كِتابُ الـمُنافِقِينَ


باب: مِن صِفاتِ الـمُنافِقِينَ


٢٦٠٠. (خ م) (٢٧٧٢) عَنْ زَيْدِ بْنِ أرْقَمَ ﵁ قالَ: خَرَجنا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي سَفَرٍ أصابَ النّاسَ فِيهِ شِدَّةٌ، فَقالَ عَبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ لأَصحابِهِ: لا تُنفِقُوا عَلى مَن عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتّى يَنفَضُّوا مِن حَولِهِ. قالَ زُهَيرٌ: وهِيَ قِراءَةُ مَن خَفَضَ «حَولَهُ» وقالَ: لَئِن رَجَعنا إلى المَدِينَةِ لَيُخرِجَنّ الأَعَزُّ مِنها الأَذَلَّ. قالَ: فَأَتَيتُ النَّبِيَّ ﷺ فَأَخبَرتُهُ بِذَلكَ، فَأَرسَلَ إلى عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ فَسَأَلَهُ، فاجتَهَدَ يَمِينَهُ ما فَعَلَ، فَقالَ: كَذَبَ زَيدٌ رَسُولَ اللهِ ﷺ. قالَ: فَوَقَعَ فِي نَفسِي مِمّا قالَوهُ شِدَّةٌ، حَتّى أنزَلَ اللهُ تَصدِيقِي: ﴿إذا جاءَكَ المُنافِقُونَ﴾ [المنافقون: ١]. قالَ: ثُمَّ دَعاهُمُ النَّبِيُّ ﷺ لِيَستَغفِرَ لَهُم، قالَ: فَلَوَّوا رُؤوسَهُم، وقَوله: ﴿كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ﴾ [المنافقون: ٤]، وقالَ: كانُوا رِجالًا أجمَلَ شَيءٍ. وفي رواية (خ): قالَ: كُنتُ مَعَ عَمِّي ... نَحوَهُ، وفِيها: فَذَكَرْتُ ذَلكَ لِعمِّي، فَذَكَرَ عَمِّي لِلنبيِّ ﷺ، فَدَعانِي فَحَدَّثتُهُ ... وفِيها: فَحَلَفَوا ما قالُوا، وكَذَّبَنِي النَّبيُّ ﷺ وصَدَّقَهُم، فَأَصابَنِي هَمٌّ لَم يُصِبنِي مِثلُهُ قَطُّ، فَجَلَستُ فِي بَيتِي، وقالَ عَمِّي: ما أرَدْتَ إلا أن كَذَّبَكَ النَّبيُّ ﷺ ومَقَتَكَ؟ فَأَنزَلَ اللهُ ... وفِيها: وأَرسَلَ إليَّ النَّبِيُّ ﷺ فَقَرَأها، وقالَ: «إنَّ اللهَ قَد صَدَّقَكَ».
وفي رواية (خ): كُنتُ فِي غَزاةٍ ... وفِيها: فَذَكَرتُ ذَلكَ لِعَمِّي أو لِعُمَرَ ...
-( أصاب الناس فيه شدة) الشدة كانت حمية الجاهلية بين الأوس والخزرج بسبب غلام من هؤلاء وغلام من هؤلاء، وعلى القول بأنها تبوك فإن الشدة العسر. (موسى لاشين)
-فيه ترك مؤاخذة كبراء القوم بالهفوات، لئلا ينفر أتباعهم، والاقتصار على معاتبتهم، وقبول أعذراهم وتصديق أيمانهم وإن كانت القرائن ترشد إلى خلاف ذلك، لما في ذلك من التأنيس والتأليف.
-فيه منقبة لزيد بن أرقم .
-فيه أنه ينبغي لمن سمع أمرًا يتعلق بالإمام أو نحوه من كبار ولاة الأمور، ويخاف ضرره على المسلمين أن يبلغه إياه ليتحرز منه.
-فيه جواز تبليغ ما لا يجوز للمقول فيه، ولا يعد نميمة مذمومة إلا إذا قصد بذلك الإفساد المطلق، أما إذا كانت فيه مصلحة تُرجَّح على المفسدة فلا.

٢٦٠١. (م) (٢٧٨٤) عَنِ ابْنِ عُمَرَ ﵄، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «مَثَلُ المُنافِقِ كَمَثَلِ الشّاةِ العائِرَةِ بَينَ الغَنَمَينِ، تَعِيرُ إلى هَذِهِ مَرَّةً وإلى هَذِهِ مَرَّةً».
-قال القرطبي: إنما ثنّى الغنم وإن كانت اسم جنس؛ لأنَّه أراد قطعتين منها، وهذا الحديث مناسب لقوله تعالى: { مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ } النساء - 143

باب: الـمُنافِقُونَ عَلى عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ


٢٦٠٢. (خ م) (٢٧٨١) عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ ﵁ قالَ: كانَ مِنّا رَجُلٌ (مِن بَنِي النَّجّارِ)، قَد قَرَأَ البَقَرَةَ وآلَ عِمرانَ، وكانَ يَكتُبُ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ، فانطَلَقَ هارِبًا حَتّى لَحِقَ بِأَهلِ الكِتابِ، (قالَ: فَرَفَعُوهُ؛ قالُوا: هَذا قَد كانَ يَكتُبُ لِمُحَمَّدٍ. فَأُعجِبُوا بِهِ)، فَما لَبِثَ أن قَصَمَ اللهُ عُنُقَهُ فِيهِم، فَحَفَرُوا لَهُ فَوارَوهُ، فَأَصبَحَت الأَرضُ قَد نَبَذَتهُ عَلى وجهِها، ثُمَّ عادُوا فَحَفَرُوا لَهُ فَوارَوهُ، فَأَصبَحَت الأَرضُ قَد نَبَذَتهُ عَلى وجهِها، ثُمَّ عادُوا فَحَفَرُوا لَهُ فَوارَوهُ، فَأَصبَحَت الأَرضُ قَد نَبَذَتهُ عَلى وجهِها، فَتَرَكُوهُ مَنبُوذًا. رَوى (خ) مَعناهُ، وفِيهِ: فَعادَ نَصرانِيًّا، فَكانَ يَقُولُ: ما يَدرِي مُحَمَّدٌ إلّا ما كَتَبتُ لَهُ. فَأَماتَهُ اللَّهُ فَدَفَنُوهُ، فَأَصبَحَ وقَد لَفَظَتهُ الأَرضُ. فَقالُوا: هَذا فِعلُ مُحَمَّدٍ وأَصحابِهِ، لَمّا هَرَبَ مِنهُم نَبَشُوا عَن صاحِبِنا فَأَلقَوهُ، فَحَفَرُوا لَهُ فَأَعمَقُوا، فَأَصبَحَ وقَد لَفَظَتهُ الأَرضُ، فَقالُوا: هَذا فِعلُ مُحَمَّدٍ وأَصحابِهِ نَبَشُوا عَن صاحِبِنا لَمّا هَرَبَ مِنهُم ... وفِي آخِرِهِ: فَعَلِمُوا أنَّهُ لَيسَ مِن النّاسِ، فَأَلقَوهُ.
-إنما أظهر الله تلك الآية في هذا المرتد، ليوضح حجَّة نبيه ﷺ لليهود عيانا، وليقيم لهم على ضلالة من خالف دينه برهانا، وليزداد الذين آمنوا يقينا وإيمانا. (القرطبي)
-فيه آية من آيات الله عز وجل وهي أن هذا الرجل لما كذب على رسول الله ﷺ ، وادَّعى خلاف ما كان يمليه عليه أظهر الله تعالى فيه تلك الآية وهي لفظ الأرض له؛ وذلك أنه لما أظهر سرَّ رسول الله ﷺ كانت عقوبته من جنس ذنبه، فأظهرت الأرض من سوءته ما توارى به كل عن أحد.
-فيه الزجر عن الكذب على رسول الله ﷺ وسوء عاقبة من يكذب عليه.

٢٦٠٣. (م) (٢٧٧٩) عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبادٍ ﵁ قالَ: قُلتُ لِعَمّارٍ: أرَأَيتُم صَنِيعَكُم هَذا الَّذِي صَنَعتُم فِي أمرِ عَلِيٍّ؛ أرَأيًا رَأَيتُمُوهُ، أو شَيئًا عَهِدَهُ إلَيكُم رَسُولُ اللهِ ﷺ؟ فَقالَ: ما عَهِدَ إلَينا رَسُولُ اللهِ ﷺ شَيئًا لَم يَعهَدهُ إلى النّاسِ كافَّةً، ولَكِن حُذَيْفَةُ أخبَرَنِي عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «فِي أصحابِي اثنا عَشَرَ مُنافِقًا، فِيهِم ثَمانِيَةٌ لا يَدخُلُونَ الجَنَّةَ حَتّى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمِّ الخِياطِ، ثَمانِيَةٌ مِنهُم تَكفِيكَهُمُ الدُّبَيلَةُ، وأَربَعَةٌ». قالَ الأَسوَدُ بنُ عامِرٍ: لَم أحفَظ ما قالَ شُعبَةُ فِيهِم. وفي رواية: «ثَمانِيَةٌ مِنهُم تَكفِيكَهُمُ الدُّبَيلَةُ سِراجٌ مِنَ النّارِ يَظهَرُ فِي أكتافِهِم حَتّى يَنجُمَ مِن صُدُورِهِم».
فيه تكذيب من عمار للشيعة فيما يدعونه ويكذبون به على رسول الله ﷺ وعلى علي رضي الله عنه في يوم غدير خم وغيره. (القرطبي)

٢٦٠٤. (م) (٢٧٧٩) عَنْ أبِي الطُّفَيْلِ قالَ: كانَ بَينَ رَجُلٍ مِن أهلِ العَقَبَةِ وبَينَ حُذَيْفَةَ بَعضُ ما يَكُونُ بَينَ النّاسِ، فَقالَ: أنشُدُكَ بِاللهِ؛ كَم كانَ أصحابُ العَقَبَةِ؟ قالَ: فَقالَ لَهُ القَومُ: أخبِرهُ إذ سَأَلَكَ. قالَ: كُنّا نُخبَرُ أنَّهُم أربَعَةَ عَشَرَ، فَإن كُنتَ مِنهُم فَقَد كانَ القَومُ خَمسَةَ عَشَرَ، وأَشهَدُ بِاللهِ أنَّ اثنَي عَشَرَ مِنهُم حَربٌ للهِ ولِرَسُولِهِ فِي الحَياةِ الدُّنيا ويَومَ يَقُومُ الأَشهادُ، وعَذَرَ ثَلاثَةً قالُوا: ما سَمِعنا مُنادِيَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، ولا عَلِمنا بِما أرادَ القَومُ، وقَد كانَ فِي حَرَّةٍ فَمَشى فَقالَ: «إنَّ الماءَ قَلِيلٌ، فَلا يَسبِقنِي إلَيهِ أحَدٌ». فَوَجَدَ قَومًا قَد سَبَقُوهُ فَلَعَنَهُم يَومَئِذٍ.
-هذه العقبة ليست العقبة المشهورة بمنى التي كانت فيها بيعة الأنصار رضي الله عنهم، وإنما هذه عقبة على طريق تبوك، اجتمع المنافقون فيها للغدر برسول الله ﷺ في غزوة تبوك فعصمه الله منهم. (النووي)

٢٦٠٥. (م) (٢٧٨٠) عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ﵄ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَن يَصعَدُ الثَّنِيَّةَ ثَنِيَّةَ المُرارِ، فَإنَّهُ يُحَطُّ عَنهُ ما حُطَّ عَن بَنِي إسرائِيلَ». قالَ: فَكانَ أوَّلَ مَن صَعِدَها خَيلُنا خَيلُ بَنِي الخَزرَجِ، ثُمَّ تَتامَّ النّاسُ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «وكُلُّكُم مَغفُورٌ لَهُ إلاَّ صاحِبَ الجَمَلِ الأَحمَرِ». فَأَتَيناهُ فَقُلنا لَهُ: تَعالَ يَستَغفِر لَكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَقالَ: واللهِ لأَن أجِدَ ضالَّتِي أحَبُّ إلَيَّ مِن أن يَستَغفِرَ لِي صاحِبُكُم. قالَ: وكانَ رَجُلٌ يَنشُدُ ضالَّةً لَهُ.
-قال القاضي: قيل هذا الرجل هو الجد بن قيس المنافق. (النووي)
- فيه كشف للمنافقين وأحوالهم، ومكارم أخلاقه ﷺ ، وحسن معاشرته لمن انتسب إلى صحبته. (موسى شاهين)

٢٦٠٦. (م) (٢٧٨٢) عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ﵄؛ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَدِمَ مِن سَفَرٍ، فَلَمّا كانَ قُربَ المَدِينَةِ هاجَت رِيحٌ شَدِيدَةٌ تَكادُ أن تَدفِنَ الرّاكِبَ، فَزَعَمَ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ: «بُعِثَت هَذِهِ الرِّيحُ لِمَوتِ مُنافِقٍ». فَلَمّا قَدِمَ المَدِينَةَ فَإذا مُنافِقٌ عَظِيمٌ مِنَ المُنافِقِينَ قَد ماتَ.
-( هاجت ريح تكاد أن تدفن الراكب) أي: هبت ريح شديدة تحمل معها التراب والرمل لشدتها، حتى لو عارضها راكب على بعيره لدفنته بما تسفي عليه من التراب والرمل، وكأن هذه الريح إنما هاجت عند موت ذلك المنافق العظيم ليُعَذّب بها، أو جعلها الله علامة لنبيه ﷺ على موت ذلك المنافق، وأنه مات على النفاق، والله تعالى أعلم. (القرطبي)

٢٦٠٧. (م) (٢٧٨٣) عَنْ سَلَمَةَ بْنِِ الأَكْوَعِ ﵁ قالَ: عُدنا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ رَجُلًا مَوعُوكًا، فَوَضَعتُ يَدِي عَلَيهِ فَقُلتُ: واللهِ ما رَأَيتُ كاليَومِ رَجُلًا أشَدَّ حَرًّا، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «ألا أُخبِرُكُم بِأَشَدَّ حَرًّا مِنهُ يَومَ القِيامَةِ هَذَينِكَ الرَّجُلَينِ الرّاكِبَينِ المُقَفِّيَينِ». لِرَجُلَينِ حِينَئِذٍ مِن أصحابِهِ.
(الرجلين حينئذ من أصحابه) سماهما من أصحابه؛ لإظهارهما الإسلام والصحبة لا أنهما ممن نالته فضيلة الصحبة. (النووي)

٢٦٠٨. (خ) (٦٠٦٧) عَنْ عائِشَةَ ﵂ قالَت: قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «ما أظُنُّ فُلانًا وفُلانًا يَعرِفانِ مِن دِينِنا شَيئًا». قالَ اللَّيثُ: كانا رَجُلَينِ مِن المُنافِقِينَ.
-الظن هنا بمعنى اليقين؛ لأنه كان يعرف المنافقين بإعلام الله له بهم في سورة براءة، قال ابن عباس: " كنا نسمي سورة براءة الفاضحة".
غير أن الله لم يأمره بقتلهم، ونحن لا نعلم بالظن مثل ما علمه لأجل نزول الوحي عليه، فلم يجب لنا القطع على الظن، غير أنه من ظهر منه فعل منكر، فقد عرض نفسه لسوء الظن والتهمة في دينه، فلا حرج على من أساء الظن به، وقد قال ابن عمر: "كنا إذا فقدنا الرجل في صلاة العشاء والصبح أسأنا به الظن". (ابن الملقن)
-سوء الظن جائز عند أهل العلم إن كان مظهرا للقبيح، ومجانبا لأهل الصلاح، وغير مشاهد للصلوات في الجماعة. (ابن الملقن)

باب: الـمُنافِقُونَ بَعْدَ عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ


٢٦٠٩. (خ) (٧١١٣) عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ اليَمانِ قالَ: إنَّ المُنافِقِينَ اليَومَ شَرٌّ مِنهُم عَلى عَهدِ النَّبِيِّ ﷺ، كانُوا يَومَئِذٍ يُسِرُّونَ واليَومَ يَجهَرُونَ.
-قال ابن التين: أراد أنهم أظهروا من الشر ما لم يظهر أولئك، غير أنهم لم يصرحوا بالكفر، وإنما هو النفث يلقونه بأفواههم، فكانوا يعرفون به. ( ابن حجر)
-قال ابن بطال: إنما كانوا شرا ممن قبلهم؛ لأن الماضين كانوا يسرون قولهم فلا يتعدى شرهم إلى غيرهم، وأما الآخرون فصاروا يجهرون بالخروج على الأئمة، ويوقعون الشر بين الفرق، فيتعدى ضررهم لغيرهم. (ابن حجر)

٢٦١٠. (خ) (٧١١٤) عَنْ حُذَيْفَةَ قالَ: إنَّما كانَ النِّفاقُ عَلى عَهدِ النَّبِيِّ ﷺ، فَأَمّا اليَومَ فَإنَّما هُوَ الكُفرُ بَعدَ الإيمانِ.
- قال ابن حجر: والذي يظهر أن حذيفة لم يرد نفي الوقوع، وإنما أراد نفي اتفاق الحكم؛ لأن النفاق إظهار الإيمان وإخفاء الكفر، ووجود ذلك ممكن في كل عصر، وإنما اختلف الحكم لأن النبي ﷺ كان يتألفهم، ويقبل ما أظهروه من الإسلام ولو ظهر منهم احتمال خلافه، وأما بعده فمن أظهر شيئا فإنه يؤاخذ به، ولا يترك لمصلحة التألف؛ لعدم الاحتياج إلى ذلك، وقيل: غرضه أن الخروج عن طاعة الإمام جاهلية، ولا جاهلية في الإسلام، أو تفريق للجماعة، فهو بخلاف قول الله تعالى: {ولا تفرقوا}، وكل ذلك غير مستور، فهو كالكفر بعد الإيمان.
- قال ابن التين: كان المنافقون على عهد رسول الله ﷺ آمنوا بألسنتهم، ولم تؤمن قلوبهم، وأما من جاء بعدهم، فإنه ولد في الإسلام وعلى فطرته فمن كفر منهم فهو مرتد، ولذلك اختلفت أحكام المنافقين والمرتدين. (ابن حجر)

كِتابُ بَدْءِ الخَلْقِ وصِفَةِ القِيامَةِ


باب: ابتِداءُ الخَلْقِ


٢٦١١. (خ) (٣١٩١) عَنْ عِمْرانَ بْنِ حُصَيْنٍ ﵄ قالَ: دَخَلتُ عَلى النَّبِيِّ ﷺ وعَقَلتُ ناقَتِي بِالبابِ، فَأَتاهُ ناسٌ مِن بَنِي تَمِيمٍ، فَقالَ: «اقبَلُوا البُشرى يا بَنِي تَمِيمٍ». قالُوا: قَد بَشَّرتَنا فَأَعطِنا. مَرَّتَينِ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيهِ ناسٌ مِن أهلِ اليَمَنِ فَقالَ: «اقبَلُوا البُشرى يا أهلَ اليَمَنِ إذ لَم يَقبَلها بَنُو تَمِيمٍ». قالُوا: قَد قَبِلنا يا رَسُولَ اللهِ. قالُوا: جِئناكَ نَسأَلُكَ عَن هَذا الأَمرِ. قالَ: «كانَ اللهُ ولَم يَكُن شَيءٌ غَيرُهُ، وكانَ عَرشُهُ عَلى الماءِ، وكَتَبَ فِي الذِّكرِ كُلَّ شَيءٍ، وخَلَقَ السَّمَواتِ والأرضَ». فَنادى مُنادٍ: ذَهَبَت ناقَتُكَ يا ابنَ الحُصَينِ. فانطَلَقتُ، فَإذا هِيَ يَقطَعُ دُونَها السَّرابُ، فَواللهِ لَوَدِدتُ أنِّي كُنتُ تَرَكتُها. وفي رواية: فَأَخَذَ النَّبِيُّ ﷺ يُحَدِّثُ بَدءَ الخَلقِ والعَرشِ ... وفي رواية: «كانَ اللهُ ولَم يَكُن شَيءٌ قَبلَهُ».
-(اقبلوا البشرى) أي: اقبلوا مني ما يقتضي أن تبشروا، إذا أخذتم به بالجنة كالفقه في الدين، والعمل به.
(لم يقبلها بنو تميم) قيل: بنو تميم قبلوها حيث قالوا: بشرتنا، وغاية ما في الباب أنهم سألوا شيئا وأجيب بأنهم لم يقبلوها حيث لم يهتموا بالسؤال عن حقائقها وكيفية المبدأ، والمعاد، ولم يعتنوا بضبطها وحفظها ولم يسألوا عن موجباتها وعن الموصلات إليها.
وقال الطيبي: لما لم يكن جل اهتمامهم إلا بشأن الدنيا والاستعطاء دون دينهم، قالوا: بشرتنا للتفقه وإنما جئنا للاستعطاء فأعطنا. (المباركفوري)
-فيه جواز السؤال عن مبدأ الأشياء والبحث عن ذلك، وجواز جواب العالم بما يستحضره من ذلك، وعليه الكف إن خشي على السائل ما يدخل على معتقده. (ابن حجر)
-فيه ما كان عليه -عمران بن حصين- من الحرص على تحصيل العلم. (ابن حجر

٢٦١٢. (م) (٢٧٨٩) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁ قالَ: أخَذَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِيَدِي فَقالَ: «خَلَقَ اللهُ التُّربَةَ يَومَ السَّبتِ، وخَلَقَ فِيها الجِبالَ يَومَ الأَحَدِ، وخَلَقَ الشَّجَرَ يَومَ الاثنَينِ، وخَلَقَ المَكرُوهَ يَومَ الثُّلاثاءِ، وخَلَقَ النُّورَ يَومَ الأَربِعاءِ، وبَثَّ فِيها الدَّوابَّ يَومَ الخَمِيسِ، وخَلَقَ آدَمَ بَعدَ العَصرِ مِن يَومِ الجُمُعَةِ فِي آخِرِ الخَلقِ فِي آخِرِ ساعَةٍ مِن ساعاتِ الجُمُعَةِ، فِيما بَينَ العَصرِ إلى اللَّيلِ».

باب: خَلْقُ الـمَلائِكَةِ والجِنِّ والإنْسِ


٢٦١٣. (م) (٢٩٩٦) عَنْ عائِشَةَ ﵂ قالَت: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «خُلِقَتِ المَلائِكَةُ مِن نُورٍ، وخُلِقَ الجانُّ مِن مارِجٍ مِن نارٍ، وخُلِقَ آدَمُ مِمّا وُصِفَ لَكُم».
-(خلقت الملائكة من نور) أي: من جواهر مضيئة منيرة، فكانوا خيرًا محضًا. (القرطبي)
-(وخلق الجان من مارج من نار) أي: من شواظ ذي لهب واتقاد ودخان، فكانوا شرًا محضًا، والخير فيهم قليل. (القرطبي)
-(وخلق آدم مما تعلمون) أي: مما أعلمكم به، أي: من تراب صُيِّر طينا، ثم فُخارا، كما أخبرنا به تعالى في غير موضع من كتابه. والفخار: الطين اليابس.( القرطبي)
-فيه مبدأ خلق الملائكة، ومبدأ خلق الجان، وإحالة على القرآن الكريم في مبدأ خلق آدم. (موسى شاهين)

باب: صِفَةُ الشَّمْسِ والقَمَرِ يَوْمَ القِيامَةِ


٢٦١٤. (خ) (٣٢٠٠) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁؛ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «الشَّمسُ والقَمَرُ مُكَوَّرانِ يَومَ القِيامَةِ».
- (مُكَوَّرَان) قال العيني: أي مطويان ذاهبا الضوء، وقال ابن الأثير: أي يلفان ويجمعان.
- قال الخطابي: ليس المراد بكونهما في النار تعذيبهما بذلك ولكنه تبكيت لمن كان يعبدهما في الدنيا ليعلموا أن عبادتهم لهما كانت باطلة. وقال الإسماعيلي: لا يلزم من جعلهما في النار تعذيبهما فإن لله في النار ملائكة وغيرها لتكون لأهل النار عذابا وآلة من آلات العذاب. (ابن حجر)

باب: صِفَةُ الأَرْضِ يَوْمَ القِيامَةِ


٢٦١٥. (خ م) (٢٧٩٠) عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ﵁ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «يُحشَرُ النّاسُ يَومَ القِيامَةِ عَلى أرضٍ بَيضاءَ عَفراءَ، كَقُرصَةِ النَّقِيِّ، لَيسَ فِيها عَلَمٌ لأَحَدٍ». لَفظُ (خ) فِي آخِرِهِ: قالَ سَهلٌ أو غَيرُهُ: لَيسَ فِيها مَعْلَمٌ لأَحَدٍ.
٢٦١٦. (م) (٢٧٩١) عَنْ عائِشَةَ ﵂ قالَت: سَأَلتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَن قَولِهِ ﷿: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ والسَّمَواتُ﴾ [إبراهيم: ٤٨]؛ فَأَينَ يَكُونُ النّاسُ يَومَئِذٍ؟ يا رَسُولَ اللهِ، فَقالَ: «عَلى الصِّراطِ».
قال القرطبي: فيه دليل على أن المراد بتبديل الأرض المذكورة في قوله تعالى: { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ } إنه تبديل ذات بذات، فيُذهب بهذه الأرض ويؤتى بأرض أخرى، وهو قول جمهور العلماء.
فيه تعريض بأرض الدنيا، وأنها ذهبت وانقطعت العلاقة منها. (ابن حجر)
قال أبو محمد بن أبي جمرة: فيه دليل على عظيم القدرة، والإعلام بجزئيات يوم القيامة ليكون السامع على بصيرة فيخلص نفسه من ذلك الهول، لأن في معرفة جزئيات الشيء قبل وقوعه رياضة النفس وحملها على ما فيه خلاصها، بخلاف مجيء الأمر بغتة. (ابن حجر)
فيه إشارة إلى أن أرض الموقف أكبر من هذه الأرض الموجودة جدا، والحكمة في الصفة المذكورة أن ذلك اليوم يوم عدل وظهور حق فاقتضت الحكمة أن يكون المحل الذي يقع فيه ذلك طاهرا عن عمل المعصية والظلم، وليكون تجليه سبحانه على عباده المؤمنين على أرض تليق بعظمته، ولأن الحكم فيه إنما يكون لله وحده، فناسب أن يكون المحل خالصا له وحده. (ابن حجر)

باب: يَقْبِضُ اللهُ الأَرْضَ يَوْمَ القِيامَةِ ويَطْوِي السَّماءَ بِيَمِينِهِ


٢٦١٧. (خ م) (٢٧٨٧) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «يَقبِضُ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى الأَرضَ يَومَ القِيامَةِ، ويَطوِي السَّماءَ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أنا المَلِكُ؛ أينَ مُلُوكُ الأَرضِ؟».
٢٦١٨. (م) (٢٧٨٨) عَن ابْنِ عُمرَ ﵂ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «يَطوِي اللهُ ﷿ السَّمَواتِ يَومَ القِيامَةِ، ثُمَّ يَأخُذُهنَّ بِيَدِهِ اليُمنى، ثُمَّ يَقُولُ: أنا المَلِكُ؛ أينَ الجَبّارُونَ؟ أينَ المُتَكِبِّرُونَ؟ ثُمَّ يَطوِي الأَرَضِينَ بِشِماله، ثُمَّ يَقُولُ: أنا المَلِكُ؛ أينَ الجَبّارُونَ؟ أينَ المُتَكبِّرُونَ؟» وفي رواية له: حتى نَظَرتُ إلى المِنبَرِ يَتَحَرَّكُ مِن أسفَلِ شَيءٍ مِنهُ، حَتّى إنِّي لأقولُ: أساقِطٌ هو بِرَسولِ اللهِ ﷺ؟
وفي رواية لَهُ: «يَأخُذُ الَجبّارُ ﷿ سَماواتِهِ وأَراضِيهِ بِيَدَيْهِ ...».
فيه التحذير من التَّجَبُّر والتَّكبُّر، والحث على التواضع والرحمة والعدل.
( يتحرك من أسفل شيء منه ) أي: من أسفله إلى أعلاه؛ لأن بحركة الأسفل يتحرك الأعلى، ويحتمل أن تحركه بحركة النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الإشارة، قال القاضي: ويحتمل أن يكون بنفسه هيبة لسمعه كما حن الجذع. (النووي)

باب: يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلى ما ماتَ عَلَيْهِ


٢٦١٩. (خ م) (٢٨٧٩) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ ﵄ قالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «إذا أرادَ اللهُ بِقَومٍ عَذابًا أصابَ العَذابُ مَن كانَ فِيهِم، ثُمَّ بُعِثُوا عَلى أعمالِهِم».
٢٦٢٠. (م) (٢٨٧٨) عَنْ جابِرٍ؛ سَمِعتُ النَّبِيَّ ﷺ يِقُولُ: «يُبعَثُ كُلُّ عَبدٍ عَلى ما ماتَ عَلَيهِ».
(إذا أراد الله بقوم عذابا) أي عقوبة لهم على سيء أعمالهم. (ابن حجر)
( أصاب العذاب من كان فيهم ) والمراد من كان فيهم ممن ليس هو على رأيهم. (ابن حجر)
فيه مشروعية الهرب من الكفار ومن الظلمة؛ لأن الإقامة معهم من إلقاء النفس إلى التهلكة، هذا إذا لم يعنهم ولم يرض بأفعالهم، فإن أعان أو رضي فهو منهم، ويؤيده أمره ﷺ بالإسراع في الخروج من ديار ثمود. (ابن حجر)
(يبعث كل عبد على ما مات عليه) أما بعثهم على أعمالهم فحَكَمٌ عدل؛ لأن أعمالهم الصالحة إنما يجازون بها في الآخرة، وأما في الدنيا فمهما أصابهم من بلاء كان تكفيرًا لما قدموه من عمل سيئ، فكان العذاب المرسل في الدنيا على الذين ظلموا يتناول من كان معهم ولم ينكر عليهم، فكان ذلك جزاء لهم على مداهنتهم، ثم يوم القيامة يبعث كل منهم فيجازى بعمله. (ابن حجر)
وفي الحديث تحذير وتخويف عظيم لمن سكت عن النهي، فكيف بمن داهن، فكيف بمن رضي، فكيف بمن عاون؟ نسأل الله السلامة. (ابن حجر)

باب: يُحْشَرُ النّاسُ حُفاةً عُراةً غُرْلًا


٢٦٢١. (خ م) (٢٨٥٩) عَنْ عائِشَةَ ﵂ قالَت: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «يُحشَرُ النّاسُ يَومَ القِيامَةِ حُفاةً عُراةً غُرلًا». قُلتُ: يا رَسُولَ اللهِ؛ النِّساءُ والرِّجالُ جَمِيعًا، يَنظُرُ بَعضُهُم إلى بَعضٍ! قالَ ﷺ: «يا عائِشَةُ؛ الأَمرُ أشَدُّ مِن أن يَنظُرَ بَعضُهُم إلى بَعضٍ». لَفظُ (خ): فَقالَ: «الأَمرُ أشَدُّ مِن أن يُهِمَّهُم ذاكَ».
٢٦٢٢. (خ م) (٢٨٦٠) عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﵄ قالَ: قامَ فِينا رَسُولُ اللهِ ﷺ خَطِيبًا بِمَوعِظَةٍ، فَقالَ: «يا أيُّها النّاسُ؛ إنَّكُم تُحشَرُونَ إلى اللهِ حُفاةً عُراةً غُرلًا، ﴿كَما بَدَأْنا أوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وعْدًا عَلَيْنا إنّا كُنّا فاعِلِينَ﴾، ألا وإنَّ أوَّلَ الخَلائِقِ يُكسى يَومَ القِيامَةِ إبراهِيمُ، ألا وإنَّهُ سَيُجاءُ بِرِجالٍ مِن أُمَّتِي، فَيُؤخَذُ بِهِم ذاتَ الشِّمالِ، فَأَقُولُ: يا رَبِّ؛ أصحابِي، فَيُقالُ: إنَّكَ لا تَدرِي ما أحدَثُوا بَعدَكَ. فَأَقُولُ كَما قالَ العَبدُ الصّالِحُ: ﴿ما قُلْتُ لَهُمْ إلاَّ ما أمَرْتَنِي بِهِ أنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي ورَبَّكُمْ وكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وأَنتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) إن تُعَذِّبْهُمْ فَإنَّهُمْ عِبادُكَ وإن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإنَّكَ أنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾، قالَ: فَيُقالُ لِي: إنَّهُم لَم يَزالُوا مُرتَدِّينَ عَلى أعقابِهِم مُنذُ فارَقتَهُم». وفي رواية (خ) زادَ: عَن قَبِيصَةَ قالَ: هُم المُرتَدُّونَ الَّذِينَ ارتَدُّوا عَلى عَهدِ أبِي بَكرٍ، فَقاتَلهُم أبُو بَكرٍ ﵁.
(النِّسَاءُ وَالرِّجَالُ جَمِيعًا، يَنظُرُ بَعضُهُم إِلَى بَعضٍ) هذا التعقيب لعائشة رضي الله عنها واستغراب الوضع بما جُبلت عليه من الحياء والتحرز من رؤية العورات، فرضي الله عنها وأرضاها.
(الأَمرُ أَشَدُّ مِن أَن يُهِمَّهُم ذَاكَ) أي إن شأن الموقف والحشر بعد البعث من الموت من الأهوال ما يأخذ اهتمام الناس وأبصارهم عن النظر إلى العورات قال تعالى: {يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت} وقال تعالى: {لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه}
(كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ) أي نعيد الخلق حفاة غرلا كما بدأناهم حال خلقهم في بطون أمهاتهم.
فيه فضيلة لإبراهيم عليه السلام بأنه أول من يُكسى يوم القيامة، وقيل: الحكمة من ذلك أنه جُرّد حين ألقي في النار، وقيل: لأنه أول من استنَّ الستر بالسراويل، وقيل غير ذلك، ولا يلزم من خصوصيته عليه السلام بذلك تفضيله على نبينا محمد ﷺ؛ لأن المفضول قد يمتاز بشيء يُخصُّ به ولا يلزم منه الفضيلة المطلقة. (ابن حجر)

باب: يُحْشَرُ النّاسُ عَلى طَرائِقَ


٢٦٢٣. (خ م) (٢٨٦١) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «يُحشَرُ النّاسُ عَلى ثَلاثِ طَرائِقَ، راغِبِينَ، راهِبِينَ، واثنانِ عَلى بَعِيرٍ، وثَلاثَةٌ عَلى بَعِيرٍ، وأَربَعَةٌ عَلى بَعِيرٍ، وعَشَرَةٌ عَلى بَعِيرٍ، وتَحشُرُ بَقِيَّتَهُم النّارُ، تَبِيتُ مَعَهُم حَيثُ باتُوا، وتَقِيلُ مَعَهُم حَيثُ قالُوا، وتُصبِحُ مَعَهُم حَيثُ أصبَحُوا، وتُمسِي مَعَهُم حَيثُ أمسَوا».
قال النووي: قال العلماء: وهذا الحشر في آخر الدنيا قبيل القيامة، وقبيل النفخ في الصور، بدليل قوله ﷺ: (تحشر بقيتهم النار، تبيت معهم، وتقيل، وتصبح وتمسي) وهذا آخر أشراط الساعة كما ذكر مسلم بعد هذا في آيات الساعة، قال: "وآخر ذلك نار تخرج من قعر عدن ترحل الناس"، وفي رواية: (تطرد الناس إلى محشرهم).
الفرقة الأولى هي من اغتنم الفرصة وسار على الفسحة من الظَهر والزاد راغبا فيما يستقبله راهبا فيما يستدبره.
الصنف الثاني: من توانى حتى قلّ الظهر وضاق بهم فاشتركوا وركبوا مترادفين إذا أطاق البعير ومتعاقبين في العدد الأكثر عن طاقة البعير، ويشارك هؤلاء في فرقتهم المشاة الفارون القادرون.
الصنف الثالث: المعبر عنه بقوله "وتحشر بقيتهم النار" فهم الذين عجزوا عن تحصيل ما يركبونه، وعجزوا عن إنقاذ أنفسهم من الفتن فوقعوا فيها. (موسى لاشين)

باب: حَشْرُ الكافِرِ عَلى وجْهِهِ يَوْمَ القِيامَةِ


٢٦٢٤. (خ م) (٢٨٠٦) عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ ﵁؛ أنَّ رَجُلًا قالَ: يا رَسُولَ اللهِ؛ كَيفَ يُحشَرُ الكافِرُ عَلى وجهِهِ يَومَ القِيامَةِ؟ قالَ: «ألَيسَ الَّذِي أمشاهُ عَلى رِجلَيهِ فِي الدُّنيا قادِرًا عَلى أن يُمشِيَهُ عَلى وجهِهِ يَومَ القِيامَةِ؟!» قالَ قَتادَةُ: بَلى وعِزَّةِ رَبِّنا.
الحكمة في حشر الكافر على وجهه: أنه عوقب على عدم السجود لله عز وجل في الدنيا بأن يُسحب على وجهه في القيامة، إظهارًا لهوانه بحيث صار وجهُهُ مكان يده ورجله في التوقي عن المؤذيات.
وظاهر الحديث في أن المراد بالمشي حقيقته، فلذلك استغربوه حتى سألوا عن كيفيته.( ابن حجر)
فيه دليل على جواز الحلف بالصفة من صفات الله؛ لأن العزَّة صفة، كما قال تعالى: {سبحان ربك رب العزة عما يصفونْ}، وقال تعالى: {فلله العزة جميعًا} (ابن عثيمين)

باب: فِـي كَثْرَةِ العَرَقِ يَوْمَ القِيامَةِ


٢٦٢٥. (خ م) (٢٨٦٣) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁؛ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ: «إنَّ العَرَقَ يَومَ القِيامَةِ لَيَذهَبُ فِي الأَرضِ سَبعِينَ (باعًا)، وإنَّهُ لَيَبلُغُ إلى أفواهِ النّاسِ، أو إلى آذانِهِم».
٢٦٢٦. (خ م) (٢٨٦٢) عَنِ ابْنِ عُمَرَ ﵄؛ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ﴿يَوْمَ يَقُومُ النّاسُ لِرَبِّ العالَمِينَ﴾ [المطففين: ٦]، قالَ: «يَقُومُ أحَدُهُم فِي رَشحِهِ إلى أنصافِ أُذُنَيهِ».
٢٦٢٧. (م) (٢٨٦٤) عَنْ سُلَيْمِ بْنِ عامِرٍ؛ عَنِ المِقدادِ بْنِ الأَسوَدِ قالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «تُدنى الشَّمسُ يَومَ القِيامَةِ مِن الخَلقِ حَتّى تَكُونَ مِنهُم كَمِقدارِ مِيلٍ». قالَ سُليمُ بنُ عامِرٍ: فَوَ اللهِ ما أدرِي ما يَعنِي بِالمِيلِ؟ أمَسافَةَ الأَرضِ، أم المِيلَ الَّذِي تُكتَحَلُ بِهِ العَينُ؟ قالَ: «فَيَكُونُ النّاسُ عَلى قَدرِ أعمالِهِم فِي العَرَقِ، فَمِنهُم مَن يَكُونُ إلى كَعبَيهِ، ومِنهُم مَن يَكُونُ إلى رُكبَتَيهِ، ومِنهُم مَن يَكُونُ إلى حَقوَيهِ، ومِنهُم مَن يُلجِمُهُ العَرَقُ إلجامًا». قالَ: وأَشارَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِيَدِهِ إلى فِيهِ.
(يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه )، وفي رواية: (فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق) سبب كثرة العرق تراكم الأهوال، ودنو الشمس من رءوسهم، وزحمة بعضهم بعضا. (النووي)
قال ابن أبي جمرة: ظاهر الحديث تعميم الناس بذلك، ولكن دلَّت الأحاديث الأخرى على أنه مخصوص بالبعض وهم الأكثر، ويستثنى الأنبياء والشهداء ومن شاء الله، فأشدهم في العرق الكفار، ثم أصحاب الكبائر، ثم من بعدهم، والمسلمون منهم قليل بالنسبة إلى الكفار.( ابن حجر)
في الحديث التحذير من أهوال يوم القيامة، وأن الواجب على المؤمن أن يعدَّ العدة لهذا اليوم العظيم بتقوى الله تعالى والاستقامة على دينه، ويجتهد ما استطاع إلى ذلك سبيلا.

باب: لَوْ كانَ لِلْكافِرِ الدُّنْيا وما فِيها لافْتَدى بِهِ مِنَ العَذابِ


٢٦٢٨. (خ م) (٢٨٠٥) عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ ﵁، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «يَقُولُ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى لأَهوَنِ أهلِ النّارِ عَذابًا: لَو كانَت لَكَ الدُّنيا وما فِيها؛ أكُنتَ مُفتَدِيًا بِها؟ فَيَقُولُ: نَعَم. فَيَقُولُ: قَد أرَدتُ مِنكَ أهوَنَ مِن هَذا وأَنتَ فِي صُلبِ آدَمَ؛ أن لا تُشرِكَ (أحسِبُهُ قالَ: ولا أُدخِلَكَ النّارَ)، فَأَبَيتَ إلا الشِّركَ». وفي رواية: «يُقالُ لِلكافِرِ يَومَ القِيامَةِ: أرَأَيتَ لَو كانَ لَكَ مِلءُ الأَرضِ ذَهَبًا ...»، وفِيها: «فَيُقالُ لَهُ: قَد سُئِلتَ أيْسَرَ مِن ذَلكَ».
قال عياض: يشير بذلك إلى قوله تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني ءادم من ظهورهم ذريتهم} فهذا الميثاق الذي أُخذ عليهم في صلب آدم، فمن وفَّى به بعد وجوده في الدنيا فهو مؤمن، ومن لم يوفَّ به فهو الكافر، فمراد الحديث: أخذت الميثاق فأبيت إذ أخرجتك إلى الدنيا إلا الشرك.
فيه جواز قول الإنسان: (يقول الله) خلافًا لمن كره ذلك، وقال: إنما يجوز (قال الله تعالى) وهو قول شاذ مخالف لأقوال العلماء من السلف والخلف، وقد تظاهرت به الأحاديث. وقال الله تعالى: { وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ }. (ابن عثيمين)
فيه حقارة الدنيا في الآخرة، وخطورة الشرك بالله عز وجل وأنه أعظم الذنوب على الإطلاق وأظلم الظلم.
فيه فضل التوحيد وعظم قدر الإيمان بالله، وفيه التحذير من الشرك وبيان جزاء المشركين من الخلود في النار والحرمان من الجنة، قال تعالى: {إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار}.

باب: الكافِرُ إذا عَمِلَ حَسَنَةً أُطْعِمَ بِها فِـي الدُّنْيا ولَيْسَ لَهُ فِـي الآخِرَةِ مِن نَصِيبٍ


٢٦٢٩. (م) (٢٨٠٨) عَنْ أنَسٍ ﵁؛ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إنَّ الكافِرَ إذا عَمِلَ حَسَنَةً أُطعِمَ بِها طُعمَةً مِنَ الدُّنيا، وأَمّا المُؤمِنُ فَإنَّ اللهَ يَدَّخِرُ لَهُ حَسَناتِهِ فِي الآخِرَةِ، ويُعقِبُهُ رِزقًا فِي الدُّنيا عَلى طاعَتِهِ».
وفي رواية: «إنَّ اللهَ لا يَظلِمُ مُؤمِنًا حَسَنَةً، يُعطى بِها فِي الدُّنيا ويُجزى بِها فِي الآخِرَةِ، وأَمّا الكافِرُ فَيُطعَمُ بِحَسَناتِ ما عَمِلَ بِها للهِ فِي الدُّنيا، حَتّى إذا أفضى إلى الآخِرَةِ لَم تَكُن لَهُ حَسَنَةٌ يُجزى بِها».
أجمع العلماء على أن الكافر الذي مات على كفره لا ثواب له في الآخرة، ولا يجازى فيها بشيء من عمله في الدنيا، متقربا إلى الله تعالى، وصرَّح في هذا الحديث بأن يطعم في الدنيا بما عمله من الحسنات، أي: بما فعله متقربا به إلى الله تعالى مما لا يفتقر صحته إلى النية، كصلة الرحم، والصدقة، والعتق، والضيافة، وتسهيل الخيرات ونحوها.
وأما المؤمن فيدخر له حسناته وثواب أعماله إلى الآخرة، ويجزى بها مع ذلك أيضا في الدنيا، ولا مانع من جزائه بها في الدنيا والآخرة، وقد ورد الشرع به فيجب اعتقاده. (النووي)
(إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة) معناه: لا يترك مجازاته بشيء من حسناته، والظلم يطلق بمعنى النقص، وحقيقة الظلم مستحيلة من الله تعالى.
(أفضى إلى الآخرة) أي: صار إليها، وأما إذا فعل الكافر مثل هذه الحسنات، ثم أسلم، فإنه يثاب عليها في الآخرة على المذهب الصحيح. (النووي)

باب: فِـي القَنْطَرَةِ بَيْنَ الجَنَّةِ والنّارِ


٢٦٣٠. (خ) (٦٥٣٥) عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ ﵁ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «يَخلُصُ المُؤمِنُونَ مِن النّارِ فَيُحبَسُونَ عَلى قَنطَرَةٍ بَينَ الجَنَّةِ والنّارِ، فَيُقَصُّ لِبَعضِهِم مِن بَعضٍ مَظالِمُ كانَت بَينَهُم فِي الدُّنيا، حَتّى إذا هُذِّبُوا ونُقُّوا أُذِنَ لَهُم فِي دُخُولِ الجَنَّةِ، فَوالَّذِي نَفسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لأَحَدُهُم أهدى بِمَنزِلِهِ فِي الجَنَّةِ مِنهُ بِمَنزِلِهِ كانَ فِي الدُّنيا».
(يَخلُص المؤمنون من النار) نجوا من السقوط فيها بعد ما جازوا على الصراط. وقال القرطبي: هؤلاء المؤمنون هم الذين علم الله أن القصاص لا يستنفد حسناتهم.
(حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا) هما بمعنى التمييز والتخليص من التبعات. (ابن حجر)

كِتابُ صِفَةِ الجَنَّةِ والنّارِ


باب: فِـي أوَّلِ زُمْرةٍ تَدْخُلُ الجَنَّةَ


٢٦٣١. (خ م) (٢٨٣٤) عَنْ (مُحَمَّدٍ [ابْنِ سِيرِينَ] قالَ: إمّا تَفاخَرُوا، وإمّا تَذاكَرُوا؛ الرِّجالُ فِي الجَنَّةِ أكثَرُ أم النِّساءُ؟) فَقالَ أبُو هُرَيْرَةَ: أوَ لَم يَقُل أبُو القاسِمِ ﷺ: «إنَّ أوَّلَ زُمرَةٍ تَدخُلُ الجَنَّةَ عَلى صُورَةِ القَمَرِ لَيلَةَ البَدرِ، والَّتِي تَلِيها عَلى أضوَإ كَوكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّماءِ، لِكُلِّ امرِئٍ مِنهُم زَوجَتانِ اثنَتانِ، يُرى مُخُّ سُوقِهِما مِن وراءِ اللَّحمِ، (وما فِي الجَنَّةِ أعزَبُ)».
وفي رواية: «مِن وراءِ اللَّحمِ مِن الحُسنِ».
وفي رواية (خ): وفِيها: «مِن وراءِ العَظمِ واللَّحمِ ...».
٢٦٣٢. (خ م) (٢٨٣٤) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أوَّلُ زُمرَةٍ تَدخُلُ الجَنَّةَ مِن أُمَّتِي عَلى صُورَةِ القَمَرِ لَيلَةَ البَدرِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُم عَلى أشَدِّ نَجمٍ فِي السَّماءِ إضاءَةً، (ثُمَّ هُم بَعدَ ذَلكَ مَنازِلُ)، لا يَتَغَوَّطُونَ، ولا يَبُولُونَ، ولا يَمتَخِطُونَ، ولا يَبزُقُونَ، أمشاطُهُم الذَّهَبُ، ومَجامِرُهُم الأَلُوَّةُ، ورَشحُهُم المِسكُ، (أخلاقُهُم) عَلى (خُلُقِ) رَجُلٍ واحِدٍ، عَلى (طُولِ) أبِيهِم آدَمَ؛ سِتُّونَ ذِراعًا». وفي رواية (م) هي لفظ (خ): «عَلى خَلْقِ رَجُلٍ واحِدٍ، عَلى صُورَةِ أبِيهِم آدَمَ...». وفي رواية: «آنِيَتُهُم وأَمشاطُهُم مِن الذَّهَبِ ...»، وفيها: «لا اختِلافَ بَينَهُم ولا تَباغُضَ، قُلُوبَهُم قَلبٌ واحِدٌ، يُسَبِّحُونَ اللهَ بُكرَةً وعَشَيًّا». وزادَ (خ) فِي رِوايةٍ: «ولا تَحاسُدَ». وفي رواية (خ) زادَ: «لا يَسْقَمُونَ»، وفِيها: «آنِيَتُهُم الذَّهَبُ والفِضَّةُ»، وفِيها: «ووَقُودُ مَجامِرِهِم الأَلُوَّةُ -قالَ أبُو اليَمانِ: يَعنِي العَودَ- ...».
٢٦٣٣. (م) (٢٨٣٥) عَن جابِرٍ قالَ: سَمِعتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «إنَّ أهلَ الجَنَّةِ يَأكُلُونَ فِيها ويَشرَبُونَ، ولا يَتفُلُونَ، ولا يَبُولُونَ، ولا يَتَغَوَّطُونَ، ولا يَمتَخِطُون». قالُوا: فَما بالَ الطَّعامِ؟ قالَ: «جُشاءٌ ورَشْحٌ كَرَشحِ المِسْكِ، يُلْهَمُونَ التَّسبِيحَ والتَّحمِيدَ كَما تُلهَمُونَ النَّفَسَ». وفي رواية: «والتَّكبِيرَ».
(عَلَى صُورَةِ القَمَرِ لَيلَةَ البَدرِ) فيه أن أنوار أهل الجنة تتفاوت بحسب درجاتهم، وكذلك صفاتهم في الجمال ونحوه.
(وَلَا يَمْتَخِطُونَ) أي ليس في أنفهم من المياه الزائدة والمواد الفاسدة ليحتاجوا إلى إخراجها، ولأن الجنة مساكن طيبة للطيبين، فلا يلائمها الأدناس والأنجاس. (المباركفوري)
قال ابن الجوزي: لما كانت أغذية أهل الجنة في غاية اللطافة والاعتدال لم يكن فيها أذى ولا فضلة تستقذر، بل يتولد عن تلك الأغذية أطيب ريح وأحسنه.
(ومجامرهم الألوة) قال النووي: هو العود الهندي، وقد يقال: إن رائحة العود إنما تفوح بوضعه في النار، والجنة لا نار فيها، ويجاب باحتمال أن يشتعل بغير نار بل بقوله كن، وإنما سميت مجمرة باعتبار ما كان في الأصل، ويحتمل أن يشتعل بنار لا ضرر فيها ولا إحراق، أو يفوح بغير اشتعال.
(أمشاطهم الذهب) قال القرطبي: قد يقال أي حاجة لهم إلى المشط وهم مرد، وشعورهم لا تتسخ، وأي حاجة لهم إلى البخور وريحهم أطيب من المسك، قال: ويجاب بأن نعيم أهل الجنة من أكل وشرب وكسوة وطيب ليس عن ألم جوع أو ظمأ أو عري أو نتن، وإنما هي لذات متتالية ونعم متوالية، والحكمة في ذلك أنهم ينعمون بنوع ما كانوا يتنعمون به في الدنيا.
قال النووي: مذهب أهل السنة أن تنعم أهل الجنة على هيئة تنعم أهل الدنيا، إلا ما بينهما من التفاضل في اللذة، ودل الكتاب والسنة على أن نعيمهم لا انقطاع له. (النووي)
(يلهمون التسبيح والتحميد كما تلهمون النفس) قال القرطبي: هذا التسبيح ليس عن تكليف وإلزام، وقد فسره جابر في حديثه عند مسلم بقوله: (يلهمون التسبيح والتكبير كما يلهمون النفس)، ووجه التشبيه أن تنفس الإنسان لا كلفة عليه فيه، ولا بد له منه، فجعل تنفسهم تسبيحا وسببه أن قلوبهم تنورت بمعرفة الرب سبحانه، وامتلأت بحبه، ومن أحب شيئا أكثر من ذكره.

باب: مَن يَدْخُلُ الجَنَّةَ عَلى صُورَةِ آدَمَ


٢٦٣٤. (خ م) (٢٨٤١) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁؛ عَن رَسُولِ اللهِ ﷺ قالَ: «خَلَقَ اللهُ آدَمَ عَلى صُورَتِهِ، طُولُهُ سِتُّونَ ذِراعًا، فَلَمّا خَلَقَهُ قالَ: اذهَب فَسَلِّم عَلى أُولَئِكَ النَّفَرِ، وهُم نَفَرٌ مِن المَلائِكَةِ جُلُوسٌ، فاستَمِع ما يُجِيبُونَكَ، فَإنَّها تَحِيَّتُكَ وتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ. قالَ: فَذَهَبَ فَقالَ: السَّلامُ عَلَيكُم. فَقالُوا: السَّلامُ عَلَيكَ ورَحمَةُ اللهِ. قالَ: فَزادُوهُ: ورَحمَةُ اللهِ، قالَ: فَكُلُّ مَن يَدخُلُ الجَنَّةَ عَلى صُورَةِ آدَمَ، وطُولُهُ سِتُّونَ ذِراعًا، فَلَم يَزَل الخَلقُ يَنقُصُ بَعدَهُ حَتّى الآنَ».
(خلق الله آدم على صورته) لا يعني ذلك التشبيه والتمثيل، بل المعنى أنه سميع بصير متكلم إذا شاء ومتى شاء، وهكذا خلق آدم سميعًا بصيرًا متكلمًا ذا وجه ويد، ولكن ليس السمع كالسمع وليس البصر كالبصر، وهكذا كل الصفات، فصفات الله كاملة لا يعتريها نقص ولا زوال ولا فناء، {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}.
(قال: اذهب فسلم على أولئك النفر...) فيه: أن الوارد على جلوس يسلم عليهم، وأن الأفضل أن يقول: السلام عليكم بالألف واللام، ولو قال: سلام عليكم، كفاه، وأن رد السلام يستحب أن يكون زيادة على الابتداء، وأنه يجوز في الرد أن يقول: السلام عليكم، ولا يشترط أن يقول: وعليكم السلام. (النووي)
(فَزَادُوهُ: وَرَحمَةُ اللهِ) فيه مشروعية الزيادة على الابتداء وهو مستحب بالاتفاق؛ لقوله تعالى: (فحيوا بأحسن منها أو ردوها). واختلف في الزيادة على: وبركاته، فقالت طائفة بجوازه منهم الشوكاني، وذكر ابن حجر جملة من الأحاديث الضعيفة ثم قال: وهذه الأحاديث الضعيفة إذا انضمت قوي ما اجتمعت عليه من مشروعية الزيادة على (وبركاته).
(فلم يزل الخلق ينقص بعده حتى الآن) قال العيني: أي من طوله، أراد أن كل قرن يكون وجوده أقصر من القرن الذي قبله، فانتهى تناقص الطول إلى هذه الأمة، واستقر الأمر على ذلك وهو معنى قوله حتى الآن. وقال ابن التين: قوله: (فلم يزل الخلق ينقص) أي كما يزيد الشخص شيئا فشيئا، ولا يتبين ذلك فيما بين الساعتين ولا اليومين حتى إذا كثرت الأيام تبين، فكذلك هذا الحكم في النقص.
الظاهر أنه بعد الآن لا ينقص؛ لأن هذه الأمة هي آخر الأمم، وعلى هذا فلا يُمكن أن يكون الصحابة عندهم طول شاهق أطول منا، بل هم من جنسنا، مع هذا فإن الناس يختلفون بحسب البيئة، فتجد مثلا قومًا من الناس كبار الأجسام، وقومًا من الناس صغار الأجسام، لا باعتبار الأفراد، بل باعتبار الأمة كلها، وهذا والله أعلم يرجع إلى الأب الأول لهؤلاء، أو إلى طبيعة المكان الذي هم فيه. ( ابن عثيمين )

باب: إحْلالُ الرِّضْوانِ عَلى أهْلِ الجَنَّةِ


٢٦٣٥. (خ م) (٢٨٢٩) عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ ﵁؛ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «إنَّ اللهَ يَقُولُ لأَهلِ الجَنَّةِ: يا أهلَ الجَنَّةِ. فَيَقُولُونَ: لَبَّيكَ رَبَّنا وسَعدَيكَ، والخَيرُ فِي يَدَيكَ. فَيَقُولُ: هَل رَضِيتُم؟ فَيَقُولُونَ: وما لَنا لا نَرضى يا رَبِّ، وقَد أعطَيتَنا ما لَم تُعطِ أحَدًا مِن خَلقِكَ. فَيَقُولُ: ألا أُعطِيكُم أفضَلَ مِن ذَلكَ؟ فَيَقُولُونَ: يا رَبِّ؛ وأَيُّ شَيءٍ أفضَلُ مِن ذَلكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيكُم رِضوانِي، فَلا أسخَطُ عَلَيكُم بَعدَهُ أبَدًا».
(أُحِّل عليكم رضواني) أي: أوجب لكم رضائي، فلا يزول عنكم أبدا دائما لا انقطاع له بوجه من الوجوه، وقد أكد ذلك بقوله: (فلا أسخط عليكم بعده أبدا). (القرطبي)
(رِضْوَانِي) فيه تلميح بقوله تعالى: { وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ }؛ لأن رضاه سبب كل فوز وسعادة، وكل من علم أن سيده راض عنه كان أقر لعينه، وأطيب لقلبه، من كل نعيم لما في ذلك من التعظيم والتكريم، وفي هذا الحديث أن النعيم الذي حصل لأهل الجنة لا مزيد عليه. (ابن حجر)
فيه أن الخير كله والاغتباط إنما هو في رضا الله عز وجل، وكل شيء ما عداه وإن اختلفت أنواع فهو من أثره.
فيه الأدب في السؤال؛ لقولهم: (وأي شيء أفضل من ذلك؟) لأنهم لم يعلموا شيئا أفضل مما هم فيه، فاستفهموا عما لا علم لهم به.
فيه دليل على رضا كل أهل الجنة بحالهم مع اختلاف منازلهم وتنوع درجاتهم؛ لأن الكل أجابوا بلفظ واحد وهو: (أَعطَيتَنَا مَا لَم تُعطِ أَحَدًا مِن خَلقِكَ).
(أحل عليكم رضواني) الحكمة في ذكر دوام رضاه بعد الاستقرار؛ ليكون من باب عين اليقين، وإليه أشار بقوله تعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين}.

باب: تَرائِي أهْلِ الجَنَّةِ أهْلَ الغُرَفِ


٢٦٣٦. (خ م) (٢٨٣١) عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ ﵁؛ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ: «إنَّ أهلَ الجَنَّةِ لَيَتَراءَونَ أهلَ الغُرَفِ مِن فَوقِهِم، كَما تَتَراءَونَ الكَوكَبَ الدُّرِّيَّ الغابِرَ مِن الأُفُقِ مِن المَشرِقِ أو المَغرِبِ، لِتَفاضُلِ ما بَينَهُم». قالُوا: يا رَسُولَ اللهِ؛ تِلكَ مَنازِلُ الأَنبِياءِ، لا يَبلُغُها غَيرُهُم. قالَ: «بَلى والَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، رِجالٌ آمَنُوا باللهِ، وصَدَّقُوا المُرسَلِينَ».
قال ابن التين: في رواية أبي ذر ( بل) بدل بلى، ويمكن توجيه (بلى) بأن التقدير: نعم هي منازل الأنبياء بإيجاب الله تعالى لهم ذلك، ولكن قد يتفضل الله تعالى على غيرهم بالوصول إلى تلك المنازل، وقال كذلك: يحتمل أن تكون (بلى) جواب النفي في قولهم (لا يبلغها غيرهم؟)، وكأنه قال: بلى يبلغها رجال غيرهم. (ابن حجر)
فيه دليل على تفاوت أهل الجنة، وقد قُسَّمُوا في سورة الواقعة إلى السابقين وأصحاب اليمين، فالقسم الأول هم من ذكر في قوله تعالى: (فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم) ومن عداهم أصحاب اليمين، وكلُّ من الصنفين متفاوتون في الدرجات، وفيه تعقُّب على من خصَّ المقربين بالأنبياء والشهداء؛ لقوله ﷺ: (رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين).
فيه فضيلة الأنبياء وعلو منازلهم، وفضل الإيمان بالله عز وجل، والإيمان بالرسل والاهتداء بهديهم، وأن التفاوت في الدرجات بالجنة بحسب التفاوت في ذلك الإيمان والتصديق.

باب: تُحْفَةُ أهْلِ الجَنَّةِ


٢٦٣٧. (خ م) (٢٧٩٢) عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ ﵁، عَن رَسُولِ اللهِ ﷺ قالَ: «تَكُونُ الأَرضُ يَومَ القِيامَةِ خُبزَةً واحِدَةً، يَكفَؤُها الجَبّارُ بِيَدِهِ كَما يَكفَأُ أحَدُكُم خُبزَتَهُ فِي السَّفَرِ، نُزُلًا لأَهلِ الجَنَّةِ». قالَ: فَأَتى رَجُلٌ مِن اليَهُودِ فَقالَ: بارَكَ الرَّحمَنُ عَلَيكَ أبا القاسِمِ؛ ألا أُخبِرُكَ بِنُزُلِ أهلِ الجَنَّةِ يَومَ القِيامَةِ؟ قالَ: «بَلى». قالَ: تَكُونُ الأَرضُ خُبزَةً واحِدَةً. كَما قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، قالَ: فَنَظَرَ إلَينا رَسُولُ اللهِ ﷺ، ثُمَّ ضَحِكَ حَتّى بَدَت نَواجِذُهُ، قالَ: ألا أُخبِرُكَ بِإدامِهِم؟ قالَ: «بَلى». قالَ: إدامُهُم بالامُ ونُونٌ. قالُوا: وما هَذا؟ قالَ: ثَورٌ ونُونٌ، يَأكُلُ مِن زائِدَةِ كَبِدِهِما سَبعُونَ ألفًا. لَفظُ (خ): «يَتَكَفَّؤُها الجَبّارُ بِيَدِهِ».
(فنظر النبي ﷺ إلينا ثم ضحك )المراد أنه أعجبه إخبار اليهودي عن كتابهم بنظير ما أخبر به من جهة الوحي، وكان يعجبه موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل عليه، فكيف بموافقتهم فيما أنزل عليه. (ابن حجر)
(يأكل من زائدة كبدهما سبعون ألفا) قال عياض: زيادة الكبد وزائدتها هي القطعة المنفردة المتعلقة بها، وهي أطيبه، ولهذا خص بأكلها السبعون ألفا، ولعلهم الذين يدخلون الجنة بغير حساب فضلوا بأطيب النزل، ويحتمل أن يكون عبر بالسبعين عن العدد الكثير، ولم يرد الحصر فيها.
فيه إثبات صفة اليد لله عز وجل على الوجه الذي يليق بعظمته وكماله.
فيه علم من أعلام نبوته ﷺ.

باب: صِفَةُ شَجَرِ الجَنَّةِ


٢٦٣٨. (خ م) (٢٨٢٧) عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ﵁؛ عَن رَسُولِ اللهِ ﷺ قالَ: «إنَّ فِي الجَنَّةِ لَشَجَرَةً يَسِيرُ الرّاكِبُ فِي ظِلِّها مِائَةَ عامٍ لا يَقطَعُها». قالَ أبُو حازِمٍ: فَحَدَّثتُ بِهِ النُّعْمانَ بنَ أبِي عَيّاشٍ الزُّرَقِيَّ، فَقالَ: حَدَّثَنِي أبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ ﵁؛ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «إنَّ فِي الجَنَّةِ شَجَرَةً، يَسِيرُ الرّاكِبُ الجَوادَ المُضَمَّرَ السَّرِيعَ مِائَةَ عامٍ ما يَقطَعُها».
ولَهُما عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ مِثلَ حَدِيثِ سَهلٍ، وزادَ (خ): فِي آخِرِهِ: «واقرَؤُوا إن شِئتُم: ﴿وظِلٍّ مَّمْدُودٍ﴾».
( فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةٌ ) قال ابن عثيمين: قيل أنها شجرة طُوبَى، التي ترد كثيرا في القران والسنة، وقيل إنها غيرها.
فيه إشارة إلى سعة أرض الجنة، وسعة حدائقها وعظمة أشجارها التي هذه الشجرة واحدة منها، وفيه إعلام النبي ﷺ أمته بسعة الآخرة وعظم نعيمها، كما قال تعالى: {وإذا رأيت ثم رأيت نعيمًا وملكًا كبيرًا}.

باب: فِـي صِفَةِ خِيامِ الجَنَّةِ


٢٦٣٩. (خ م) (٢٨٣٨) عَنْ أبِي مُوسى ﵁؛ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ: «فِي الجَنَّةِ خَيمَةٌ مِن لُؤلُؤَةٍ مُجَوَّفَةٍ، عَرضُها سِتُّونَ مِيلًا، فِي كُلِّ زاوِيَةٍ مِنها أهلٌ، ما يَرَونَ الآخَرِينَ، يَطُوفُ عَلَيهِم المُؤمِنُ». ورَوى (خ) عَنهُ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «الخَيمَةُ دُرَّةٌ مُجَوَّفَةٌ طُولُها فِي السَّماءِ ثَلاثُونَ مِيلًا فِي كُلِّ زاوِيَةٍ مِنها لِلمُؤمِنِ أهلٌ لا يَراهُم الآخَرُونَ».
في الرواية الأولى: (عرضها ستون ميلا)، وفي الثانية: (طولها في السماء ستون ميلا)، ولا معارضة بينهما، فعرضها في مساحة أرضها، وطولها في السماء، أي: في العلو متساويان. (النووي)
(يطوف عليهم) أي يدور المؤمن عل جميع الأهل، قيل: إن المعنى يجامع المؤمن الأهل، وأن الطواف هنا كناية عن المجامعة. (المباركفوري)
فيه سعة نعيم الجنة، وسعة ملك المؤمن فيها، وما يتمتع به المؤمن في الجنة من النعيم المقيم، حيث ذكر النبي ﷺ أن للمؤمن في الجنة خيمة من لؤلؤة واحدة مجوَّفة طولها في السماء ستون ميلا، وأن له فيها أهلين لا يرى بعضهم بعضًا، وذلك والله أعلم لسعتها وحسن غرفها.

باب: فِـي سُوقِ الجَنَّةِ


٢٦٤٠. (م) (٢٨٣٣) عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ ﵁؛ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ: «إنَّ فِي الجَنَّةِ لَسُوقًا يَأتُونَها كُلَّ جُمُعَةٍ، فَتَهُبُّ رِيحُ الشَّمالِ فَتَحثُو فِي وُجُوهِهِم وثِيابِهِم فَيَزدادُونَ حُسنًا وجَمالًا، فَيَرجِعُونَ إلى أهلِيهِم وقَدِ ازدادُوا حُسنًا وجَمالًا، فَيَقُولُ لَهُم أهلُوهُم: واللهِ لَقَدِ ازدَدتُم بَعدَنا حُسنًا وجَمالًا، فَيَقُولُونَ: وأَنتُم واللهِ لَقَدِ ازدَدتُم بَعدَنا حُسنًا وجَمالًا».
(إن في الجنة لسوقا..) المراد بالسوق مجمع لهم يجتمعون كما يجتمع الناس في الدنيا في السوق. (النووي)
(يأتونها كل جمعة) أي: في مقدار كل جمعة أي أسبوع، وليس هناك حقيقة أسبوع لفقد الشمس والليل والنهار. (النووي)
(فتهب ريح الشمال) قال القاضي: وخص ريح الجنة بالشمال؛ لأنها ريح المطر عند العرب، كانت تهب من جهة الشام، وبها يأتي سحاب المطر، وكانوا يرجون السحابة الشامية، وجاءت في الحديث تسمية هذه الريح المثيرة أي المحركة؛ لأنها تثير في وجوههم ما تثيره من مسك أرض الجنة، وغيره من نعيمها. (النووي)

باب: لا يَنْقَطِعُ نَعِيمُ أهْلِ الجَنَّةِ


٢٦٤١. (م) (٢٨٣٦) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁؛ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «مَن يَدخُل الجَنَّةَ يَنعَمُ لا يَبأَسُ، لا تَبلى ثِيابُهُ، ولا يَفنى شَبابُهُ».
في هذا الحديث يخبر ﷺ أن من يدخل الجنة ينعم، أي: يعيش في نعمة دائمة لا يرى فيها بؤسا أبدا ينعم لا يبأس، ثم بين النعيم بقوله: (لا تبلى ثيابه) وهذا إخبار بأن ثياب أهل الجنة لا تزال جديدة، لا يؤثر فيها اللبس كثياب الدنيا.
(ولا يفنى شبابه) أي: لا يهرم؛ لأن أهل الجنة على سن واحدة سن ثلاث وثلاثين سنة.
وفي هذا ما يشوق النفوس إليها ويرغبها فيها، ويشحذ الهمم للعمل لها.

٢٦٤٢. (م) (٢٨٣٧) عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ وأَبِي هُرَيْرَةَ ﵄؛ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «يُنادِي مُنادٍ: إنَّ لَكُم أن تَصِحُّوا فَلا تَسقَمُوا أبَدًا، وإنَّ لَكُم أن تَحيَوا فَلا تَمُوتُوا أبَدًا، وإنَّ لَكُم أن تَشِبُّوا فَلا تَهرَمُوا أبَدًا، وإنَّ لَكُم أن تَنعَمُوا فَلا تَبأَسُوا أبَدًا، فَذَلكَ قَولُهُ ﷿: ﴿ونُودُواْ أن تِلْكُمُ الجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: ٤٣]».
٢٦٤٣. (خ) (٦٥٦٩) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁ قالَ: قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لا يَدخُلُ أحَدٌ الجَنَّةَ إلا أُرِيَ مَقعَدَهُ مِن النّارِ لَو أساءَ؛ لِيَزدادَ شُكرًا، ولا يَدخُلُ النّارَ أحَدٌ إلا أُرِيَ مَقعَدَهُ مِن الجَنَّةِ لَو أحسَنَ؛ لِيَكُونَ عَلَيهِ حَسرَةً».
(لو أساء ليزداد شكرا) أي: لو كان عمل عملا سيئا، وهو الكفر فصار من أهل النار. وقوله: (ليزداد شكرا) أي: فرحًا ورضًا، فعبر عنه بلازمه؛ لأن الراضي بالشيء يشكر من فعل له ذلك. (ابن حجر)
(لو أحسن) أي: لو عمل عملا حسنا؛ وهو الإسلام. (ابن حجر)
- (ليكون عليه حسرة) للزيادة في تعذيبه، ووقع عند ابن ماجه أيضا وأحمد بسند صحيح عن أبي هريرة بلفظ: "ما منكم من أحد إلا وله منزلان منزل في الجنة، ومنزل في النار، فإذا مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله، وذلك قوله تعالى: {أولئك هم الوارثون} ". (ابن حجر)

باب: فِـي أنْهارِ الجَنَّةِ


٢٦٤٤. (م) (٢٨٣٩) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «سَيحانُ وجَيحانُ والفُراتُ والنِّيلُ كُلٌّ مِن أنهارِ الجَنَّةِ».
قال النووي: اعلم أن سيحان وجيحان غير سيحون وجيحون، فأما سيحان وجيحان المذكوران في هذا الحديث اللذان هما من أنهار الجنة في بلاد الأرمن، فجيحان نهر المصيصة، وسيحان نهر أدنة، وهما نهران عظيمان جدا، أكبرهما جيحان، فهذا هو الصواب في موضعهما، وقال صاحب نهاية الغريب: سيحان وجيحان نهران بالعواصم عند المصيصة وطرسوس، واتفقوا كلهم على أن جيحون بالواو، نهر وراء خراسان عند بلخ، واتفقوا على أنه غير جيحان، وكذلك سيحون غير سيحان.
(كل من أنهار الجنة) أما كون هذه الأنهار من ماء الجنة ففيه تأويلان ذكرهما القاضي عياض: أحدهما: أن الإيمان عم بلادها، أو الأجسام المتغذية بمائها صائرة إلى الجنة. والثاني: -وهو الأصح-: أنها على ظاهرها، وأن لها مادة من الجنة، والجنة مخلوقة موجودة اليوم عند أهل السنة، وقد ذكره مسلم في كتاب الإيمان في حديث الإسراء أن الفرات والنيل يخرجان من الجنة، وفي البخاري: "من أصل سدرة المنتهى". (النووي)

باب: حُفَّتِ الجَنَّةُ بِالـمَكارِهِ


٢٦٤٥. (خ م) (٢٨٢٢) عَنْ أبي هُرَيْرَةَ ﵁ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «حُفَّت الجَنَّةُ بِالمَكارِهِ، وحُفَّت النّارُ بِالشَّهَواتِ». لَفظُ (خ): «حُجِبَت».
قال العلماء: هذا من بديع الكلام وفصيحه وجوامعه التي أوتيها ﷺ من التمثيل الحسن.
ومعناه: لا يوصل الجنة إلا بارتكاب المكاره، والنار بالشهوات، وكذلك هما محجوبتان بهما، فمن هتك الحجاب وصل إلى المحجوب، فهتك حجاب الجنة باقتحام المكاره، وهتك حجاب النار بارتكاب الشهوات، فأما المكاره فيدخل فيها الاجتهاد في العبادات، والمواظبة عليها، والصبر على مشاقها، وكظم الغيظ، والعفو والحلم والصدقة والإحسان إلى المسيء، والصبر عن الشهوات، ونحو ذلك.
وأما الشهوات التي النار محفوفة بها، فالظاهر أنها الشهوات المحرمة كالخمر، والزنا، والنظر إلى الأجنبية، والغيبة، واستعمال الملاهي، ونحو ذلك.
وأما الشهوات المباحة فلا تدخل في هذه، لكن الإكثار منها يخشى أن يجر إلى المحرمة، أو يقسِّي القلب، أو يشغل عن الطاعات، أو يحوج إلى الاعتناء بتحصيل الدنيا للصرف فيها، ونحو ذلك. (النووي)

باب: مِن صِفاتِ أهْلِ الجَنَّةِ وأَهْلِ النّارِ


٢٦٤٦. (خ م) (٢٨٥٣) عَنْ حارِثَةَ بْنِ وهْبٍ ﵁؛ أنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «ألا أُخبِرُكُم بِأَهلِ الجَنَّةِ؟» قالُوا: بَلى. قالَ ﷺ: «كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ، لَو أقسَمَ عَلى اللهِ لأَبَرَّهُ». ثُمَّ قالَ: «ألا أُخبِرُكُم بِأَهلِ النّارِ؟» قالُوا: بَلى. قالَ: «كُلُّ عُتُلٍّ جَوّاظٍ مُستَكبِرٍ».
(أَلا أُخبِرُكُم بِأَهلِ الجَنَّةِ؟) هذا في الغالب وإلا فيوجد من الضعفاء من هم من أهل النار، وكذلك في قوله ﷺ (ألا أخبركم بأهل النار؟) أي: هذه الصفة الغالبة، وإلا فيوجد من المسلمين من هو ضخم البدن وهو من أولياء الله الصالحين.
(كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ) فيه أن أكثر من يدخل الجنة الضعفاء الذين لا يأبه الناس لهم، ولكنهم عند الله عظماء؛ لإخباتهم لربهم، وتذللهم له، وقيامهم بحق العبودية لله عز وجل.
فيه بشارة للمؤمن المستضعف أن الله لا يجمع له عذابين في الدنيا والآخرة، فمن عاش في هذه الدنيا من المسلمين الصادقين مستضعفًا مبتلى مظلومًا ولم يقدر على دفع هذا الظلم عن نفسه، فإن الله يكرمه في الآخرة برحمته ومغفرته وجنة عرضها السماوات والأرض.
(كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُستَكبِرٍ) فيه أن صحة الجسد وقوته، وكثرة المال، والتنعم بشهوات الدنيا، والتكبر والتعاظم على الخلق هي صفات أهل النار.
فيه التحذير من هذه الصفات الذميمة؛ لأنها من موجبات النار، قال تعالى: { فَأَمَّا مَن طَغَىٰ (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ} [النازعات].

٢٦٤٧. (خ م) (٢٨٤٦) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁، عَن رَسُولِ اللهِ ﷺ قالَ: «تَحاجَّت الجَنَّةُ والنّارُ؛ فَقالَت النّارُ: أُوثِرتُ بِالمُتَكَبِّرِينَ والمُتَجَبِّرِينَ. وقالَت الجَنَّةُ: فَما لِي لا يَدخُلُنِي إلا ضُعَفاءُ النّاسِ وسَقَطُهُم (وغِرَّتُهُم). قالَ اللهُ لِلجَنَّةِ: إنَّما أنتِ رَحمَتِي، أرحَمُ بِكِ مَن أشاءُ مِن عِبادِي. وقالَ لِلنّارِ: إنَّما أنتِ عَذابِي، أُعَذِّبُ بِكِ مَن أشاءُ مِن عِبادِي، ولِكُلِّ واحِدَةٍ مِنكُما مِلؤُها. فَأَمّا النّارُ فَلا تَمتَلِئُ حَتّى يَضَعَ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى رِجلَهُ، تَقُولُ: قَط قَط قَط. فَهُنالِكَ تَمتَلِئُ، ويُزوى بَعضُها إلى بَعضٍ، ولا يَظلِمُ اللهُ مِن خَلقِهِ أحَدًا، وأَمّا الجَنَّةُ فَإنَّ اللهَ يُنشِئُ لَها خَلقًا».
ولَهُما عن أنسِ بْنِ مالكٍ ﵁؛ أنّ نَبِيَّ الله ﷺ قال: «لا تَزالُ جَهَنَّمُ يُلقى فِيها وتقولُ: هَل مِن مَزيدٍ؟ حَتّى يضَعَ ربُّ العِزَّةِ فِيها قَدَمَهُ، فَيَنزَوِي بعضُها إلى بَعضٍ، وتقولُ: قَط، قَط، بِعِزَّتِكَ وكرَمِكَ. ولا يَزالُ فِي الجنَّة فَضلٌ حتّى يُنشِيءَ اللهُ لها خَلقًا، فيُسكِنَهُم فَضلَ الجنَّةِ».
(تحاجَّت) أي: تحاجَّا فيما بينهما، كل واحدة تدلي بحجتها، وهذا من الأمور الغيبية التي يجب عليما أن نؤمن بها حتى وإن استبعدتها العقول وحار الإنسان. (ابن عثيمين)
(ضعفاء الناس وسقطهم) هذا بالنسبة إلى ما عند الأكثر من الناس، وبالنسبة إلى ما عند الله هم عظماء رفعاء الدرجات، لكنهم بالنسبة إلى ما عند أنفسهم لعظمة الله عندهم وخضوعهم له في غاية التواضع لله والذلة في عباده، فوصفهم بالضعف والسقط بهذا المعنى صحيح، أو المراد بالحصر في قول الجنة: (إلا ضعفاء الناس) الأغلب. (ابن حجر)
قال ابن بطال: وحاصل اختصامهما افتخار إحداهما على الأخرى بمن يسكنها، فتظن النار أنها بمن ألقي فيها من عظماء الدنيا أَبَرُّ عند الله من الجنة، وتظن الجنة أنها بمن أسكنها من أولياء الله تعالى أَبَرُّ عند الله، فأُجيبتا بأنه لا فضل لإحداهما على الأخرى من طريق من يسكنهما، وفي كليهما شائبة شكاية إلى ربهما؛ إذ لم تذكر كل واحدة منهما إلا ما اختصت به، وقد رد الله الأمر في ذلك إلى مشيئته.
في الحديث أن الأشياء توصف بغالبها؛ لأن الجنة قد يدخلها غير الضعفاء، والنار قد يدخلها غير المتكبرين، وفيه رد على من حمل قول النار: {هل من مزيد}على أنه استفهام إنكار، وأنها لا تحتاج إلى زيادة.
(وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقا) هذا دليل لأهل السنة أن الثواب ليس متوقفا على الأعمال؛ فإن هؤلاء يخلقون حينئذ، ويعطون في الجنة ما يعطون بغير عمل، ومثله أمر الأطفال والمجانين الذين لم يعملوا طاعة قط، فكلهم في الجنة برحمة الله تعالى وفضله. ( النووي )
فيه اتساع الجنة والنار بحيث تسع كل من كان ومن يكون إلى يوم القيامة، وتحتاج إلى زيادة، وقد جاء في الصحيح أن آخر من يدخل الجنة يُعطى مثل الدنيا وعشر أمثالها.
هذا الحديث شاهد لصفة من صفات الله الخبرية، وهي: القدم، ولا تتجاوز أيها المسلم ذلك، فلا تقل ولها أصابع، أو ليس لها أصابع أو ما أشبه ذلك، بل اقتصر على ما سمعت، ولا تتعرض لما لم يُنقَل لنا. (ابن عثيمين)
قوله: (بعزَّتك) فيه أنه يجوز للإنسان أن يحلف بعزَّة الله فيقول: (وعزة الله لا أفعل كذا)، ويجوز كذلك أن يحلف بأي صفة من صفات الله مثل أن يقول: وقدرة الله لأفعلنَّ، وعلم الله لأفعلنَّ، ورحمة الله لأفعلنَّ...إلى آخر كلامه رحمه الله (ابن عثيمين)

٢٦٤٨. (م) (٢٨٤٠) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁؛ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «يَدخُلُ الجَنَّةَ أقوامٌ أفئِدَتُهُم مِثلُ أفئِدَةِ الطَّيرِ».
قيل: مثلها في رقتها وضعفها، كالحديث الآخر: " أهل اليمن أرق قلوبا وأضعف أفئدة"، وقيل: في الخوف والهيبة، والطير أكثر الحيوان خوفا وفزعًا، كما قال الله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} وكأن المراد قوم غلب عليهم الخوف، كما جاء عن جماعات من السلف في شدة خوفهم، وقيل: المراد متوكلون. والله أعلم. (النووي)

٢٦٤٩. (م) (٢٨٦٥) عَنْ عِياضِ بْنِ حِمارٍ المُجاشِعِيِّ ﵁؛ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ ذاتَ يَومٍ فِي خُطبَتِهِ: «ألا إنَّ رَبِّي أمَرَنِي أن أُعَلِّمَكُم ما جَهِلتُم مِمّا عَلَّمَنِي يَومِي هَذا، كُلُّ مالٍ نَحَلتُهُ عَبدًا حَلالٌ، وإنِّي خَلَقتُ عِبادِي حُنَفاءَ كُلَّهُم، وإنَّهُم أتَتهُمُ الشَّياطِينُ فاجتالَتهُم عَن دِينِهِم وحَرَّمَت عَلَيهِم ما أحلَلتُ لَهُم، وأَمَرَتهُم أن يُشرِكُوا بِي ما لَم أُنزِل بِهِ سُلطانًا، وإنَّ اللهَ نَظَرَ إلى أهلِ الأَرضِ فَمَقَتَهُم عَرَبَهُم وعَجَمَهُم إلاَّ بَقايا مِن أهلِ الكِتابِ، وقالَ: إنَّما بَعَثتُكَ لأَبتَلِيَكَ وأَبتَلِيَ بِكَ، وأَنزَلتُ عَلَيكَ كِتابًا لا يَغسِلُهُ الماءُ، تَقرَؤُهُ نائِمًا ويَقظانًا، وإنَّ اللهَ أمَرَنِي أن أُحَرِّقَ قُرَيشًا، فَقُلتُ: رَبِّ إذًا يَثلَغُوا رَأسِي فَيَدَعُوهُ خُبزَةً، قالَ: استَخرِجهُم كَما استَخرَجُوكَ، واغزُهُم نُغزِكَ، وأَنفِق فَسَنُنفِقَ عَلَيكَ، وابعَث جَيشًا نَبعَث خَمسَةً مِثلَهُ، وقاتِل بِمَن أطاعَكَ مَن عَصاكَ. قالَ: وأَهلُ الجَنَّةِ ثَلاثَةٌ: ذُو سُلطانٍ مُقسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ، ورَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ القَلبِ لِكُلِّ ذِي قُربى ومُسلِمٍ، وعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيالٍ، قالَ: وأَهلُ النّارِ خَمسَةٌ: الضَّعِيفُ الَّذِي لا زَبرَ لَهُ الَّذِينَ هُم فِيكُم تَبَعًا لا يَبتَغُونَ أهلًا ولا مالًا، والخائِنُ الَّذِي لا يَخفى لَهُ طَمَعٌ وإن دَقَّ إلاَّ خانَهُ، ورَجُلٌ لا يُصبِحُ ولا يُمسِي إلاَّ وهُوَ يُخادِعُكَ عَن أهلِكَ ومالِكَ»، وذَكَرَ البُخلَ أوَ الكَذِبَ، «والشِّنظِيرُ الفَحّاشُ». وفي رواية: «وإنَّ اللهَ أوحى إلَيَّ أن تَواضَعُوا حَتّى لا يَفخَرَ أحَدٌ عَلى أحَدٍ، ولا يَبغِي أحَدٌ عَلى أحَدٍ». وفِيها: «وهُم فِيكُم تَبَعًا لا يَبغُونَ أهلًا ولا مالًا». فَقُلتُ: فَيَكُونُ ذَلكَ يا أبا عَبدِ اللهِ؟ قالَ: نَعَم، واللهِ لَقَد أدرَكتُهُم فِي الجاهِلِيَّةِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَرعى عَلى الحَيِّ ما بِهِ إلاَّ ولِيدَتُهُم يَطَؤُها.
(نحلته) أعطيته، وفي الكلام حذف، أي: قال الله تعالى: "كل مال أعطيته عبدًا من عبادي فهو له حلال"، والمراد إنكار ما حرموا على أنفسهم من السائبة، والوصيلة، والبحيرة، والحامي وغير ذلك، وأنها لم تصر حراما بتحريمهم، وكل مال ملكه العبد فهو له حلال، حتى يتعلق به حق. (النووي)
(وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم) أي: مسلمين، وقيل: طاهرين من المعاصي، وقيل: مستقيمين منيبين لقبول الهداية، وقيل: المراد حين أخذ عليهم العهد في الذر، وقال: {ألست بربكم قالوا بلى}. (النووي)
(وإنهم أتتهم الشياطين) يعني: شياطين الإنس من الآباء والمعلمين بتعليمهم، وتدريبهم، وشياطين الجن بوساوسهم. (القرطبي)
(فاجتالتهم عن دينهم) معنى اجتالتهم: أجالتهم، أي: صرفتهم عن مقتضى الفطرة الأصلية، كما قال: "حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه ". وفي الرواية الأخرى: " حتى يُعبّر عنه لسانه " يعني بما يلقي إليه الشيطان من الباطل والفساد المناقض لفطرة الإسلام. (القرطبي)
(إلا بقايا من أهل الكتاب) وإنما استثنى البقايا من أهل الكتاب؛ لأنهم كانوا متمسكين بالحق الذي جاءهم به نبيهم، ويعني بذلك -والله أعلم- من كان في ذلك الزمان متمسِّكًا بدين المسيح عليه السلام؛ لأن من كفر من اليهود بالمسيح لم يبق على دين موسى عليه السلام ولا متمسكًا بما في التوراة، ولا دخل في دين عيسى، فلم يبق أحد من اليهود متمسّكًا بدين حق إلا آمن بالمسيح، واتبع الحق الذي كان عليه، وأما من لم يؤمن به، فلا تنفعه يهوديته، ولا تمسكه بها؛ لأنه قد ترك أصلا عظيمًا مِمَّا فيها، وهو العهد الذي أُخذ عليهم في الإيمان بعيسى عليه السلام، وكذلك نقول: كل نصراني بلغه أمر نبينا ﷺ وشرعنا فلم يؤمن به لم تنفعه نصرانيته؛ لأنه قد ترك ما أُخذ عليه من العهد في شرعه، ولذلك قال ﷺ: " والذي نفسه بيده لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة: يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به إلا كان من أصحاب النار" رواه مسلم. (القرطبي)
(إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك) معناه: لأمتحنك بما يظهر منك من قيامك بما أمرتك به، من تبليغ الرسالة، وغير ذلك من الجهاد في الله حق جهاده، والصبر في الله تعالى، وغير ذلك، وأبتلي بك من أرسلتك إليهم؛ فمنهم من يُظهر إيمانه، ويُخلص في طاعاته، ومن يتخلف ويتأبد بالعداوة والكفر، ومن ينافق، والمراد أن يمتحنه ليصير ذلك واقعا بارزًا؛ فإن الله تعالى إنما يعاقب العباد على ما وقع منهم، لا على ما يعلمه قبل وقوعه، وإلا فهو سبحانه عالم بجميع الأشياء قبل وقوعها، وهذا نحو قوله: {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين} أي: نعلمهم فاعلين ذلك، متصفين به. (النووي)
(لا يغسله الماء) أي كتابًا محفوظًا في القلوب، لا يضمحل بغسل القراطيس، أو كتابا مستمرا متداولا بين الناس،وعبَّر عن إبطال حكمه وترك قراءته والإعراض عنه بغسل أوراقه بالماء على سبيل الاستعارة أو كتابا واضحًا آياته بيِّنًا معجزاته، لا يبطله جَور جائر ولا يُدحضه شبهة مناظر، فمثَّل إبطال المعنى بإبطال الصورة، وقيل: كنى به عن غزارة معناه، وكثرة جدواه، ومن قولهم: ما فلان لا يفنيه الماء أو النار. ( الطيبي )
(تقرؤه نائما ويقظان) فقال العلماء: معناه يكون محفوظا لك في حالتي النوم واليقظة، وقيل: تقرؤه في يسر وسهولة. (النووي)
(ذو سلطان) أي صاحب حكم وولاية عامة أو خاصة، قال الأبيّ رحمه الله: "ويدخل فيه الرجل في أهله؛ لحديث "كلكم راع، ومسؤول عن رعيته". (الإثيوبي)
(مُوَفَّقٌ) مهيأ له أسباب الخيرات، ومفتَّح له أبواب البرّ والطاعات.
(وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ القَلبِ لِكُلِّ ذِي قُربَى وَمُسلِمٍ) رحيم على الصغير والكبير، كثير الرحمة والإحسان إليهم، (رقيق القلب) أي: ليّنه عند التذكير والموعظة. فالمعنى أنه رحيم لكل أصحاب القرابة خصوصًا، ولكل مسلم عمومًا. (الإثيوبي)
والظاهر أن يراد بالرحيم صفة فِعْلية، يظهر وجودها في الخارج، وبالرقيق صفة قلبية، سواء ظهر أثرها أم لا، والثاني أظهر، فيكون باعتبار القوّة، والأول باعتبار الفعل، ويمكن أن تتعلق رحمة الرحيم إلى المعنى الأعم من الإنسان والحيوان، الشامل للمؤمن والكافر والدواب، فيكون الثاني أخصّ، والحاصل أن التأسيس أولى من التأكيد. ( القاري )
(وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ) العفيف من كانت العفّة راسخة فيه، والمتعفف من يتكلّف العفّة ويكتسبها.(الإثيوبي)
أي مجتنب لما لا يَحلّ (متعفف) عن السؤال، متوكل على الله عز وجل في أمره وأمر عياله، مع فرض وجودهم فإنه أصعب، ولهذا قال " ذو عيال " أي لا يحمله حب العيال ولا خوف رزقهم على ترك التوكل بارتكاب سؤال الخلق، وتحصيل المال الحرام لهم، والاشتغال بهم عن العلم والعمل، مما يحب عليه.
ويَحْتَمِل أنه أشار بالعفيف إلى ما في نفسه من القوّة المانعة عن الفواحش، وبالمتعفف إلى إبراز ذلك الفعل، واستعمال تلك القوّة، وإظهار العفة لنفسه.
وإذا استقرأت أحوال العباد على اختلافها، فلعلّك لم تجد أحدًا يستأهل أن يدخل الجنة، ويحقّ له أن يكون من أهلها، إلا وهو مندرج تحت هذه الأقسام، غير خارج عنها. ( الطيبي )
(أهل النار خمسة) أي خمسة أجناس، فيه إشارة إلى كثرتهم. (الإثيوبي)
(الضَّعِيفُ الَّذِي لَا زَبرَ لَهُ...) يعني بذلك أن هؤلاء القوم ضعفاء العقول، فلا يسعون في تحصيل مصلحة دنيوية، ولا فضيلة نفسية، ولا دينية، بل يُهملون أنفسهم إهمال الأنعام، ولا يبالون بما يثبون عليه من الحلال والحرام. (القرطبي)
(وَالخَائِنُ الَّذِي لَا يَخفَى لَهُ طَمَعٌ وَإِن دَقَّ إِلاَّ خَانَهُ) الخائن: هو الذي يأخذ ما اؤتمن عليه بغير إذن مالكه، و (يَخفى له) هنا بمعنى يظهر. (القرطبي)
(وَرَجُلٌ لَا يُصبِحُ وَلا يُمسِي إِلاَّ وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَن أَهلِكَ وَمَالِكَ) المعنى: يخادعك بسبب أهلك ومالك؛ أي: يطمع في مالك وأهلك، فيُظهر عندك الأمانة والعفّة، ويخون فيهما. (الطيبي)
بيان اهتمام النبي ﷺ في تعليم أمته ما لا يعلمونه، مما علمه الله عز وجل بالوحي. (الإثيوبي)
بيان أنه لم ينقطع أهل الحق من الأرض خلال فترات الأنبياء وإن قلّوا، كما قال الله: { ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرًا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون}. (الإثيوبي)
فيه أن الله عز وجل أمر النبيﷺ بجهاد قريش، وإخراجهم من دارهم، وغزوهم، والإنفاق في سبيل قتالهم، وبعث الجيش، وأن يُمدّهم بخمسة أمثالهم من الملائكة، وقد حصل كلّ ذلك كما في غزوة بدر وغيرها. (الإثيوبي)

باب: خُلُودُ أهْلِ الجَنَّةِ فِيما هُمْ فِيهِ وأَهْلِ النّارِ فِيما هُمْ فِيهِ


٢٦٥٠. (خ م) (٢٨٥٠) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ ﵄؛ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ: «إذا صارَ أهلُ الجَنَّةِ إلى الجَنَّةِ، وصارَ أهلُ النّارِ إلى النّارِ، أُتِيَ بِالمَوتِ حَتّى يُجعَلَ بَينَ الجَنَّةِ والنّارِ، ثُمَّ يُذبَحُ، ثُمَّ يُنادِي مُنادٍ: يا أهلَ الجَنَّةِ؛ لا مَوتَ، ويا أهلَ النّارِ؛ لا مَوتَ. فَيَزدادُ أهلُ الجَنَّةِ فَرَحًا إلى فَرَحِهِم، ويَزدادُ أهلُ النّارِ حُزنًا إلى حُزنِهِم».
ولَهُما عَن أبِي سَعيدٍ الخُدْرِيِّ ﵁ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «يُجاءُ بِالموتِ يَومَ القِيامةِ كَأنّهُ كَبشٌ أملَحٌ، فيُوقَفُ بَينَ الجَنَّةِ والنّارِ، فَيُقالُ: يا أهلَ الجنَّةِ؛ هَل تَعرِفُونَ هَذا؟ فَيَشرَئِبُّون ويَنظُرُونَ، ويَقُولُونَ: نَعَم، هَذا المَوتُ. قالَ: ويُقالُ: يا أهلَ النّارِ؛ هَل تَعرِفُونَ هَذا؟ قالَ: فَيَشرَئِبُّون ويَنظُرُونَ، ويَقُولُونَ: نَعَم، هَذا المَوتُ. قالَ: فَيُؤمَرُ بِهِ فيُذبَحُ، قالَ: ثُمَّ يُقالُ: يا أهلَ الجنَّةِ؛ خُلُودٌ فلا مَوتَ، ويا أهلَ النّارِ؛ خُلُودٌ فَلا مَوتَ». قالَ: ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ﴿وأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ إذْ قُضِيَ الأَمْرُ وهُمْ فِي غَفْلَةٍ وهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ [مريم: ٣٩]، وأَشارَ بِيدِهِ إلى الدُّنيا.
الحكمة في الإتيان بالموت هكذا الإشارة إلى أنهم حصل لهم الفداء له كما فدي ولد إبراهيم بالكبش، وفي الأملح إشارة إلى صفتي أهل الجنة والنار؛ لأن الأملح ما فيه بياض وسواد. (القرطبي)
فيه التصريح بأن خلود أهل النار فيها لا إلى غاية أمد وإقامتهم فيها على الدوام بلا موت ولا حياة نافعة ولا راحة كما قال تعالى: {لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها} وقال تعالى: {كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها} فمن زعم أنهم يخرجون منها، وأنها تبقى خالية أو أنها تفنى وتزول فهو خارج عن مقتضى ما جاء به الرسول، وأجمع عليه أهل السنة. (القرطبي)

باب: فِـي جَهَنَّمَ وعَذابِها


٢٦٥١. (خ م) (٢٨٤٣) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁؛ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «نارُكُم (هَذِهِ الَّتِي يُوقِدُ ابنُ آدَمَ) جُزءٌ مِن سَبعِينَ جُزءًا مِن حَرِّ جَهَنَّمَ». قالُوا: واللهِ إن كانَت لَكافِيَةً يا رَسُولَ اللهِ. قالَ: «فَإنَّها فُضِّلَت عَلَيها بِتِسعَة وسِتِّينَ جُزءًا، كُلُّها مِثلُ حَرِّها».
(جزء من سبعين جزءا من حر جهنم) وفي رواية لأحمد: (من مائة جزء) والجمع بأن المراد المبالغة في الكثرة لا العدد الخاص أو الحكم للزائد. (ابن حجر)
(إن كانت لكافية) أي إن هذه النار التي نراها في الدنيا كانت كافية في العقبى لتعذيب العصاة، فهلا اكتفى بها، ولأي شيء زيدت في حرها؟ (المباركفوري)
(فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا) وحاصل الجواب منع الكفاية أي لا بد من التفضيل لحكمة كون عذاب الله أشد من عذاب الناس، ولذلك أوثر ذكر النار على سائر أصناف العذاب في كثير من الكتاب والسنة منها قوله تعالى: {فما أصبرهم على النار} وقوله: {فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة} وإنما أظهر الله هذا الجزء من النار في الدنيا أنموذجا لما في تلك الدار. (المباركفوري)
قال الطيبي ما محصله: إنما أعاد ﷺ حكاية تفضيل نار جهنم على نار الدنيا، إشارة إلى المنع من دعوى الإجزاء، أي لا بد من الزيادة ليتميز ما يصدر من الخالق من العذاب على ما يصدر من خلقه. (المباركفوري)

٢٦٥٢. (خ م) (٢٨٥٦) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «رَأَيتُ عَمرَو بنَ عامِرٍ الخُزاعِيَّ يَجُرُّ قُصبَهُ فِي النّارِ، وكانَ أوَّلَ مَن سَيَّبَ السُّيُوبَ».
قال أبو عبيدة: كانت السائبة من جميع الأنعام، وتكون من النذور للأصنام، فتسيب فلا تحبس عن مرعى ولا عن ماء ولا يركبها أحد، قال: وقيل: السائبة لا تكون إلا من الإبل، كان الرجل ينذر إن برئ من مرضه أو قدم من سفره ليسيبن بعيرا، وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: السائبة كانوا يسيبون بعض إبلهم فلا تمنع حوضا أن تشرب فيه. (ابن حجر)
فيه سوءُ جزاءِ مَن دعا إلى الشِّرك بالله وأنَّه في النَّار.
فيه بيانُ حُرْمةِ السَّائبةِ وغيرها وترْكها قُربانًا أو نَذرًا للطَّواغيت والأصنام.

٢٦٥٣. (خ م) (٢٨٥٢) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁، عَنِ النبي ﷺ قالَ: «ما بَينَ مَنكِبَي الكافِرِ فِي النّارِ مَسِيرَةُ ثَلاثَةِ أيّامٍ لِلرّاكِبِ المُسرِعِ».
٢٦٥٤. (م) (٢٨٥١) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «ضِرسُ الكافِرِ أو نابُ الكافِرِ مِثلُ أُحُدٍ، وغِلَظُ جِلدِهِ مَسِيرَةُ ثَلاثٍ».
هذا كله لكونه أبلغ في إيلامه، وكل هذا مقدور لله تعالى يجب الإيمان به؛ لإخبار الصادق به. (النووي)
يعظمون لتمتلئ منهم النار، وليذوقوا العذاب. (ابن حجر)
فيه عِظَم خلق الكافر في النار ليعظم عذابه ويضاعف أَلَمه. (القرطبي)
لا شك في أن الكفار متفاوتون في العذاب كما علم من الكتاب والسنة، ولأن نعلم على القطع أن عذاب من قتل الأنبياء وفتك في المسلمين، وأفسد في الأرض ليس مساويًا لعذاب من كفر فقط، وأحسن معاملة المسلمين مثلا. (القرطبي)

٢٦٥٥. (م) (٢٨٤٢) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ ﵁ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «يُؤتى بِجَهَنَّمَ يَومَئِذٍ لَها سَبعُونَ ألفَ زِمامٍ، مَعَ كُلِّ زِمامٍ سَبعُونَ ألفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَها».
(يؤتى بجهنم) أي: يؤتى بها من المكان الذي خلقها الله تعالى فيه، ويدل عليه قوله تعالى فيه: {وجيء يومئذ بجهنم} ( يومئذ ) أي يوم القيامة. وقال في اللمعات: لعل جهنم يؤتى بها في الموقف ليراها الناس ترهيبا لهم. (المباركفوري)
(يؤتى بجهنم) تدار بأرض المحشر حتى لا يبقى للجنة طريق إلا الصراط، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، وهذه الأزمة التي تساق جهنم بها أيضًا تمنع من خروجها على أهل المحشر، فلا يخرج منها إلا الأعناق التي أمرت بأخذ من شاء الله أخذه. (القرطبي)
هذا يدل على عظمة هذه النار؛ لأن الله تعالى جعل سبعين ألف ملك مع كل زمام سبعين ألف زمام يجرُّون بها جهنم، فهذا العدد الكبير من الملائكة يدُّل على أن الأمر عظيم والخطر جسيم. ( ابن عثيمين )

٢٦٥٦. (م) (٢٨٤٤) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁ قالَ: كُنّا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، إذ سَمِعَ وجبَةً فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «تَدرُونَ ما هَذا؟» قالَ: قُلنا: اللهُ ورَسُولُهُ أعلَمُ. قالَ: «هَذا حَجَرٌ رُمِيَ بِهِ فِي النّارِ مُنذُ سَبعِينَ خَرِيفًا، فَهُوَ يَهوِي فِي النّارِ الآنَ حَتّى انتَهى إلى قَعرِها».
(أتدرون ما هذا؟) دليل على أنهم حين سمعوا الوجبة خرق الله لهم العادة، فسمعوا ما مُنِعه غيرهم، وإلا فالعادة تقتضي مشاركة غيرهم في سماع هذا الأمر العظيم. (القرطبي)
فيه دليل على أن النار قد خُلقت، وأعد فيها ما شاء الله مما يعذب به من يشاء، وهو مذهب أهل السنة خلافا للمبتدعة. (القرطبي)

٢٦٥٧. (م) (٢٨٤٥) عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ ﵁؛ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قال: «مِنهُم مَن تَأخُذُهُ النّارُ إلى كَعبَيهِ، ومِنهُم مَن تَأخُذُهُ النّارُ إلى رُكبَتَيهِ، ومِنهُم مَن تَأخُذُهُ النّارُ إلى حُجزَتِهِ، ومِنهُم مَن تَأخُذُهُ النّارُ إلى تَرقُوَتِهِ». وفي رواية: «حَقْوَيْهِ»، مكان: «حُجزَتِهِ».
٢٦٥٨. (م) (٢٨٠٧) عَنْ أنَسٍ ﵁ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «يُؤتى بِأَنعَمِ أهلِ الدُّنيا مِن أهلِ النّارِ يَومَ القِيامَةِ فَيُصبَغُ فِي النّارِ صَبغَةً، ثُمَّ يُقالُ: يا ابنَ آدَمَ؛ هَل رَأَيتَ خَيرًا قَطُّ؟ هَل مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لا واللهِ يا رَبِّ. ويُؤتى بِأَشَدِّ النّاسِ بُؤسًا فِي الدُّنيا مِن أهلِ الجَنَّةِ فَيُصبَغُ صَبغَةً فِي الجَنَّةِ، فَيُقالُ لَهُ: يا ابنَ آدَمَ؛ هَل رَأَيتَ بُؤسًا قَطُّ؟ هَل مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لا واللهِ يا رَبِّ ما مَرَّ بِي بُؤسٌ قَطُّ، ولا رَأَيتُ شِدَّةً قَطُّ».
يدلّ على أن أهل النار يتفاوتون فيها، ويصح مثل هذا في الكفار. (القرطبي)

باب: كَفى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ شَهِيدًا


٢٦٥٩. (م) (٢٩٦٨) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁ قالَ: قالُوا: يا رَسُولَ اللهِ؛ هَل نَرى رَبَّنا يَومَ القِيامَةِ؟ قالَ: «هَل تُضارُّونَ فِي رُؤيَةِ الشَّمسِ فِي الظَّهِيرَةِ لَيسَت فِي سَحابَةٍ؟» قالُوا: لا. قالَ: «فَهَل تُضارُّونَ فِي رُؤيَةِ القَمَرِ لَيلَةَ البَدرِ لَيسَ فِي سَحابَةٍ؟» قالُوا: لا. قالَ: «فَوالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لا تُضارُّونَ فِي رُؤيَةِ رَبِّكُم إلاَّ كَما تُضارُّونَ فِي رُؤيَةِ أحَدِهِما، قالَ: فَيَلقى العَبدَ فَيَقُولُ: أي فُل؛ ألَم أُكرِمكَ وأُسَوِّدكَ وأُزَوِّجكَ وأُسَخِّر لَكَ الخَيلَ والإبِلَ وأَذَركَ تَرأَسُ وتَربَعُ؟ فَيَقُولُ: بَلى. قالَ: فَيَقُولُ: أفَظَنَنتَ أنَّكَ مُلاقِيَّ؟ فَيَقُولُ: لا. فَيَقُولُ: فَإنِّي أنساكَ كَما نَسِيتَنِي. ثُمَّ يَلقى الثّانِيَ فَيَقُولُ: أي فُل؛ ألَم أُكرِمكَ وأُسَوِّدكَ وأُزَوِّجكَ وأُسَخِّر لَكَ الخَيلَ والإبِلَ وأَذَركَ تَرأَسُ وتَربَعُ؟ فَيَقُولُ: بَلى أي رَبِّ. فَيَقُولُ: أفَظَنَنتَ أنَّكَ مُلاقِيَّ؟ فَيَقُولُ: لا. فَيَقُولُ: فَإنِّي أنساكَ كَما نَسِيتَنِي. ثُمَّ يَلقى الثّالِثَ فَيَقُولُ لَهُ مِثلَ ذَلكَ، فَيَقُولُ: يا رَبِّ؛ آمَنتُ بِكَ وبِكِتابِكَ وبِرُسُلِك وصَلَّيتُ وصُمتُ وتَصَدَّقتُ. ويُثنِي بِخَيرٍ ما استَطاعَ، فَيَقُولُ: ها هُنا إذًا. قالَ: ثُمَّ يُقالُ له: الآنَ نَبعَثُ شاهِدَنا عَلَيكَ، ويَتَفَكَّرُ فِي نَفسِهِ؛ مَن ذا الَّذِي يَشهَدُ عَلَيَّ؟ فَيُختَمُ عَلى فِيهِ، ويُقالُ لِفَخِذِهِ ولَحمِهِ وعِظامِهِ: انطِقِي. فَتَنطِقُ فَخِذُهُ ولَحمُهُ وعِظامُهُ بِعَمَلِهِ، وذَلكَ ⟨لِيُعذِرَ مِن نَفسِهِ⟩{غريب=أَي لتقوم الْحجَّة عَلَيْهِ بِشَهَادَة أَعْضَائِهِ عَلَيْهِ.
}، وذَلكَ المُنافِقُ، وذَلكَ الَّذِي يسخَطُ اللهُ عَلَيهِ»
.
٢٦٦٠. (م) (٢٩٦٩) عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ ﵁ قالَ: كُنّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ فَضَحِكَ فَقالَ: «هَل تَدرُونَ مِمَّ أضحَكُ؟» قالَ: قُلنا اللهُ ورَسُولُهُ أعلَمُ. قالَ: «مِن مُخاطَبَةِ العَبدِ رَبَّهُ، يَقُولُ: يا رَبِّ؛ ألَم تُجِرنِي مِنَ الظُّلمِ؟ قالَ: يَقُولُ: بَلى. قالَ: فَيَقُولُ: فَإنِّي لا أُجِيزُ عَلى نَفسِي إلاَّ شاهِدًا مِنِّي. قالَ: فَيَقُولُ: كَفى بِنَفسِكَ اليَومَ عَلَيكَ شَهِيدًا، وبِالكِرامِ الكاتِبِينَ شُهُودًا. قالَ: فَيُختَمُ عَلى فِيهِ، فَيُقالُ لأَركانِهِ: انطِقِي، قالَ: فَتَنطِقُ بِأَعمالِهِ، ثُمَّ يُخَلّى بَينَهُ وبَينَ الكَلامِ، قالَ: فَيَقُولُ: بُعدًا لَكُنَّ وسُحقًا فَعَنكُنَّ كُنتُ أُناضِلُ».
(فيختم على فيه) أي: يمنع من الكلام المكتسب له، وينطق لسانه وسائر أركانه بكلام ضروري لا كسب له فيه، ولا قدرة على منعه، كما قال تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فإذا شهدت عليه أركانه بعمله خُلي بينه وبين الكلام المقدور له، فيلوم جوارحه الشاهدة عليه بقوله: (ويلكن فعنكن كنت أناضل) أي: أدافع وأحتج. (القرطبي)
(ليعذر من نفسه) أي: بالغ في حجَّة نفسه، يعني أن المنافق قال ما قال من ادعاء فعل الخيرات المتقدمة. (القرطبي)
(ألم تجرني من الظلم؟...) ليبالغ في عذر نفسه الذي يظن أنه ينجيه، يقال: أعذر الرجل في الأمر، أي: بالغ فيه. (القرطبي)

١ ١/اليوم الذي خُلِق فيـه آدم، هو يوم:

٥/٠