باب تحريم الهجران بين المسلمين فوق ثلاثة أيام إِلاَّ لبدعة في المهجور، أَوْ تظاهرٍ بفسقٍ أَوْ نحو ذَلِكَ


قَالَ الله تَعَالَى: ﴿إنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أخَوَيْكُمْ﴾ [الحجرات: 10]، وقال تَعَالَى: ﴿وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2].
1591 - وعن أنس - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم: «لا تَقَاطَعُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إخْوَانًا، وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَث». متفق عَلَيْهِ.
1592 - وعن أَبي أيوبَ - رضي الله عنه: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ: يَلْتَقِيَانِ، فَيُعْرِضُ هَذَا، وَيُعْرِضُ هَذَا، وخَيْرُهُما الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ». متفق عَلَيْهِ.
1593 - وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «تُعْرَضُ الأَعْمَالُ في كلِّ اثْنَيْنِ وَخَمْيسٍ، فَيَغْفِرُ اللهُ لِكُلِّ امْرِئٍ لا يُشْرِكُ باللهِ شَيْئًا، إِلاَّ امْرَءًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيقُولُ: اتْرُكُوا هذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا». رواه مسلم.
1594 - وعن جابر - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: «إنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ المُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ العَرَبِ، وَلَكِنْ في التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ». رواه مسلم.
«التَّحْرِيشُ»: الإفْسَادُ وتَغييرُ قُلُوبِهِمْ وتَقَاطُعُهُم.
1595 - وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ، فَمَنْ هَجَرَ فَوْقَ ثَلاَثٍ فَمَاتَ، دَخَلَ النَّارَ». رواه أَبُو داود بإسناد عَلَى شرط البخاري ومسلم.
1596 - وعن أَبي خِراشٍ حَدْرَدِ بنِ أَبي حَدْرَدٍ الأسلميِّ. ويقالُ: السُّلمِيّ الصحابي رضي الله عنه: أنَّه سمع النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: «مَنْ هَجَرَ أخَاهُ سَنَةً فَهُوَ كَسَفْكِ دَمِهِ». رواه أَبُو داود بإسناد صحيح.
1597 - وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه: أنًّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لاَ يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَهْجُرَ مُؤْمِنًا فَوقَ ثَلاَثٍ، فإنْ مَرَّتْ بِهِ ثَلاَثٌ، فَلْيَلْقَهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَإنْ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلامَ فَقَدِ اشْتَرَكَا في الأجْرِ، وَإنْ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ فَقَدْ بَاءَ بِالإثْمِ، وَخَرَجَ المُسَلِّمُ مِنَ الهِجْرَةِ». رواه أَبُو داود بإسناد حسن. قَالَ أَبُو داود: «إِذَا كَانَتْ الهِجْرَةُ للهِ تَعَالَى فَليسَ مِنْ هَذَا في شَيْءٍ» .
قال ابن باز ﵀:
- هذه الأحاديث كلها تتعلق بالتهاجر، وهذه كلها وما في معناها تدل على تحريم التهاجر بين المسلمين والتقاطع؛ لأنّ هذا يسبب شراً عظيماً وفساداً كبيراً، وتعطيل حقوق الله وظهور المعاصي والشرور؛ ولهذا قال سبحانه: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾ [الحجرات: ١٠]؛ فالمؤمنون إخوة يجب الإصلاح بينهم حتى لا يقع التهاجر والتشاحن، قال تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [التوبة : ۷۱].
- قال ﷿: ﴿وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: ٢]؛ فالواجب على أهل الإيمان أن يتعاونوا على البر والتقوى وأن يدعوا التعاون على الإثم والعدوان، ومن التعاون على الإثم والعدوان، التهاجر والشحناء والتباغض.
- الواجب على أهل الإسلام (كل المسلم على المسلم حرامٌ، دمه، وماله، وعرضه).
- الشحناء من أسباب حرمان المغفرة.
- إذا هجر فوق ثلاث باء الذي لا يرجع بالإثم إلى النار، فهذا وعيدٌ شديدٌ يدل على أنها كبيرة من الكبائر، وإذا هجره سنة كان كسفك دمه وهو يدل على عظم المصيبة عظم الإثم، وما ذاك إلا لما يترتب على الهجر من الشحناء والعداوة والتباغض قطيعة الرحم، ظهور المنكرات إلى غير ذلك .
- الواجب على جميع المسلمين الحذر من هذا التهاجر إذا كان الخصومة دعوى بينه وبينه في أرض أو في سيارة أو في غير ذلك؛ يعني خصومات بينهم، فالتهاجر؛ لأن النفوس يعتريها ما يعتريها فسمح الله لها ثلاثة أيام بسبب شدة الخصومة فما زاد على الثلاثة يمنع من التهاجر في أمور الدنيا في الخصومات التي بين الناس.
- ما يتعلق بالبدع والمعاصي فهذا ليس من هذا الباب، هذا يهجر حتى يتوب يستحق الهجر حتى يتوب، ولو مضى سنة أو سنوات حتى يتوب حتى يرجع إلى الله، إذا أظهر البدع أو المعاصي الظاهرة ينهى عن هذا ويحذر ويهجر، قد هجر النبي ﷺ كعب بن مالك وصاحبيه لما تخلفوا عن غزوة تبوك من غير عذر، هجروا خمسين ليلة حتى تاب الله عليهم، فمن أظهر المعاصي أو البدع يستحق الهجر حتى يتوب إلى الله ويرجع، كما يستحق التأديب أيضًا من ولاة الأمور على بدعته حتى يرجع عنها، وعلى ما أظهر من المعاصي حتى يتوب، وإن كان فيها حد وجب إقامة الحد.

باب النهي عن تناجي اثنين دون الثالث بغير إذنه إِلاَّ لحاجةٍ وَهُوَ أن يتحدثا سرًا بحيث لا يسمعهما وفي معناه مَا إِذَا تحدثا بلسان لا يفهمه


قَالَ الله تَعَالَى: ﴿إنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ﴾ [المجادلة: 10]
1598 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِذَا كانُوا ثَلاثَةً، فَلاَ يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ». متفق عَلَيْهِ.
ورواه أَبُو داود وزاد: قَالَ أَبُو صالح: قُلْتُ لابنِ عُمرَ: فَأرْبَعَةً؟ قَالَ: لا يَضُرُّكَ .
ورواه مالك في "الموطأ": عن عبد الله بن دينارٍ، قَالَ: كُنْتُ أنَا وابْنُ عُمَرَ عِنْدَ دَارِ خَالِدِ بنُ عُقْبَةَ الَّتي في السُّوقِ، فَجَاءَ رَجُلٌ يُريدُ أَنْ يُنَاجِيَهُ، وَلَيْسَ مَعَ ابْنِ عُمَرَ أَحَدٌ غَيْرِي، فَدَعَا ابْنُ عُمَرَ رَجُلًا آخَرَ حَتَّى كُنَّا أَرْبَعَةً، فَقَالَ لِي وَللرَّجُلِ الثَّالِثِ الَّذِي دَعَا: اسْتَأْخِرَا شَيْئًا، فَإنِّي سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقُولُ: «لا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ وَاحِدٍ».
1599 - وعن ابن مسعود - رضي الله عنه: أنَّ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِذَا كُنْتُمْ ثَلاَثَةً، فَلاَ يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الآخَرِ حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ، مِنْ أجْلِ أنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ». متفق عَلَيْهِ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- الرسول ﷺ نهى أن يتناجى اثنان دون الثالث، يعني إذا كانوا ثلاثة فإنّه لا يحل لاثنين أن يتناجيا دون الثالث، لأنّ الثالث يحزن، ويقول لماذا ما كلموني، هذا إذا أحسن بهما الظن، وربما يسيء بهما الظن، ولكن إذا أحسن بهما الظن قال لماذا أنا ليس لي قيمة؟ يتناجيان دوني؟ فلذلك نهى النبي ﷺ عن هذا، ولا شك أن هذا من الآداب.
- فإن قال قائل: إذا كانت بيني وبين صاحبي مسألة لا أحب أن يطلع عليها أحد، مسألة خاصة؟ قلنا: افعل كما فعل عبد الله بن عمر ﵄، ادع واحداً لتكونوا كم؟ أربعة، فيتناجى اثنان، واثنان يتكلمان فيما بينهما، كما كان ابن عمر يفعل ﵁، وكما دل عليه الحديث: (حتى تختلطوا بالناس)، فإذا اختلطا بالناس زالت المشكلة، وإذا لم يمكن ولم يقابلهم أحد، فإنهما يستأذنان منه، يقولان له أتأذن لنا أن نتكلم؟ فإذا أذن لهم في ذلك فالحق لهم، وحينئذ لا يحزن ولا يهتم بالأمر.
- من التناجي بين اثنين دون الثالث، إذا كانوا ثلاثة واثنين يجيدان لغة أجنبية والثالث لا يجيدها، فجعلا يتحدثان بلغتهما، والثالث يسمع ولا يفهم ما يقولان، هذا نفس الشيء، لأن ذلك يحزنه، لماذا تركاني وصارا يتحدثان وحدهما؟ أو ربما يسيء الظن بهما، مثل أن يتكلم واحد مع آخر باللغة الإنجليزية، والثالث لا يعرفها، فهذا كالمتناجيين إذ أن رفع الصوت لا يفيدهم شيئا، فينهى عن ذلك.
قال ابن باز ﵀:
- النجوى في حق وفي حاجة فلا بأس بها إذا لم يكن بينهما أحد أو عندهما أكثر من واحد فلا بأس.

باب النهي عن تعذيب العبد والدابة والمرأة والولد بغير سبب شرعي أَوْ زائد عَلَى قدر الأدب


قَالَ الله تَعَالَى: ﴿وَبِالوَالِدَيْنِ إحْسانًا وَبِذي القُرْبَى واليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَالجَارِ ذِي القُرْبَى وَالجَارِ الجُنُبِ والصَّاحِبِ بالجَنْبِ وابْنِ السَّبيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتالًا فَخُورًا﴾ [النساء الآية: 36].
1600 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:
«عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ في هِرَّةٍ سَجَنَتْها حَتَّى مَاتَتْ، فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ، لاَ هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَسَقَتْهَا، إذْ حَبَسَتْهَا، وَلاَ هِيَ تَرَكَتْهَا تَأكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ». متفق عَلَيْهِ.
«خَشَاشُ الأرضِ» بفتح الخاءِ المعجمة وبالشينِ المعجمة المكررة، وهي: هَوَامُّها وَحَشَرَاتُهَا.
قال ابن عثيمين ﵀:
- إنّ الإنسان مأمور بالإحسان إليهم، أي: ما ملكت أيمانكم من الأرقاء والبهائم، إن كان من بني آدم أرقاء يطعمهم مما يطعم ويكسوهم مما يكتسي وينزلهم المنازل اللائقة بهم ولا يكلفهم ما لا يطيقون.
- (أنّ امرأة دخلت النار في هرة حبستها)، الهرة هي القطة، حبستها ولم تجعل عندها ماء ولم تجعل عندها طعاما حتى ماتت فدخلت النار بسبب هذه الهرة، وعذبت بها، مع أنها هرة لا تساوي شيئا، لكنها أساءت إليها هذه الإساءة حبستها حتى ماتت جوعا. وفهم من هذا الحديث أنّها لو جعلت عندها طعاما وشرابا يكفي فإن ذلك لا بأس به. ومن هذا الطيور التي تحبس في الأقفاص، إذا وضع عندها الطعام والشراب ولم يقصر عليها وحفظها من الحر والبرد فلا بأس، وأما إذا قصر وماتت بسبب تقصيره فإنه يعذب بها.
- يجب على الإنسان أن يحرص على ما ملكت يمينه من البهائم، والآدميون أولى وأحرى؛ لأنّهم أحق بالإكرام.
قال ابن باز ﵀:
- إذا عذبت التي حبست الهرة، فالذي يعذب الإبل أو البقر أو الغنم أو الدجاج أو الحمام أولى وأولى.

1601 - وَعَنْهُ: أنَّهُ مَرَّ بِفِتْيَانٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَدْ نَصَبُوا طَيرًا وَهُمْ يَرْمُونَهُ، وَقَدْ جَعَلُوا لِصَاحِبِ الطَّيْرِ كُلَّ خَاطِئَةٍ مِنْ نَبْلِهمْ، فَلَمَّا رَأَوْا ابْنَ عُمَرَ تَفَرَّقُوا، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَنْ فَعَلَ هَذَا؟ لَعَنَ اللهُ مَنْ فَعَلَ هَذَا، إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لَعَنَ مَنِ اتَّخَذَ شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا. متفق عَلَيْهِ.
«الغَرَضُ» بفتحِ الغَين المعجمة والراءِ وَهُوَ الهَدَفُ وَالشَّيءُ الَّذِي يُرْمَى إِلَيْهِ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- أنّ النبي ﷺ لعن من اتخذ شيئا فيه الروح غرضًا. وهذا لأنه يتألم إذ أن هذا يضربه على جناحه، وهذا يضربه على صدره، وهذا يضربه على ظهره، وهذا على رأسه فيتأذى، فلهذا لعن النبي ﷺ من اتخذ شيئا فيه الروح غرضا. أما بعد ما مات فقد مات لا يحس بشيء.
قال ابن باز ﵀:
- نصب حيوان شبحاً دجاجة أو سخلة أو حمامة يحط شبحاً بيمي هذا ما يجوز، الرسول لعن من فعل هذا، وهو الغرض الشبح، يعني: ينصب وهو حي يرمونه هذا لا يجوز؛ لأنه تعذيب.

1602 - وعن أنس - رضي الله عنه - قَالَ: نهى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن تُصْبَرَ البَهَائِمُ. متفق عَلَيْهِ.
ومعناه: تُحْبَسُ لِلقَتْلِ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- النبي ﷺ نهى أن يقتل الحيوان صبرا، ومعناه أن يحبس ثم يقتل، فإن هذا لا يجوز، وذلك لأنه إذا حبس كان مقدورا على ذبحه وتزكيته فلا يحل أن يرمى، ورميه إيلاما له من وجه وإضاعة لماله من وجه آخر.
قال ابن باز ﵀:
- الواجب على المؤمن الإحسان في البهائم، الرسول نهى عن صبرها كونه ترمى تقتل على غير القتل الشرعي حية، البهيمة تقتل القتل الشرعي، إذا كانت تؤكل، وإن كانت لا تؤكل لا تقتل ولا تعذب؛ بل تترك إن كانت غير مؤذية، أما غير هذا مثل الكلب العقور كالذئب الشيء الذي يؤذي يقتل أما شيء لا أذى فيه؛ ليس بعقور، أو هر، أو كلب لا يقتل إلا إذا كان عقوراً هذا جزاءه أن يقتل لتعديه.

1603 - وعن أَبي عليٍّ سويدِ بن مُقَرِّنٍ - رضي الله عنه - قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي سَابِعَ سَبْعَةٍ مِنْ بَنِي مُقَرِّنٍ مَا لَنَا خَادِمٌ إِلاَّ وَاحِدَةٌ لَطَمَهَا أصْغَرُنَا فَأَمَرَنَا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نُعْتِقَهَا. رواه مسلم.
وفي روايةٍ: «سَابعَ إخْوَةٍ لِي».
قال ابن عثيمين ﵀:
- الحث على الرفق بالمملوك والحذر من ظلمه، وأن الواجب على الملاك أن يتقوا الله في مماليكهم سواء كانوا مماليك مكلفين من بني آدم أو من الحيوان؛ فالواجب الرفق والعدل وعدم الظلم سواء كان المملوك عبداً أو جارية أو بعيراً أو بقرة أو شاة أو غير ذلك؛ فالواجب تقوى الله في ذلك، وأن يحرص على الملك الطيب والرفق والإحسان.
- إذا كان من حبس هرة ونحوها حتى مات جوعاً يستحق الإنذار ويعذب؛ فالذي يحبس ما هو خير من الهرة من شاة، أو بعير، أو بقرة، أو دجاج، أو حمام، أو غير ذلك أخطراً وأشد خطراً وأشد ظلماً، وهكذا إذا كان مملوك من العبيد والجواري يكون الجرم أشد.
- الإنسان إذا ضرب مملوكاً فمن كفارته العتق أو استسماحه، كونه يستسمحه اغفر لي ما فعلت إذا كان ظلمه بغير حق ضربه بغير حق.
- إذا كان الشيء للتأديب الذي ليس فيه عدوان وليس فيه خطر إنما هو التأديب المناسب للزوجة للغلام للولد للدابة هذا لا بأس به، أما الزائد الذي يفعله الإنسان تعاظماً وتكبراً، أو قلة مبالاة هذا هو الخطر.
- الواجب على المسلم الحذر من ظلم الناس أو ظلم الحيوان، أو ظلم الزوجة، أو غير ذلك، أما الشيء الذي شرعه الله من التأديب الشرعي والحدود الشرعية فلا بأس.
- تأديب الحيوان إذا تعسر أو خالف ما ينبغي يؤدب بالتأديب المناسب الذي يجعله يستقيم على الطريق، من دون تعذيب، لا شغب له ولا موجب له، والله أباح ضرب المرأة ضرباً غير مبرح عند الحاجة إلى ذلك، وأباح ضرب الصبيان إذا بلغوا عشراً على الصلاة؛ فالتأديب الشرعي لا بأس به مع مراعاة الحدود الشرعية في الحدود وفي التأديب وهكذا في الحيوانات.
- الوسم في الوجه والضرب في الوجه لا يجوز الوجه له حال خاصة فلا يجوز ضرب الوجه ولا الوسم في الوجه؛ ولهذا في الحديث الصحيح: (إِذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه)، لا في الحدود ولا في غيرها .
- لا يجوز تعذيب الحيوان إلا بحق، وهكذا المملوك العبد والجارية.
قال ابن باز ﵀:
- الواجب على المؤمن أن يكون معتدلاً مع زوجته مع أولاده ومع مماليكه ومع دوابه، يحذر الظلم فلا يظلم الدابة ولا الولد ولا الزوجة، ولا يهمل بل يلاحظ الآداب الشرعية والتوجيهات الشرعية مع الزوجة ومع الولد ومع الخادم، وهكذا الدابة إذا احتاجت إلى تأديب أدبها التأديب الذي ينفعه ولا يضر .

1604 - وعن أَبي مسعودٍ البدْرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: كُنْتُ أضْرِبُ غُلامًا لِي بالسَّوْطِ، فَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ خَلْفِي: «اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ» فَلَمْ أفْهَمِ الصَّوْتِ مِنَ الغَضَبِ، فَلَمَّا دَنَا مِنِّي إِذَا هُوَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا هُوَ يَقُولُ: «اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ أنَّ اللهَ أقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الغُلامِ». فَقُلتُ: لا أضْرِبُ مَمْلُوكًا بَعْدَهُ أَبَدًا.
وَفِي روايةٍ: فَسَقَطَ السَّوْطُ مِنْ يَدِي مِنْ هَيْبَتِهِ.
وفي روايةٍ: فَقُلتُ: يَا رسولَ الله، هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللهِ تَعَالَى، فَقَالَ: «أمَا لَوْ لَمْ تَفْعَلْ، لَلَفَحَتْكَ النَّارُ، أَوْ لَمَسَّتْكَ النَّارُ». رواه مسلم بهذه الروايات.
1605 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ ضَرَبَ غُلاَمًا لَهُ حَدًّا لَمْ يَأتِهِ، أَوْ لَطَمَهُ، فإنَّ كَفَارَتَهُ أَنْ يُعْتِقَهُ». رواه مسلم.
قال ابن عثيمين ﵀:
- المقصود بالتأديب هو الإصلاح وليس المقصود بالتأديب الإيلام والإيجاع.
- لا يجوز للإنسان أن يضرب الولد ما دام يمكن أن يتأدب بدون الضرب، فإذا لم يتأت الأدب إلا بالضرب فله أن يضرب، وإذا ضرب فإنه يضرب ضربا غير مبرح، واذكروا قول الله عز وجل في النساء: ﴿وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ۖ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًاۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا﴾ [النساء: 34]، فجعل الضرب في المرتبة الثالثة، والمقصود من الضرب هو التأديب لا أن يصل إلى حد الإيلام والإيجاع.
- أرشد النبي إلى هذا بأن من ضرب عبده أو لطمه فإن كفارة ذلك أن يعتقه، لأن الحسنات يذهبن السيئات.
قال ابن باز ﵀:
- الواجب على المسلم أن يتحرى العدل في كل شيء مع أولاده مع زوجته، مع بهائمه، مع الناس كلهم يحذر الظلم الظلم عاقبته وخيمة، قال الله تعالى: ﴿وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا﴾‏ [الفرقان: ۱۹].

1606 - وعن هِشام بن حكيمِ بن حِزَامٍ رضي الله عنهما: أنَّه مَرَّ بالشَّامِ عَلَى أُنَاسٍ مِنَ الأَنْبَاطِ، وَقَدْ أُقيِمُوا في الشَّمْسِ، وَصُبَّ عَلَى رُؤُوسِهِمُ الزَّيْتُ! فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قيل: يُعَذَّبُونَ في الخَرَاجِ - وفي رواية: حُبِسُوا في الجِزْيَةِ - فَقَالَ هِشَامٌ: أشهدُ لَسَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: «إنَّ اللهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاس في الدُّنْيَا». فَدَخَلَ عَلَى الأمِيرِ، فَحَدَّثَهُ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَخُلُّوا. رواه مسلم.
«الأنباط» الفلاحون مِنَ العَجَمِ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- في هذا دليلٌ على حسن سيرة السلف ﵃ في مناصحة الحكام، وأنهم يتقدمون إلى الحاكم وينصحونه، فإن اهتدى فهذا المطلوب، وإن لم يهتد برأت ذمة الناصح وصارت المسئولية على الحاكم.

1607 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قَالَ: رأى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حِمَارًا مَوْسُومَ الوَجْهِ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: «واللهِ لا أسِمُهُ إِلاَّ أقْصَى شَيْءٍ مِنَ الوَجْهِ» وأمَرَ بِحِمَارِهِ فَكُوِيَ في جَاعِرَتَيْهِ، فَهُوَ أوَّلُ مَنْ كَوَى الجَاعِرَتَيْنِ. رواه مسلم.
«الجَاعِرَتَانِ»: نَاحِيَةُ الوَرِكَيْنِ حَوْلَ الدُّبُرِ.
1608 - وعنه: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ عَلَيْهِ حِمَارٌ قَدْ وُسِمَ في وَجْهِهِ، فَقَالَ:
«لَعَنَ اللهُ الَّذِي وَسَمَهُ». رواه مسلم.
وفي رواية لمسلم أَيضًا: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الضَّرْبِ في الوَجْهِ، وَعَنِ الوَسْمِ في الوَجْهِ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- وسم الحيوانات في الوجه حرام من كبائر الذنوب؛ لأنّ النبي ﷺ لعن من فعل هذا، والوسم هو عبارة عن كي يكوي الحيوان ليكون علامة، ولهذا هو مشتق من السمة، وهي العلامة، يتخذ أهل المواشي علامة لهم.
- وهي من الأمور الثابتة بالسنة فإنّ النبي ﷺ كان يسم إبل الصدقة وكذلك الخلفاء من بعدهم، لكن الوسم لا يجوز أن يكون في الوجه، لأنّ الوجه لا يضرب ولا يوسم ولا يقطع، هو جمال البهيمة، أين يكون الوسم؟ في الرقبة، يكون في العضد، يكون في الفخذ، يكون في أي موضع من الجسم إلا الوجه.
- الإنسان إذا رأى شيئا مما يلعن فاعله فقال: اللهم العن من فعل هذا فلا إثم عليه، لو وجدنا بهيمة موسومة في الوجه وقلنا اللهم العن من وسمها فلا بأس، لكن ما نقول فلان ابن فلان، تقول اللهم العن من وسمها كما قال النبي ﷺ ومثل ذلك إذا رأينا قذرا في الشارع يعني غائطا وجدناه في الشارع، لنا أن نقول: لعن الله من تغوط هاهنا؛ لأنّ النبي ﷺ يقول: (اتقوا الملاعن الثلاثة: البراز في المواني، وقارعة الطريق، والظل).

باب تحريم التعذيب بالنار في كل حيوان حَتَّى النملة ونحوها


1609 - عن أَبي هريرةَ - رضي الله عنه - قَالَ: بعثنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في بَعْثٍ، فَقَالَ: «إنْ وَجَدْتُمْ فُلاَنًا وَفُلانًا» لِرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ سَمَّاهُمَا «فَأَحْرِقُوهُمَا بالنَّارِ» ثُمَّ قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حِيْنَ أرَدْنَا الخرُوجَ: «إنِّي كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ أَنْ تُحْرِقُوا فُلانًا وفُلانًا، وإنَّ النَّارَ لا يُعَذِّبُ بِهَا إِلاَّ الله، فإنْ وَجَدْتُمُوهُما فاقْتُلُوهُما». (1) رواه البخاري.
1610 - وعن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كنَّا مَعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سَفَرٍ، فانْطَلَقَ لحَاجَتِهِ، فَرَأيْنَا حُمَّرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ، فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا، فَجَاءتِ الحُمَّرَةُ فَجَعَلَتْ تَعْرِشُ فَجَاءَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «مَنْ فَجَعَ هذِهِ بِوَلَدِهَا؟، رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْها». ورأَى قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ حَرَّقْنَاهَا، فَقَالَ: «مَنْ حَرَّقَ هذِهِ؟» قُلْنَا: نَحْنُ قَالَ: «إنَّهُ لا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبَ بالنَّارِ إِلاَّ رَبُّ النَّارِ». رواه أَبُو داود بإسناد صحيح.
قَوْله: «قَرْيَةُ نَمْلٍ» مَعْنَاهُ: مَوضْعُ النَّمْلِ مَعَ النَّمْلِ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- لا يحل لإنسان أن يعذب أحدًا بالإحراق؛ لأنه يمكن التعذيب بدونه، ويمكن إقامة الحدود بدون ذلك، فيكون الإحراق زيادة تعذيب لا حاجة.
- نسخ النبي ﷺ أمره الأول بأمره الثاني، أمره الأول أن يحرقا وأمره الثاني أن يقتلا، فدل ذلك على أن الإنسان إذا استحق القتل فإنه لا يحرق بالنار وإنما يقتل قتلا عاديا حسب ما تقتضيه النصوص الشرعية.
- إذا كان عندك نمل فإنك لا تحرقها بالنار وإنما تضع شيئا يطردها مثل الجاز إذا صفيته على الحجر فإنها تنفر بإذن الله ولا ترجع، وإذا لم يمكن اتقاء شرها إلا بمبيد يقتلها نهائيا، أعني النمل، فلا بأس، لأن هذا دفع لأذاها، وإلا فالنمل مما نهى النبي ﷺ عن قتله، لكن إذا آذاك ولم يندفع إلا بالقتل فلا بأس بقتله.
قال ابن باز ﵀:
- تحريم تعذيب الحيوانات وإيذائها بغير حق، سواء كانت تعقل أو لا تعقل، سواء كان من بني آدم أو من غير بني آدم لا يجوز للمسلم أن يعذب عباد الله لا أولاده ولا زوجته ولا أرقاؤه ولا دوابه، يجب عليه أن يقيد بالشرع ولا يجوز أن يتعدى الشرع؛ فالتأديب الشرعي للزوجة للولد للخادم لا بأس، أما التعذيب الذي ليس داخلاً في الأدب الشرعي، إنما هو يصدر من أجل الغضب أو الحقد أو ما أشبه ذلك، هذا لا يجوز، والواجب على المؤمن التقيد بالشرع .
- لا يجوز تحريق دور النمل ولا غير النمل كالجعران والقعس والعصافير وغير ذلك، يجب ترك ذلك فإذا أريد التخلص من أذاها يستعمل شيئاً آخر من المبيدات التي تبيدها من دون تعذيب بالنار، وفي هذا رحمة الحيوان.
- الرسول ﷺ رحم الحمرة التي جاءت إليه كأنّها تشكو من أخذ فرخيها فرد فرخيها عليها لما رأى من جزعها على فرخيها، هذا فيه الرحمة للحيوان فإذا أراد الإنسان أخذها، فلا بأس صيد يصيدها ويأكلها وفرخيها، أما أن يعذبها يأخذ فرخيها ويتركها، يتركهما جميعاً أو يأخذهما جميعاً، وهكذا الحمام، وهكذا نحوه هو صيد مباح، لكن يتحرى الإنسان الرحمة في مثل هذه المسائل، فإذا أخذ الطير وفرخها وانتفع بها لا بأس، أما أن يتساهل فيأخذ الفروخ ويترك الأم ليس هذا من الرحمة؛ بل ترك هذا أولى إما أن يأخذهم جميعاً أو يدعهم جميعاً.