كِتابُ الزُّهْدِ والرَّقائِقِ


باب: لا يَنْظُرُ اللهُ إلى صُوَرِكُمْ وأَمْوالِكُمْ


٢٧٤٨. (م) (٢٥٦٤) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إنَّ اللهَ لا يَنظُرُ إلى صُوَرِكُم وأَموالِكُم، ولَكِن يَنظُرُ إلى قُلُوبِكُم وأَعمالِكُم».
وفي رواية: «إنَّ اللهَ لا يَنظُرُ إلى أجسادِكُم ولا إلى صُوَرِكُم، ولَكِن يَنظُرُ إلى قُلُوبِكُم»، وأَشارَ بِأَصابِعِهِ إلى صَدرِهِ.
٢٧٤٩. (خ) (٥٠٩١) عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ﵁ قالَ: مَرَّ رَجُلٌ عَلى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقالَ: «ما تَقُولُونَ فِي هَذا؟» قالُوا: حَرِيٌّ إن خَطَبَ أن يُنكَحَ، وإن شَفَعَ أن يُشَفَّعَ، وإن قالَ أن يُستَمَعَ. قالَ: ثُمَّ سَكَتَ، فَمَرَّ رَجُلٌ مِن فُقَراءِ المُسلِمِينَ فَقالَ: «ما تَقُولُونَ فِي هَذا؟» قالُوا: حَرِيٌّ إن خَطَبَ أن لا يُنكَحَ، وإن شَفَعَ أن لا يُشَفَّعَ، وإن قالَ أن لا يُستَمَعَ. فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «هَذا خَيرٌ مِن مِلءِ الأَرضِ مِثلَ هَذا».
-فيه أن الله ينظر إلى القلوب على أساس الإخلاص لله.
-فيه أن العبد عليه أن يعظم إجلال الله في صدورهم.
-فيه أن التقي ملجم لا يفعل كل ما يريد.
-فيه أن هذا الحديث حجة على أن الفعل محله القلب. (القاضي عياض)
-فيه أن القلوب هي محل التقوى وأوعية الجواهر وكنوز المعرفة، وعليه فهي ما يجازى العبد عليه.
-فيه أن المفاضلة ليست بالشكل، بل بما وقر في القلب.
-فيه أنه تبين من سياق طرق القصة أن جهة تفضيله إنما هي لفضله بالتقوى، وليست المسألة مفروضة في فقير متق وغني غير متق، بل لا بد من استوائهما أولا في التقوى. (ابن حجر).
-فيه أنه يؤخذ من هذا الحديث أن الرجل قد يكون ذا منزلة عالية في الدنيا، ولكنه ليس له قدر عند الله، وقد يكون في الدنيا ذا مرتبة منحطة وليس له قيمة عند الناس، وهو عند الله خير من كثير ممن سواه.

باب: فَناءُ الدُّنْيا وهَوانُها وقِلَّتُها


٢٧٥٠. (م) (٢٨٥٨) عَنِ المُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدّادٍ ﵁ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «واللهِ ما الدُّنيا فِي الآخِرَةِ إلاَّ مِثلُ ما يَجعَلُ أحَدُكُم إصبَعَهُ هَذِهِ -وأَشارَ يَحيى بِالسَّبّابَةِ- فِي اليَمِّ فَليَنظُر بِمَ يَرجِــعُ».
٢٧٥١. (م) (٢٩٥٦) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «الدُّنيا سِجنُ المُؤمِنِ وجَنَّةُ الكافِرِ».
٢٧٥٢. (م) (٢٩٥٧) عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ﵄؛ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ مَرَّ بِالسُّوقِ داخِلًا مِن بَعضِ العالِيَةِ والنّاسُ كَنَفَتَيهِ، فَمَرَّ بِجَديٍ أسَكَّ مَيِّتٍ فَتَناوَلَهُ فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ، ثُمَّ قالَ: «أيُّكُم يُحِبُّ أنَّ هَذا لَهُ بِدِرهَمٍ؟» فَقالُوا: ما نُحِبُّ أنَّهُ لَنا بِشَيءٍ، وما نَصنَعُ بِهِ؟ قالَ: «أتُحِبُّونَ أنَّهُ لَكُم؟» قالُوا: واللهِ لَو كانَ حَيًّا كانَ عَيبًا فِيهِ لأَنَّهُ أسَكُّ، فَكَيفَ وهُوَ مَيِّتٌ؟! قالَ: «فَوَ اللهِ لَلدُّنيا أهوَنُ عَلى اللهِ مِن هَذا عَلَيكُم».
- فيه تحقير الدنيا وشأنها، وتوضيح المعاني بتقريبها بمثال في الواقع.
- فيه براعة النبي ﷺ وحسن تمثيله وتصويره لزوال الدنيا وفنائها الدائم ولذاتها الباقية.
- ما قدر الدنيا من الآخرة في المساحة والقدر والقلة في جنب الآخرة وكثرة خيرها، إذ قد يعطى الواحد من أهل الجنة وهو أدناهم منزلة مثل الدنيا وعشرة أمثالها إلى ما ورد من غير هذا (القاضي عياض).
- فيه أن المؤمن مسجون فيها ممنوع عن الشهوات المحرمة والمكروهة، ومكلف بفعل الطاعات الشاقة فإذا مات استراح من هذا، أو انقلب إلى ما أعد الله له من النعيم الدائم والراحة الخالصة من المنغصات، وأما الكافر فإنما له من ذلك ما حصل في الدنيا مع قلته وتكديره بالمنغصات فإذا مات انقلب إلى العذاب الدائم وشقاوة الأبد. (النووي).
- فيه أنه جميع أنواع لذات الدنيا لهي أحقر وأذل على الله من هذا الجدي الأسكّ الميت، فهي ليست بشيء عند الله.

٢٧٥٣. (م) (٢٩٦٧) عَنْ خالِدِ بْنِ عُمَيْرٍ العَدَوِيِّ قالَ: خَطَبَنا عُتبَةُ بنُ غَزوانَ فَحَمِدَ اللهَ وأَثنى عَلَيهِ، ثُمَّ قالَ: أمّا بَعدُ؛ فَإنَّ الدُّنيا قَد آذَنَت بِصُرمٍ ووَلَّت حَذّاءَ، ولَم يَبقَ مِنها إلاَّ صُبابَةٌ كَصُبابَةِ الإناءِ يَتَصابُّها صاحِبُها، وإنَّكُم مُنتَقِلُونَ مِنها إلى دارٍ لا زَوالَ لَها، فانتَقِلُوا بِخَيرِ ما بِحَضرَتِكُم، فَإنَّهُ قَد ذُكِرَ لَنا أنَّ الحَجَرَ يُلقى مِن شَفَةِ جَهَنَّمَ، فَيَهوِي فِيها سَبعِينَ عامًا لا يُدرِكُ لَها قَعرًا، وواللهِ لَتُملأَنَّ، أفَعَجِبتُم؟ ولَقَد ذُكِرَ لَنا أنَّ ما بَينَ مِصراعَينِ مِن مَصارِيعِ الجَنَّةِ مَسِيرَةُ أربَعِينَ سَنَةً، ولَيَأتِيَنَّ عَلَيها يَومٌ وهُوَ كَظِيظٌ مِنَ الزِّحامِ، ولَقَد رَأَيتُنِي سابِعَ سَبعَةٍ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ ما لَنا طَعامٌ إلاَّ ورَقُ الشَّجَرِ حَتّى قَرِحَت أشداقُنا، فالتَقَطتُ بُردَةً فَشَقَقتُها بَينِي وبَينَ سَعدِ بْنِ مالِكٍ فاتَّزَرتُ بِنِصفِها واتَّزَرَ سَعدٌ بِنِصفِها، فَما أصبَحَ اليَومَ مِنّا أحَدٌ إلاَّ أصبَحَ أمِيرًا عَلى مِصرٍ مِنَ الأَمصارِ، وإنِّي أعُوذُ بِاللهِ أن أكُونَ فِي نَفسِي عَظِيمًا وعِندَ اللهِ صَغِيرًا، وإنَّها لَم تَكُن نُبُوَّةٌ قَطُّ إلاَّ تَناسَخَت حَتّى يَكُونَ آخِرُ عاقِبَتِها مُلكًا، فَسَتَخبُرُونَ وتُجَرِّبُونَ الأُمَراءَ بَعدَنا.
٢٧٥٤. (م) (٢٩٥٨) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الشِّخِّيرِ ﵁ قالَ: أتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ وهُوَ يَقرَأُ: ﴿ألْهاكُمُ التَّكاثُرُ﴾ [التكاثر: ١]، قالَ: «يَقُولُ ابنُ آدَمَ: مالِي مالِي. قالَ: وهَل لَكَ يا ابنَ آدَمَ مِن مالِكَ إلاَّ ما أكَلتَ فَأَفنَيتَ، أو لَبِستَ فَأَبلَيتَ، أو تَصَدَّقتَ فَأَمضَيتَ؟».
ورَوى (م) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁؛ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ: «يَقُولُ العَبدُ: مالِي، مالِي. إنَّما لَهُ مِن مالِهِ ثَلاثٌ: ما أكَلَ فَأَفنى، أو لَبِسَ فَأَبلى، أو أعطى فاقتَنى، وما سِوى ذَلِكَ فَهُوَ ذاهِبٌ وتارِكُهُ لِلنّاسِ».
٢٧٥٥. (خ) (٦٤١٦) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ ﵄ قالَ: أخَذَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِمَنكِبِي فَقالَ: «كُن فِي الدُّنيا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أو عابِرُ سَبِيلٍ». وكانَ ابنُ عُمَرَ يَقُولُ: إذا أمسَيتَ فَلا تَنتَظِر الصَّباحَ، وإذا أصبَحتَ فَلا تَنتَظِر المَساءَ، وخُذ مِن صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، ومِن حَياتِكَ لِمَوتِكَ.
٢٧٥٦. (خ) (٢٦١٣) عَنِ ابْنِ عُمَرَ ﵄ قالَ: أتى النَّبِيُّ ﷺ بَيْتَ فاطِمَةَ فَلَم يَدخُل عَلَيها، وجاءَ عَلِيٌّ فَذَكَرَت لَهُ ذَلكَ، فَذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ ﷺ، قالَ: «إنِّي رَأَيتُ عَلى بابِها سِترًا مَوشِيًّا»، فَقالَ: «ما لِي ولِلدُّنيا؟» فَأَتاها عَلِيٌّ فَذَكَرَ ذَلكَ لَها، فَقالَت: لِيَأمُرنِي فِيهِ بِما شاءَ. قالَ: «تُرسِلُ بِهِ إلى فُلانٍ، أهلِ بَيتٍ بِهِم حاجَةٌ».
-فيه أنّ جهنم مع بعد عمقها وعظم اتساعها، تملأ من الكفار والعصاة فلا تستبعدوا ذلك ولا تعجبوا منه.
-أن هذه الأبواب مع كثرتها واتساعها والذي يصل مسيرة أربعين عاما سيأتي عليها يوم تزدحم فيه لكثرة الداخلين. (الساعاتي)
-في قوله: (فستخبرون وتجربون الأمراء بعدنا) فيه الإشارة إلى ظلم من يأتي من الأمراء بعدهم واغترارهم بالدنيا وزخرفه.
-فيه فضلُ الله عز وجل ورحمته بعباده الموحدين.
-وفيه إخبارُه ﷺ عن الغَيْبِيَّاتِ.
-وفيه علامة من علامات نبوته ﷺ.
-وفيه إشارة إلى اتِّساع الحال على الصحابة بعد ضيقه أولا.
-في قوله ( كأنك غريب أو عابر سبيل) ليست أو للشك، بل للتخيير والإباحة، والأحسن أن تكون بمعنى بل، فشبه الناسك السالك بالغريب الذي ليس له مسكن يأويه ولا مسكن يسكنه. (الطيبي)
-في قوله (كأنك غريب أو عابر سبيل) قال العلماء: هذا الحديث أصل في الحث على الفراغ عن الدنيا والزهد فيها، والاحتقار لها والقناعة فيها بالبلغة. (السيوطي)
-فيه أن الإنسان في الدنيا كالمسافر، وكذا هو في الحقيقة؛ لأن الدنيا مطية الآخرة. (ابن الملقن)
-فيه تنبيه النبي ﷺ على اغتنام أوقات الفراغ.
-فيه أنه لا تركن إليها ولا تتخذها وطنا، ولا تحدث نفسك بطول البقاء فيها، ولا بالاعتناء بها، ولا تتعلق منها إلا بما يتعلق به الغريب في غير وطنه، ولا تشتغل فيها إلا بما يشتغل به الغريب الذي يريد الذهاب إلى أهله. (النووي)

باب: مَحَبَّةُ اللهِ العَبْدَ التَّقِيَّ الغَنِيَّ الخَفِيَّ


٢٧٥٧. (م) (٢٩٦٥) عَنْ عامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أبِي وقّاصٍ قالَ: كانَ سَعدُ بنُ أبِي وقّاصٍ فِي إبِلِهِ فَجاءَهُ ابنُهُ عُمَرُ، فَلَمّا رَآهُ سَعدٌ قالَ: أعُوذُ بِاللهِ مِن شَرِّ هَذا الرّاكِبِ. فَنَزَلَ فَقالَ لَهُ: أنَزَلتَ فِي إبِلِكَ وغَنَمِكَ وتَرَكتَ النّاسَ يَتَنازَعُونَ المُلكَ بَينَهُم؟ فَضَرَبَ سَعدٌ فِي صَدرِهِ فَقالَ: اسكُت، سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «إنَّ اللهَ يُحِبُّ العَبدَ التَّقِيَّ الغَنِيَّ الخَفِيَّ».
-فيه فضل التقي الذي يتقي الله عز وجل فيقوم بأوامره ويجتنب نواهيه، من فعل الصلاة وأدائها في جماعة، وأداء الزكاة وإعطائها مستحقيها، ويصوم رمضان، ويحج البيت، ويبر والديه، ويصل أرحامه، ويحسن إلى جيرانه وإلى اليتامى، إلى غير ذلك من أنواع التقى والبر وأبواب الخير.
-فيه أن الغنيّ، هو غنيّ النفس، والمقصود به صاحب القناعة.

باب: كَيْفَ كانَ عَيْشُ النَّبِيِّ ﷺ وأَصْحابِهِ


٢٧٥٨. (خ م) (١٠٥٥) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «اللَّهُمَّ اجعَل رِزقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا».
- فيه أن المعنى هو ما يقوتهم ويكفيهم بحيث لا يشوشهم كما الجهد ولا ترهقهم الفاقة، ولا تذلهم المسألة والحاجة، ولا يكون في ذلك أيضا فضول يخرج إلى الترف والتبسط في الدنيا والركون إليها. (القرطبي).
- فيه فضيلة التقلل من الدنيا، والاقتصار على القوت منها والدعاء بذلك. (النووي)

٢٧٥٩. (خ م) (٢٩٦٦) عَنْ سَعْدِ بْنِ أبِي وقّاصٍ ﵁ قالَ: واللهِ إنِّي لأَوَّلُ رَجُلٍ مِن العَرَبِ رَمى بِسَهمٍ فِي سَبِيلِ اللهِ، ولَقَد كُنّا نَغزُو مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ ما لَنا طَعامٌ نَأكُلُهُ إلا ورَقُ الحُبْلَةِ، وهَذا السَّمُرُ، حَتّى إنَّ أحَدَنا لَيَضَعُ كَما تَضَعُ الشّاةُ، ثُمَّ أصبَحَت بَنُو أسَدٍ تُعَزِّرُنِي عَلى الدِّينِ، لَقَد خِبتُ إذًا وضَلَّ عَمَلِي.
وفي رواية (خ): وكانُوا وشَوا بِهِ إلى عُمَرَ، قالُوا: لا يُحسِنُ يُصَلِّي.
وفي رواية (خ): رَأَيتَني سابِعَ سَبعةٍ مَعَ النَّبيِّ ﷺ ما لَنا طَعامٌ ... وفِيها: خَسِرتُ إذًا وضَلَّ سَعيِي.
ورَوى (خ) عَنهُ قالَ: ما أسلَمَ أحَدٌ إلاَّ فِي اليَومِ الَّذِي أسلَمتُ فِيهِ، ولَقَد مَكَثْتُ سَبعَةَ أيّامٍ وإني لَثُلُثُ الإسْلامِ.
٢٧٦٠. (خ م) (٢٩٧٢) عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عائِشَةَ ﵂؛ أنَّها كانَت تَقُولُ: واللهِ يا ابنَ أُختِي؛ إن كُنّا لَنَنظُرُ إلى الهِلالِ، ثُمَّ الهِلالِ، ثُمَّ الهِلالِ، ثَلاثَةَ أهِلَّةٍ فِي شَهرَينِ؛ وما أُوقِدَ فِي أبياتِ رَسُولِ اللهِ ﷺ نارٌ. قالَ: قُلتُ: يا خالَةُ؛ فَما كانَ يُعَيِّشُكُم؟ قالَت: الأَسوَدانِ؛ التَّمرُ والماءُ، إلا أنَّهُ قَد كانَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ جِيرانٌ مِن الأَنصارِ، وكانَت لَهُم مَنائِحُ، فَكانُوا يُرسِلُونَ إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ مِن ألبانِها، فَيَسقِيناهُ.
وفي رواية (خ): إلا أن نُؤتى بِاللُّحَيْمِ.
٢٧٦١. (خ م) (٢٩٧٥) عَنْ عائِشَةَ ﵂ قالَت: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وقَد شَبِعَنا مِن الأَسوَدَينِ؛ الماءِ والتَّمرِ. ورَوى (خ) عَنها؛ قالَت: لمّا فُتِحَت خَيبَرُ قُلنا: الآن نَشبَعُ مِنَ التَّمرِ.
٢٧٦٢. (خ م) (٢٩٧٠) عَنْ عائِشَةَ ﵂ قالَت: ما شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ ﷺ مُنذُ قَدِمَ المَدِينَةَ مِن طَعامِ بُرٍّ ثَلاثَ لَيالٍ تِباعًا، حَتّى قُبِضَ.
٢٧٦٣. (خ م) (٢٩٧٣) عَنْ عائِشَةَ ﵂ قالَت: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ ﷺ؛ وما فِي رَفِّي مِن شَيءٍ يَأكُلُهُ ذُو كَبِدٍ، إلا شَطرُ شَعِيرٍ فِي رَفٍّ لِي، فَأَكَلتُ مِنهُ حَتّى طالَ عَلَيَّ، فَكِلتُهُ فَفَنِيَ.
٢٧٦٤. (م) (٢٩٧٧) عَنِ النُّعْمانِ بْنِ بَشِيرٍ ﵄ قالَ: ألَستُم فِي طَعامٍ وشَرابٍ ما شِئتُم؟ لَقَد رَأَيتُ نَبِيَّكُم ﷺ وما يَجِدُ مِنَ الدَّقَلِ ما يَملأُ بِهِ بَطنَهُ. وفي رواية: عن سماكٍ قالَ: سَمِعتُ النُّعْمانَ يَخطُبُ قالَ: ذَكَرَ عُمَرُ ما أصابَ النّاسُ مِنَ الدُّنيا فَقالَ: لَقَد رَأَيتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَظَلُّ اليَومَ يَلتَوِي ما يَجِدُ دَقَلًا يَملأُ بِهِ بَطنَهُ.
٢٧٦٥. (خ) (٢٠٦٩) عَنْ أنَسٍ؛ أنَّه مَشى إلى النَّبِيِّ ﷺ بِخُبزِ شَعِيرٍ وإهالَةٍ سَنِخَةٍ، ولَقَد رَهَنَ النَّبِيُّ ﷺ دِرعًا لَه بِالمَدِينَةِ عِنْدَ يَهوُدِيٍّ، وأَخَذَ مِنهُ شَعِيرًا لِأَهلِهِ، ولَقَد سَمِعتُهُ يَقُولُ: «ما أمسى عِنْدَ آلِ مُحمَّدٍ صاعُ بُرٍّ ولا صاعُ حَبٍّ». وإنَّ عِندَه لَتِسعَ نِسوَةٍ.
٢٧٦٦. (خ) (٥٤١٤) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ؛ أنَّهُ مَرَّ بِقَومٍ بَينَ أيدِيهِم شاةٌ مَصلِيَّةٌ، فَدَعَوهُ، فَأَبى أن يَأكُلَ، وقالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِنَ الدُّنيا ولَم يَشبَع مِن خُبزِ الشَّعِيرِ.
٢٧٦٧. (خ) (٥٣٨٥) عَنْ قَتادَةَ قالَ: كُنّا عِنْدَ أنَسٍ ﵁ وعِندَه خَبّازٌ لَهُ، فَقالَ: ما أكَلَ النَّبِيُّ ﷺ خُبزًا مُرَقَّقًا، ولا شاةً مَسمُوطَةً حَتّى لَقِيَ اللهَ.
٢٧٦٨. (خ) (٥٣٨٦) عَنْ أنَسٍ ﵁ قالَ: ما عَلِمتُ النَّبِيَّ ﷺ أكَلَ عَلى سُكرُجَةٍ قَطُّ، ولا خُبِزَ لَهُ مُرَقَّقٌ قَطُّ، ولا أكَلَ عَلى خِوانٍ قَطُّ. قِيلَ لِقَتادَةَ: فَعَلامَ كانُوا يَأكُلُونَ قالَ: عَلى السُّفَرِ.
٢٧٦٩. (خ) (٥٤١٠) عَنْ أبِي حازِمٍ؛ أنَّهُ سَأَلَ سَهلًا: هَل رَأَيتُم فِي زَمانِ النَّبِيِّ ﷺ النَّقِيَّ؟ قالَ: لا. فَقلت: فَهَل كُنتُم تَنخُلُونَ الشَّعِيرَ؟ قالَ: لا، ولَكِن كُنّا نَنفُخُهُ. وفي رواية: عَن أبِي حازِمٍ قال: سَأَلتُ سَهلَ بنَ سَعْدٍ فَقلت: هَلْ أكَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ النَّقِيَّ؟ فَقال سَهلٌ: ما رَأى رَسُولُ اللهِ ﷺ النَّقِيَّ مِن حِينَ ابتَعَثَهُ اللهُ حَتّى قَبَضَهُ اللهُ. قال: فَقلت: هَل كانَت لَكُم فِي عَهدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ مَناخِلُ؟ قال: ما رَأى رَسُولُ اللهِ ﷺ مُنخُلًا مِن حِينَ ابتَعَثَهُ اللهُ حَتّى قَبَضَهُ اللهُ. قال: قلت: كَيفَ كُنتُم تَأكُلُونَ الشَّعِيرَ غَيرَ مَنخُولٍ؟ قال: كُنّا نَطحَنُهُ ونَنفُخُهُ فَيَطِيرُ ما طارَ، وما بَقِيَ ثَرَّيناهُ فَأَكَلناهُ.
٢٧٧٠. (خ) (٥٣٧٥) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ: أصابَنِي جَهدٌ شَدِيدٌ فَلَقِيتُ عُمَرَ بنَ الخَطّابِ، فاستَقرَأتُهُ آيَةً مِن كِتابِ اللهِ، فَدَخَلَ دارَهُ وفَتَحَها عَلَيَّ، فَمَشَيتُ غَيرَ بَعِيدٍ فَخَرَرتُ لِوَجهِي مِن الجَهدِ والجُوعِ، فَإذا رَسُولُ اللهِ ﷺ قائِمٌ عَلى رَأسِي، فَقالَ: «يا أبا هُرَيْرَةَ». فَقلت: لَبَّيكَ رَسُولَ اللهِ وسَعدَيكَ، فَأَخَذَ بِيَدِي فَأَقامَنِي، وعَرَفَ الَّذِي بِي، فانطَلَقَ بِي إلى رَحلِهِ، فَأَمَرَ لِي بِعُسٍّ مِن لَبَنٍ فَشَرِبتُ مِنهُ، ثُمَّ قالَ: «عُد يا أبا هِرٍّ». فَعُدتُ فَشَرِبتُ، ثُمَّ قالَ: «عُد». فَعُدتُ فَشَرِبتُ حَتّى استَوى بَطنِي فَصارَ كالقِدحِ، قالَ: فَلَقِيتُ عُمَرَ، وذَكَرتُ لَهُ الَّذِي كانَ مِن أمرِي، وقلت لَهُ: تَوَلّى ذَلكَ مَن كانَ أحَقَّ بِهِ مِنكَ يا عُمَرُ، واللهِ لَقَد استَقرَأتُكَ الآيَةَ ولأنا أقرَأُ لَها مِنكَ. قالَ عُمَرُ: واللهِ لأن أكُونَ أدخَلتُكَ أحَبُّ إلَيَّ مِن أن يَكُونَ لِي مِثلُ حُمرِ النَّعَمِ.
٢٧٧١. (خ) (٧٣٢٤) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قالَ: كُنّا عِنْدَ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁، وعَلَيهِ ثَوبانِ مُمَشَّقانِ مِن كَتّانٍ، فَتَمَخَّطَ فَقالَ: بَخ بَخ، أبُو هُرَيْرَةَ يَتَمَخَّطُ فِي الكَتّانِ، لَقَد رَأَيتُنِي وإنِّي لأَخِرُّ فِيما بَينَ مِنبَرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ إلى حُجرَةِ عائِشَةَ مَغشِيًّا عَلَيَّ، فَيَجِيءُ الجائِي فَيَضَع رِجلَهُ عَلى عُنُقِي، ويُرى أنِّي مَجنُونٌ، وما بِي مِن جُنُونٍ، ما بِي إلا الجُوعُ.
٢٧٧٢. (خ) (٦٤٥٢) عَنْ مُجاهِدٍ؛ أنَّ أبا هُرَيْرَةَ كانَ يَقُولُ: أللهِ الَّذِي لا إلَهَ إلا هُوَ إن كُنتُ لأَعتَمِدُ بِكَبِدِي عَلى الأَرضِ مِن الجُوعِ، وإن كُنتُ لأشُدُّ الحَجَرَ عَلى بَطنِي مِن الجُوعِ، ولَقَد قَعَدتُ يَومًا عَلى طَرِيقِهِم الَّذِي يَخرُجُونَ مِنهُ، فَمَرَّ أبُو بَكرٍ، فَسَأَلتُهُ عَن آيَةٍ مِن كِتابِ اللهِ ما سَأَلتُهُ إلا لِيُشبِعَنِي، فَمَرَّ ولَم يَفعَل، ثُمَّ مَرَّ بِي عُمَرُ، فَسَأَلتُهُ عَن آيَةٍ مِن كِتابِ اللهِ ما سَأَلتُهُ إلا لِيُشبِعَنِي، فَمَرَّ فَلَم يَفعَل، ثُمَّ مَرَّ بِي أبُو القاسِمِ ﷺ، فَتَبَسَّمَ حِينَ رَآنِي، وعَرَفَ ما فِي نَفسِي وما فِي وجهِي، ثُمَّ قالَ: «أبا هِرٍّ». قلت: لَبَّيكَ يا رَسُولَ اللهِ، قالَ: «الحَق». ومَضى فَتَبِعتُهُ، فَدَخَلَ فاستَأذَنَ فَأَذِنَ لِي، فَدَخَلَ فَوَجَدَ لَبَنًا فِي قَدَحٍ، فَقالَ: «مِن أينَ هَذا اللَّبَنُ؟» قالُوا: أهداهُ لَكَ فُلانٌ أو فُلانَةُ. قالَ: «أبا هِرٍّ». قلت: لَبَّيكَ يا رَسُولَ اللهِ، قالَ: «الحَق إلى أهلِ الصُّفَّةِ، فادعُهُم لِي». قالَ: وأَهلُ الصُّفَّةِ أضيافُ الإسلامِ، لا يَأوُونَ إلى أهلٍ ولا مالٍ ولا عَلى أحَدٍ، إذا أتَتهُ صَدَقَةٌ بَعَثَ بِها إلَيهِم، ولَم يَتَناوَل مِنها شَيئًا، وإذا أتَتهُ هَدِيَّةٌ أرسَلَ إلَيهِم وأَصابَ مِنها وأَشرَكَهُم فِيها، فَساءَنِي ذَلكَ، فَقلت: وما هَذا اللَّبَنُ فِي أهلِ الصُّفَّةِ؟ كُنتُ أحَقُّ أنا أن أُصِيبَ مِن هَذا اللَّبَنِ شَربَةً أتَقَوّى بِها، فَإذا جاءَ أمَرَنِي فَكُنتُ أنا أُعطِيهِم، وما عَسى أن يَبلُغَنِي مِن هَذا اللَّبَنِ، ولَم يَكُن مِن طاعَةِ اللهِ وطاعَةِ رَسُولِهِ ﷺ بُدٌّ، فَأَتَيتُهُم فَدَعَوتُهُم، فَأَقبَلُوا فاستَأذَنُوا فَأَذِنَ لَهُم، وأَخَذُوا مَجالِسَهُم مِن البَيتِ، قالَ: «يا أبا هِرٍّ». قلت: لَبَّيكَ يا رَسُولَ اللهِ، قالَ: «خُذ فَأَعطِهِم». قالَ: فَأَخَذتُ القَدَحَ، فَجَعَلتُ أُعطِيهِ الرَّجُلَ، فَيَشرَبُ حَتّى يَروى، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ القَدَحَ، فَأُعطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشرَبُ حَتّى يَروى، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ القَدَحَ، فَيَشرَبُ حَتّى يَروى، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ القَدَحَ، حَتّى انتَهَيتُ إلى النَّبِيِّ ﷺ وقَد رَوِيَ القَومُ كُلُّهُم، فَأَخَذَ القَدَحَ فَوَضَعَهُ عَلى يَدِهِ، فَنَظَرَ إلَيَّ فَتَبَسَّمَ، فَقالَ: «أبا هِرٍّ». قلت: لَبَّيكَ يا رَسُولَ اللهِ، قالَ: «بَقِيتُ أنا وأَنتَ». قلت: صَدَقتَ يا رَسُولَ اللهِ، قالَ: «اقعُد فاشرَب». فَقَعَدتُ فَشَرِبتُ، فَقالَ: «اشرَب». فَشَرِبتُ، فَما زالَ يَقُولُ: «اشرَب». حَتّى قلت: لا والَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ ما أجِدُ لَهُ مَسلَكًا، قالَ: «فَأَرِنِي». فَأَعطَيتُه القَدَحَ، فَحَمِدَ اللهَ وسَمّى، وشَرِبَ الفَضلَةَ.
-في قوله (تعزرني على الدين) فيه فضيلة التوبيخ على التقصير في الدين.
-فيه أن اختيار رسول الله ﷺ وخيار السلف من الصحابة والتابعين شظف العيش، والصبر على مرارة الفقر والفاقة ومقاساة خشونة خشن الملابس والمطاعم على خفض ذلك ودعته، وحلاوة الغنى ونعيمه ما أبان عن فضل الزهد في الدنيا وأخذ القوت والبلغة خاصة. (الطبري)
-فيه أنه كان نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام يطوي الأيام، ويعصب على بطنه الحجر من الجوع، إيثارًا منه شظف العيش والصبر عليه مع علمه بأنه لو سأل ربه أن يسير له جبال تهامة ذهبًا وفضة لفعل، وعلى هذِه الطريقة جرى الصالحون. (ابن الملقن).
-وفيه أنَّ كتمان الحاجة خير من إظهارها، وأشبه بإخلاص الصالحين والصابرين، وإن كان جائزًا له الإخبار بباطن أمره وحاجته لمن يرجوه لكشف فاقته. (ابن الملقن)
-فيه من الفقه جواز أن يذكر الرجل بعض عمله الصالح إذا غمطه الجاهل، توقيًا بذلك من سوء القالة لا تزكية للنفس. (ابن الملقن)
-فيه أيضًا دليل على جواز أكل ورق الشجر عند اشتداد الجوع. (ابن الملقن)
-فيه أنه لا يخفى ما اشتمل عليه هذا الخبر من مزيد إعراضه عن الدنيا بالمرة وعدم النظر إليها؛ لأنه إذا كان هذا حالها وهي أحب أمهات المؤمنين إليه وقد دانت له الأرض شرقاً وغرباً وجيء بثمراتها فضة وذهباً ولم يوجد عندها إلا ما ذكر ففيه أعظم دليل على مزيد إعراضه عنها. (ابن علان)
-فيه أيضًا ما يدل على أن رسول الله ﷺ لم يمتنع من ذلك إلا إعوازًا ولم يكن يقصد التجوع. (ابن الملقن).
-وفيه ما كان عليه السلف من التخشن في مأكلهم، وترك الرقيق لها والتباين فيها، وكانوا في سعة من تنخيله؛ لأن ذَلِكَ مباح لهم، فآثروا التخشن وتركوا التنعم؛ ليقتديَ بهم من يأتِي بعدهم، فخالفناهم في ذَلِكَ وآثرنا الترقيق في المأكل، ولم نرض مما رضوا به من ذَلِكَ، ولا قوة إلا به. (ابن الملقن).
-فيه الأمر بالمواساة وإطعام الجائع وذلك من فروض الكفاية. (ابن بطال).
-وفيه إعطاء السائل إن صادف شيئًا موضوعًا كان حقًا على المسؤول أن يقبله منه، وإن لم يجد شيئًا حاضرًا وعلم المسؤول أن ليس له شيء يقيمه وجب عليه أن يغنيه وإن لم يعلم حاله فليقل له قولا سديدًا. (ابن بطال)
-وفيه ستر الرجل حيلة أخيه المؤمن إذا علم منه حاجة من غير أن يسأله ذلك. (العيني).
- وفيه أنه كان من عادتهم إذا استقرأ أحدهم صاحب القرآن، يحمله إلى بيته ويطعمه ما تيسر عنده. (العيني).
-فيه أن كتمان الحاجة أحرى بإظهارها وأشبه بأخلاق الصابرين، وإن كان جائزًا له الإخبار بباطن أمره وحاجته لمن يرجوه لكشف فاقته. (ابن بطال).
-في الحديث علم عظيم من أعلام النبوة، وذلك أن النبي ﷺ عرف ما في نفس أبي هريرة، ولم يعلم ذلك أبو بكر ولا عمر. (ابن بطال)
- وفيه شرب العدد الكثير من اللبن القليل حتى شبعوا ببركة النبوة. (ابن بطال)
-فيه لطافة النبي ﷺ ورحمته وشفقته وحسن تعامله لصحابته.

باب: أكْثَرُ أهْلِ الجَنَّةِ الفُقَراءُ والـمَساكِينُ


٢٧٧٣. (خ م) (٢٧٣٦) عَنْ أُسامَةَ بْنِ زَيْدٍ ﵄ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «قُمتُ عَلى بابِ الجَنَّةِ، فَإذا عامَّةُ مَن دَخَلَها المَساكِينُ، وإذا أصحابُ الجَدِّ مَحبُوسُونَ، إلا أصحابَ النّارِ فَقَد أُمِرَ بِهِم إلى النّارِ، وقُمتُ عَلى بابِ النّارِ، فَإذا عامَّةُ مَن دَخَلَها النِّساءُ».
ورَوى (م) عَنْ أبِي التَّيّاحِ قالَ: كانَ لِمُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللهِ امرَأَتانِ، فَجاءَ مِن عِندِ إحداهُما، فَقالَت الأُخرى: جِئتَ مِن عِندِ فُلانةَ؟ فَقالَ: جِئتُ مِن عِندِ عِمرانَ بْنِ حُصَينٍ، فَحَدَّثَنا أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ: «إنَّ أقَلَّ ساكِنِي الجنَّةِ النِّساءُ».
ورَوى (م) عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ؛ قالَ مُحَمَّدٌ ﷺ: «اطَّلَعتُ فِي الجنَّةِ فَرَأَيتُ أكثَرَ أهلِها الفُقَراءَ، واطَّلَعتُ فِي النّارِ فَرَأَيتُ أكثَرَ أهلِها النِّساءُ». رَوى (خ) مِثلَهُ عَن عِمرانَ بْنِ حُصَينٍ، ورَواهُ عَن ابْنِ عَبّاسٍ مُعَلَّقًا.
٢٧٧٤. (م) (٢٩٧٩) عَنْ أبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الحُبُلِيِّ قالَ: سَمِعتُ عَبدَ اللهِ بنَ عَمْرِو بْنِ العاصِ ﵄ وسَأَلَهُ رَجُلٌ فَقالَ: ألَسنا مِن فُقَراءِ المُهاجِرِينَ؟ فَقالَ لَهُ عَبدُ اللهِ: ألَكَ امرَأَةٌ تَأوِي إلَيها؟ قالَ: نَعَم. قالَ: ألَكَ مَسكَنٌ تَسكُنُهُ؟ قالَ: نَعَم. قالَ: فَأَنتَ مِنَ الأَغنِياءِ. قالَ: فَإنَّ لِي خادِمًا. قالَ: فَأَنتَ مِنَ المُلُوكِ. قالَ أبُو عَبدِ الرَّحْمَنِ: وجاءَ ثَلاثَةُ نَفَرٍ إلى عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاصِ وأَنا عِندَهُ فَقالُوا: يا أبا مُحَمَّدٍ؛ إنّا واللهِ ما نَقدِرُ عَلى شَيءٍ؛ لا نَفَقَةٍ ولا دابَّةٍ ولا مَتاعٍ. فَقالَ لَهُم: ما شِئتُم، إن شِئتُم رَجَعتُم إلَينا فَأَعطَيناكُم ما يَسَّرَ اللهُ لَكُم، وإن شِئتُم ذَكَرنا أمرَكُم لِلسُّلطانِ، وإن شِئتُم صَبَرتُم، فَإنِّي سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «إنَّ فُقَراءَ المُهاجِرِينَ يَسبِقُونَ الأَغنِياءَ يَومَ القِيامَةِ إلى الجَنَّةِ بِأَربَعِينَ خَرِيفًا». قالُوا: فَإنّا نَصبِرُ لا نَسأَلُ شَيئًا.
-في قوله (قمت على باب الجنة) أي سأقوم يوم القيامة، وعبر بالماضي لتحققه، ويحتمل أن هذا وقع ليلة الإسراء.
-فيه مسألة قلة عدد النساء في الجنة، وأن هذا قبل خروجهن من النار واستقرارهن في الجنة، أما بعد ذلك فهن أكثر أهل الجنة. (القرطبي)
-فيه أن الضعفاء المستضعفين في الدنيا الصابرين على الضراء والشاكرين على السراء، هم أول من يدخل الجنة.
-فيه أنه إنما صار أصحاب الجد محبوسون؛ لمنعهم حقوق الله الواجبة للفقراء في أموالهم فحبسوا للحساب لما منعوه. (ابن علان)
-فيه أن الذين يؤدون حقوق الله في المال ويسلمون من فتنة هم الأقلون. (ابن علان)
-فيه أنه يحتمل أن هؤلاء السابقين إلى الجنة ينعمون في أفنيتها وظلالها، ويتلذذون بما هم فيه إلى أن يدخل محمد ﷺ الجنة بعد تمام شفاعته، ثم يدخلونها معه على قدر منازلهم وسبقهم والله أعلم. (القاضي عياض).
-فيه أن فقراء المسلمين المهاجرين، يسبقون الأغنياء منهم بأربعين خريفاً (الصنعاني)

باب: فَضْلُ الضُّعَفاءِ مِنَ الـمُسْلِمِينَ


٢٧٧٥. (م) (٢٦٢٢) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁؛ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ: «رُبَّ أشعَثَ مَدفُوعٍ بِالأَبوابِ لَو أقسَمَ عَلى اللهِ لأَبَرَّهُ».
٢٧٧٦. (خ) (٢٨٩٦) عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ قالَ: رَأى سَعدٌ ﵁ أنَّ لَهُ فَضلًا عَلى مَن دُونَهُ فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «هَل تُنصَرُونَ وتُرزَقُونَ إلا بِضُعَفائِكُم».
-في قوله (لو أقسم على الله لأبره): أي لو حلف على وقوع شيء أوقعه الله إكراما له بإجابة سؤاله، وصيانته من الحنث في يمينه، وهذا لعظم منزلته عند الله تعالى وإن كان حقيرا عند الناس. (النووي)
-وفيه أن معنى القسم هنا، الدعاء وإبراره إجابته والله اعلم. (النووي)
-فيه فضله ومنزلته عند الله أنه يجيب رغبته ودعاءه، ولا يخيب أمله وبره لرجائه وعزيمته في رغبته لربه. (القاضي عياض)
-فيه قوله (لو أقسم على الله) دلالة على قوة العزيمة في الرغبة والدعاء، أو يكون عن وجهه فيما أقسم عليه من الأمور؛ أن الله قد أجرى قدره وتقدم في سابق علمه، أنه ممن لا يخالف مجارى القدر قسمه، ويبر خلقه، ويمضى عزيمته. (القاضي عياض)
-فيه أن الأولياء هم الأخفياء الذين لا يعرفون. (ابن هبيرة)
-فيه أنه شبه إجابة المنشد المقسم على غيره بوفاء الحالف على يمينه، وبره فيها.
-فيه أنه ليس النصر وإدرار الرزق إلا ببركتهم، فأبرزه في صورة الاستفهام؛ لمزيد التقرير وذلك لأنهم أعظم إخلاصا في الدعاء وأكثر خضوعا. (المناوي).
-فيه أن عبادة الضعفاء أشد إخلاصا؛ لخلو قلوبهم عن التعلق بالدنيا، وذلك من أعظم أسباب الرزق والنصر. (المناوي).

باب: خَشْيَةُ بَسْطِ الدُّنْيا والتَّنافُسُ فِيها


٢٧٧٧. (خ م) (٢٩٦١) عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ ﵁؛ وهُوَ حَلِيفُ بَنِي عامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وكانَ شَهِدَ بَدرًا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ بَعَثَ أبا عُبَيدَةَ بنَ الجَرّاحِ إلى البَحرَينِ يَأتِي بِجِزيَتِها، وكانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ هُوَ صالَحَ أهلَ البَحرَينِ، وأَمَّرَ عَلَيهِم العَلاءَ بنَ الحَضرَمِيِّ، فَقَدِمَ أبُو عُبَيدَةَ بِمالٍ مِن البَحرَينِ، فَسَمِعَت الأَنصارُ بِقُدُومِ أبِي عُبَيدَةَ، فَوافَوا صَلاةَ الفَجرِ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَلَمّا صَلّى رَسُولُ اللهِ ﷺ انصَرَفَ، فَتَعَرَّضُوا لَهُ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ حِينَ رَآهُم، ثُمَّ قالَ: «أظُنُّكُم سَمِعتُم أنَّ أبا عُبَيدَةَ قَدِمَ بِشَيءٍ مِن البَحرَينِ». فَقالُوا: أجَل يا رَسُولَ اللهِ. قالَ: «فَأَبشِرُوا، وأَمِّلُوا ما يَسُرُّكُم، فَواللهِ ما الفَقرَ أخشى عَلَيكُم، ولَكِنِّي أخشى عَلَيكُم أن تُبسَطَ الدُّنيا عَلَيكُم كَما بُسِطَت عَلى مَن كانَ قَبلَكُم، فَتَنافَسُوها كَما تَنافَسُوها، وتُهلِكَكُم كَما أهلَكَتهُم». وفي رواية: «وتُلهِيَكُم كَما ألهَتهُم».
٢٧٧٨. (م) (٢٩٦٢) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاصِ ﵄؛ عَن رَسُولِ اللهِ ﷺ قالَ: «إذا فُتِحَت عَلَيكُم فارِسُ والرُّومُ؛ أيُّ قَومٍ أنتُم؟» قالَ عَبدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوفٍ: نَقُولُ كَما أمَرَنا اللهُ. قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أوَ غَيرَ ذَلكَ؟ تَتَنافَسُونَ، ثُمَّ تَتَحاسَدُونَ، ثُمَّ تَتَدابَرُونَ، ثُمَّ تَتَباغَضُونَ أو نَحوَ ذَلكَ، ثُمَّ تَنطَلِقُونَ فِي مَساكِينِ المُهاجِرِينَ فَتَجعَلُونَ بَعضَهُم عَلى رِقابِ بَعضٍ».
-فيه أن الفقر والغنى محنتان من الله تعالى وبليتان يبلو بهما أخيار عباده؛ ليظهر صبر الصابرين وشكر الشاكرين.
-فيه أن النبي ﷺ كان يستعيذ من الفقر، ويحذر من فتنة الغنى والمال. - فهم النبي ﷺ لمشاعر المؤمنين الضعفاء الذين تعرضوا له، وحسن تبسمه لهم ومنطقه.
-وقع ما كان يقول به ﷺ من التحاسد والتقاتل وما هو مَعروف مما يشهد بمصداق خبره ﷺ.
-بالنظر إلى الواقع لما كان الناس إلى الفقر أقرب، كانوا لله أتقى، وأخشع ولما كثر المال كثر الإعراض عن سبيل الله، وحصل الطغيان، وصار الإنسان الآن يتشوف لزهرة الدنيا وزينتها. (ابن عثيمين)
-فيه الفرق بين الذي ينهمك في الدنيا ويعرض عن الآخرة، وبين الذي يغنيه الله ويكون غناه سببا لسعادته والإنفاق في سبيل الله. (ابن عثيمين)
-فيه أنه أراد أن مساكين المهاجرين وضعفتهم ستفتح عليهم آنذاك من الدنيا حتى يكونوا أمراء. (القاضي عياض).

باب: فِـي الابْتِلاءِ بِالدُّنْيا وكَيْفَ يَعْمَلُ فِيها


٢٧٧٩. (خ م) (٢٩٦٤) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁؛ أنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «إنَّ ثَلاثَةً فِي بَنِي إسرائِيلَ؛ أبرَصَ وأَقرَعَ وأَعمى، فَأَرادَ اللهُ أن يَبتَلِيَهُم، فَبَعَثَ إلَيهِم مَلَكًا، فَأَتى الأَبرَصَ فَقالَ: أيُّ شَيءٍ أحَبُّ إلَيكَ؟ قالَ: لَونٌ حَسَنٌ، وجِلدٌ حَسَنٌ، ويَذهَبُ عَنِّي الَّذِي قَد قَذِرَنِي النّاسُ. قالَ: فَمَسَحَهُ، فَذَهَبَ عَنهُ قَذَرُهُ، وأُعطِيَ لَونًا حَسَنًا، وجِلدًا حَسَنًا، قالَ: فَأَيُّ المالِ أحَبُّ إلَيكَ؟ قالَ: الإبِلُ، قالَ: فَأُعطِيَ ناقَةً عُشَراءَ، فَقالَ: بارَكَ اللهُ لَكَ فِيها، قالَ: فَأَتى الأَقرَعَ فَقالَ: أيُّ شَيءٍ أحَبُّ إلَيكَ؟ قالَ: شَعَرٌ حَسَنٌ، ويَذهَبُ عَنِّي هَذا الَّذِي قَد قَذِرَنِي النّاسُ، قالَ: فَمَسَحَهُ، فَذَهَبَ عَنهُ، وأُعطِيَ شَعَرًا حَسَنًا، قالَ: فَأَيُّ المالِ أحَبُّ إلَيكَ؟ قالَ: البَقَرُ. فَأُعطِيَ بَقَرَةً حامِلًا، فَقالَ: بارَكَ اللهُ لَكَ فِيها، قالَ: فَأَتى الأَعمى فَقالَ: أيُّ شَيءٍ أحَبُّ إلَيكَ؟ قالَ: أن يَرُدَّ اللهُ إلَيَّ بَصَرِي، فَأُبصِرَ بِهِ النّاسَ. قالَ: فَمَسَحَهُ، فَرَدَّ اللهُ إلَيهِ بَصَرَهُ، قالَ: فَأَيُّ المالِ أحَبُّ إلَيكَ؟ قالَ: الغَنَمُ. فَأُعطِيَ شاةً والِدًا، فَأُنتِجَ هَذانِ ⟨ووَلَّدَ هَذا⟩{غريب=أي صاحب الشاة.
}، قالَ: فَكانَ لِهَذا وادٍ مِن الإبِلِ، ولِهَذا وادٍ مِن البَقَرِ، ولِهَذا وادٍ مِن الغَنَمِ، قالَ: ثُمَّ إنَّهُ أتى الأَبرَصَ فِي صُورَتِهِ وهَيئَتِهِ، فَقالَ: رَجُلٌ مِسكِينٌ، قَد انقَطَعَت بِيَ الحِبالُ فِي سَفَرِي، فَلا بَلاغَ لِي اليَومَ إلا باللهِ، ثُمَّ بِكَ، أسأَلُكَ بِالَّذِي أعطاكَ اللَّونَ الحَسَنَ والجِلدَ الحَسَنَ والمالَ؛ بَعِيرًا أتَبَلَّغُ عَلَيهِ فِي سَفَرِي. فَقالَ: الحُقُوقُ كَثِيرَةٌ. فَقالَ لَهُ: كَأَنِّي أعرِفُكَ؛ ألَم تَكُن أبرَصَ يَقذَرُكَ النّاسُ؟ فَقِيرًا فَأَعطاكَ اللهُ؟ فَقالَ: إنَّما ورِثتُ هَذا المالَ كابِرًا عَن كابِرٍ. فَقالَ: إن كُنتَ كاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللهُ إلى ما كُنتَ. قالَ: وأَتى الأَقرَعَ فِي صُورَتِهِ، فَقالَ لَهُ مِثلَ ما قالَ لِهَذا، ورَدَّ عَلَيهِ مِثلَ ما رَدَّ عَلى هَذا، فَقالَ: إن كُنتَ كاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللهُ إلى ما كُنتَ. قالَ: وأَتى الأَعمى فِي صُورَتِهِ وهَيئَتِهِ، فَقالَ: رَجُلٌ مِسكِينٌ، وابنُ سَبِيلٍ انقَطَعَت بِيَ الحِبالُ فِي سَفَرِي، فَلا بَلاغَ لِي اليَومَ إلا باللهِ، ثُمَّ بِكَ، أسأَلُكَ بِالَّذِي رَدَّ عَلَيكَ بَصَرَكَ شاةً أتَبَلَّغُ بِها فِي سَفَرِي. فَقالَ: قَد كُنتُ أعمى، فَرَدَّ اللهُ إلَيَّ بَصَرِي، فَخُذ ما شِئتَ، ودَع ما شِئتَ، فَوَ اللهِ لا أجهَدُكَ اليَومَ شَيئًا أخَذتَهُ للهِ. فَقالَ: أمسِك مالَكَ، فَإنَّما ابتُلِيتُم، فَقَد رُضِيَ عَنكَ وسُخِطَ عَلى صاحِبَيكَ»
.
-فهي من الفقه أن الله تعالى جعل هؤلاء الثلاثة آية من آياته؛ ليذكر بكل منهم أصحاب البلاء من جنسه، وليخوف الناسي فضل الله سبحانه، والجاحد نعتمه؛ وليعلم أن البلاء في الغالب يكون بعرضة أن يزول إلى خير، وأن النعمة في الغالب تكون بعرضة أن تزول إلى هلاك إلا القليل؛ لأن هؤلاء إنما نجا منهم واحد وهلك اثنان في حالة الغنى، فالنعمة منسية مطغية حتى تعود بالمنعم عليه كما ليس الذي كان. (ابن هبيرة)
-وفيه أن الصبر على البلاء قد يكون خيرًا للمبتلى من زوال البلاء؛ فإن من اختاروا السلامة فما جرى لهما في الصحة أن المرض كان لهما أصلح؛ لأن السلامة كانت سبب هلكتهما، فاستدل من هذا الحديث أن كل من طلب من الله تعالى إزالة ضرر، فلم يجد سرعة الإجابة، فلا ينبغي أن يتهم الله في أقداره، وليعلم أن الله قد نظر له وإليه، وذلك الأعمى فقد رد الله بصره وأقر بصيرته على ما كانت عليه. (ابن هبيرة)
-فيه تذكير الإنسان بحالته السيئة التي كان عليها إذا كان ذلك لنصحه ودعوته لشكر الله تعالى.
-فيه الحث على الصدقة، والرفق بالضعفاء، ومد يد المعونة لهم.
-فيه أنه على الإنسان أن يذكر إذا صار في نعمة ما كان عليه سابقا من فقر أو مرض أو عاهة؛ لأن ذلك يدفعه لمزيد من الشكر والامتنان.
-فيه الزجر عن البخل، والتحذير من عواقبه السيئة.
-وفيه القصص وما فيها من المواعظ والعبر.
-أن الصبر على البلاء قد يكون خيرا لمبتلى من زواله.

باب: الـمَصائِبُ تُكَفِّرُ الخَطايا


٢٧٨٠. (خ م) (٢٥٧٢) عَنْ عائِشَةَ ﵂؛ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ: «ما مِن مُصِيبَةٍ يُصابُ بِها المُسلِمُ إلاَّ كُفِّرَ بِها عَنهُ؛ حَتّى الشَّوكَةِ يُشاكُها».
ورَوى (م) عَنِ الأَسوَدِ بْنِ يَزِيدَ قالَ: دَخَلَ شَبابٌ مِن قُرَيشٍ على عائشةَ وهِي بِمِنًى، وهم يَضحَكُونَ، فقالت: ما يُضحِكُكُم؟ قالوا: فَلانٌ خَرَّ على طُنُبِ فُسطاطٍ فَكادَت عُنُقُهُ أو عينُهُ أن تَذهَبَ. فقالت: لا تَضحَكُوا، فَإني سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ: «ما مِن مُسلِمٍ يُشاكُ شَوكَةً فَما فَوقَها إلا كُتِبَت لَهُ بِها دَرَجَةٌ، ومُحِيَت عَنهُ بِها خَطِيئةٌ».
٢٧٨١. (خ م) (٢٥٧٣) عَنْ أبِي سَعِيدٍ وأَبِي هُرَيْرَةَ ﵄؛ أنَّهُما سَمِعا رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «ما يُصِيبُ المُؤمِنَ مِن وصَبٍ، ولا نَصَبٍ، (ولا سَقَمٍ)، ولا حَزَنٍ، حَتّى الهَمِّ يُهَمُّهُ إلا كُفِّرَ بِهِ مِن سَيِّئاتِهِ». لَفظُ (خ): «ولا هَمٍّ، ولا حَزَنٍ ولا أذىً ولا غَمٍّ، حَتّى الشَّوكَةِ يُشاكُها ...».
٢٧٨٢. (م) (٢٥٧٤) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁ قالَ: لَمّا نَزَلَت: ﴿مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ [النساء: ١٢٣]، بَلَغَت مِنَ المُسلِمِينَ مَبلَغًا شَدِيدًا؛ فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «قارِبُوا وسَدِّدُوا، فِفِي كُلِّ ما يُصابُ بِهِ المُسلِمُ كَفّارةٌ، حَتّى النَّكبَةِ يُنكَبُها، أو الشّوكَةِ يُشاكُها».
٢٧٨٣. (م) (٢٥٧٥) عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ﵄؛ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ دَخَلَ عَلى أُمِّ السّائِبِ أو أُمِّ المُسَيَّبِ فَقالَ: «ما لَكِ يا أُمَّ السّائِبِ أو يا أُمَّ المُسَيَّبِ تُزَفزِفِينَ». قالَتِ: الحُمّى، لا بارَكَ اللهُ فِيها. فَقالَ: «لا تَسُبِّي الحُمّى، فَإنَّها تُذهِبُ خَطايا بَنِي آدَمَ كَما يُذهِبُ الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ».
-فيه تسلية المؤمن فيما يصيبه من مصائب الدنيا ومن الأمراض، فكل ما يصيب المؤمن خير له.
- فيه أن تنكير كلمة (مصيبة) يتفيد العموم والشمول، أي: أيّ مصيبة كبيرة كانت أو صغيرة.
-فيه أنه ما من مصيبة تصيب العبد المؤمن إلا ويرفع الله بها درجته، ويحط عنه خطاياه، ويطهره بها من ذنوبه ومعاصيه، حتى لو كانت المصيبة شوكة تصيب العبد.
-فيه أن الله يخص أنبياءه وأولياءه بذلك، بحسب ما خصهم به من قوة العزم والصبر والاحتساب ليتم لهم الخير، ويعظم لهم به الأجر، ويستخرج منهم حالات الصبر والرضى والشكر والتسليم، والتوكل والتفويض، والتضرع والدعاء، إعظاماً لأجرهم وتوفية لثوابهم وتأكيداً لتصابرهم في رحمة الممتحنين، والشفقة على المبتلين، ويذكره به عن دونهم، وموعظة لمن ليس في درجتهم ليتأسوا بهم ويقتدوا برضاهم وصبرهم، ومحواً السيئات التي سلفت منهم. (القاضي عياض)
-في قوله (لا تضحكوا) أنه عمل غير مستحسن ولا مباح، إلا أن يكون من غلبة مما طبع عليه البشر، وأما قصداً ففيه شماتة بالمسلم وسخرية بمصابه، والمؤمنون إنما وصفهم الله بالرحمة والتراحم بينهم، ومن خلقهم الشفقة بعضهم لبعض. (القاضي عياض)
-في هذا الحديث من الفقه إعلام النبي ﷺ أمته أنّ نصبها ووصبها وسقمها وحزنها وهمها يكفر الله به من خطاياها؛ وذلك لأنه لما كانت الدنيا عند الله ليست رضى منه لعباده المؤمنين مقرًا له دائمًا، وكانت حكمته أن يخرجهم عن هذا المقر الأدنى إلى مقر أعلى؛ فأحل بهم سبحانه من المزعجات ما ينفرهم عنه ويزعجهم منه، وكان من لطفه بهم أن لا يعرض لهم الألم إلا بثواب وثمنه هو تكفير السيئات عنهم، فجمع لهم بين تكفير الخطايا والإزعاج عن هذا المقر الأدنى والارتياح للخروج منه إلى دار المقامة. (ابن هبيرة)
-وفيه بيان أن كل شيء من أفعال الله فإنه لا يجوز للإنسان أن يسبه؛ لأن سبه سبا لخالقه جل وعلا، ولهذا قال النبي ﷺ "لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر". (ابن عثيمين)
-فيه أنه إنما فعلت الحمى في الخطايا هذا؛ لأن الالتذاذ بالمعاصي يكون بالقلب والجوارح، والحمى حرارة تنشأ من القلب وتعم الجوارح فلا يبقى في البدن الذي التذ شيء إلا تألم، فلذلك تصفيه من الخطايا. (ابن الجوزي)

باب: مَنِ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ


٢٧٨٤. (خ) (٥٦٥٣) عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ ﵁ قالَ: سَمِعتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «إنَّ اللهَ قالَ: إذا ابتَلَيتُ عَبدِي بِحَبِيبَتَيهِ فَصَبَرَ عَوَّضتُهُ مِنهُما الجَنَّةَ». يُرِيدُ عَينَيهِ.
[[- فيه أنه ما من إنسان يقبض الله حبيبتيه، يعني عينيه فيعمى ثم يصبر، إلا عوضه الله بهما الجنة؛ لأن العين محبوبة للإنسان فإذا أخذهما الله سبحانه وتعالى وصبر الإنسان واحتسب فإن الله يعوضه بهما الجنة. (ابن عثيمين)
- فيه أن الله سبحانه إذا قبض من الإنسان حاسة من حواسه، فإن الغالب أن الله يعوضه في الحواس ما يخفف عليه ألم فقد هذه الحاسة التي فقدها. (ابن عثيمين)
- في الحديث أيضًا حجة في أن الصبر على البلاء ثوابه الجنة، وأن نعمة البصر على العبد من أجل نعم الله تعالى فيعوضه عليها الجنة؛ لنفاذ مدة الالتذاذ بالبصر في الدنيا وبقاء مدة الالتذاذ به في الجنة. (ابن بطال)
]]
٢٧٨٥. (خ) (٥٦٤٥) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁ يَقُولُ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَن يُرِد اللهُ بِهِ خَيرًا يُصِب مِنهُ».

باب: الـمُؤْمِنُ أمْرُهُ كُلُّهُ لَهُ خَيْرٌ


٢٧٨٦. (م) (٢٩٩٩) عَنْ صُهَيْبٍ ﵁ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «عَجَبًا لأَمرِ المُؤمِنِ إنَّ أمرَهُ كُلَّهُ خَيرٌ، ولَيسَ ذَلكَ لأَحَدٍ إلاَّ لِلمُؤمِنِ، إن أصابَتهُ سَرّاءُ شَكَرَ فَكانَ خَيرًا لَهُ، وإن أصابَتهُ ضَرّاءُ صَبَرَ فَكانَ خَيرًا لَهُ».
-فيه أن الواجب على العبد أن يكون ربانياً في علمه، وفي طاعته، وفي معرفته، وفي دعوته.
-حال المؤمن الموصوفة في الحديث إنما كانت بسبب أنه يعلم أن كل شيء بقضاء الله وقدره، وعليه فهو صابر في كل أمره.

باب: الـصَّبْرُ عَلى الحَقِّ والثَّباتُ عَلَيْهِ وحَدِيثُ أصْحابِ الأُخْدُودِ


٢٧٨٧. (خ) (٦٩٤٣) عَنْ خَبّابِ بْنِ الأَرَتِّ ﵁ قالَ: شَكَونا إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ وهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُردَةً لَهُ فِي ظِلِّ الكَعبَةِ، فَقُلنا: ألا تَستَنصِرُ لَنا؟ ألا تَدعُو لَنا؟ فَقالَ: «قَد كانَ مَن قَبلَكُم؛ يُؤخَذُ الرَّجُلُ فَيُحفَرُ لَهُ فِي الأَرضِ، فَيُجعَلُ فِيها، فَيُجاءُ بِالمِنشارِ فَيُوضَعُ عَلى رَأسِهِ، فَيُجعَلُ نِصفَينِ، ويُمشَطُ بِأَمشاطِ الحَدِيدِ ما دُونَ لَحمِهِ وعَظمِه، فَما يَصُدُّهُ ذَلكَ عَن دِينِهِ، واللهِ لَيَتِمَّنَّ هَذا الأَمرُ حَتّى يَسِيرَ الرّاكِبُ مِن صَنعاءَ إلى حَضرَمَوتَ، لا يَخافُ إلا اللهَ والذِّئبَ عَلى غَنَمِهِ، ولَكِنَّكُم تَستَعجِلُونَ». وفي رواية: فَقَعَدَ وهُو مُحمَرٌّ وجهُهُ..
٢٧٨٨. (م) (٣٠٠٥) عَنْ صُهَيْبٍ ﵁؛ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ: «كانَ مَلِكٌ فِيمَن كانَ قَبلَكُم وكانَ لَهُ ساحِرٌ، فَلَمّا كَبِرَ قالَ لِلمَلِكِ: إنِّي قَد كَبِرتُ فابعَث إلَيَّ غُلامًا أُعَلِّمهُ السِّحرَ. فَبَعَثَ إلَيهِ غُلامًا يُعَلِّمُهُ، فَكانَ فِي طَرِيقِهِ إذا سَلَكَ راهِبٌ، فَقَعَدَ إلَيهِ وسَمِعَ كَلامَهُ فَأَعجَبَه، فَكانَ إذا أتى السّاحِرَ مَرَّ بِالرّاهِبِ وقَعَدَ إلَيهِ، فَإذا أتى السّاحِرَ ضَرَبَهُ، فَشَكا ذَلكَ إلى الرّاهِبِ فَقالَ: إذا خَشِيتَ السّاحِرَ فَقُل: حَبَسَنِي أهلِي، وإذا خَشِيتَ أهلَكَ فَقُل: حَبَسَنِي السّاحِرُ. فَبَينَما هُوَ كَذَلكَ إذ أتى عَلى دابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَد حَبَسَتِ النّاسَ فَقالَ: اليَومَ أعلَمُ؛ آلسّاحِرُ أفضَلُ أمِ الرّاهِبُ أفضَلُ؟ فَأَخَذَ حَجَرًا فَقالَ: اللَّهُمَّ إن كانَ أمرُ الرّاهِبِ أحَبَّ إلَيكَ مِن أمرِ السّاحِرِ فاقتُل هَذِهِ الدّابَّةَ حَتّى يَمضِيَ النّاسُ. فَرَماها فَقَتَلَها ومَضى النّاسُ، فَأَتى الرّاهِبَ فَأَخبَرَهُ، فَقالَ لَهُ الرّاهِبُ: أي بُنَيَّ؛ أنتَ اليَومَ أفضَلُ مِنِّي، قَد بَلَغَ مِن أمرِكَ ما أرى، وإنَّكَ سَتُبتَلى، فَإنِ ابتُلِيتَ فَلا تَدُلَّ عَلَيَّ. وكانَ الغُلامُ يُبرِئُ الأَكمَهَ والأَبرَصَ ويُداوِي النّاسَ مِن سائِرَ الأَدواءِ، فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلمَلِكِ كانَ قَد عَمِيَ، فَأَتاهُ بِهَدايا كَثِيرَةٍ، فَقالَ: ما هاهُنا لَكَ أجمَعُ إن أنتَ شَفَيتَنِي. فَقالَ: إنِّي لا أشفِي أحَدًا، إنَّما يَشفِي اللهُ، فَإن أنتَ آمَنتَ بِاللهِ دَعَوتُ اللهَ فَشَفاكَ. فَآمَنَ بِاللهِ فَشَفاهُ اللهُ، فَأَتى المَلِكَ فَجَلَسَ إلَيهِ كَما كانَ يَجلِسُ، فَقالَ لَهُ المَلِكُ: مَن رَدَّ عَلَيكَ بَصَرَكَ؟ قالَ: رَبِّي. قالَ: ولَكَ رَبٌّ غَيرِي؟ قالَ: رَبِّي ورَبُّكَ اللهُ. فَأَخَذَهُ فَلَم يَزَل يُعَذِّبُهُ حَتّى دَلَّ عَلى الغُلامِ، فَجِيءَ بِالغُلامِ فَقالَ لَهُ المَلِكُ: أي بُنَيَّ؛ قَد بَلَغَ مِن سِحرِكَ ما تُبرِئُ الأَكمَهَ والأَبرَصَ وتَفعَلُ وتَفعَلُ. فَقالَ: إنِّي لا أشفِي أحَدًا، إنَّما يَشفِي اللهُ. فَأَخَذَهُ فَلَم يَزَل يُعَذِّبُهُ حَتّى دَلَّ عَلى الرّاهِبِ، فَجِيءَ بِالرّاهِبِ فَقِيلَ لَهُ: ارجِع عَن دِينِكَ. فَأَبى، فَدَعا بِالمِنشارِ فَوَضَعَ المِنشارَ فِي مَفرِقِ رَأسِهِ فَشَقَّهُ حَتّى وقَعَ شِقّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بِجَلِيسِ المَلِكِ فَقِيلَ لَهُ: ارجِع عَن دِينِكَ. فَأَبى، فَوَضَعَ المِنشارَ فِي مَفرِقِ رَأسِهِ فَشَقَّهُ بِهِ حَتّى وقَعَ شِقّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بِالغُلامِ فَقِيلَ لَهُ: ارجِع عَن دِينِكَ. فَأَبى، فَدَفَعَهُ إلى نَفَرٍ مِن أصحابِهِ فَقالَ: اذهَبُوا بِهِ إلى جَبَلِ كَذا وكَذا، فاصعَدُوا بِهِ الجَبَلَ فَإذا بَلَغتُم ذُروَتَهُ فَإن رَجَعَ عَن دِينِهِ وإلا فاطرَحُوهُ. فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الجَبَلَ فَقالَ: اللَّهُمَّ اكفِنِيهِم بِما شِئتَ. فَرَجَفَ بِهِمُ الجَبَلُ فَسَقَطُوا وجاءَ يَمشِي إلى المَلِكِ، فَقالَ لَهُ المَلِكُ: ما فَعَلَ أصحابُكَ؟ قالَ: كَفانِيهِمُ اللهُ. فَدَفَعَهُ إلى نَفَرٍ مِن أصحابِهِ فَقالَ: اذهَبُوا بِهِ فاحمِلُوهُ فِي قُرقُورٍ فَتَوَسَّطُوا بِهِ البَحرَ فَإن رَجَعَ عَن دِينِهِ وإلا فاقذِفُوهُ. فَذَهَبُوا بِهِ فَقالَ: اللَّهُمَّ اكفِنِيهِم بِما شِئتَ. فانكَفَأَت بِهِمُ السَّفِينَةُ فَغَرِقُوا وجاءَ يَمشِي إلى المَلِكِ، فَقالَ لَهُ المَلِكُ: ما فَعَلَ أصحابُكَ؟ قالَ: كَفانِيهِمُ اللهُ، فَقالَ لِلمَلِكِ: إنَّكَ لَستَ بِقاتِلِي حَتّى تَفعَلَ ما آمُرُكَ بِهِ. قالَ: وما هُوَ؟ قالَ: تَجمَعُ النّاسَ فِي صَعِيدٍ واحِدٍ وتَصلُبُنِي عَلى جِذعٍ، ثُمَّ خُذ سَهمًا مِن كِنانَتِي، ثُمَّ ضَعِ السَّهمَ فِي كَبِدِ القَوسِ، ثُمَّ قُل: بِاسمِ اللهِ رَبِّ الغُلامِ، ثُمَّ ارمِنِي، فَإنَّكَ إذا فَعَلتَ ذَلكَ قَتَلتَنِي. فَجَمَعَ النّاسَ فِي صَعِيدٍ واحِدٍ، وصَلَبَهُ عَلى جِذعٍ، ثُمَّ أخَذَ سَهمًا مِن كِنانَتِهِ، ثُمَّ وضَعَ السَّهمَ فِي كَبدِ القَوسِ، ثُمَّ قالَ: بِاسمِ اللهِ رَبِّ الغُلامِ. ثُمَّ رَماهُ، فَوَقَعَ السَّهمُ فِي صُدغِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدغِهِ فِي مَوضِعِ السَّهمِ فَماتَ، فَقالَ النّاسُ: آمَنّا بِرَبِّ الغُلامِ، آمَنّا بِرَبِّ الغُلامِ، آمَنّا بِرَبِّ الغُلامِ. فَأُتِيَ المَلِكُ فَقِيلَ لَهُ: أرَأَيتَ ما كُنتَ تَحذَرُ، قَد واللهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ، قَد آمَنَ النّاسُ. فَأَمَرَ بِالأُخدُودِ في أفواهِ السِّكَكِ فَخُدَّت وأَضرَمَ النِّيرانَ، وقالَ: مَن لَم يَرجِع عَن دِينِهِ فَأَحمُوهُ فِيها، أو قِيلَ لَهُ: اقتَحِم. فَفَعَلُوا، حَتّى جاءَتِ امرَأَةٌ ومَعَها صَبِيٌّ لَها فَتَقاعَسَت أن تَقَعَ فِيها، فَقالَ لَها الغُلامُ: يا أُمَّهِ؛ اصبِرِي فَإنَّكِ عَلى الحَقِّ».
-فيه حث النبي ﷺ صحابته بالصبر وانتظار الفرج من الله، فإن الله سيتم هذا الأمر وقد صار الأمر كما أقسم عليه الصلاة والسلام ففي هذا الحديث آية من آيات الله حيث وقع الأمر مطابقاً لما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام. (ابن عثيمين)
-فيه دليل على وجوب الصبر على أذية أعداء المسلمين، وإذا صبر الإنسان ظفر، فالواجب على الإنسان أن يقابل ما يحصل من أذية الكفار بالصبر والاحتساب، وانتظار الفرج ولا يظن الأمر ينتهي بسرعة وينتهي بسهولة. (ابن عثيمين)
-أجمع العلماء أن من أكره على الكفر فاختار القتل أنه أعظم أجرًا عند الله ممن اختار الرخصة. (ابن بطال)
-فيه أن الحكمة من اختيار الغلام؛ لأنه أقبل للتعليم، ولأن التعليم للغلام الشاب هو الذي يبقى ولا ينسى، ولهذا كان التعلم في الصغر خيرا بكثير من التعلم في الكبر وفي كل خير.
- فيه فوائد التعلم في الصغر، وهي: أن الشاب في الغالب أسرع حفظاً من الكبير؛ لأن الشاب فارغ البال ليست عنده مشاكل توجب انشغاله. ولأن ما يحفظه الشاب يبقى وما يحفظه الكبير ينسى، ولأن هذا الغلام إذا ثقف العلم من أول الأمر صار العلم كالسجية له، والطبيعة له وصار كأنه غريزة قد شب عليه فيشيب عليه. (ابن عثيمين)
-فيه جواز الكذب للضرورة لا سيما في الله، وفى المدافعة عن الإيمان، ومن يصدع عنه. (القاضي عياض)
-فيه صبر الصالحين على الابتلاء في ذات الله، وما يلزمهم من إظهار دينه والدعاء لتوحيده، واستقتالهم أنفسهم في ذلك، وهو مراد الغلام بقوله للملك: "لست بقاتلي حتى تصلبني وتجمع الناس، وتضع السهم في كبد القوس، وتقول: بسم الله رب الغلام ليرى الناس ذلك فيؤمنوا بالله كما كان". (القاضي عياض)
-وفيه إثبات كرامات الأولياء، وإجابة دعواتهم باختبارهم كما أظهر الله في قصة هذا الغلام، وكفاية الله له من تلك المهالك. (القاضي عياض)

باب: يَرْجِعُ عَنِ الـمَيِّتِ أهْلُهُ ومالُهُ ويَبْقى عَمَلُهُ


٢٧٨٩. (خ م) (٢٩٦٠) عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ ﵁ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «يَتبَعُ المَيِّتَ ثَلاثَةٌ، فَيَرجِعُ اثنانِ ويَبقى واحِدٌ، يَتبَعُهُ أهلُهُ ومالُهُ وعَمَلُهُ، فَيَرجِعُ أهلُهُ ومالُهُ ويَبقى عَمَلُهُ».
-فيه زوال الدنيا متمثلة في الأهل والمال، وبقاء العمل.
-وفيه الحث على كثرة الأعمال الصالحة التي تبقى بعد الموت.
-في قوله (ويبقى عمله) أي يدخل معه القبر، فإن كان سعيدًا مثل له أحسن صورة، فيؤنسه ويبشره ما كان روحه معه في قبره، فيقول: من أنت يرحمك الله؟ فيقول: عملك. وإن كان سيئًا مثل له في أقبح صورة، فيقول له: من أنت؟ فيقول: عملك. ويصحبه كذلك حَتَّى يحشر. (ابن الملقن)

باب: الـنَّظَرُ إلى مَن هُوَ أسْفَلَ مِنهُ فِـي أمْرِ الدُّنْيا


٢٧٩٠. (خ م) (٢٩٦٣) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁؛ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ: «إذا نَظَرَ أحَدُكُم إلى مَن فُضِّلَ عَلَيهِ فِي المالِ والخَلقِ فَليَنظُر إلى مَن هُوَ أسفَلَ مِنهُ؛ مِمَّن فُضِّلَ عَلَيهِ». وفي رواية (م): «انظُرُوا إلى مَن هُو أسفَلَ مِنكُم، ولا تَنظُرُوا إلى مَن هُو فَوقَكُم، فَهُو أجدَرُ ألاَّ تَزدَرُوا نِعمَةَ اللهِ عَلَيكُم».
-فيه إرشاد المسلم إلى أفضل الوسائل التي تؤدي به إلى الشعور بالرضا.
-وفيه أنَّ في العمل بهذا الحديث وقاية للإنسان من كثير من الأمراض القلبية؛ كالحسد والحقد وغيرهما.
-فيه أن هذا الحديث جامع لأنواع من الخير؛ لأن الإنسان إذا رأى من فضل عليه في الدنيا طلبت نفسه مثل ذلك واستصغر ما عنده من نعمة الله تعالى وحرص على الازدياد، وإذا نظر إلى من هو دونه فيها ظهرت له نعمة الله فشكرها وتواضع وفعل فيه الخير. (الطبري)

باب: نِعْمَتانِ مَغْبُونٌ فِيهِما كَثِيرٌ مِنَ النّاسِ


٢٧٩١. (خ) (٦٤١٢) عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﵄ قالَ: قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «نِعمَتانِ مَغبُونٌ فِيهِما كَثِيرٌ مِن النّاسِ: الصِّحَّةُ والفَراغُ».
-فيه أن سبب الغبن؛ لأن بهما ما يتكامل التنعم بالنعم ومن لا يعرف قدر النعم بوجدانها عرف بوجود فقدانها. (المناوي)
-في معناه: أهم مقصرون في شكرهما لا يقومون بواجبهما ومن لا يقوم بحق ما وجب عليه فهو مغبون. (ابن كثير).
-فيه أن الصحة والفراغ نعمتان من أعظم نعم الله.
-معنى الحديث أن المرء لا يكون فارغا حتى يكون مكفيا صحيح البدن فمن حصل له ذلك فليحرص على أن لا يغبن بأن يترك شكر الله على ما أنعم به عليه (ابن بطال)

باب: حالُ الإنْسانِ بَيْنَ الأَمَلِ والأَجَلِ


٢٧٩٢. (خ) (٦٤١٧) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ ﵁ قالَ: خَطَّ النَّبِيُّ ﷺ خَطًّا مُرَبَّعًا، وخَطَّ خَطًّا فِي الوَسَطِ خارِجًا مِنهُ، وخَطَّ خُطَطًا صِغارًا إلى هَذا الَّذِي فِي الوَسَطِ مِن جانِبِه الَّذِي فِي الوَسَطِ، وقالَ: «هَذا الإنسانُ، وهَذا أجَلُهُ مُحِيطٌ بِهِ أو قَد أحاطَ بِهِ، وهَذا الَّذِي هُوَ خارِجٌ أمَلُهُ، وهَذِهِ الخُطَطُ الصِّغارُ الأَعراضُ، فَإن أخطَأَهُ هَذا نَهَشَهُ هَذا، وإن أخطَأَهُ هَذا نَهَشَهُ هَذا».
٢٧٩٣. (خ) (٦٤١٨) عَنْ أنَسٍ ﵁ قالَ: خَطَّ النَّبِيُّ ﷺ خُطُوطًا فَقالَ: «هَذا الأَمَلُ، وهَذا أجَلُهُ، فَبَينَما هُوَ كَذَلكَ إذ جاءَهُ الخَطُّ الأَقرَبُ».

باب: مَن بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً فَقَدْ أعْذَرَ اللَّهُ إلَيْهِ فِـي العُمُرِ


٢٧٩٤. (خ) (٦٤١٩) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁؛ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «أعذَرَ اللهُ إلى امرِئٍ أخَّرَ أجَلَهُ حَتّى بَلَّغَهُ سِتِّينَ سَنَةً».
-فيه تنبيه النبي ﷺ لأمته على تقصير الأمل، واستشعار الأجل خوف بغتة الأجل، ومن غيب عنه أجله فهو حرى بتوقعه وانتظاره خشية هجومه عليه في حال غرة وغفلة. (ابن بطال)
-في هذا الحديث من الفقه أن رسول الله ﷺ نقل التصوير عن الفهم إلى ما تدركه الأبصار ليكون تمثيله ﷺ أدعى إلى تعليم السامعين في سرعة ليدرك ذلك من سمعه بسمعه وبصره. (ابن هبيرة).
-وفيه التنبيه على أن الأجل مقسوم معلوم لا يتجاوزه متجاوز. (ابن هبيرة)
-وفيه أيضًا دليل على أنه لا يعلمه أحد إلا الله سبحانه وتعالى، وأنه غيب عن الآدميين، ولذلك تجاوزته الآمال وبعدته الأطماع. (ابن هبيرة)
-وفيه أيضًا أن رسول الله ﷺ لما أطلق القول في أن الآجال تقصم عرى الآمال، أشار بذلك إلى مصالح كثيرة منها: أن لا يجمع الإنسان ما لا يأكله، ولا يعد من العتاد لعمر لا يبلغه، ولا يرجأ أعماله من الخير بالتسويف إلى أجل لا يصل إليه، ولا يدافع بالإنابة انتظارًا لأمد ينتهي إليه، ولئلا يستبطأ أحد نزول الموت به نائيا ذلك على ما يلاحظه من أمل بعيد، فإن الأجل أقرب إليه منه. (ابن هبيرة)
-هذا الحديث هو أصل من أصول الحق المبدي عورة الدنيا؛ فإن مدارها على طول الأمل، وهو الذي يثمر التسويف بأعمال الخير. (ابن هبيرة)

باب: فَقْدُ الـمُؤْمِنِ صَفِيَّهُ مِن أهْلِ الدُّنْيا


٢٧٩٥. (خ) (٦٤٢٤) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﵁؛ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ: «يَقُولُ اللهُ تَعالى: ما لِعَبدِي المُؤمِنِ عِندِي جَزاءٌ إذا قَبَضتُ صَفِيَّهُ مِن أهلِ الدُّنيا ثُمَّ احتَسَبَهُ إلاَّ الجَنَّةُ».

باب: ذَهابُ الصّالِحِينَ


٢٧٩٦. (خ) (٦٤٣٤) عَنْ مِرْداسٍ الأَسْلَمِيِّ ﵁ قالَ: قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «يَذهَبُ الصّالِحُونَ، الأَوَّلُ فالأَوَّلُ، ويَبقى حُفالَةٌ كَحُفالَةِ الشَّعِيرِ أو التَّمرِ لا يُبالِيهِم اللهُ بالَةً». قالَ أبُو عَبد اللهِ: يُقالُ: حُفالَةٌ وحُثالَةٌ.
-فيه الترغيب في الاقتداء بالصالحين والتحذير من مخالفة طريقهم خشية أن يكون من خالفهم ممن لا يباليه الله ولا يعبأ به. (ابن بطال).
-وذهاب الصالحين من أشراط الساعة، إلا أنه إذا بقي في الناس حفالة كحفالة الشعير أو التمر، فذلك إنذار بقيام الساعة وفناء الدنيا.

باب: ما قَدَّمَ مِن مالِهِ فَهُوَ لَهُ


٢٧٩٧. (خ) (٦٤٤٢) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ ﵁ قالَ: قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «أيُّكُم مالُ وارِثِهِ أحَبُّ إلَيهِ مِن مالِهِ؟» قالُوا: يا رَسُولَ اللهِ؛ ما مِنّا أحَدٌ إلا مالُهُ أحَبُّ إلَيهِ. قالَ: «فَإنَّ مالَهُ ما قَدَّمَ، ومالُ وارِثِهِ ما أخَّرَ».
-فيه التحريض على الزهد عن جمع الدنيا، والعروض عنها، والاقتصار على ما تدعو إليه ضرورة الحياة وادخار ما عداه عند الله. (ابن علان)
-فيه تنبيه للمؤمن على أن يقدم من ماله لآخرته، ولا يكون خازنًا له وممسكه عن إنفاقه في الطاعة، فيخيب من الانتفاع به يوم الحاجة إليه، وربما أنفقه وارثه في الطاعة فيفوز بثوابه. (ابن الملقن).

باب: قُرْبُ الجَنَّةِ والنّارِ


٢٧٩٨. (خ) (٦٤٨٨) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ ﵁ قالَ: قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «الجَنَّةُ أقرَبُ إلى أحَدِكُم مِن شِراكِ نَعلِهِ، والنّارُ مِثلُ ذَلكَ».
-في هذا الحديث دليل واضح أن الطاعات الموصلة إلى الجنة والمعاصي المقربة من النار قد تكون في أيسر الأشياء. (ابن بطال).
-فيه أنه على المؤمن ألا يزهد في قليل من الخير يأتيه، ولا يستقل قليلاً من الشر يجتنيه فيحسبه هينًا، وهو عند الله عظيم، فإن المؤمن لا يعلم الحسنة التي يرحمه الله بها، ولا السيئة التي يسخط الله عليه بها.

باب: ما يُتَّقى مِن مُحَقَّراتِ الذُّنُوبِ


٢٧٩٩. (خ) (٦٤٩٢) عَنْ أنَسٍ ﵁ قالَ: إنَّكُم لَتَعمَلُونَ أعمالًا هِيَ أدَقُّ فِي أعيُنِكُم مِن الشَّعَرِ، إن كُنّا لَنَعُدُّها عَلى عَهدِ النَّبِيِّ ﷺ مِن المُوبِقاتِ. قالَ أبُو عَبد اللهِ: يَعنِي بِذَلكَ المُهلِكاتِ.
-فيه أنهم كانوا يعدون الصغائر من الموبقات لشدة خشيتهم لله، وإن لم تكن لهم كبائر. (ابن بطال).

باب: البِناءُ عَلى قَدْرِ الحاجَةِ


٢٨٠٠. (خ) (٦٣٠٢) عَنِ ابْنِ عُمَرَ ﵄ قالَ: رَأَيتُنِي مَعَ النَّبِيِّ ﷺ بَنَيتُ بِيَدِي بَيتًا يُكِنُّنِي مِن المَطَرِ، ويُظِلُّنِي مِن الشَّمسِ، ما أعانَنِي عَلَيهِ أحَدٌ مِن خَلقِ اللهِ.
٢٨٠١. (خ) (٦٣٠٣) عَنِ ابْنِ عُمَرَ ﵄ قالَ: واللهِ ما وضَعتُ لَبِنَةً عَلى لَبِنَةٍ، ولا غَرَستُ نَخلَةً مُنذُ قُبِضَ النَّبِيُّ ﷺ. قالَ سُفيانُ: فَذَكَرتُهُ لِبَعضِ أهلِهِ قالَ: واللهِ لَقَد بَنى. قالَ سُفيانُ: قلت: فَلَعَلَّهُ قالَ قَبلَ أن يَبنِيَ.
-فيه أن التطاول في البنيان من أشراط الساعة. (ابن الملقن).
-هذا الحديث مما يدل على صغر البيت وقلة المئونة، وهذا لزهدهم وبعدهم عن الترف في البناء. رضي الله عنهم.

١ 1-ولقد ذكر لنا أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة :

٥/٠