باب النهي عن إضاعة المال في غير وجوهه التي أذن الشرع فيها


1781 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللهَ تعالى يَرْضَى لَكُمْ ثَلاَثًا، ويَكْرَهُ لَكُمْ ثَلاَثًا: فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ، وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ: قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وإضَاعَةَ المَالِ». رواه مسلم، وتقدم شرحه .
1782 - وعن ورَّادٍ كاتب المغيرة، قال: أَمْلَى عَلَيَّ المُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ في كِتابٍ إلَى مُعَاوِيَةَ - رضي الله عنه: أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ: «لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ» وَكَتَبَ إلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ، وَإضَاعَةِ المَالِ، وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ، وَكَانَ يَنْهَى عَنْ عُقُوقِ الأُمَّهَاتِ، وَوَأْدِ البَنَاتِ، وَمَنْعٍ وَهَاتِ. متفق عليه، وسبق شرحه.
قال ابن عثيمين ﵀:
- رتب ﷾ تقسيم المال في مواضع كثيرة بنفسه ﷿قال: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ﴾ [الأنفال: 41]، وقال: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا﴾ [التوبة: 60]، وقال تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ﴾ [النساء: 11]، وغيرها من آيات المواريث، كل هذا يدل على عناية الشرع بالمال وأنه أمر مهم ولهذا كان كثير من الدول الآن إنما تقوى باقتصادها ونماء مالها وغناها.
- المال أمر مهم فلا يجوز للإنسان أن يضيعه في غير فائدة، وإضاعته في غير فائدة أنواع متعددة منها: الإسراف في بذله فإن الإسراف محرم حتى في المآكل والمشرب والملابس والمراكب والمنازل، متى تجاوز الإنسان الحد فإنّه آثم، لقوله تعالى: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف: 31]، فمجاوزة الحد إسراف وهي محرمة وعرضة لأن يكره الله تعالى فاعلها.
- إنفاق المال يختلف؛ فالغني مثلاً قد يؤسس بيته أو يشتري سيارة أو يلبس الثياب التي لا تعد من حقه إسرافاً؛ لأنّه لم يتجاوز بها حد الغنى، لكن لو أنّ فقيراّ فعل مثل فعله قلنا: إنّ هذا إسراف وإنّه حرام، ولهذا يغلط كثير من الناس الآن من الفقراء ومتوسطي الحال أن يلحقوا أنفسهم بالأغنياء هذا غلط وخطأ، والإنسان كما قال العوام: "يمد رجله على قدر لحافه" إذا كان اللحاف واسعاً مد رجليك كلها، وإذا كان ضيقاً فكف رجليك، أما أن تكون فقيراً وتريد أن تساوي الأغنياء في مأكلك ومشربك وملبسك ومنكحك ومركوبك ومسكنك فهذا من السفه وهو حرام أيضا لا يحل للإنسان.
- من الإسراف تعدد الملابس بدون حاجة كثير من النساء الآن كلما ظهر شكل من أشكال اللباس ذهبت تشتريه حتى تملأ بيتها من الثياب بدون حاجة لكن ظهر شيء يختلف عن الأول بشيء بسيط تقول خلاص لا ألبسه وألبس الثوب الجديد.
- الرجل يجب أن يكون رجلاً يمنع زوجته من الإسراف سواء من مالها أو من ماله ومما لا يجوز بذل المال فيه أن يبذله في محرم كهؤلاء الذين يشترون الدخان بالمال فإنّ هذا حرام عليه وهو مما نهى الله عنه؛ لأنّه إضاعة للمال واضحة يبذل الإنسان ماله في شيء يحرقه.
- يحرم على الإنسان أن يشتري شيئاً يشربه من الدخان وهو بذلك آثم ومصر على معصية وتسقط عدالته بذلك وترتفع ولايته عن من له ولاية عليه، حتى إن كثيرا من العلماء يقول إنه لا يزوج ابنته إذا كان يشرب الدخان.
- من إضاعة المال أيضًا أن يصرفه الإنسان في شيء لا فائدة منه في ألعاب وما أشبه ذلك ومن هذه الألعاب النارية.
- (قيل وقال) معناه أن يشتغل الإنسان بالكلام بنقله قال فلان وقيل كذا وقيل كذا كما يوجد في كثير من المسرفين الآن الذين يعمرون مجالسهم بقولهم ماذا قيل اليوم وقال فلان وماذا تقول في فلان وما أشبه ذلك من الكلام الذي يضيع به الوقت .
- إضاعة الوقت في قيل وقال وكثرة السؤال هذا لا شك أشد ضرراً على الإنسان من إضاعة المال، إضاعة المال ربما يخلف لكن إضاعة الوقت لا يمكن أن تخلف الوقت يذهب ولا يرجع.
- كثرة السؤال يحتمل أن يراد به سؤال الخلق يعني لا تسأل الناس لا تكثر من السؤال، والسؤال إن كان سؤال مال فإنّه حرام بل لا يزال الإنسان يسأل ويسأل حتى يأتي يوم القيامة وما في وجهه مزعة لحم والعياذ بالله، ويحتمل أن يراد به كثرة السؤال عن أحوال الناس بدون حاجة وبدون فائدة ماذا تقول في فلان هل هو غني فقير متعلم أم جاهل وما أشبه ذلك، ويحتمل أن يراد به كثرة السؤال عن العلم الذي لا يحتاج إليه الإنسان ولاسيما في عهد النبوة؛ لأنه يخشى أن يسأل الإنسان عن شيء لم يحرم فيحرم من أجل مسألته أو عن شيء لم يجب فيوجب من أجل مسألته، ولكن الأخير هذا يقيد بما إذا لم يحتاج الإنسان إلى السؤال فإن كان يحتاج إلى ذلك كطالب العلم الذي يسأل ويستفهم فإنه لا بأس أن يسأل ويستفهم ويزيل اللبس عن نفسه.
قال ابن باز ﵀:
- المال له فوائد جمة وبه يتعامل الناس في هذه الدار في حاجاتهم من مأكل ومشرب وملبس ومركب ومسكن فلا تجوز إضاعته ولا الإسراف فيه ولا التبذير.
- الواجب على المؤمن وعلى كل مسلم أن يتقيد بالشرع في التصرف في ماله وألا يصرف المال في وجه لا يبيحه الشرح المطهر.
- (منع وهات)، ينبغي للمؤمن ألا يكون هكذا، يعني: يكون شحيح بخيل يبخل بطلب المال من كل طريق من حله وحرمه ويبخل به، لا يليق بالمؤمن هذا؛ بل يطلب المال من حاله وينفق في وجوهه هذا المشروع، أما أنه يكون بخيل حريص على المال من كل طريق ولو حراما هذا منكر عظيم.
- كثرة القيل والقال تفضي إلا ما لا تحمد عقباه، إما إلى كذب، إما إلى غيبة، وإما إلى نميمة فالحزم والمشروع للمؤمن أن يقول الخير أو ليصمت وأن يحفظ ماله، ولا يضع إلا فيما أباح الله له.
- المؤمن ينبغي له أن يتورع عن السؤال إلا في هذه المسائل: إذا تحمل حمالة للإصلاح أو لحاجته وحاجة أهله أو أصابته جائحة أو اشتد حاجته وشهد له ثلاثة من ذوي الحجا، من ذوي الديانة والعقل والبصيرة من قومه.

باب النهي عن الإشارة إلى مسلم بسلاح ونحوه، سواء كان جادًا أو مازحًا، والنهي عن تعاطي السيف مسلولًا


1783 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لاَ يُشِرْ أحَدُكُمْ إلَى أخِيهِ بِالسِّلاحِ، فَإنَّهُ لاَ يَدْرِي لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزعُ فِي يَدِهِ، فَيَقَع فِي حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ». متفق عليه.
وفي رواية لمسلم قال: قال أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أشَارَ إلَى أخِيهِ بِحَدِيدَةٍ، فَإنَّ المَلاَئِكَةَ تَلْعَنُهُ حَتَّى يَنْزعَ، وَإنْ كَانَ أخَاهُ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ».
قوله - صلى الله عليه وسلم: «يَنْزع» ضُبِطَ بالعين المهملة مع كسر الزاي، وبالغين المعجمة مع فتحها، ومعناهما مُتَقَارِبٌ، وَمَعنَاهُ بالمهملةِ يَرْمِي، وبالمعجمةِ أيضًا يَرْمِي وَيُفْسِدُ. وَأصْلُ النَّزْعِ: الطَّعْنُ وَالفَسَادُ.
1784 - وعن جابر - رضي الله عنه - قال: نهى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُتَعَاطَى السَّيْفُ مَسْلُولًا. رواه أبو داود والترمذي، وقال: «حديث حسن».
قال ابن عثيمين ﵀:
- ‌‌هاتان مسألتان: المسألة الأولى: أن يشير إلى أحدٍ بسلاحٍ أو حديدةٍ أو حجرٍ أو ما أشبه ذلك كأنه يريد أن يرميه به، فقد نهى النبي ﷺ عن ذلك، لأنّه ربما يشيرها هكذا كأنّه يريد أن يرميه بالحجر أو بالحديدة أو نحوها فينزع الشيطان في يده وتنطلق من يده، فيقع في حفرة من النار، والعياذ بالله، وكذلك أيضًا ما يفعله بعض السفهاء، يأتي بالسيارة مسرعًا نحو شخص واقف أو جالس أو مضطجع يلعب عليه ثم يحركها بسرعة إذا قرب منه حتى لا يدهسه هذا أيضًا ينهى عنه، كالإشارة بالحديدة لأنّه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يده فلا يتحكم في السيارة وحينئذٍ يقع في حفرة من النار، ومن ذلك أن يشري الكلب به، يكون الإنسان عنده كلب ويأتي إنسان آخر إليه زائرا أو نحو ذلك، فيشري الكلب به يعني يغريه به، فإنه ربما ينطلق الكلب ويأكل هذا الرجل، أو يجرحه ولا يتمكن من فضه بعد ذلك.
- جميع أسباب الهلاك ينهى الإنسان أن يفعلها سواءً أكان جاداً أم هزلاً، كما دل على ذلك حديث أبي هريرة، أما تعاطي السيف مسلولا فمثله أيضاً ينهى عنه؛ لأنّه ربما إذا مد يده لأخذ السيف وهو مسلول ربما تضطرب يد الإنسان فتنقطع يد الآخر.
- وكذلك السكين ونحوها لا تتعاطها وهي موجهه إلى صاحبك، إذا أردت أن تعطيه السكين فأمسك بالسكين من عندك، واجعل المقبض نحو صاحبك لئلا تقع في المحظور، يعني ريشة السكين إذا أردت أن تعطيها لصاحبك فاجعلها مما يليك، واجعل المقبض مما يلي صاحبك حتى لا يقع في زلة يد فتنجرح يده.
- من ذلك أيضًا إذا كان معك عصى وأنت تمشي بين الناس فلا تحمله عرضاً؛ لأنك إذا حملته عرضا ربما يتعثر به من ورائك أو من أمامك، ولكن أمسكه نصباً واقفا أو أن تتعكز عليه تمسكه واقفاً حتى لا تؤذي من وراءك ومن أمامك، كل هذا من باب الآداب الحميدة التي ينبغي للإنسان أن يسلكها في حياته حتى لا يقع في أمر يؤذي الناس أو يضرهم.
قال ابن باز ﵀:
- تحريم تعاطي ما يسبب شرًا على أخيه المسلم، لا بالسلاح ولا بالعصا ولا بغيرها.
- الواجب احترام المسلم والحذر من إيصال الشر إليه بالفعل أو القول، ومن ذلك الإشارة بالحديدة أو بالسلاح ولو مازحًا لا يجوز؛ لأنّ الشيطان قد ينزغ في يديه، ويزين له ضرب أخيه أو ينزع السلاح من يده حتى يقع من غير اختيار فيضر أخاه.
- المسلم محترم، حرمته عظيمة فلا يجوز ظلمه لا بقول ولا بفعل ولا التعرض للشيء الذي يسبب شرًا عليه كالإشارة بالسلاح أو بالحديدة، أو بشيء مثقل أو محاولة طرحه من سطح أو جدار أو من نخلة أو ما أشبه ذلك، كل هذا يسبب شرًا عليه، ولو كان مازحًا فقد يقع بالمزاح شر كبير.

باب كراهة الخروج من المسجد بعد الأذان إلا لعذر حتى يصلي المكتوبة


1785 - عن أبي الشَّعْثَاءِ، قالَ: كُنَّا قُعُودًا مَع أبي هريرة - رضي الله عنه - في المَسْجِدِ، فَأَذَّن المُؤَذِّنُ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ المَسْجِدِ يَمْشِي، فَأَتْبَعَهُ أبُو هُريرَةَ بَصَرَهُ حَتَّى خَرَجَ مِنَ المَسْجِدِ، فقال أبو هريرة: أمَّا هذَا فَقَدْ عَصَى أبا القَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم.
قال ابن عثيمين ﵀:
- المؤذن إذا أذن فإنه يقول للناس: (حي على الصلاة) يعني: اقبلوا إليها، والخروج من المسجد بعد ذلك معصية، فإنه يقال أقبِل ولكنه يدبر .
- استدل العلماء بهذا الحديث على أنّه يحرم الخروج من المسجد بعد الأذان لمن تلزمه الصلاة إلا لعذر فمن العذر: أن يكون حاقنا يعني يحتاج إلى بول أو حاقناً يحتاج إلى غائط أو معه ريح محتبسة يحتاج إلى أن ينقض الوضوء أو أصابه مرض يحتاج إلى أن يخرج معه أو كان إماماً لمسجدٍ آخر أو مؤذناً في مسجدٍ آخر.
- إذا خرج من هذا المسجد ليصلي في مسجد آخر فهذا فيه توقف قد يقول قائل فالحديث عام وقد يقول قائل إنّ الحديث فيمن خرج لئلا يصلي مع جماعة، وعلى كلٍ لا ينبغي أن يخرج حتى وإن كان يريد أن يصلي في مسجدٍ آخر إلا لسبب شرعي مثل أن يكون في المسجد الثاني جنازة يريد أن يصلي عليها، أو يكون المسجد الثاني أحسن قراءة من المسجد الذي هو فيه أو ما أشبه ذلك من الأسباب الشرعية فهنا نقول لا بأس أن يخرج.
قال ابن باز ﵀:
- خروجه يوجب تهمته بأنّه متساهل في الجماعة، ينبغي أن يبعد الريبة عن نفسه وسبب سوء الظن.

باب كراهة رد الريحان لغير عذر


1786 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم: «مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ رَيْحَانٌ، فَلاَ يَرُدَّهُ، فَإنَّهُ خَفيفُ المَحْمِلِ، طَيِّبُ الرِّيحِ». رواه مسلم.
1787 - وعن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ لاَ يَرُدُّ الطِّيبَ. رواه البخاري.
قال ابن عثيمين ﵀:
- الريحان نوع من الطيب وهو كما وصفه النبي ﷺ خفيف المحمل طيب الريح، وقد أرشد النبي ﷺ إلى عدم رده.
- كان النبي ﷺ يعجبه الطيب حتى قال: (حبب إلي من دنياكم الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة).
- ينبغي للإنسان أن يستعمل الطيب دائمًا؛ لأنّه علامة على طيب العبد فإنّ الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات والله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً.
- إذا أهدى إليك الطيب فلا ترده؛ لأنّ النبي ﷺ كان لا يرد الطيب، ولاسيما إذا كان كما وصف النبي ﷺ في الريحان إذا كان خفيف المحمل طيب الريح؛ لأنّه لا يضرك شيء.
- لو خفت أنّ هذا الذي أهدي إليك الطيب سيتكلم في المجالس أو أن يمن عليك في المستقبل ويقول أنا أهديت إليك كذا وهذا جزائي ويريد منك أن يستخدمك بما أهدي إليك فهنا لا تقبل الهدية؛ لأنّ هذا يبطل أجره وثوابه بالمن والأذى، أما إذا كان لا يضرك منه شيء فإن الأفضل أن لا ترده.
قال ابن باز ﵀:
- استحباب عدم رد الطيب؛ لأنّه خفيف المحمل، طيب الريح، الريحان وأنواع الطيب إذا عرض عليك أخوك طيب فلا ترده، لكونه خفيف المحمل طيب الرائحة، خفيف المؤنة إلا من عذر شرعي.
- إذا عرض أخوك عليك شيئاً من طيب يضعه في يدك أو يبخره، أما إذا كان شيئاً له قيمة تقول: أقبله بالثمن، كان لا يرد الهدية ويقبلها بالثمن إذا كان له قيمة تقول: أن أقبلها لكن بالثمن إلا إذا كان بينك وبينه صفة خاصة ما تحتاج فيها الثمن هذا شيء آخر.

باب كراهة المدح في الوجه لمن خيف عليه مفسدة من إعجاب ونحوه، وجوازه لمن أمِنَ ذلك في حقه


1788 - وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: سَمِعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلًا يُثْنِي عَلَى رَجُلٍ وَيُطْرِيهِ في المِدْحَة، فقالَ: «أهْلَكْتُمْ - أوْ قَطَعْتُمْ - ظَهْرَ الرَّجُلِ». متفق عليه.
«وَالإطْرَاءُ»: المُبَالَغَةُ فِي المَدْحِ.
1789 - وعن أبي بكرة - رضي الله عنه: أنَّ رجلًا ذُكِرَ عند النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَثْنَى عَلَيْهِ رَجُلٌ خَيْرًا، فقال النبيّ - صلى الله عليه وسلم: «وَيْحَكَ! قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ» يَقُولُهُ مِرَارًا: «إنْ كَانَ أحَدُكُمْ مَادِحًا لاَ مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ: أحْسِبُ كَذَا وَكَذَا إنْ كَانَ يَرَى أنَّهُ كَذَلِكَ وَحَسِيبُهُ اللهُ، وَلاَ يُزَكّى عَلَى اللهِ أحَدٌ». متفق عليه.
1790 - وعن همام بن الحارث، عن المِقْدَادِ - رضي الله عنه: أنَّ رَجُلًا جَعَلَ يَمْدَحُ عُثْمانَ - رضي الله عنه - فَعَمِدَ المِقْدَادُ، فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَجَعَلَ يَحثو في وَجْهِهِ الحَصْبَاءَ . فقالَ لَهُ عُثْمَانُ: مَا شَأنُكَ؟ فقال: إنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذَا رَأَيْتُمُ المَدَّاحِينَ، فَاحْثُوا فِي وُجُوهِهِمُ التُّرَابَ». رواه مسلم.
فهذهِ الأحاديث في النَهي، وجاء في الإباحة أحاديث كثيرة صحيحة.
قال العلماءُ: وطريق الجَمْعِ بين الأحاديث أَنْ يُقَالَ: إنْ كان المَمْدُوحُ عِنْدَهُ كَمَالُ إيمانٍ وَيَقينٍ، وَرِيَاضَةُ نَفْسٍ، وَمَعْرِفَةٌ تَامَّةٌ بِحَيْثُ لاَ يَفْتَتِنُ، وَلاَ يَغْتَرُّ بِذَلِكَ، وَلاَ تَلْعَبُ بِهِ نَفْسُهُ، فَليْسَ بِحَرَامٍ وَلاَ مَكْرُوهٍ، وإنْ خِيفَ عَلَيْهِ شَيءٌ مِنْ هذِهِ الأمورِ، كُرِهَ مَدْحُهُ في وَجْهِهِ كَرَاهَةً شَديدَةً، وَعَلَى هَذا التَفصِيلِ تُنَزَّلُ الأحاديثُ المُخْتَلِفَةُ فِي ذَلكَ.
وَمِمَّا جَاءَ فِي الإبَاحَةِ قَولُهُ - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكْرٍ - رضي الله عنه: «أرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ» أيْ مِنَ الَّذِينَ يُدْعَونَ مِنْ جَمِيعِ أبْوابِ الجَنَّةِ لِدُخُولِهَا.
وَفِي الحَدِيثِ الآخر: «لَسْتَ مِنْهُمْ »: أيْ لَسْتَ مِنَ الَّذِينَ يُسْبِلُونَ أُزُرَهُمْ خُيَلاَءَ.
وَقالَ - صلى الله عليه وسلم - لعُمَرَ - رضي الله عنه: «مَا رَآكَ الشَّيْطَانُ سَالِكًا فَجًّا إلاَّ سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ».
والأحاديثُ في الإباحة كثيرةٌ، وقد ذكرتُ جملةً مِنْ أطْرَافِهَا في كتاب «الأذكار» .
قال ابن عثيمين ﵀:
- هل ينبغي للإنسان أن يمدح أخاه بما هو فيه أو لا وهذا له أحوال:
• الحالة الأولى: أن يكون في مدحه خير وتشجيع له على الأوصاف الحميدة والأخلاق الفاضلة فهذا لا بأس به؛ لأنّه تشجيع لصاحبه فإذا رأيت من رجل الكرم والشجاعة وبذل النفس والإحسان إلى الغير فذكرته بما هو فيه أمامه من أجل أن تشجعه وتثبته حتى يستمر على ما هو عليه فهذا حسن وهو داخل في قوله تعالى: ‎﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ﴾‏ [المائدة: 2].
• الحالة الثانية: أن تمدحه لتبين فضله بين الناس وينتشر ويحترمه الناس كما فعل النبي ﷺ مع أبي بكر وعمر ﵄.
• الحالة الثالثة: أن يمدح غيره ويغلو في إطرائه ويصفه بما لا يستحق فهذا محرم وهو كذب وخداع، وهو أيضًا ضرر على الممدوح.
• الحالة الرابعة: أن يمدحه بما هو فيه لكن يخشى أنّ الإنسان الممدوح يغتر بنفسه ويزهو بنفسه ويترفع على غيره فهذا أيضًا محرم لا يجوز.
- (ويحك قطعت عنق صاحبك) يعني كأنّك ذبحته بسبب مدحك إياه؛ لأنّ ذلك يوجب أن هذا الممدوح يترفع ويتعالى وقد أمر النبي ﷺ أن يحثى التراب في وجوه المداحين .
- المداح غير المادح؛ المادح هو الذي يسمع منه مرة بعد أخرى، لكن المداح كلما جلس عند إنسان كبيرٍ أو أميرٍ أو قاضٍ أو عالمٍ أو ما أشبه ذلك قام يمدحه، هذا حقه أن يُحثى في وجهه التراب.
- ينبغي للإنسان ألا يتكلم إلا بخير؛ لأنّ النبي ﷺ قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت).
قال ابن باز ﵀:
- المدح خطير جدًا، مدح الإنسان في وجه قد يفضي به إلى العجب، قد يفضي إلى ما لا تحمد عقباه.
- الجزم بالمدائح قد يفضي إلى عجب الممدوح، وأيضاً قد يضر آخرون من اللذين يعتقدون فيه أنه كما قال هذا المادح؛ ولكن يقول: أحسب كذا إلا إذا كان ممن يوثق به وكان المدح قليلًا فلا بأس.
- إذا كان المدح قليلا لا يترتب عليه خطر فلا باس به، وكما جرى من بين الصحابة ﵃ وأرضاهم في الشيء القليل الذي لا يخشى منه لا بأس، أو كان ميتا الممدوح لا يضر، لأنّه ميت لا يخشى عليه فإذا قيل للميت إنّه رجل صالح وإنه كذا، يدعى له يرجى له الخير.