَرِ، وتَحاجِّ آدَمَ ومُوسى ﵉


٢٤٨٥. (خ م) (٢٦٥٢) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «احتَجَّ آدَمُ ومُوسى، فَقالَ مُوسى: يا آدَمُ؛ أنتَ أبُونا، خَيَّبتَنا، وأَخرَجتَنا مِن الجَنَّةِ. فَقالَ لَهُ آدَمُ: أنتَ مُوسى؛ اصطَفاكَ اللهُ بِكَلامِهِ، وخَطَّ لَكَ بِيَدِهِ، أتَلُومُنِي عَلى أمرٍ قَدَّرَهُ اللهُ عَلَيَّ قَبلَ أن يَخلُقَنِي بِأَربَعِينَ سَنَةً؟» فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «فَحَجَّ آدَمُ مُوسى، فَحَجَّ آدَمُ مُوسى».
وفي رواية (م): «احتجَّ آدمُ ومُوسى عِنْدَ ربِّهِما ... وفيها: قالَ مُوسى: أنتَ آدمُ الَّذِي خَلَقَكَ اللهُ بِيَدِهِ، ونَفَخَ فيكَ مِن رُوحِهِ، وأسجَدَ لك ملائكتَهُ، وأسكَنَكَ في جَنَّتِهِ، ثم أهبطتَ النّاسَ بِخَطِيئتكَ إلى الأرضِ؟ فقالَ آدمُ: أنْتَ مُوسى ... نحوه وزاد: وأَعطاكَ الألواحَ فِيها تِبيانُ كُلِّ شيءٍ، وقَرَّبك نَجِيًّا؛ فبِكَم وجَدتَ اللهَ كَتَبَ التَّوراةَ قَبلَ أن أُخلَقَ؟ قال موسى: بِأربَعِينَ عامًا. قالَ آدمُ: فَهَل وجدَتَ فيها: ﴿وعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى﴾ [طه: ١٢١]؟ قالَ: نَعَم. قال: أفَتلُومُني على أن عَمِلتُ عَمَلًا كَتَبَهُ اللهُ عليَّ أن أعمَلَهُ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً ..».
-فيه ذكر الجنة وأنها موجودة من قبل آدم وهذا مذهب أهل الحق. ( النووي)
-فيه حجة لأهل السنة في أن الجنة التي أخرج منها آدم هي جنة الخلد التي وعد المتقون، ويدخلونها في الآخرة خلافا لمن قال إنها جنة أخرى، ومنهم من زعم أنها كانت في الأرض. ( القاضي عياض)
-ومن قوله في الرواية الثانية " أنت الذي أعطاك الله علم كل شيء " إطلاق العموم وإرادة الخصوص إذ المراد به علم كل شيء يتعلق بكتابه، وليس المراد عمومه لأنه ثبت علم الخضر بما لا يعلمه موسى.( موسى لاشين)
-وفيه مشروعية الحجج في المناظرة لإظهار الحق. (موسى لاشين)
- وإباحة التوبيخ والتعريض في أثناء الحجاج ليتوصل إلى ظهور الحجة. ( موسى لاشين)
- وفيه مناظرة العالم من هو أكبر منه والابن أباه ومحل مشروعية ذلك إذا كان لإظهار الحق، أو الازدياد من العلم والوقوف على حقائق الأمور. ( موسى لاشين)
- وفيه أنه يغتفر للشخص في بعض الأحوال ما لا يغتفر له في بعضها، كحالة الغضب والأسف، وخصوصا ممن طبع على حدة الخلق وشدة الغضب، فإن موسى عليه السلام لما غلبت عليه حالة الغضب والإنكار في المناظرة خاطب آدم مع كونه والده باسمه مجردا، وخاطبه بأشياء لم يكن ليخاطب بها في غير تلك الحالة، ومع ذلك فأقره على ذلك وعدل إلى معارضته فيما أبداه من الحجة في دفع شبهته. ( موسى لاشين)

باب: كِتابَةُ مَقادِيرِ الخَلائقِ وكُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ


٢٤٨٦. (م) (٢٦٥٣) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاصِ ﵄ قالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «كَتَبَ اللهُ مَقادِيرَ الخَلائِقِ قَبلَ أن يَخلُقَ السَّماواتِ والأَرضَ بِخَمسِينَ ألفَ سَنَةٍ، قالَ: وعَرشُهُ عَلى الماءِ».
٢٤٨٧. (م) (٢٦٥٥) عَنْ طاوُسٍ قالَ: أدرَكتُ ناسًا مِن أصحابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ يَقُولُونَ: كُلُّ شَيءٍ بِقَدَرٍ، قالَ: وسَمِعتُ عَبدَ اللهِ بنَ عُمَرَ يَقُولُ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «كُلُّ شَيءٍ بِقَدَرٍ حَتّى العَجزُ والكَيسُ، أوِ الكَيسُ والعَجزُ».
٢٤٨٨. (م) (٢٦٥٦) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁ قالَ: جاءَ مُشرِكُو قُرَيشٍ يُخاصِمُونَ رَسُولَ اللهِ ﷺ فِي القَدَرِ، فَنَزَلَت: ﴿يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨) إنّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: ٤٨، ٤٩].

باب: فِـي سَبْقِ الـمَقادِيرِ والشَّقاوَةِ والسَّعادَةِ


٢٤٨٩. (خ م) (٢٦٤٩) عَنْ عِمْرانَ بْنِ حُصَيْنٍ ﵁ قالَ: قِيلَ: يا رَسُولَ اللهِ؛ أعُلِمَ أهلُ الجَنَّةِ مَن أهلِ النّارِ؟ قالَ: فَقالَ: «نَعَم». قالَ: قِيلَ: فَفِيمَ يَعمَلُ العامِلُونَ؟ قالَ: «كُلٌّ مُيَسَّر لِما خُلِقَ لَهُ».
ورَوى (م) عَن أبِي الأَسوَدِ الدِّيلِي قالَ: قالَ لِي عِمرانُ بنُ الحُصَينِ ﵁: أرَأَيتَ ما يَعمَلُ النّاسُ اليَومَ ويَكدَحُونَ فِيهِ، أشَيءٌ قُضِيَ عَلَيهِم ومَضى عَلَيهِم مِن قَدَرِ ما سَبَقَ، أو فيما يُستَقبَلُونَ بِهِ مِمّا أتاهُم بِهِ نبيُّهُم ﷺ وثَبَتَتِ الحُجَّةُ عَليهم؟ فَقُلتُ: بَل شَيءٌ قُضِيَ عَلَيهِم ومَضى عَلَيهِم، قالَ: فَقالَ: أفَلا يِكُونُ ظُلمًا؟ قالَ: فَفَزِعتُ مِن ذَلكَ فَزَعًا شَدِيدًا، وقُلتُ: كُلُّ شَيءٍ خَلقُ اللهِ ومِلكُ يَدِهِ، فَلا يُسأَلُ عَمّا يَفعلُ وهُم يُسأَلُونَ، فَقالَ لِي: يَرحَمُكَ اللهُ؛ إني لَم أُرِد بِما سَأَلتُكَ إلا لأَحزِرَ عَقلَكَ، إنَّ رَجُلَينِ مِن مُزَينةَ أتَيا رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَقالا: يا رَسُولَ اللهِ؛ أرَأَيتَ ما يَعمَلُ النّاسُ اليَومَ ويَكدَحُونَ فِيهِ، أشَيءٌ قُضِيَ عَلَيهِم ومَضى عَلَيهِم مِن قَدَرٍ قَد سَبَقَ، أو فِيما يُستَقبَلُونَ بِهِ مِمّا أتاهُم بِهِ نَبِيُّهُم ﷺ وثَبَتَتِ الحُجَّةُ عَلَيهِم؟ فَقالَ: «لا بَل شَيءٌ قُضِيَ عَلَيهِم ومَضى فِيهِم، وتَصدِيقُ ذَلكَ فِي كِتابِ اللهِ ﷿: ﴿ونَفْسٍ وما سَوّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وتَقْواها﴾».
-وفيه اختبار العلماء طلبة العلم وإلقاء صعاب المسائل عليهم؛ ليعلموا مقادير علمهم، أو ليبينوا لهم مشكل ما تدعوهم ضرورته إليه مما عساهم لا يهتدون لسؤاله، أو يخافون خطأهم وغلطهم فيه.
- وفيه جواز كلام أهل العلم في هذا الباب، وتحاججهم، ومناظرتهم لإظهار الحجج لا للجدل. والمراد المغالبة، وأما ما ورد من نهى النبى ﷺ عن الجدال إنما هو لمن ليس من أهل العلم بهذا الشأن، أو الجدال بالباطل، ومقالات أهل البدع فيه. (القاضي عياض)

٢٤٩٠. (خ م) (٢٦٤٧) عَنْ عَلِيٍّ ﵁ قالَ: كُنّا فِي جَنازَةٍ فِي بَقِيعِ الغَرقَد، فَأَتانا رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَقَعَدَ وقَعَدنا حَولَهُ، ومَعَهُ مِخصَرَةٌ، فَنَكَّسَ، فَجَعَلَ يَنكُتُ بِمِخصَرَتِهِ، ثُمَّ قالَ: «ما مِنكُم مِن أحَدٍ؛ ما مِن نَفسٍ مَنفُوسَةٍ إلا وقَد كَتَبَ اللهُ مَكانَها مِن الجَنَّةِ والنّارِ، وإلا وقَد كُتِبَت شَقِيَّةً أو سَعِيدَةً». قالَ: فَقالَ رَجَلٌ: يا رَسُولَ اللهِ؛ أفَلا نَمكُثُ عَلى كِتابِنا، ونَدَعُ العَمَلَ؟ (فَقالَ:) «مَن كانَ مِن أهلِ السَّعادَةِ فَسَيَصِيرُ إلى عَمَلِ أهلِ السَّعادَةِ، ومَن كانَ مِن أهلِ الشَّقاوَةِ فَسَيَصِيرُ إلى عَمَلِ أهلِ الشَّقاوَةِ، فَقالَ: اعمَلُوا؛ فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ، أمّا أهلُ السَّعادَةِ فَيُيَسَّرُون لِعَمَلِ أهلِ السَّعادَةِ، وأَمّا أهلُ الشَّقاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أهلِ الشَّقاوَةِ»، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿فَأَمّا مَن أعْطى واتَّقى (٥) وصَدَّقَ بِالحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧) وأَمّا مَن بَخِلَ واسْتَغْنى (٨) وكَذَّبَ بِالحُسْنى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى﴾ [الليل: ٥-١٠].

باب: فِـي الخَلْقِ يُخَلَّقُ والكِتابَةِ


٢٤٩١. (خ م) (٢٦٤٣) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ ﵁ قالَ: حَدَّثَنا رَسُولُ اللهِ ﷺ وهُوَ الصّادِقُ المَصدُوقُ: «إنَّ أحَدَكُم يُجمَعُ خَلقُهُ فِي بَطنِ أُمِّهِ أربَعِينَ يَومًا، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلكَ عَلَقَةً مِثلَ ذَلكَ، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلكَ مُضغَةً مِثلَ ذَلكَ، ثُمَّ يُرسَلُ المَلَكُ، فَيَنفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، ويُؤمَرُ بِأَربَعِ كَلِماتٍ؛ بِكَتبِ رِزقِهِ وأَجَلِهِ وعَمَلِهِ وشَقِيٌّ أو سَعِيدٌ، فَوالَّذِي لا إلَهَ غَيرُهُ إنَّ أحَدَكُم لَيَعمَلُ بِعَمَلِ أهلِ الجَنَّةِ، حَتّى ما يَكُونُ بَينَهُ وبَينَها إلا ذِراعٌ، فَيَسبِقُ عَلَيهِ الكِتابُ، فَيَعمَلُ بِعَمَلِ أهلِ النّارِ فَيَدخُلُها، وإنَّ أحَدَكُم لَيَعمَلُ بِعَمَلِ أهلِ النّارِ، حَتّى ما يَكُونُ بَينَهُ وبَينَها إلا ذِراعٌ، فَيَسبِقُ عَلَيهِ الكِتابُ، فَيَعمَلُ بِعَمَلِ أهلِ الجَنَّةِ فَيَدخُلُها». لَفظُ (خ): «فَيُؤمَرُ بِأَربَعِ كَلِماتٍ ... ثُمَّ يُنفَخُ فِيهِ الرُّوحُ ...».
٢٤٩٢. (خ م) (٢٦٤٦) عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ ﵁، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «إنَّ اللهَ ﷿ قَد وكَّلَ بِالرَّحِمِ مَلَكًا، فَيَقُولُ: أي رَبِّ؛ نُطفَةٌ؟ أي رَبِّ؛ عَلَقَةٌ؟ أي رَبِّ؛ مُضغَةٌ؟ فَإذا أرادَ اللهُ أن يَقضِيَ خَلقًا قالَ: قالَ المَلَكُ: أي رَبِّ؛ ذَكَرٌ أو أُنثى؟ شَقِيٌّ أو سَعِيدٌ؟ فَما الرِّزقُ؟ فَما الأَجَلُ؟ فَيُكتَبُ كَذَلكَ فِي بَطنِ أُمِّهِ». وفي رواية (م) زادَ: «ثُمَّ يَقُولُ: يا رَبِّ؛ أسَوِيٌّ أو غَيرُ سَوِيٍّ؟ فَيَجعَلُهُ اللهُ سَوِيًّا أو غَيرَ سَوَيٍّ ...».
ورَوى (م) عَن عامِرِ بْنِ واثِلَةَ؛ أنَّهُ سَمِعَ عَبدَ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ يَقُولُ: الشَّقيُّ مَن شَقِيَ فِي بَطنِ أُمِّهِ، والسَّعِيدُ مَن وُعِظَ بِغَيرِهِ. فَأَتى رَجُلًا مِن أصحابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ يُقالُ لَهُ حُذَيْفَةُ بنُ أسِيدٍ الغِفاريُّ، فَحَدَّثَهُ بِذَلكَ مِن قَولِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَقالَ: وكَيفَ يَشْقى رَجُلٌ بِغَيرِ عَمَلٍ؟ فَقالَ لَهُ الرَّجُلُ: أتَعجَبُ مِن ذَلكَ؟ فَإني سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «إذا مَرَّ بِالنُّطْفَةِ ثِنتانِ وأَربَعُونَ لَيلَةً بَعَثَ اللهُ إلَيها مَلَكًا، فَصَوَّرَها، وخَلَقَ سَمعَها وبَصَرَها وجِلدَها ولَحمَها وعِظامَها، ثُمَّ قالَ: يا رَبِّ؛ أذَكَرٌ أم أنثى؟ فَيَقضِي رَبُّكَ ما شاءَ، ويَكتُبُ المَلَكُ، ثُمَّ يَقُولُ: يا رَبِّ؛ أجَلُهُ؟ فَيَقُولُ رَبُّكَ ما شاءَ، ويَكتُبُ المَلَكُ، ثُمَّ يَقُولُ: يا رَبِّ؛ رِزقُهُ؟ فَيِقضِي رَبُّكَ ما شاءَ، ويَكتُبُ المَلَكُ، ثُمَّ يَخرُجُ المَلَكُ بِالصَّحِيفةِ فِي يَدِهِ، فَلا يَزِيدُ عَلى ما أُمِرَ ولا يَنقُصُ».
وفي رواية عَن حُذَيْفَةَ بْنِ أسِيدٍ؛ وفِيها: «يَدخُلُ المَلَكُ عَلى النُّطفَةِ بَعدَما تَستَقِرُّ فِي الرَّحِمِ بِأَربَعِينَ أو خَمسَةٍ وأَربَعِينَ لَيلَةً فَيَقُولُ: أي رَبِّ؛ أشَقيٌّ ...» نَحوَهُ وفي رواية (م) زادَ: «ثُمَّ يَقُولُ: يا رَبِّ؛ أسَوِيٌّ أو غَيرُ سَوِيٍّ؟ فَيَجعَلُهُ اللهُ سَوِيًّا أو غَيرَ سَويٍّ ...».
أن التوبة تهدم الذنوب قبلهاـ؛ لأنه إذا هدم الله الذنوب لمن عمل بعمل أهل النار حتى لم يكن بينه وبين النار إلا قليل بدون توبة هدم الذنوب بالتوبة من باب أولى.
- أن العبرة بالخاتمة فقد تغاير واقع العمل في طول الحياة، وهذا قد يقع في نادر الناس لا أنه غالب فيهم، ثم إنه من لطف الله تعالى وسعة رحمته انقلاب الناس من الشر إلى الخير في كثرة، وأما انقلابهم من الخير إلى الشر ففي غاية الندور ونهاية القلة، وهو نحو قوله تعالى "إن رحمتي سبقت غضبي"، ويدخل في هذا من انقلب إلى عمل النار بكفر أو معصية، لكن يختلفان في التخليد وعدمه فالكافر يخلد في النار، والعاصي الذي مات موحدا لا يخلد فيها.
- هذه الأحاديث دلالات ظاهرة لمذهب أهل السنة في أن جميع المواقعات بقضاء الله وقدره خيرها وشرها نفعها وضرها، وأن مصير الأمور في العاقبة إلى ما سبق به القضاء، وجرى به القدر في الابتداء.
- وفيه أن الأعمال حسنها وسيئها أمارات وليست بموجبات.
- وفيه القسم على الخبر الصادق تأكيدا في نفس السامع,
- وفيه الإشارة إلى علم المبدأ والمعاد وما يتعلق ببدن الإنسان وحاله في الشقاوة والسعادة
- وفيه أن عموم مثل قوله تعالى {من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم } [النحل 97] مخصوص بمن مات على ذلك.
- وفي الأحاديث التنبيه على صدق البعث بعد الموت؛ لأن من قدر على خلق الشخص من ماء مهين، ثم نقله إلى علقة ثم مضغة ثم نفخ فيه الروح قادر على نفخ الروح بعد أن يصير ترابا، ويجمع أجزاءه بعد أن يفرقها
- وفيه أن مقادير الخلائق تكتب وهم في بطون أمهاتهم، وأما ما رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمر مرفوعا "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات بخمسين ألف سنة" فهو محمول على كتابة ذلك في اللوح المحفوظ على وفق ما في علم الله تعالى.
- وفيه الحث على الإستعاذة من سوء الخاتمة. (موسى شاهين)

باب: كُتِبَ عَلى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنَ الزِّنا


٢٤٩٣. (خ م) (٢٦٥٧) عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﵄ قالَ: ما رَأَيتُ شَيئًا أشبَهَ بِاللَّمَمِ مِمّا قالَ أبُو هُرَيْرَةَ؛ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «إنَّ اللهَ كَتَبَ عَلى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِن الزِّنا، أدرَكَ ذَلكَ لا مَحالَةَ، فَزِنا العَينَينِ النَّظَرُ، وزِنا اللِّسانِ النُّطقُ، والنَّفسُ تَمَنّى وتَشتَهِي، والفَرجُ يُصَدِّقُ ذَلكَ أو يُكَذِّبُهُ». وفي رواية (م): «نَصِيَبُهُ مِن الزِّنا ...»، وفِيها: «والأُذنانِ زِناهُما الاستِماعُ، واللسانُ زِناهُ الكَلامُ، واليَدُ زِناها البَطشُ، والرِّجلُ زِناها الخُطا، والقَلبُ يَهوى ويَتَمَنّى، ويُصَدِّقُ ذَلِكَ الفَرجُ ويُكَذِّبُهُ».
-وإنما أطلق على هذه الأمور كلها: زنا، لأنها مقدماتها، إذ لا يحصل الزنا الحقيقي في الغالب إلا بعد استعمال هذه الأعضاء في تحصيله. (القرطبي(

باب: كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلى الفِطْرَةِ


٢٤٩٤. (خ م) (٢٦٥٨) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «ما مِن مَولُودٍ إلا يُولَدُ عَلى الفِطرَةِ، فَأَبَواهُ يُهَوِّدانِهِ، ويُنَصِّرانِهِ، ويُمَجِّسانِهِ، كَما تُنتَجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمعاءَ؛ هَل تُحِسُّونَ فِيها مِن جَدعاءَ؟» ثُمَّ يَقُولُ أبُو هُرَيْرَةَ: (واقرَؤوا إن شِئتُم): ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ [الروم: ٣٠] الآيَةَ. وفي رواية (م): «لَيسَ مِن مَولُودٍ يُولَدُ إلّا عَلى هَذِهِ الفِطرَةِ حَتّى يُعبِّرَ عَنهُ لِسانُهُ». وفي رواية: «ويُشرِّكانِهِ».
- معناه: أن كل مولود من البشر إنما يولد في مبدأ الخلقة وأصل الجبلة على الفطرة السليمة، والطبع المتهيء لقبول الدين فلو ترك عليها وخلى وسومها لاستمر على لزومها ولم يفارقها إلى غيرها، لأن هذا الدين موجود حسنه في العقل يسره في النفوس، وإنما يعدل عنه من يعدل إلى غيره ويؤثر عليه لآفة من آفات النشوء والتقليد، فلو سلم المولود من تلك الآفات لم يعتقد غيره ولم يختر عليه ما سواه، ثم يمثل بأولاد اليهود والنصارى في اتباعهم لآبائهم والميل إلى أديانهم فيزولون بذلك عن الفطرة السليمة وعن المحجة المستقيمة.
- في الحديث إشارة إلى شدة تأثير المؤثرات الخارجية على معتقد الإنسان وسلوكه، مما يوجب التنبه إلى أن كل ما يتلقى الإنسان لابد أن يعرضه على الكتاب والسنة؛ ليسترشد بنورهما.

باب: ما ذُكِرَ فِـي أطْفالِ الـمُسْلِمِينَ والـمُشْرِكِينَ


٢٤٩٥. (خ م) (٢٦٦٠) عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﵄ قالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَن أطفالِ المُشرِكِينَ، قالَ: «اللهُ أعلَمُ بِما كانُوا عامِلِينَ إذ خَلَقَهُم».
ولَهُما عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: سُئِلَ رِسُولُ الله ﷺ عَن (أطفالِ المشرِكِينَ) مَن يَمُوتُ مِنهُم صَغِيرًا؟... نحوه، وفي رواية (م) هي لفظ (خ): عَن ذَرارِيِّ المُشرِكِينَ ... الحديث.
٢٤٩٦. (م) (٢٦٦٢) عَنْ عائِشَةَ ﵂ قالَت: دُعِيَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إلى جَنازَةِ صَبِيٍّ مِنَ الأَنصارِ، فَقُلتُ: يا رَسُولَ اللهِ؛ طُوبى لِهَذا عُصفُورٌ مِن عَصافِيرِ الجَنَّةِ، لَم يَعمَلِ السُّوءَ، ولَم يُدرِكهُ، قالَ: «أوَ غَيرَ ذَلكَ يا عائشة، إنَّ اللهَ خَلَقَ لِلجَنَّةِ أهلًا، خَلَقَهُم لَها وهُم فِي أصلابِ آبائِهِم، وخَلَقَ لِلنّارِ أهلًا، خَلَقَهُم لَها وهُم فِي أصلابِ آبائِهِم».
-فيه عدم القطع لأحد بالجنة حتى ولو كان صغيرا تأدبا مع الله عز وجل، فإنه سبحانه هو الذي يعلم من هو من أهل الجنة.
-وفيه مشروعية إعلام أهل الفضل حتى يصلوا على موتى المسلمين، وليس ذلك من النعي المنهي عنه.

باب: الآجالُ والأَرْزاقُ بِقَدَرٍ


٢٤٩٧. (م) (٢٦٦٣) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ ﵁ قالَ: قالَت أُمُّ حَبِيبَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ ﷺ: اللَّهُمَّ مَتِّعنِي بِزَوجِي رَسُولِ اللهِ ﷺ وبِأبِي أبِي سُفيانَ وبِأَخِي مُعاوِيَةَ. فَقالَ لَها رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إنَّكِ سَأَلتِ اللهَ لآجالٍ مَضرُوبَةٍ، وآثارٍ مَوطُوءَةٍ، وأَرزاقٍ مَقسُومَةٍ، لا يُعَجِّلُ شَيئًا مِنها قَبلَ حِلِّهِ، ولا يُؤَخِّرُ مِنها شَيئًا بَعدَ حِلِّهِ، ولَو سَأَلتِ اللهَ أن يُعافِيَكِ مِن عَذابٍ فِي النّارِ وعَذابٍ فِي القَبرِ لَكانَ خَيرًا لَكِ». قالَ: فَقالَ رَجُلٌ: يا رَسُولَ اللهِ؛ القِرَدَةُ والخَنازِيرُ هِيَ مِمّا مُسِخَ؟ فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إنَّ اللهَ ﷿ لَم يُهلِك قَومًا أو يُعَذِّب قَومًا فَيَجعَلَ لَهُم نَسلًا، وإنَّ القِرَدَةَ والخَنازِيرَ كانُوا قَبلَ ذَلكَ».

باب: الاسْتِعانَةُ بِاللهِ وتَرْكِ العَجْزِ


٢٤٩٨. (م) (٢٦٦٤) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «المُؤمِنُ القَوِيُّ خَيرٌ وأَحَبُّ إلى اللهِ مِنَ المُؤمِنِ الضَّعِيفِ، وفِي كُلٍّ خَيرٌ، احرِص عَلى ما يَنفَعُكَ واستَعِن بِاللهِ ولا تَعجَز، وإن أصابَكَ شَيءٌ فَلا تَقُل: لَو أنِّي فَعَلتُ كانَ كَذا وكَذا، ولَكِن قُل: قَدَرُ اللهِ وما شاءَ فَعَلَ، فَإنَّ لَو تَفتَحُ عَمَلَ الشَّيطانِ».

باب: تَصْرِيفُ اللهِ ﷿ القُلُوبَ كَيْفَ شاءَ


٢٤٩٩. (م) (٢٦٥٤) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو ﵄؛ أنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «إنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّها بَينَ إصبَعَينِ مِن أصابِعِ الرَّحْمَنِ كَقَلبٍ واحِدٍ يُصَرِّفُه حَيثُ شاءَ». ثُمَّ قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ القُلُوبِ صَرِّف قُلُوبَنا عَلى طاعَتِكَ».
٢٥٠٠. (خ) (٦٦٢٨) عَنِ ابْنِ عُمَرَ ﵄ قالَ: كانَتْ يَمِينُ النَّبِيِّ ﷺ: «لا ومُقَلِّبِ القُلُوبِ». وفي رواية: قال: أكثَرُ ما كانَ النَّبِيُّ ﷺ يَحلِفُ ... مثله.
- (لا ومقلب القلوب)، لأن في اليمين بالله توحيدا وتعظيما له تعالى، وإنما يكره تعمد الحنث.( ابن حجر)
-قوله(صرف قلوبنا على طاعتك")؛ أي: قلبها على أنواع طاعتك، بأن تتقلب من طاعة إلى طاعة أخرى، ولا تخرج عنها إلى المعاصي.( محمد الإتيوبي)

١ "إن الله يملي (........) فإذا أخذه لم يفلته":

٥/٠