كِتابُ التَّعَوُّذِ


باب: الـتَّعَوُّذُ مِن شَرِّ الفِتَـنِ


٢٥٧٠. (خ م) (٥٨٩) عَنْ عائِشَةَ ﵂؛ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كانَ يَدعُو بِهَؤُلاءِ الدَّعَواتِ: «اللَّهُمَّ فَإنِّي أعُوذُ بِكَ مِن فِتنَةِ النّارِ، وعَذابِ النّارِ، وفِتنَةِ القَبرِ، وعَذابِ القَبرِ، ومِن شَرِّ فِتنَةِ الغِنى، ومِن شَرِّ فِتنَةِ الفَقرِ، وأَعُوذُ بِكَ مِن شَرِّ فِتنَةِ المَسِيحِ الدَّجّالِ، اللَّهُمَّ اغسِل خَطايايَ بِماءِ الثَّلجِ والبَرَدِ، ونَقِّ قَلبِي مِن الخَطايا كَما نَقَّيتَ الثَّوبَ الأَبيَضَ مِن الدَّنَسِ، وباعِد بَينِي وبَينَ خَطايايَ كَما باعَدتَ بَينَ المَشرِقِ والمَغرِبِ، اللَّهُمَّ فَإنِّي أعُوذُ بِكَ مِن الكَسَلِ والهَرَمِ، والمَأثَمِ والمَغرَمِ».
- فتنة الغنى المراد بها حب المال الزائد، الذي يدفع صاحبه إلى الطغيان، ويجعل الإنسان يجمعه من حلال وحرام.
- فتنة الفقر يراد به الفقر المدقع الذي يخل بمروءة الإنسان، فيسعى إليه بأي طريق شاء، ولا يبالي بسبب فاقته على أي حرام وثب، ولا في أي حالة تورط، وقيل: المراد به " فقر النفس " الذي لا يرده ملك الدنيا بحذافيرها. " الصابوني "
- في قوله ﷺ التقييد هنا " بشر "، لأن الغني فيه خير باعتبار، فالتقييد يخرج ما فيه من الخير سواء قل أو كثر.
- قال النووي: وأما استعاذته ﷺ من فتنة الغنى وفتنة الفقر؛ فلأنهما حالتان تخشى الفتنة فيهما بالتسخط وقلة الصبر، والوقوع في حرام أو شبهة للحاجة، ويخاف في الغنى من الأشر والبطر والبخل بحقوق المال، أو إنفاقه في إسراف وفي باطل، أو في مفاخر، وأما ( الكسل ): فهو عدم انبعاث النفس للخير، وقلة الرغبة مع إمكانه.

باب: فِـي التَّعَوُّذِ مِنَ العَجْزِ والكَسَلِ


٢٥٧١. (خ م) (٢٧٠٦) عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ ﵁ قالَ: كانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِن العَجزِ والكَسَلِ، والجُبنِ والهَرَمِ والبُخلِ، وأَعُوذُ بِكَ مِن عَذابِ القَبرِ، ومِن فِتنَةِ المَحيا والمَماتِ».
ورَوى (خ) عَن أنَسٍ قالَ: كُنتُ أخْدُمُ رَسُولِ اللهِ ﷺ كُلَّما نَزَلَ، فَكُنتُ أسمَعُهُ يَكثُرُ أن يَقُولَ: «اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِن الهَمِّ والحَزَنِ، والعَجزِ والكَسَلِ، والجُبنِ والبُخلِ، وضَلَعِ الدَّينِ، وغَلَبةِ الرِّجال».
ورَوى (خ) عَن سَعدِ بْنِ أبِي وقّاصٍ ﵁ قالَ: كانَ النَّبِيُّ ﷺ يُعَلِّمُنا هَؤُلاءِ الكَلِماتِ كَما تُعَلَّمُ الكِتابَةُ: «اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِن البُخلِ، وأَعُوذُ بِكَ مِنَ الجُبنِ، وأَعُوذُ بِكَ مِن أن نُرَدَّ إلى أرذَلِ العُمُرِ، وأَعُوذُ بِكَ مِن فِتنَةِ الدُّنيا، وعَذابِ القَبرِ».
- قوله: ( وأن أرد إلى أرذل العمر ) لما فيه من الخرف، واختلال العقل والحواس والضبط والفهم، وتشويه بعض المنظر، والعجز عن كثير من الطاعات، والتساهل في بعضها. ( النووي )
- وأما استعاذته ﷺ من الجبن والبخل فلما فيهما من التقصير عن أداء الواجبات، والقيام بحقوق الله تعالى، وإزالة المنكر، والإغلاظ على العصاة، ولأنه بشجاعة النفس وقوتها المعتدلة تتم العبادات، ويقوم بنصر المظلوم والجهاد، وبالسلامة من البخل يقوم بحقوق المال، وينبعث للإنفاق والجود ولمكارم الأخلاق، ويمتنع من الطمع فيما ليس له، قال العلماء: واستعاذته ﷺ من هذه الأشياء لتكمل صفاته في كل أحواله وشرعه أيضا تعليما. ( النووي )

باب: فِـي التَّعَوُّذِ مِن سُوءِ القَضاءِ ودَرَكِ الشَّقاءِ وزَوالِ النِّعْمَةِ


٢٥٧٢. (خ م) (٢٧٠٧) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁؛ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ كانَ يَتَعَوَّذُ مِن سُوءِ القَضاءِ، ومِن دَرَكِ الشَّقاءِ، ومِن شَماتَةِ الأَعداءِ، ومِن جَهدِ البَلاءِ.
- مشروعية الاستعاذة مما يخاف منه الإنسان.
- استحباب الاستعاذة من الأشياء المذكورة.
- من فوائد الدعاء والاستعاذة إظهار العبد فاقته لربه وتضرعه إليه.
- قد جاء هذا الدعاء مسجعا ذلك السجع لم يكن متكلفا، وإنما يكره من ذلك ما كان متكلفا وإنما دعا النبي ﷺ بهذه الدعوات، وتعوذ بهذه التعوذات إظهارا للعبودية، وبيانا للمشروعية؛ ليقتدى بدعواته ويتعوذ بتعويذاته. ( القرطبي )
- فأما الاستعاذة من سوء القضاء، فيدخل فيها سوء القضاء في الدين والدنيا، والبدن والمال والأهل، وقد يكون ذلك في الخاتمة.
وأما درك الشقاء: فيكون أيضا في أمور الآخرة والدنيا، ومعناه: أعوذ بك أن يدركني شقاء.
وشماتة الأعداء هي: فرح العدو ببلية تنزل بعدوه.
وأما جهد البلاء: فروي عن ابن عمر أنه فسره: بقلة المال وكثرة العيال، وقال غيره: هي الحال الشاقة. ( النووي )

٢٥٧٣. (م) (٢٧٣٩) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ ﵄ قالَ: كانَ مِن دُعاءِ رَسُولِ اللهِ ﷺ: «اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِن زَوالِ نِعمَتِكَ، وتَحَوُّلِ عافِيَتِكَ، وفُجاءَةِ نِقمَتِكَ، وجَمِيعِ سَخَطِكَ».
- أعظم النعم نعمة الإسلام، ولهذا يشرع للعبد أن يسأل الله سبحانه أن يثبته عليه، وأن يزيده منه، بأن يحمد الله على ذلك، وأن يشكره، وأن يثني عليه سبحانه "عبد المحسن الزامل - شرح بلوغ المرام "
- ( فجاءة نقمتك ): فجأة النقمة، أو فجاءة النقمة من بلاء أو مصيبة يأتي على فجأة بخلاف ما إذا سبقه شيء بأن لم يكن فجأة فإنه يكون أخف، وربما كان سببا توبة العبد ورجوعه. "عبد المحسن الزامل - شرح بلوغ المرام "
- ( وجميع سخطك ): هذه من أعظم الدعوات، أن يستعيذ العبد من جميع سخطه، وأعظم سخطه أن يأتي العبد ما حرم الله. " عبد المحسن الزامل - شرح بلوغ المرام "

باب: فِـي التَّعَوُّذِ بِكَلِماتِ اللهِ التّامّاتِ


٢٥٧٤. (م) (٢٧٠٨) عَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ حَكِيمٍ السُّلَمِيَّةِ ﵂ قالَت: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «مَن نَزَلَ مَنزِلًا ثُمَّ قالَ: أعُوذُ بِكَلِماتِ اللهِ التّامّاتِ مِن شرِّ ما خَلَقَ، لَم يَضُرُّهُ شَيءٌ حَتّى يَرتَحِلَ مِن مَنزِلِهِ ذَلكَ». وفي رواية: «إذا نَزَلَ أحَدُكُم مَنزِلًا فَليَقُل ...».
٢٥٧٥. (م) (٢٧٠٩) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁ قالَ: جاءَ رَجُلٌ إلى النَّبِيِّ ﷺ فَقالَ: يا رَسُولَ اللهِ؛ ما لَقِيتُ مِن عَقرَبٍ لَدَغَتنِي البارِحَةَ. قالَ: «أما لَو قُلتَ حِينَ أمسَيتَ: أعُوذُ بِكَلِماتِ اللهِ التّامّاتِ مِن شَرِّ ما خَلَقَ، لَم تَضُرَّكَ».
٢٥٧٦. (خ) (٣٣٧١) عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﵄ قالَ: كانَ النَّبِيُّ ﷺ يُعَوِّذُ الحَسَنَ والحُسَينَ، ويَقُولُ: «إنَّ أباكُما كانَ يُعَوِّذُ بِها إسماعِيلَ وإسحاقَ: أعُوذُ بِكَلِماتِ اللهِ التّامَّةِ مِن كُلِّ شَيطانٍ وهامَّةٍ، ومِن كُلِّ عَينٍ لامَّةٍ».
- ( يعوذ الحسن والحسين ): من التعوذ، وهي الحماية والالتجاء إلى الله تعالى، ومعنى أعوذ: ألجأ، والتعوذ، والاستعاذة، والتعويذ، كلها بمعنى واحد، أي كان ﷺ يقول للحسن والحسن: ( أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شر وأذى ). " الصابوني "
- ( من كل شيطان وهامة ) الهامة: جمع هوام، وهي: الأفاعي، والحيات ذوات السم القاتل." الصابوني "
- ( من كل عين لامة ): أي من كل عين حاسد، تصيب الإنسان بالضرر، وهي العين العائنة. " الصابوني "
- ( إن أباكم ) أي أبا الأنبياء ( إبراهيم ) عليه السلام أضافهما إليه، لأنهما من نسله، أي إن إبراهيم عليه السلام كان يقرأ هذه الدعوات على ولديه " إسماعيل " و " إسحاق " يعوذهما بها. " الصابوني "
- فيه مشروعية تعويذ الأولاد من عين الحساد، ومن كل ما يصيب المولود من أذى وضرر." الصابوني "
- فيه أن التعوذ من سنن الأنبياء والمرسلين، لأن الالتجاء إلى الله تعالى يحمي الإنسان من الشر والبلاء." الصابوني "
- فيه أن الحسن والحسين أبناء ( فاطمة رضي الله عنها ) كان الرسول ﷺ يخصهما بدعواته المباركات، لأنهما ريحانتا رسول الله ﷺ كما ورد في الحديث الصحيح، حيث كان ﷺ يقول ( هما ريحانتاي من الدنيا ) فرسول الله ﷺ جدهما لأمهما ( فاطمة رضي الله عنها) بنت رسول الله ﷺ. " الصابوني "

كِتابُ التَّوْبَةِ وقَبُولِها وسِعَةِ رَحْمَةِ اللهِ تَعالى


باب: فَرَحُ اللهِ تَعالى بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ


٢٥٧٧. (خ م) (٢٧٤٤) عَنِ الحارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ قالَ: دَخَلتُ عَلى عَبْدِ اللهِ بْنِ مسعودٍ أعُودُهُ وهُوَ مَرِيضٌ، فَحَدَّثَنا بِحَدِيثَينِ؛ حَدِيثًا عَن نَفسِهِ، وحَدِيثًا عَن رَسُولِ اللهِ ﷺ، قالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «للهُ أشَدُّ فَرَحًا بِتَوبَةِ عَبدِهِ المُؤمِنِ مِن رَجُلٍ فِي أرضٍ دَوِّيَّةٍ مَهلِكَةٍ، مَعَهُ راحِلَتُهُ، عَلَيها طَعامُهُ وشَرابُهُ، فَنامَ، فاستَيقَظَ وقَد ذَهَبَت، فَطَلَبَها حَتّى أدرَكَهُ العَطَشُ، ثُمَّ قالَ: أرجِعُ إلى مَكانِيَ الَّذِي كُنتُ فِيهِ، فَأَنامُ (حَتّى أمُوتَ. فَوَضَعَ رَأسَهُ عَلى ساعِدِهِ لِيَمُوتَ)، فاستَيقَظَ وعِندَهُ راحِلَتُهُ، (وعَلَيها زادُهُ وطَعامُهُ وشَرابُهُ)، فاللهُ أشَدُّ فَرَحًا بِتَوبَةِ العَبدِ المُؤمِنِ مِن هَذا بِراحِلَتِهِ وزادِهِ». زادَ (خ) فِي أوَّلِهِ: والآخَرُ عَن نَفسِهِ، قالَ: إنَّ المُؤمِنَ يَرى ذُنُوبَهُ كَأنّهُ قاعِدٌ تَحتَ جَبَلٍ يَخافُ أن يَقَعَ عَلَيهِ، وإنَّ الفاجِرَ يَرى ذُنُوبَهُ كَذُبابٍ مَرَّ عَلى أنفِهِ، فَقالَ بِهِ هَكَذا. قالَ أبُو شِهابٍ بِيَدهِ فَوقَ أنفِهِ.
ولَهُما عَن أنَسِ بْنِ مالِكٍ نَحوُ المَرفُوعِ مُختَصَرٌ، وزادَ (م) فِي رِوايَةٍ: «فَأَيِسَ مِنها، فَأَتى شَجَرَةً فاضطَجَعَ فِي ظلِّها ...»، وفِيها: «إذا هُو بِها قائِمَةً عِندَهُ، فَأَخَذَ بِخِطامِها ثُمَّ قالَ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ: اللَّهُمَّ أنتَ عَبدِي وأَنا رَبُّكَ. أخطَأَ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ».
- فيه ضرب المثل لزيادة التوضيح والبيان، لحالة إنسان كاد يفقد حياته ويهلك. " الصابوني "
- فيه الحث على محاسبة النفس على انتهاكها لبعض المحارم." الصابوني "
- فيه ضرورة الخوف من عقاب الله تعالى مهما كان الذنب صغيرا؛ لأنه تعالى قد يحاسب على القليل، وأن على المؤمن أن يعجل التوبة قبل موته." الصابوني"

باب: فِـي الصِّدْقِ بِالتَّوْبَةِ وقَوْلُهُ ﷿: ﴿وعَلى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ﴾ [التوبة: ١١٨]


٢٥٧٨. (خ م) (٢٧٦٩) عَنِ ابْنِ شِهابٍ (قالَ: ثُمَّ غَزا رَسُولُ اللهِ ﷺ غَزوَةَ تَبُوكَ، وهُوَ يُرِيدُ الرُّومَ ونَصارى العَرَبِ بِالشّامِ)، قالَ ابنُ شِهابٍ: فَأَخبَرَنِي عَبدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعبِ بْنِ مالِكٍ؛ أنَّ عَبدَ اللهِ بنَ كَعبٍ كانَ قائِدَ كَعبٍ مِن بَنِيهِ حِينَ عَمِيَ، قالَ: سَمِعتُ كَعبَ بنَ مالِكٍ يُحَدِّثُ حَدِيثَهُ حِينَ تَخَلَّفَ عَن رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي غَزوَةِ تَبُوكَ، قالَ كَعبُ بنُ مالِكٍ: لَم أتَخَلَّف عَن رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي غَزوَةٍ غَزاها قَطُّ إلا فِي غَزوَةِ تَبُوكَ، غَيرَ أنِّي قَد تَخَلَّفتُ فِي غَزوَةِ بَدرٍ، ولَم يُعاتِب أحَدًا تَخَلَّفَ عَنهُ، إنَّما خَرَجَ رَسُولُ اللهِ ﷺ والمُسلِمُونَ يُرِيدُونَ عِيرَ قُرَيشٍ، حَتّى جَمَعَ اللهُ بَينَهُم وبَينَ عَدُوِّهِم عَلى غَيرِ مِيعادٍ، ولَقَد شَهِدتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ لَيلَةَ العَقَبَةِ حِينَ تَواثَقنا عَلى الإسلامِ، وما أُحِبُّ أنَّ لِي بِها مَشهَدَ بَدرٍ، وإن كانَت بَدرٌ أذكَرَ فِي النّاسِ مِنها، وكانَ مِن خَبَرِي حِينَ تَخَلَّفتُ عَن رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي غَزوَةِ تَبُوكَ؛ أنِّي لَم أكُن قَطُّ أقوى ولا أيسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفتُ عَنهُ فِي تِلكَ الغَزوَةِ، واللهِ ما جَمَعتُ قَبلَها راحِلَتَينِ قَطُّ حَتّى جَمَعتُهُما فِي تِلكَ الغَزوَةِ، فَغَزاها رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، واستَقبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا ومَفازًا، واستَقبَلَ عَدُوًّا كَثِيرًا، فَجَلا لِلمُسلِمِينَ أمرَهُم، لِيَتَأَهَّبُوا أُهبَةَ غَزوِهِم، فَأَخبَرَهُم بِوَجهِهِم الَّذِي يُرِيدُ، والمُسلِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ كَثِيرٌ، ولا يَجمَعُهُم كِتابُ حافِظٍ يُرِيدُ بِذَلكَ الدِّيوانَ، قالَ كَعبٌ: فَقَلَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أن يَتَغَيَّبَ؛ يَظُنُّ أنَّ ذَلكَ سَيَخفى لَهُ، ما لَم يَنزِل فِيهِ وحيٌ مِن اللهِ، وغَزا رَسُولُ اللهِ ﷺ تِلكَ الغَزوَةَ، حِينَ طابَت الثِّمارُ والظِّلالُ، فَأَنا إلَيها أصعَرُ، فَتَجَهَّزَ رَسُولُ اللهِ ﷺ والمُسلِمُونَ مَعَهُ، وطَفِقتُ أغدُو لِكَي أتَجَهَّزَ مَعَهُم، فَأَرجِعُ ولَم أقضِ شَيئًا، وأَقُولُ فِي نَفسِي: أنا قادِرٌ عَلى ذَلكَ إذا أرَدتُ، فَلَم يَزَل ذَلكَ يَتَمادى بِي، حَتّى استَمَرَّ بِالنّاسِ الجِدُّ، فَأَصبَحَ رَسُولُ اللهِ ﷺ غادِيًا والمُسلِمُونَ مَعَهُ، ولَم أقضِ مِن جَهازِي شَيئًا، ثُمَّ غَدَوتُ فَرَجَعتُ ولَم أقضِ شَيئًا، فَلَم يَزَل ذَلكَ يَتَمادى بِي حَتّى أسرَعُوا، وتَفارَطَ الغَزوُ، فَهَمَمتُ أن أرتَحِلَ فَأُدرِكَهُم، فَيا لَيتَنِي فَعَلتُ، ثُمَّ لَم يُقَدَّر ذَلكَ لِي، فَطَفِقتُ إذا خَرَجتُ فِي النّاسِ بَعدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللهِ ﷺ يَحزُنُنِي أنِّي لا أرى لِي أُسوَةً إلا رَجُلًا مَغمُوصًا عَلَيهِ فِي النِّفاقِ، أو رَجُلًا مِمَّن عَذَرَ اللهُ مِن الضُّعَفاءِ، ولَم يَذكُرنِي رَسُولُ اللهِ ﷺ حَتّى بَلَغَ تَبُوكَ، فَقالَ وهُوَ جالِسٌ فِي القَومِ بِتَبُوكَ: «ما فَعَلَ كَعبُ بنُ مالِكٍ؟» قالَ رَجُلٌ مِن بَنِي سَلِمَةَ: يا رَسُولَ اللهِ؛ حَبَسَهُ بُرداهُ، والنَّظَرُ فِي عِطفَيهِ. فَقالَ لَهُ مُعاذُ بنُ جَبَلٍ: بِئسَ ما قُلتَ، واللهِ يا رَسُولَ اللهِ ما عَلِمنا عَلَيهِ إلا خَيرًا. فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، (فَبَينَما هُوَ عَلى ذَلكَ رَأى رَجُلًا مُبَيِّضًا يَزُولُ بِهِ السَّرابُ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «كُن أبا خَيثَمَةَ». فَإذا هُوَ أبُو خَيثَمَةَ الأَنْصارِيُّ، وهُوَ الَّذِي تَصَدَّقَ بِصاعِ التَّمرِ حِينَ لَمَزَهُ المُنافِقُونَ)، فَقالَ كَعبُ بنُ مالِكٍ: فَلَمّا بَلَغَنِي أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَد تَوَجَّهَ قافِلًا مِن تَبُوكَ حَضَرَنِي بَثِّي، فَطَفِقتُ أتَذَكَّرُ الكَذِبَ، وأَقُولُ: بِمَ أخرُجُ مِن سَخَطِهِ غَدًا؟ وأَستَعِينُ عَلى ذَلكَ كُلَّ ذِي رَأيٍ مِن أهلِي، فَلَمّا قِيلَ لِي: إنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَد أظَلَّ قادِمًا زاحَ عَنِّي الباطِلُ، حَتّى عَرَفتُ أنِّي لَن أنجُوَ مِنهُ بِشَيءٍ أبَدًا، فَأَجمَعتُ صِدقَهُ، وصَبَّحَ رَسُولُ اللهِ ﷺ قادِمًا، وكانَ إذا قَدِمَ مِن سَفَرٍ بَدَأَ بِالمَسْجِدِ، فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ جَلَسَ لِلنّاسِ، فَلَمّا فَعَلَ ذَلكَ جاءَهُ المُخَلَّفُونَ، فَطَفِقُوا يَعتَذِرُونَ إلَيهِ، ويَحلِفُونَ لَهُ، وكانُوا بِضعَةً وثَمانِينَ رَجُلًا، فَقَبِلَ مِنهُم رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلانِيَتَهُم، وبايَعَهُم، واستَغفَرَ لَهُم، ووَكَلَ سَرائِرَهُم إلى اللهِ، حَتّى جِئتُ، فَلَمّا سَلَّمتُ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ المُغضَبِ، ثُمَّ قالَ: «تَعالَ». فَجِئتُ أمشِي حَتّى جَلَستُ بَينَ يَدَيهِ، فَقالَ لِي: «ما خَلَّفَكَ؟ ألَم تَكُن قَد ابتَعتَ ظَهرَكَ؟» قالَ: قُلتُ: يا رَسُولَ اللهِ؛ إنِّي واللهِ لَو جَلَستُ عِنْدَ غَيرِكَ مِن أهلِ الدُّنيا لَرَأَيتُ أنِّي سَأَخرُجُ مِن سَخَطِهِ بِعُذرٍ، ولَقَد أُعطِيتُ جَدَلًا، ولَكِنِّي واللهِ لَقَد عَلِمتُ لَئِن حَدَّثتُكَ اليَومَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرضى بِهِ عَنِّي لَيُوشِكَنَّ اللهُ أن يُسخِطَكَ عَلَيَّ، ولَئِن حَدَّثتُكَ حَدِيثَ صِدقٍ تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ إنِّي لأَرجُو فِيهِ عُقبى اللهِ، واللهِ ما كانَ لِي عُذرٌ، واللهِ ما كُنتُ قَطُّ أقوى ولا أيسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفتُ عَنكَ، قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أمّا هَذا فَقَد صَدَقَ، فَقُم حَتّى يَقضِيَ اللهُ فِيكَ». فَقُمتُ، وثارَ رِجالٌ مِن بَنِي سَلِمَةَ، فاتَّبَعُونِي فَقالُوا لِي: واللهِ ما عَلِمناكَ أذنَبتَ ذَنبًا قَبلَ هَذا، لَقَد عَجَزتَ فِي أن لا تَكُونَ اعتَذَرتَ إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ بِما اعتَذَرَ بِهِ إلَيهِ المُخَلَّفُونَ، فَقَد كانَ كافِيَكَ ذَنبَكَ استِغفارُ رَسُولِ اللهِ ﷺ لَكَ. قالَ: فَوَ اللهِ ما زالُوا يُؤَنِّبُونَنِي حَتّى أرَدتُ أن أرجِعَ إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَأُكَذِّبَ نَفسِي، قالَ: ثُمَّ قُلتُ لَهُم: هَل لَقِيَ هَذا مَعِي مِن أحَدٍ؟ قالُوا: نَعَم، لَقِيَهُ مَعَكَ رَجُلانِ، قالا مِثلَ ما قُلتَ، فَقِيلَ لَهُما مِثلَ ما قِيلَ لَكَ. قالَ: قُلتُ: مَن هُما؟ قالُوا: مُرارَةُ بنُ الرَّبِيعَةَ العامِرِيُّ، وهِلالُ بنُ أُمَيَّةَ الواقِفِيُّ. قالَ: فَذَكَرُوا لِي رَجُلَينِ صالِحَينِ قَد شَهِدا بَدرًا، فِيهِما أُسوَةٌ، قالَ: فَمَضَيتُ حِينَ ذَكَرُوهُما لِي، قالَ: ونَهى رَسُولُ اللهِ ﷺ المُسلِمِينَ عَن كَلامِنا أيُّها الثَّلاثةُ مِن بَينِ مَن تَخَلَّفَ عَنهُ، قالَ: فاجتَنَبَنا النّاسُ، وقالَ: تَغَيَّرُوا لَنا، حَتّى تَنَكَّرَت لِي فِي نَفسِيَ الأَرضُ؛ فَما هِيَ بِالأَرضِ الَّتِي أعرِفُ، فَلَبِثنا عَلى ذَلكَ خَمسِينَ لَيلَةً، فَأَمّا صاحِبايَ فاستَكانا، وقَعَدا فِي بُيُوتِهِما يَبكِيانِ، وأَمّا أنا فَكُنتُ أشَبَّ القَومِ وأَجلَدَهُم، فَكُنتُ أخرُجُ فَأَشهَدُ الصَّلاةَ، وأَطُوفُ فِي الأَسواقِ، ولا يُكَلِّمُنِي أحَدٌ، وآتِي رَسُولَ اللهِ ﷺ فَأُسَلِّمُ عَلَيهِ وهُوَ فِي مَجلِسِهِ بَعدَ الصَّلاةِ؛ فَأَقُولُ فِي نَفسِي: هَل حَرَّكَ شَفَتَيهِ بِرَدِّ السَّلام أم لا؟ ثُمَّ أُصَلِّي قَرِيبًا مِنهُ، وأُسارِقُهُ النَّظَرَ، فَإذا أقبَلتُ عَلى صَلاتِي نَظَرَ إلَيَّ، وإذا التَفَتُّ نَحوَهُ أعرَضَ عَنِّي، حَتّى إذا طالَ ذَلكَ عَلَيَّ مِن جَفوَةِ المُسلِمِينَ مَشَيتُ، حَتّى تَسَوَّرتُ جِدارَ حائِطِ أبِي قَتادَةَ، وهُوَ ابنُ عَمِّي، وأَحَبُّ النّاسِ إلَيَّ، فَسَلَّمتُ عَلَيهِ، فَوَ اللهِ ما رَدَّ عَلَيَّ السَّلامَ، فَقُلتُ لَهُ: يا أبا قَتادَةَ؛ أنشُدُكَ باللهِ؛ هَل تَعلَمَنّ أنِّي أُحِبُّ اللهَ ورَسُولَهُ؟ قالَ: فَسَكَتَ، فَعُدتُ فَناشَدتُهُ فَسَكَت، فَعُدتُ فَناشَدتُهُ فَقالَ: اللهُ ورَسُولُهُ أعلَمُ. فَفاضَت عَينايَ، وتَوَلَّيتُ حَتّى تَسَوَّرتُ الجِدارَ، فَبَينا أنا أمشِي فِي سُوقِ المَدِينَةِ، إذا نَبَطِيٌّ مِن نَبَطِ أهلِ الشّامِ مِمَّن قَدِمَ بِالطَّعامِ يَبِيعُهُ بِالمَدِينَةِ يَقُولُ: مَن يَدُلُّ عَلى كَعبِ بْنِ مالِكٍ؟ قالَ: فَطَفِقَ النّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ إلَيَّ، حَتّى جاءَنِي فَدَفَعَ إلَيَّ كِتابًا مِن مَلِكِ غَسّانَ، (وكُنتُ كاتِبًا فَقَرَأتُهُ)، فَإذا فِيهِ: أمّا بَعدُ؛ فَإنَّهُ قَد بَلَغَنا أنَّ صاحِبَكَ قَد جَفاكَ، ولَم يَجعَلكَ اللهُ بِدارِ هَوانٍ ولا مَضيَعَةٍ، فالحَق بِنا نُواسِكَ. قالَ: فَقُلتُ حِينَ قَرَأتُها: وهَذِهِ أيضا مِن البَلاءِ، فَتَيامَمتُ بِها التَّنُّورَ، فَسَجَرتُها بِها، حَتّى إذا مَضَت أربَعُونَ مِن الخَمسِينَ، (واستَلبَثَ الوَحيُ)، إذا رَسُولُ رَسُولِ اللهِ ﷺ يَأتِينِي، فَقالَ: إنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَأمُرُكَ أن تَعتَزِلَ امرَأَتَكَ، قالَ: فَقُلتُ: أُطَلِّقُها أم ماذا أفعَلُ؟ قالَ: لا، بَل اعتَزِلها فَلا تَقرَبَنَّها. قالَ: فَأَرسَلَ إلى صاحِبَيَّ بِمِثلِ ذَلكَ، قالَ: فَقُلتُ لامرَأَتِي: الحَقِي بِأَهلِكِ، فَكُونِي عِندَهُم حَتّى يَقضِيَ اللهُ فِي هَذا الأَمرِ، قالَ: فَجاءَت امرَأَةُ هِلالِ بْنِ أُمَيَّةَ رَسُولَ اللهِ ﷺ فَقالَت لَهُ: يا رَسُولَ اللهِ؛ إنَّ هِلالَ بنَ أُمَيَّةَ شَيخٌ ضائِعٌ، لَيسَ لَهُ خادِمٌ، فَهَل تَكرَهُ أن أخدُمَهُ؟ قالَ: «لا، ولَكِن لا يَقرَبَنَّكِ». فَقالَت: إنَّهُ واللهِ ما بِهِ حَرَكَةٌ إلى شَيءٍ، وواللهِ ما زالَ يَبكِي مُنذُ كانَ مِن أمرِهِ ما كانَ إلى يَومِهِ هَذا. قالَ: فَقالَ لِي بَعضُ أهلِي: لَو استَأذَنتَ رَسُولَ اللهِ ﷺ فِي امرَأَتِكَ، فَقَد أذِنَ لامرَأَةِ هِلالِ بْنِ أُمَيَّةَ أن تَخدُمَهُ، قالَ: فَقُلتُ: لا أستَأذِنُ فِيها رَسُولَ اللهِ ﷺ، وما يُدرِينِي ماذا يَقُولُ رَسُولُ اللهِ ﷺ إذا استَأذَنتُهُ فِيها، وأَنا رَجُلٌ شابٌّ، قالَ: فَلَبِثتُ بِذَلكَ عَشرَ لَيالٍ، فَكَمُلَ لَنا خَمسُونَ لَيلَةً مِن حِينَ نُهِيَ عَن كَلامِنا، قالَ: ثُمَّ صَلَّيتُ صَلاةَ الفَجرِ صَباحَ خَمسِينَ لَيلَةً عَلى ظَهرِ بَيتٍ مِن بُيُوتِنا، فَبَينا أنا جالِسٌ عَلى الحالِ الَّتِي ذَكَرَ اللهُ ﷿ مِنّا، قَد ضاقَت عَلَيَّ نَفسِي، وضاقَت عَلَيَّ الأَرضُ بِما رَحُبَت، سَمِعتُ صَوتَ صارِخٍ أوفى عَلى سَلعٍ، يَقُولُ بِأَعلى صَوتِهِ: يا كَعبَ بنَ مالِكٍ؛ أبشِر. قالَ: فَخَرَرتُ ساجِدًا، وعَرَفتُ أن قَد جاءَ فَرَجٌ، قالَ: فَآذَنَ رَسُولُ اللهِ ﷺ النّاسَ بِتَوبَةِ اللهِ عَلَينا حِينَ صَلّى صَلاةَ الفَجرِ، فَذَهَبَ النّاسُ يُبَشِّرُونَنا، فَذَهَبَ قِبَلَ صاحِبَيَّ مُبَشِّرُونَ، ورَكَضَ رَجُلٌ إلَيَّ فَرَسًا، وسَعى ساعٍ مِن أسلَمَ قِبَلِي، وأَوفى الجَبَلَ، فَكانَ الصَّوتُ أسرَعَ مِن الفَرَسِ، فَلَمّا جاءَنِي الَّذِي سَمِعتُ صَوتَهُ يُبَشِّرُنِي فَنَزَعتُ لَهُ ثَوبَيَّ، فَكَسَوتُهُما إيّاهُ بِبِشارَتِهِ، واللهِ ما أملِكُ غَيرَهُما يَومَئِذٍ، واستَعَرتُ ثَوبَينِ فَلَبِستُهُما، فانطَلَقتُ أتَأَمَّمُ رَسُولَ اللهِ ﷺ، يَتَلَقّانِي النّاسُ فَوجًا فَوجًا، يُهَنِّئُونِي بِالتَّوبَةِ، ويَقُولُونَ: لِتَهنِئكَ تَوبَةُ اللهِ عَلَيكَ. حَتّى دَخَلتُ المَسْجِدَ، فَإذا رَسُولُ اللهِ ﷺ جالِسٌ فِي المَسْجِدِ، وحَولَهُ النّاسُ، فَقامَ طَلحَةُ بنُ عُبَيْدِ اللهِ يُهَروِل، حَتّى صافَحَنِي وهَنَّأَنِي، واللهِ ما قامَ رَجُلٌ مِن المُهاجِرِين غَيرُهُ، قالَ: فَكانَ كَعبٌ لا يَنساها لِطَلْحَةَ، قالَ كَعبٌ: فَلَمّا سَلَّمتُ عَلى رَسُولِ اللهِ ﷺ قالَ وهُوَ يَبرُقُ وجهُهُ مِن السُّرُورِ، ويَقُولُ: «أبشِر بِخَيرِ يَومٍ مَرَّ عَلَيكَ مُنذُ ولَدَتكَ أُمُّكَ». قالَ: فَقُلتُ: أمِن عِندِكَ يا رَسُولَ اللهِ، أم مِن عِندِ اللهِ؟ فَقالَ: «لا، بَل مِن عِندِ اللهِ». وكانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إذا سُرَّ استَنارَ وجهُهُ، كَأَنَّ وجهَهُ قِطعَةُ قَمَرٍ، قالَ: وكُنّا نَعرِفُ ذَلكَ، قالَ: فَلَمّا جَلَستُ بَينَ يَدَيهِ قُلتُ: يا رَسُولَ اللهِ؛ إنَّ مِن تَوبَتِي أن أنخَلِعَ مِن مالِي صَدَقَةً إلى اللهِ وإلى رَسُولِهِ ﷺ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أمسِك بَعضَ مالِكَ، فَهُوَ خَيرٌ لَكَ». قالَ: فَقُلتُ: فَإنِّي أُمسِكُ سَهمِيَ الَّذِي بِخَيبَرَ. قالَ: وقُلتُ: يا رَسُولَ اللهِ؛ إنَّ اللهَ إنَّما أنجانِي بِالصِّدقِ، وإنَّ مِن تَوبَتِي أن لا أُحَدِّثَ إلا صِدقًا ما بَقِيتُ، قالَ: فَوَ اللهِ ما عَلِمتُ أنَّ أحَدًا مِن المُسلِمِينَ أبلاهُ اللهُ فِي صِدقِ الحَدِيثِ مُنذُ ذَكَرتُ ذَلكَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ إلى يَومِي هَذا أحسَنَ مِمّا أبلانِي اللهُ بِهِ، واللهِ ما تَعَمَّدتُ كَذِبَةً مُنذُ قُلتُ ذَلكَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ إلى يَومِي هَذا، وإنِّي لأَرجُو أن يَحفَظَنِي اللهُ فِيما بَقِيَ، قالَ: فَأَنزَلَ اللهُ ﷿: ﴿لَقَد تّابَ الله عَلى النَّبِيِّ والمُهاجِرِينَ والأَنصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ العُسْرَةِ مِن بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (١١٧) وعَلى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتّى إذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وضاقَتْ عَلَيْهِمْ أنفُسُهُمْ وظَنُّواْ أن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إلاَّ إلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ﴾ [التوبة: ١١٧، ١١٨]، حَتّى بَلَغَ: ﴿ياأَيُّها الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وكُونُواْ مَعَ الصّادِقِينَ﴾ [التوبة: ١١٩]. قالَ كَعبٌ: واللهِ ما أنعَمَ اللهُ عَلَيَّ مِن نِعمَةٍ قَطُّ بَعدَ إذ هَدانِي اللهُ لِلإسلامِ أعظَمَ فِي نَفسِي مِن صِدقِي رَسُولَ اللهِ ﷺ؛ أن لا أكُونَ كَذَبتُهُ فَأَهلِكَ، كَما هَلَكَ الَّذِينَ كَذَبُوا، إنَّ اللهَ قالَ لِلَّذِينَ كَذَبُوا حِينَ أنزَلَ الوَحيَ شَرَّ ما قالَ لأَحَدٍ، وقالَ اللهُ: ﴿سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إذا انقَلَبْتُمْ إلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إنَّهُمْ رِجْسٌ ومَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُواْ يَكْسِبُونَ (٩٥) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ القَوْمِ الفاسِقِينَ﴾ [التوبة: ٩٥، ٩٦]. قالَ كَعبٌ: كُنّا خُلِّفنا أيُّها الثَّلاثَةُ عَن أمرِ أُولَئِكَ الَّذِينَ قَبِلَ مِنهُم رَسُولُ اللهِ ﷺ حِينَ حَلَفُوا لَهُ، فَبايَعَهُم واستَغفَرَ لَهُم، وأَرجَأَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أمرَنا حَتّى قَضى فِيهِ، فَبِذَلكَ قالَ اللهُ ﷿: ﴿وعَلى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ﴾ [التوبة: ١١٨]. ولَيسَ الَّذِي ذَكَرَ اللهُ مِمّا خُلِّفنا تَخَلُّفَنا عَنِ الغَزوِ، وإنَّما هُوَ تَخلِيفُهُ إيّانا، وإرجاؤُهُ أمرَنا عَمَّن حَلَفَ لَهُ واعتَذَرَ إلَيهِ فَقَبِلَ مِنهُ. وفِي رِوايَةٍ زاد: فَكانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ قَلَّما يُرِيدُ غَزوَةً إلا ورّى بغيرِها، حتى كانت تلك الغزوةُ.
وفي رواية (خ): لَقلَّما كانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَخرُجُ إذا خَرَجَ فِي سَفَرٍ إلّا يَومَ الخَمِيسِ.
وفي رواية (خ): فَقُلتُ: أتَجهَّزُ بَعدَهُ بِيَومٍ أو يَومَينِ، ثُم َّأَلحَقُهُم، فَغَدوتُ بَعدُ أن فَصَلوا لِأَتَجَهَّزَ ...
وفي رواية (خ) زادَ: حَتّى طالَ عَلَيَّ الأَمرُ، وما مِن شَيءٍ أهَمُّ إلَيَّ مِن أن أمُوتَ فَلا يُصَلِّي عَلَيَّ النَّبيُّ ﷺ، أو يَمُوتَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَأَكُونَ مِن النّاسِ بِتِلكَ المَنزِلَةِ، فَلا يُكلِّمُنِي أحَدٌ مِنهُم ولا يُصَلِّي عَلَيَّ، فَأَنزَلَ اللهُ تَوبَتَنا عَلى نَبيِّهِ ﷺ حِينَ بَقِيَ الثُّلُثُ الآخِرُ مِنَ اللَّيلِ، ورسُولُ اللهِ ﷺ عِنْدَ أُمِّ سَلَمةَ، وكانَت أُمُّ سَلَمَةَ مُحسِنَةً فِي شَأنِي، مَعنِيَّةً فِي أمرِي، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «يا أُمَّ سَلَمَةَ؛ تِيبَ عَلى كَعبٍ». قالَت: أفَلا أُرسِلُ إلَيهِ فَأُبَشِّرُهُ؟ قالَ: «إذًا يَحطِمَكُمُ النّاسُ فَيَمنَعُونكُم النَّومَ سائِرَ اللَّيلَةِ». حَتّى إذا صلّى رَسُولُ اللهِ ﷺ صَلاةَ الفَجرِ آذَنَ بِتَوبَةِ اللهِ ... وفِيها: فَلَمّا ذُكِرَ الَّذِينَ كَذَبُوا رَسُولَ اللهِ ﷺ مِنَ المُتَخَلِّفِينَ واعتَذَرُوا بِالباطِلِ؛ ذُكِرُوا بِشَرِّ ما ذُكِرَ بِهِ أحَدٌ، قالَ اللهُ سُبحانَهُ: ﴿يَعْتَذِرُونَ إلَيْكُمْ إذا رَجَعْتُمْ إلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنا اللَّهُ مِن أخْبارِكُمْ وسَيَرى اللَّهُ عَمَلَكُمْ ورَسُولُهُ﴾ [التوبة: ٩٤] الآيَةُ.
- فيه دلالة على أن الجهاد في سبيل الله، كان فرضا لازما على المسلمين، كما أن الهجرة كانت فريضة عليهم. " الصابوني "
- فيه جواز الحلف للتأكيد، من غير استحلاف وطلب، لقول كعب: " والله ما قام رجل من المهاجرين غيره ". " الصابوني "
- فيه مشروعية سجود الشكر، لقول كعب: فخررت ساجدا لله تعالى. " الصابوني "
- فيه التسابق للتبشير بالخير، وإعطاء المبشر ما تجود به نفسه، لقوه: " فنزعت ثوبي فكسوته بهما "." الصابوني "
- فيه تهنئة الإنسان إذا حصلت له نعمه، والقيام له للتهنئة، لقوله: فقام إلي ( طلحة ) يهرول وهنأني. " الصابوني "
- فيه جواز ترك وطء الزوجة، مدة من الزمن، عقوبة للمخالف، لأمره ﷺ الثلاثة باعتزال نسائهم. " الصابوني "
- فيه جواز التورية، في الأمور التي يخشى منها الإنسان نشر الخبر، وانتشاره بين الناس. " الصابوني "
- فيه أن المسلم القوي في دينه يؤاخذ بأشد مما يؤاخذ به الضعيف في الدين. " الصابوني "
- فيه أن المسافر يستحب له أن يبدا بدخول المسجد قبل دخول المنزل من أجل الصلاة فيه. " الصابوني "
- فيه فائدة الصدق، وشؤم عاقبة الكذب فإن الله نجى هؤلاء الذين صدقوا، وتاب عليهم دون غيرهم بسبب صدقهم، وقال تعالى: { وكونوا مع الصادقين }. " الصابوني "
- فيه أن من نذر الصدقة بجميع ماله، لم يلزمه إخراج جميعه، لقوله ﷺ: " أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك "." الصابوني "

باب: سِعَةُ رَحْمَةِ اللهِ تَعالى وتَحْرِيمُ التَّقْنِيطِ مِنها


٢٥٧٩. (خ م) (٢٧٦٦) عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ ﵁؛ أنَّ نَبِيَّ اللهِ ﷺ قالَ: «كانَ فِيمَن كانَ قَبلَكُم رَجُلٌ قَتَلَ تِسعَةً وتِسعِينَ نَفسًا، فَسَأَلَ عَن أعلَمِ أهلِ الأَرضِ، فَدُلَّ عَلى راهِبٍ، فَأَتاهُ فَقالَ: إنَّهُ قَتَلَ تِسعَةً وتِسعِينَ نَفسًا؛ فَهَل لَهُ مِن تَوبَةٍ؟ فَقالَ: لا. فَقَتَلَهُ، (فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً)، ثُمَّ سَأَلَ (عَن أعلَمِ أهلِ الأَرضِ، فَدُلَّ عَلى رَجُلٍ عالِمٍ، فَقالَ: إنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفسٍ؛ فَهَل لَهُ مِن تَوبَةٍ؟ فَقالَ: نَعَم، ومَن يَحُولُ بَينَهُ وبَينَ التَّوبَةِ)، انطَلِق إلى أرضِ كَذا وكَذا، (فَإنَّ بِها أُناسًا يَعبُدُونَ اللهَ، فاعبُد اللهَ مَعَهُم، ولا تَرجِع إلى أرضِكَ، فَإنَّها أرضُ سَوءٍ). فانطَلَقَ، حَتّى إذا نَصَفَ الطَّرِيقَ أتاهُ المَوتُ، فاختَصَمَت فِيهِ مَلائِكَةُ الرَّحمَةِ ومَلائِكَةُ العَذابِ، (فَقالَت مَلائِكَةُ الرَّحمَةِ: جاءَ تائِبًا مُقبِلًا بِقَلبِهِ إلى اللهِ. وقالَت مَلائِكَةُ العَذابِ: إنَّهُ لَم يَعمَل خَيرًا قَطُّ. فَأَتاهُم مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ، فَجَعَلُوهُ بَينَهُم)، فَقالَ: قِيسُوا ما بَينَ الأرضَينِ، فَإلى أيَّتِهما كانَ أدنى فَهُوَ لَهُ. فَقاسُوهُ، فَوَجَدُوهُ أدنى إلى الأَرضِ الَّتِي أرادَ، (فَقَبَضَتهُ مَلائِكَةُ الرَّحمَةِ)». لَفظُ (خ) فِي آخِرِهِ: «فَغُفِرَ لَهُ». وفي رواية: «فَأَوحى اللهُ لِهَذِهِ أن تَباعَدِي، وإلى هَذِهِ أن تَقَرَّبِي».
- فيه مشروعية التوبة من جميع الذنوب والكبائر، حتى من قتل النفس." الصابوني "
- فيه حجة لمن أجاز التحكيم بين الناس فإن رضيا بذلك جاز عليهما الحكم وأصبح لازما." الصابوني"
- فيه بيان سعة رحمة الله وفضله فقد تاب الله على القاتل مع عظيم جرمه، فإن الله تعالى يغفر جميع الذنوب إلا الإشراك بالله تعالى:{ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }. " الصابوني "
- فيه مشروعية التوبة من جميع الكبائر حتى من قتل الأنفس، ويحمل على أن الله تعالى إذا قبل توبة القاتل تكفل برضا خصمه.
- أن الملائكة الموكلين ببني آدم يختلف اجتهادهم في حقهم بالنسبة إلى ما يكتبونه مطيعا أو عاصيا، وأنهم يختصمون في ذلك حتى يقضي الله بينهم.
- فضل التحول من الأرض التي يصيب الإنسان فيها المعصية لما يغلب بحكم العادة على مثل ذلك إما لتذكره لأفعاله الصادرة قبل ذلك والفتنة بها، وإما لوجود من كان يعينه على ذلك ويحضه عليه.
- قوله: ( ائت قرية كذا وكذا ): فيه إشارة إلى أن التائب ينبغي له مفارقة الأحوال التي اعتادها في زمن المعصية، والتحول منها كلها والاشتغال بغيرها. ( ابن حجر )
-في الحديث فضل العالم العابد، لأن الذي أفتاه أولا بأن لا توبة له غلبت عليه العبادة فاستعظم وقوع ما وقع من ذلك القاتل من استجرائه على قتل هذا العدد الكثير، وأما الثاني فغلب عليه العلم فأفتاه بالصواب ودله على طريق النجاة. ( ابن حجر )
- الحكم على الناس بالكفر والضلالة وإخراجهم خارج دائرة الإسلام أسهل من دعوتهم إليه؛ لذا أخذت الدعوة إلى الله هذه المكانة العظيمة في الدين، والدرجة العالية عند الله عز وجل وعند رسوله، لما فيها من بذل النفس، والصبر وتحمل المشاق، والجهاد بالعلم، والتعامل بالرفق والحكمة.
- من ينتصر للدين يعمل لإدخال الناس فيه، ومن ينتصر لذاته لا يفكر فيما لو كره الناس الدين بسببه، والعياذ بالله!

٢٥٨٠. (م) (٢٦٢١) عَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ﵁؛ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ حَدَّثَ: «أنَّ رَجُلًا قالَ: واللهِ لا يَغفِرُ اللهُ لِفُلانٍ. وإنَّ اللهَ تعالى قالَ: مَن ذا الَّذِي يَتَأَلّى عَلَيَّ أن لا أغفِرَ لِفُلانٍ، فَإنِّي قَد غَفَرتُ لِفُلانٍ وأَحبَطتُ عَمَلَكَ». أو كَما قالَ.
- ذكر الباب ثلاثة آداب إسلامية تشترك في النهي والتحذير من احتقار الناس وتنقصهم:
1. صورة من يرى مذنبا فيقول: ( أن الله لا يغفر له...) ففيه تحقير للمسلم وتحجير على رحمة الله وإن سمعها صاحب الذنب ففيها تقنيط له من عفو الله، مع أن واجب المسلم أن يجمع بين الخوف والرجاء.
2. صورة من يحتقر الناس لمظاهرهم، وهو لا يدري قد يكون هذا الضعيف المستضعف خيرا عند الله من هذا الذي يستضعفه.
3. صورة من يحتقر الناس ويحكم عليهم بالهلاك لظاهر ما يقعون فيه من الذنب، فهو يهلك نفسه بهذا الفعل وبهذا القول؛ لما فيه من عيب المسلمين والإعجاب والغرور في نفس قائله والحقد في نفس سامعه.
- وجوب خوف المؤمن من إحباط عمله بسوء الأدب مع الله، ومع عباد الله تعالى، قال البخاري رحمه الله: " باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر ".

باب: فِـي سِعَةِ رَحْمَةِ اللهِ تَعالى وأَنَّها تَغْلِبُ غَضَبَهُ


٢٥٨١. (خ م) (٢٧٥١) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَمّا قَضى اللهُ الخَلقَ كَتَبَ فِي كِتابِهِ عَلى نَفسِهِ، فَهُوَ مَوضُوعٌ عِندَهُ: إنَّ رَحمَتِي تَغلِبُ غَضَبِي». وفي رواية: «سَبَقَت رَحمَتِي غَضَبِي». وفي رواية (خ): «كَتَبَ فِي كِتابِهِ، هُو يَكتُبُ عَلى نَفسِهِ، وهُو وضْعٌ عِندَهُ عَلى العَرشِ ...».
وفي رواية (خ): «إنَّ اللهَ كَتَبَ كِتابًا قَبلَ أن يَخلُقَ الخَلقَ: إنَّ رَحمَتِي ...» الحديث.
- فيه أن الرحمة صفة من صفات الله الجليلة التي يرحم بها عباده في الدنيا والآخرة." الصابوني "
- فيه أن رحمته تعالى تغلب غضبه، فمهما أساء البشر إلى خالقهم فإن رحمته لا يغلبها غضبه." الصابوني "

٢٥٨٢. (خ م) (٢٧٥٢) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁ قالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «جَعَلَ اللهُ الرَّحمَةَ مِائَةَ جُزءٍ، فَأَمسَكَ عِندَهُ تِسعَةً وتِسعِينَ، وأَنزَلَ فِي الأَرضِ جُزءًا واحِدًا، فَمِن ذَلكَ الجُزءِ تَتَراحَمُ الخَلائِقُ، حَتّى تَرفَعَ الدّابَّةُ حافِرَها عَن ولَدِها خَشيَةَ أن تُصِيبَهُ».
وفي رواية: «خَلَقَ اللهُ مِائةَ رَحمَةٍ ...»، (وفِيها: «وخَبَّأَ عِندَهُ مِائَةً إلا واحِدَةً»).
وفي رواية (م): «إنَّ للهِ مِائَةَ رَحمَةٍ، أنزَلَ مِنها رَحْمَةً واحِدَةً بَينَ الجِنِّ والإنسِ والبَهائِمِ والهَوامِّ، فَبِها يَتَعاطَفُونَ، وِبِها يَتَراحَمُونَ، وِبِها تَعطِفُ الوَحشُ عَلى ولَدِها، وأَخَّرَ اللهُ تِسعًا وتِسعِينَ رَحمَةً يَرحَمُ بِها عِبادَهُ يَومَ القِيامَةِ».
ورَوى (م) عَن سَلمانَ الفارِسِي ﵁ نَحوَ حَدِيثِ البابِ، وفي رواية: «إنَّ اللهَ خَلَقَ يَومَ خَلَقَ السَّمَواتِ والأَرضَ مِائَةَ رَحمَةٍ، كُلُّ رَحمَةٍ طِباقَ ما بَينَ السَّماءِ والأَرضِ، فَجَعَلَ مِنها فِي الأَرضِ رَحمَةً، فَبِها تَعْطِفُ الوالِدَةُ عَلى ولَدِها، والوَحشُ والطَّيرُ بَعضُها عَلى بَعضٍ ...».
- بيان سعة رحمة الله عز وجل على عباده يوم القيامة.
- فيه إدخال السرور على المؤمنين بادخار القسط الأكبر من الرحمة لهم يوم القيامة، وفيه اتساع الرجاء في رحمات الله تعالى المدخرة للمؤمنين. " الصابوني "
- خص الفرس بالذكر؛ لأنها أشد الحيوان المألوف الذي يعاين المخاطبون حركته مع ولده، ولما في الفرس من الخفة والسرعة في التنقل ومع ذلك تتجنب أن يصل الضرر منها إلى ولدها. ( ابن أبي جمرة )
- في الحديث إدخال السرور على المؤمنين؛ لأن العادة أن النفس يكمل فرحها بما وهب لها إذا كان معلوما مما يكون موعودا. ( ابن أبي جمرة )
- يكفي اليائس في هذه الدنيا أن يناضل لأجل ما عند الله تبارك وتعالى من الرحمة.
- هذا الحديث من أحاديث الرجاء والبشارة للمسلمين، قال العلماء: لأنه إذا حصل للإنسان من رحمة واحدة في هذه الدار- المبنية على الأكدار – الإنسان والقرآن والصلاة والرحمة في قلبه وغير ذلك مما أنعم الله تعالى به، فكيف الظن بمئة رحمة في الدار الآخرة، وهي دار القرار ودار الجزاء؟ والله أعلم. " النووي"

٢٥٨٣. (م) (٢٧٥٩) عَنْ أبِي مُوسى ﵁؛ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «إنَّ اللهَ يَبسُطُ يَدَهُ بِاللَّيلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهارِ، ويَبسُطُ يَدَهُ بِالنَّهارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيلِ، حَتّى تَطلُعَ الشَّمسُ مِن مَغرِبِها».
- يعني: أن التوبة تصح وتقبل دائما إلى الوقت الذي تطلع فيه الشمس من حيث تغرب، فإذا كان ذلك طبع على كل قلب بما فيه ولم تنفع توبة أحد، وهذا معنى قوله تعالى: { يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا } وسر ذلك وسببه: أن ذلك هو أول قيام الساعة، فإذا شوهد ذلك وعوين حصل الإيمان الضروري، وارتفع الإيمان بالغيب الذي هو المكلف به.

٢٥٨٤. (خ) (٦٠١٠) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁ قالَ: قامَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي صَلاةٍ وقُمنا مَعَهُ، فَقالَ أعرابِيٌّ وهُوَ فِي الصَّلاةِ: اللَّهُمَّ ارحَمنِي ومُحَمَّدًا، ولا تَرحَم مَعَنا أحَدًا. فَلَمّا سَلَّمَ النَّبِيُّ ﷺ قالَ لِلأَعرابِيِّ: «لَقَد حَجَّرتَ واسِعًا». يُرِيدُ رَحمَةَ اللهِ.
- أنكر ﷺ على الأعرابي لكونه بخل برحمة الله على خلقه، وقد أثنى الله تعالى على من فعل خلاف ذلك حيث قال: { والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان }. " ابن حجر "

باب: إحْسانُ الظَّنِّ بِاللهِ عِنْدَ الـمَوْتِ


٢٥٨٥. (م) (٢٨٧٧) عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ﵄ قالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَبلَ مَوتِهِ بِثَلاثَةِ أيّامٍ يَقُولُ: «لا يَمُوتَنَّ أحَدُكُم إلاَّ وهُوَ يُحسِنُ الظَّنَّ بِاللهِ ﷿».
- قال العلماء:هذا تحذير من القنوط وحثٌ على الرجاء عند الخاتمة. " النووي "
- قال العلماء: معنى حسن الظن بالله تعالى أن يظن أنه يرحمه ويعفو عنه. " النووي "
- استحباب إحسان الظن المتضمن للافتقار إلى الله تعالى والإذعان له عند الموت. " النووي "

باب: قَبُولُ التَّوْبَةِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِن مَغْرِبِها


٢٥٨٦. (م) (٢٧٠٣) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَن تابَ قَبلَ أن تَطلُعَ الشَّمسُ مِن مَغرِبِها تابَ اللهُ عَلَيهِ».
- ( تاب الله عليه ): أي: قبل التوبة ورضيها فرجع متعطفا عليه برحمته، وذلك لأن العبد إذا جاء في الاعتذار والتنصل بأقصى ما يقدر عليه قابله الله بالعفو والتجاوز.
- وفيه تطييب لنفوس العباد، وتنشيط للتوبة وبعث عليها، وردع عن اليأس والقنوط، وأن الذنوب وإن جلَّت فإن عفوه أجل وكرمه أعظم.

باب: فِيما عِنْدَ اللهِ تَعالى مِنَ الرَّحْمَةِ والعُقُوبَةِ


٢٥٨٧. (خ م) (٢٧٥٥) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁؛ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ: «لَو يَعلَمُ المُؤمِنُ ما عِندَ اللهِ مِن العُقُوبَةِ ما طَمِعَ بِجَنَّتِهِ أحَدٌ، ولَو يَعلَمُ الكافِرُ ما عِندَ اللهِ مِن الرَّحمَةِ ما قَنَطَ مِن جَنَّتِهِ أحَدٌ».
- فيه عدم يأس المؤمن من رحمة الله عز وجل مهما كانت ذنوبه كثيرة، وأن يكون بين الخوف والرجاء، فلا ييأس من روح الله." الصابوني"
- فيه التحذير أن لا يكون العبد مفرطا في الرجاء، ولا مفرطا في الخوف، بل يكون وسطا بينهما." الصابوني "
- بيان سعة رحمة الله بحيث إنه لو يعلم الكافر به حقيقة لما قنط من الجنة.
- بيان شدة عقوبة الله بحيث أن المؤمن لو علم به حقيقة لما طمع في الجنة.
- أن الحديث قد اشتمل على الوعد والوعيد المقتضيين للرجاء والخوف، فمن علم أن من صفات الله تعالى الرحمة لمن أراد أن يرحمه، والانتقام ممن أراد أن ينتقم منه لا يأمن انتقامه من يرجو رحمته، ولا ييـأس من رحمته من يخاف انتقام، وذلك بالحث على مجانبة السيئة ولو كانت صغيرة، وملازمة الطاعة ولو كانت قليلة.

باب: اللهُ أرْحَمُ بِعِبادِهِ مِنَ الوالِدَةِ بِوَلَدِها


٢٥٨٨. (خ م) (٢٧٥٤) عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ ﵁ قالَ: قَدِمَ عَلى رَسُولِ اللهِ ﷺ بِسَبيٍ، فَإذا امرَأَةٌ مِن السَّبيِ تَبتَغِي؛ إذا وجَدَت صَبِيًّا فِي السَّبيِ أخَذَتهُ، فَأَلصَقَتهُ بِبَطنِها وأَرضَعَتهُ، فَقالَ لَنا رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أتَرَونَ هَذِهِ المَرأَةَ طارِحَةً ولَدَها فِي النّارِ؟» قُلنا: لا واللهِ، وهِيَ تَقدِرُ عَلى أن لا تَطرَحَهُ. فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «للهُ أرحَمُ بِعِبادِهِ مِن هَذِهِ بِوَلَدِها». لَفظُ (خ): «فَإذا امرَأَةٌ مِن السَّبي قَد تَحَلَّبَ ثَديُها تَسْعى ...»، وفي نُسخَةٍ: «تَحلُبُ ثَديَها تَسقَي».
- فيه بيان عظيم رحمة الله عز وجل، وأن رحمته بالعباد أعظم من رحمة الأم بولدها. " الصابوني "
- فيه أن رحمته تعالى تغلب غضبه. " الصابوني "
- أن فيه إشارة إلى أنه ينبغي للمرء أن يجعل تعلقه في جميع أموره بالله تعالى وحده، وأن كل من فرض أن فيه رحمة ما يقصد لأجلها فالله أرحم منه، فليقصد العاقل لحاجته من هو أشد له رحمه.
- أن فيه ضرب المثل بما يدرك بالحواس لما لا يدرك بها؛ لتحصل معرفة الشيء على وجهه، وإن كان الذي ضرب له المثل لا يحاط بحقيقته، لأن رحمة الله لا تدرك بالعقل ومع ذلك فقربها النبي ﷺ للسامعين بحال المرأة المذكورة.

باب: كَراهِيَّةُ الدُّعاءِ بِتَعْجِيلِ العُقُوبَةِ فِـي الدُّنْيا


٢٥٨٩. (م) (٢٦٨٨) عَنْ أنَسٍ ﵁؛ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ عادَ رَجُلًا مِنَ المُسلِمِينَ قَد خَفَتَ فَصارَ مِثلَ الفَرخِ، فَقالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «هَل كُنتَ تَدعُو بِشَيءٍ أو تَسأَلُهُ إيّاهُ؟» قالَ: نَعَم، كُنتُ أقُولُ: اللَّهُمَّ ما كُنتَ مُعاقِبِي بِهِ فِي الآخِرَةِ فَعَجِّلهُ لِي فِي الدُّنيا. فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «سُبحانَ اللهِ؛ لا تُطِيقُهُ أو لا تَستَطِيعُهُ، أفَلا قُلتَ: اللَّهُمَّ آتِنا فِي الدُّنيا حَسَنَةً وفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وقِنا عَذابَ النّارِ». قالَ: فَدَعا اللهَ تَعالى لَهُ فَشَفاهُ. وفي رواية: «لا طاقَةَ لَكَ بِعَذابِ اللهِ».
- قول سبحان الله عند التعجب.
- استحباب عيادة المريض والدعاء له.
- فضل الدعاء باللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
- وفي هذا الحديث: النهي عن الدعاء بتعجيل العقوبة، وفيه كراهية تمني البلاء؛ لئلا يتضجر منه ويسخطه. ( النووي )
- فيه أنه من هدي النبي ﷺ أنه كان يحب الجوامع من الدعاء كهذا الدعاء.

باب: لَنْ يُنْجِيَ أحَدًا عَمَلُهُ


٢٥٩٠. (خ م) (٢٨١٨) عَنْ عائِشَةَ ﵂ تَقُولُ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «سَدِّدُوا، وقارِبُوا، وأَبشِرُوا، فَإنَّهُ لَن يُدخِلَ الجَنَّةَ أحَدًا عَمَلُهُ». قالُوا: ولا أنتَ يا رَسُولَ اللهِ. قالَ: «ولا أنا، إلا أن يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ مِنهُ بِرَحمَةٍ، واعلَمُوا أنَّ أحَبَّ العَمَلِ إلى اللهِ أدوَمُهُ وإن قَلَّ». وزادَ (خ): «بِمَغفِرَةٍ ورَحمَةٍ ...».
ولَهُما عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، عَن رَسُولِ اللهِ ﷺ قالَ: «لَن يُنْجِيَ أحَدًا مِنكُم عَمَلُهُ ...» نَحْوُ حَدِيثِ عائِشَةَ دُونَ آخِرِهِ: «واعلَمُوا ...».
وفي رواية (م): «إلا أن يَتَدارَكَنِيَ اللهُ مِنهُ بِرَحمَةٍ».
وزادَ (خ) عَنهُ: «سَدِّدُوا وقارِبُوا، واغدُوا ورُوحُوا، وشَيءٌ مِن الدُّلجَةِ، والقَصْدَ القَصْدَ تَبلُغُوا».
ورَوى (م) عَنْ جابِرٍ نَحْوَ حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ مُخْتَصَرًا وزادَ: «ولا يُجِيرُهُ مِنَ النّارِ».
- قوله: ( سددوا وقاربوا وأبشروا ) أي اطلبوا السداد واعملوا به، وإن عجزتم عنه فقاربوه أي: اقربوا منه. والسداد الصواب وهو بين الإفراط والتفريط، فلا تغلوا ولا تقصروا. ( النووي )
- وفي ظاهر هذه الأحاديث دلالة لأهل الحق أنه لا يستحق أحدا الثواب والجنة بطاعته، وأما قوله تعالى:{ أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون } وقوله تعالى: { وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون }. ونحوهما من الآيات الدالة على أن الأعمال يدخل بها الجنة فلا يعارض هذه الأحاديث، بل معنى الآيات أن دخول الجنة بسبب الأعمال، ثم التوفيق للإعمال والهداية للإخلاص فيها وقبولها برحمة الله تعالى وفضله، فيصح أنه لم يدخل بمجرد العمل وهو مراد الأحاديث، ويصح أنه دخل بالأعمال أي بسببها وهي من الرحمة. ( النووي )
- ( قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله منه برحمة ) إذا كان كل الناس لا يدخلون الجنة إلا برحمة الله، فوجه تخصيص رسول الله ﷺ بالذكر، أنه إذا كان مقطوعا له بأنه يدخل الجنة ثم لا يدخلها إلا برحمة الله فغيره يكون في ذلك بطريق الأولى. ( الكرماني )
- قوله: ( ولا أنت يا رسول الله ) فيه مراجعة المتعلم العالم في إيضاح المجمل وتفسير المشكل.
- قوله: ( واعملوا أن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل ) دال على أن العمل الذي يدوم عليه فاعله ولو كان قليلا هو أحب العمل إلى الله، وذلك أن العبد إذا داوم على الأعمال الصالحة فهو حري أن يختم الله له بخير، فإنه إذا وافاه الأجل يوافيه على حالة حسنة، بخلاف الذي لا يداوم على العمل الصالح وينقطع عنه فقد يوافيه أجله في حالة الترك.
- والحكمة في ذلك: أن المديم للعمل يلازم الخدمة فيكثر التردد إلى باب الطاعة كل وقت فيجازى بالبر لكثرة تردده، فليس هو كمن لازم الخدمة مثلا ثم انقطع، وأيضا فالعامل إذا ترك العمل صار كالمعرض بعد الوصل فيتعرض للذم والجفاء. ( ابن حجر )
- شكر النعمة وشكر المنعم سمة من سمات الرقي البشري إذ هو تقدير لعطية المعطي واعتراف بها ووفاء له ولها ومحاولة لمقابلة الإحسان بالإحسان.

باب: فِكاكُ الـمُسْلِمِ مِنَ النّارِ


٢٥٩١. (م) (٢٧٦٧) عَنْ أبِي مُوسى الأَشْعَرِيِّ ﵁ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إذا كانَ يَومُ القِيامَةِ دَفَعَ اللهُ إلى كُلِّ مُسلِمٍ يَهُودِيًّا أو نَصرانِيًّا، فَيَقُولُ: هَذا فِكاكُكَ مِنَ النّارِ».
وفي رواية: «يَجِيءُ يَومَ القِيامَةِ ناسٌ مِنَ المُسلِمِينَ بِذُنُوبٍ أمثالِ الجِبالِ فَيَغفِرُها اللهُ لَهُم ويَضَعُها عَلى اليَهُودِ والنَّصارى». وفي رواية: «لا يَمُوتُ رَجُلٌ مُسلِمٌ إلاَّ أدخَلَ اللهُ مَكانَهُ النّارَ يَهُودِيًّا أو نَصرانِيًّا».
- الله سبحانه قدر للنار عددا يملؤها، فإذا دخلها الكفار بكفرهم وذنوبهم صاروا في معنى الفكاك للمسلمين.
- الله سبحانه يغفر الذنوب للمسلمين ويسقطها عنهم ويضع على اليهود والنصارى مثلها بكفرهم وذنوبهم فيدخلهم النار بأعمالهم لا بذنوب المسلمين ولا بد من هذا التأويل لقوله تعالى:{ ولا تزر وازرة وزر أخرى }.

باب: ما أحَدٌ أصْبَرُ عَلى أذًى يَسْمَعُهُ مِنَ اللهِ ﷿


٢٥٩٢. (خ م) (٢٨٠٤) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ قَيْسٍ ﵁ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «ما أحَدٌ أصبَرَ عَلى أذىً يَسمَعُهُ مِن اللهِ تَعالى، (إنَّهُم يَجعَلُونَ لَهُ نِدًّا)، ويَجعَلُونَ لَهُ ولَدًا، وهُوَ مَعَ ذَلكَ يَرزُقُهُم، ويُعافِيهِم، (ويُعطِيهِم)».
- فيه بيان عظيم حلم الله تعالى وجميل كرمه على عباده مع إيذائهم وكفرهم وجحودهم لفضل الله جل وعلا.
- فيه بيان فضل الصبر وثوابه الجزيل عند الله عز وجل، وهو شعار أفاضل المرسلين من الرسل الكرام { فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل }
- فيه بيان جلالة قدر الرسول ﷺ حيث صبر على أذى المنافقين، وقال: " رحم الله أخي موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر" قالها متواضعا اقتداء بموسى عليه السلام، مع أنه أعظم قدرا وفضلا منه.
- فيه أن أهل الفضل قد يبغضهم ما يقال فيهم فيتلقون ذلك بالحلم والصبر، كما صنع رسول الله ﷺ.

باب: لا شَيْءَ أغْيَرُ مِنَ اللهِ


٢٥٩٣. (خ م) (٢٧٦١) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إنَّ اللهَ يَغارُ، (وإنَّ المُؤمِنَ يَغارُ)، وغَيرَةُ اللهِ أن يَأتِيَ المُؤمِنُ ما حَرَّمَ عَلَيهِ». وفي رواية (م): «المؤمنُ يَغارُ، والله أشدُّ غَيْرًا».
- فيه أن غيرة الله غير غيرة العبد، فإن غيرة الله لمنع ارتكاب الفواحش والتحريم لها ولهذا قال: " وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله ".

٢٥٩٤. (خ م) (٢٧٦٢) عَنْ أسْماءَ بِنْتِ أبِي بَكْرٍ ﵂؛ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «لا شَيءَ أغيَرُ مِنَ اللهِ».

باب: فِـي النَّجْوى وتَقْرِيرُ العَبْدِ بِذُنُوبِهِ


٢٥٩٥. (خ م) (٢٧٦٨) عَنْ صَفْوانَ بْنِ مُحْرِزٍ قالَ: قالَ رَجُلٌ لابنِ عُمَرَ ﵄: كَيفَ سَمِعتَ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ فِي النَّجوى؟ قالَ: سَمِعتُهُ يَقُولُ: «يُدنى المُؤمِنُ يَومَ القِيامَةِ مِن رَبِّهِ ﷿، حَتّى يَضَعَ عَلَيهِ كَنَفَهُ، فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِه، فَيَقُولُ: هَل تَعرِفُ؟ فَيَقُولُ: أي رَبِّ؛ أعرِفُ. قالَ: فَإنِّي قَد سَتَرتُها عَلَيكَ فِي الدُّنيا، وإنِّي أغفِرُها لَكَ اليَومَ. فَيُعطى صَحِيفَةَ حَسَناتِهِ، وأَمّا الكُفّارُ والمُنافِقُونَ فَيُنادى بِهِم عَلى رُؤوسِ الخَلائِقِ: هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى اللهِ». وفي رواية (خ): «حَتّى إذا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ ورَأى فِي نَفسِهِ أنَّهُ هَلَكَ قالَ: سَتَرتُها عَلَيكَ فِي الدُّنيا». لَفظُ (خ): «عَلى رَؤُوسِ الأَشهادِ».
وفي رواية (خ): بَينا ابنُ عُمَرَ يَطُوفُ إذ عَرَضَ رَجُلٌ فَقالَ: ...
- ( يقول الأشهاد ):أي يقول أهل المحشر والملائكة الأبرار الذين شهدوا أعمال البشر، يقولون عن الكفار الفجار، والمنافقين المذبذبين: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله عليهم." الصابوني "
- بيان عظم رحمة الله بعبده حيث يستره من أهل الموقف ولا يفضحه على رؤوس الأشهاد.
- فيه أن الله تعالى لا يفضح المؤمن يوم القيامة ويرحمه، فيكون حسابه بطريق ( النجوى ) أي السر بينه وبين ربه. " الصابوني"
- أن الله يكرم المؤمن بستره لذنوبه في الدنيا، وغفرانه لها في الآخرة.
- فعبر عليه السلام بالكنف عن ترك إظهار جرمه للملائكة وغيرهم بإدامة الستر الذي من به على العبد في الدنيا، وجعله سببا لمغفرته له في الآخرة، ودليلا للمذنب على عفوه، ودليلا له على نعمة الإخلاص من فضيحة الدنيا وعقوبة الآخرة التي هي أشد من الدنيا؛ لقوله تعالى: { ولعذاب الآخرة أشد وأبقى }. ( ابن الملقن )
- فيه أن الكفار والمنافقين يفضحون يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، وتقول لهم الملائكة: لقد كذبتم على الله فلعنة الله عليكم، وهذا هو الخزي الذي يلحقهم يوم القيامة بالدعاء عليهم باللعنة والطرد من رحمة الله تعالى. " الصابوني "

باب: فِـي خَشْيَةِ اللهِ ﷿ وشِدَّةُ الخَوْفِ مِن عِقابِهِ


٢٥٩٦. (خ م) (٢٧٥٦) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁؛ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ: «قالَ رَجُلٌ لَم يَعمَل حَسَنَةً قَطُّ لأهلِهِ: إذا ماتَ فَحَرِّقُوهُ، ثُمَّ اذرُوا نِصفَهُ فِي البَرِّ، ونِصفَهُ فِي البَحرِ، فَواللهِ لَئِن قَدَرَ اللهُ عَلَيهِ لَيُعَذِّبَنَّهُ عَذابًا لا يُعَذِّبُهُ أحَدًا مِن العالَمِينَ. فَلَمّا ماتَ الرَّجُلُ فَعَلُوا ما أمَرَهُم، فَأَمَرَ اللهُ البَرَّ فَجَمَعَ ما فِيهِ، وأَمَرَ البَحرَ فَجَمَعَ ما فِيهِ، ثُمَّ قالَ: لِمَ فَعَلتَ هَذا؟ قالَ: مِن خَشيَتِكَ يا رَبِّ، وأَنتَ أعلَمُ. فَغَفَرَ اللهُ لَهُ».
لَفظُ (خ): «لَم يَعمَل خَيرًا قَطُّ».
وفي رواية: «أسْرَفَ رَجُلٌ عَلى نَفسِهِ، فَلَمّا حَضَرَه المَوتُ (أوصى) بَنِيهِ فَقالَ: إذا أنا مُتُّ فَأَحرِقُونِي، ثُمَّ (اسحَقُوني)، ثُمَّ اذْرُونِي فِي الرِّيحِ (فِي البَحرِ) ...».
ولَهُما عَن أبِي سَعِيدٍ يُحدِّثُ عَنِ النبيِّ ﷺ: «أنَّ رَجُلًا فِيمَن كانَ قَبلَكُم راشَهُ اللهُ مالًا ووَلَدًا، فَقالَ لِوَلَدهِ: (لَتَفعَلُنَّ ما آمُرُكُمْ بِهِ أو لأُوَلِّينَّ مِيراثِي غَيرَكُم)، إذا أنا مُتُّ فَأَحرِقُونِي، (وأَكثَرُ عِلمِي أنَّهُ قالَ): ثُمَّ اسْحَقُونِي، واذْرُوني فِي الرِّيحِ، فَإني لَم ابَتهِرْ عِندَ اللهِ خَيرًا، وإنَّ اللهَ يَقْدِرُ عَلَيَّ أن يُعَذِّبنِي. قالَ: فَأَخَذَ مِنهُم مِيثاقًا، فَفَعَلُوا ذَلكَ بِهِ ورَبِّي، فَقالَ اللهُ: ما حَمَلَكَ عَلى ما فَعَلتَ؟ قالَ: مَخافَتُكَ. قالَ: فَما تَلافاهُ غَيرُها».
ورَوى (خ) عَن حُذَيْفَةَ نَحوَهُ، وفِيهِ: «كانَ رَجُلٌ مِمَّن كانَ قَبلَكُم يُسِيءُ الظَنَّ بِعَمِلِهِ ...»، وفِيهِ: «فَذُرُّونِي فِي البَحرِ فِي يَومٍ صائِفٍ».
وفي رواية: «فَلَمّا يَئِسَ مِن الحَياةِ أوصى أهلَهُ: إذا أنا مُتُّ فاجمَعُوا لِي حَطَبًا كَثِيرًا، وأَوقِدُوا فِيهِ نارًا...». وفِيها: «وكانَ نَبّاشًا».
- بيان سعة رحمة الله وعفوه عن عباده، فالله عفا عنه لإيمانه وخوفه من الله عز وجل.
- الخوف من الله، علامة الإيمان، كما دل على ذلك قول الله تعالى:{ وخافون إن كنتم مؤمنين }.
- إثبات عقيدة أهل السنة أن المؤمن لا يخلد في النار مهما عظمت ذنوبه.
- الله لا يعجزه شيء فقد جمع ذرات هذا الإنسان وأعاده إلى الحياة بعد تناثر ذرات جسده في البر والبحر.

باب: فِيمَن أذْنَبَ ثُمَّ اسْتَغْفَرَ رَبَّهُ ﷿


٢٥٩٧. (خ م) (٢٧٥٨) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ؛ فِيما يَحكِي عَن رَبِّهِ ﷿ قالَ: «أذنَبَ عَبدٌ ذَنبًا فَقالَ: اللَّهُمَّ اغفِر لِي ذَنبِي. فَقالَ تَبارَكَ وتَعالى: أذنَبَ عَبدِي ذَنبًا، فَعَلِمَ أنَّ لَهُ رَبًّا يَغفِرُ الذَّنبَ، ويَأخُذُ بِالذَّنبِ. ثُمَّ عادَ فَأَذنَبَ فَقالَ: أي رَبِّ؛ اغفِر لِي ذَنبِي. فَقالَ تَبارَكَ وتَعالى: عَبدِي أذنَبَ ذَنبًا، فَعَلِمَ أنَّ لَهُ رَبًّا يَغفِرُ الذَّنبَ، ويَأخُذُ بِالذَّنبِ. ثُمَّ عادَ فَأَذنَبَ فَقالَ: أي رَبِّ؛ اغفِر لِي ذَنبِي. فَقالَ تَبارَكَ وتَعالى: أذنَبَ عَبدِي ذَنبًا، فَعَلِمَ أنَّ لَهُ رَبًّا يَغفِرُ الذَّنبَ، ويَأخُذُ بِالذَّنبِ، اعمَل ما شِئتَ، فَقَد غَفَرتُ لَكَ». (قالَ عَبدُ الأَعلى: لا أدرِي؛ أقالَ فِي الثّالِثَةِ أو الرّابِعَةِ: «اعمَل ما شِئتَ»). وفي رواية (م) هِيَ لَفظُ (خ): «قَد غَفَرتُ لِعَبدِي، فَليَعمَل ما شاءَ»، زادَ (خ) فِي آخِرِهِ: «غَفَرتُ لِعَبدِي، ثَلاثًا».
- العبد ما دام يذنب ثم يستغفر استغفار النادم التائب المقلع من ذنبه العازم أن لا يعود فيه فإن الله يغفر له، ولا يفهم من قوله: " فليفعل ما شاء " إباحة المعاصي والإثم، وإنما المعنى هو ما سبق من مغفرة الذنب إذا استغفر وتاب.
- أن رحمة الله واسعة، وأن باب التوبة مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربها.
- هذا الحديث يدل على عظيم فائدة الاستغفار، وكثرة فضل الله وسعة رحمته وحلمه وكرمه، ولا شك في أن هذا الاستغفار يثبت معناه في الجنان مقارنا للسان لتنحل به عقدة الإصرار، ويحصل معه الندم على ما سلف من الأوزار، فإذا الاستغفار ترجمة التوبة وعبادة عنها، وأما من قال بلسانه: استغفر الله، وقلبه مصر على تلك المعصية فاستغفاره ذلك يحتاج إلى استغفار، وصغيرته لاحقة بالكبار، فلا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار. ( القرطبي )
- أن العود إلى الذنب وإن كان أقبح من ابتدائه؛ لأنه انضاف إلى نقص التوبة، فالعودة إلى التوبة أحسن من ابتدائها؛ لأنه انضاف إليها ملازمة الإلحاح بباب الكريم فإنه لا غافر للذنب سواه. ( القرطبي )
- في هذا الحديث أن المصر على المعصية في مشيئة الله تعالى إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له مغلبا الحسنة التي جاء بها، وهي اعتقاد أن له ربا خالق، يعذبه، ويغفر له، ولا حسنة أعظم من التوحيد. ( ابن بطال )
- ولو تكرر الذنب مائة مرة أو ألف مرة أو أكثر، وتاب في كل مرة قبلت توبته، وسقطت ذنوبه، ولو تاب عن الجميع توبة واحدة بعد جمعها صحت توبته. ( النووي )
- والمراد بالتوبة هنا: الرجوع عن الذنب، ولها ثلاثة أركان: الإقلاع، والندم على فعل تلك المعصية، والعزم على ألا يعود إليها أبدا، فإن كانت المعصية لحق آدمي فلها ركن رابع: وهو التحلل من صاحب ذلك الحق، وأصلها الندم وهو ركنها الأعظم، واتفقوا على أن التوبة من جميع المعاصي واجبة، وأنها واجبة على الفور لا يجوز تأخيرها، سواء كانت المعصية صغيرة أو كبيرة. ( النووي )

باب: فِيمَن أصابَ ذَنْبًا ثُمَّ تَوَضَّأَ وصَلّى المَكْتُوبَةَ


٢٥٩٨. (خ م) (٢٧٦٤) عَنْ أنَسِ بْنِ مالكٍ ﵁ قالَ: جاءَ رَجُلٌ إلى النَّبِيِّ ﷺ فَقالَ: يا رَسُولَ اللهِ؛ أصَبتُ حَدًّا فَأَقِمهُ عَلَيَّ. قالَ: وحَضَرَت الصَّلاةُ، فَصَلّى مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَلَمّا قَضى الصَّلاةَ قالَ: يا رَسُولَ اللهِ؛ إنِّي أصَبتُ حَدًّا، فَأَقِم فِيَّ كِتابَ اللهِ. قالَ: «هَل حَضَرتَ الصَّلاةَ مَعَنا؟» قالَ: نَعَم. قالَ: «قَد غُفِرَ لَكَ».
زادَ (خ): قالَ: ولَم يَسأَلهُ عَنهُ، وزادَ فِي آخِرِهِ: «فَإنَّ اللهَ قَد غَفَرَ لَكَ ذَنبَكَ - أو قالَ: - حَدَّك».
ورَوى (م) عَن أبِي أُمامَةَ قالَ: بَينَما رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي المَسْجِدِ، ونَحنُ قُعُودٌ مَعَهُ، إذ جاءَ رَجُلٌ فَقالَ: يا رَسُولَ اللهِ إني أصَبتُ ... نَحوَهُ، وفِيهِ: وأُقِيمَت الصَّلاةُ، فَلَمّا انصَرَفَ نَبِيُّ اللهِ ﷺ، قالَ أبُو أُمامَةَ: فاتَّبَعَ الرَّجُلُ رَسُولَ اللهِ ﷺ حِينَ انصَرَفَ، واتَّبَعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ انظرُ ما يَرُدُّ عَلى الرَّجُلِ ... وفِيهِ: فَقالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أرَأَيتَ حِينَ خَرَجتَ مِن بَيتِكَ؛ ألَيسَ قَد تَوَضَّأَتَ فَأَحْسَنْتَ الوُضُوءَ؟» قالَ: بَلى، يا رَسُولَ اللهِ. قالَ: «ثُمَّ شَهِدْتَ الصَّلاةَ مَعَنا؟» فَقالَ: نَعَم يا رَسُولَ اللهِ. قالَ: فَقالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «فَإنَّ اللهَ قَد غَفَرَ لَكَ حَدَّكَ، أو قالَ: ذَنبَكَ».
- أن الصلاة كفارة للذنوب.
- أنه يحتمل أن يكون النبي ﷺ اطلع على الأمر بالوحي على أن الله قد غفر له لكونها واقعة عين، وإلا لكان يسأله عن الحد ويقيمه عليه.

باب: مَغْفِرَةُ الذُّنُوبِ بِالاسْتِغْفارِ


٢٥٩٩. (م) (٢٧٤٩) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «والَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَو لَم تُذنِبُوا لَذَهَبَ اللهُ بِكُم، ولَجاءَ الله بِقَومٍ يُذنِبُونَ فَيَستَغفِرُونَ اللهَ فَيَغفِرُ لَهُم».
وروى (م) عَن أبِي أيُّوبَ؛ أنَّهُ قالَ حِينَ حَضَرَتهُ الوَفاةُ: كُنتُ كَتَمتُ عَنكُم شَيئًَا سَمِعتُهُ مِن رَسُولِ اللهِ ﷺ، سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «لَولا أنَّكُم تُذنِبُونَ لَخَلَقَ اللهُ خَلقًا يُذنِبُونَ يَغفِرُ لَهُم».
-وحاصل هذا الحديث أن الله تعالى سبق في علمه أنه يخلق من يعصيه، فيتوب، فيغفر له، فلو قدر أن لا عاصي يظهر في الوجود لذهب الله تعالى بالطائعين إلى جنته ولخلق من يعصيه فيغفر له، حتى يوجد ما سبق في علمه، ويظهر من مغفرته ما تضمنه اسمه الغفار، ففيه من الفوائد رجاء مغفرته، والطماعية في سعة رحمته. ( القرطبي )
- رد لمن ينكر صدور الذنب عن العباد ويعده نقصا فيهم مطلقا، وأن الله تعالى لم يرد من العباد صدوره، كالمعتزلة ومن سلك مسلكهم، فنظروا إلى ظاهره وأنه مفسدة صرفة، ولم يقفوا على سره أنه مستجلب للتوبة، والاستغفار الذي هو موقع محبة الله تعالى: { إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين }. ( الطيبي )

١ ١/ قال رسول الله ﷺ: "من نزل منزلًا ثم قال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق (.................)"

٥/٠