تابع باب أحاديث الدّجال وأشراط الساعة وغيرها


1851 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم: «أيُّهَا النَّاسُ، إنَّ اللهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إلاَّ طَيِّبًا، وإنَّ اللهَ أَمَرَ المُؤمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ المُرْسَلِينَ. فقالَ تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا﴾ [المؤمنون: 51]، وقال تعالى: ﴿يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ [البقرة: 172]. ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أشْعثَ أغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، ومَلبسُهُ حرامٌ، وَغُذِّيَ بالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟ رواه مسلم.
قال ابن باز ﵀:
- الواجب على المؤمن أن يستعين بنعم الله على طاعة الله، وأن يشكر الله على نعمه، فالله أباح له الطيبات ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ [البقرة:29]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا﴾ [البقرة:168]، الله أباح لهم الطيبات من المآكل والمشارب والملابس والمناكح كلها من الطيبات، فعليهم أن يستعملوا الطيبات وأن يشكروا لله ويعملوا صالحًا شكرًا لله ﷿.
- المؤمن يتحرى في مكسبه الكسب الطيب ويحذر من المكاسب الخبيثة بالخيانة أو بالغش أو بالربا أو بالسرقة، أو ما أشبه ذلك.. يحذر! عليه أن يتقي الله وأن يعتني بالمكاسب الطيبة من الزراعة والبيع الطيب و التجارة السليمة، وما أشبه ذلك..

1852 - وعنه - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم: «ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَلاَ يُزَكِّيهِمْ، وَلاَ يَنْظُرُ إلَيْهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: شَيْخٌ زَانٍ، وَمَلِكٌ كَذَّابٌ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ»
. رواه مسلم.
«العَائِلُ»: الفَقِيرُ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- لا يكلمهم الله يوم القيامة تكليم رضا، وإلا فإنّه ﷿ يتكلم تكليم غضب حتى يكلم أهل النار لما قالوا: ﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ﴾، قال لهم: ﴿قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾ [المؤمنون: 107-108].
- السلطان يقول وينفذ ويفعل ولا حاجة له إلى الكذب، وإنّما عامة الرعية ربما يحتاج الواحد منهم إلى الكذب لينقذ نفسه، لكن السلطان الملك ليس له حاجة إلى الكذب.
- الفقير ليس له سبب يستكبر به على الناس، فإذا استكبر دل ذلك على خبثه وخبث طويته وأنه رجل طبع على الكبرياء والعياذ بالله.

1853 - وعنهُ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم: «سَيْحَانُ وَجَيْحَانُ وَالفُرَاتُ وَالنِّيلُ كُلٌّ مِنْ أَنْهَارِ الجَنَّةِ» . رواه مسلم.
قال ابن عثيمين ﵀:
- يقول الله تعالى: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)، لكن سيحون وجيحون والنيل والفرات معلومة، وهي تأسن تتغير مع طول المدة، فللعلماء فيها تأويلات:
• أنّها من أنهار الجنة حقيقة لكن لما نزلت إلى الأرض صار لها حكم أنهار الدنيا.
• أنّها ليست من أنهار الجنة حقيقة لكنها أطيب الأنهار وأفضلها، فذكر النبي ﷺ هذا الوصف لها من باب رفع شأنها والثناء عليها، والله أعلم بما أراد رسوله ﷺ.

1854 - وعنه، قال: أخَذَ رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدِي فَقَالَ: «خَلَقَ اللهُ التُّرْبَةَ يَومَ السَّبْتِ، وَخَلَقَ فيها الجِبَالَ يَومَ الأحَدِ، وَخَلَقَ الشَّجَرَ يَومَ الإثْنَينِ، وَخَلَقَ المَكْرُوهَ يَومَ الثُّلاَثَاءِ، وَخَلَقَ النُّورَ يَوْمَ الأربِعَاءِ، وَبَثَّ فِيهَا الدَّوابَّ يَومَ الخَمِيسِ، وَخَلَقَ آدَمَ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ العَصْرِ مِنْ يَومِ الجُمُعَةِ في آخِرِ الخَلْقِ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنَ النَّهَارِ فِيمَا بَيْنَ العَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ» . رواه مسلم.
1855 - وعن أَبي سليمان خالد بن الوليد - رضي الله عنه - قَالَ: لَقَدِ انْقَطَعتْ في يَدِي يَوْمَ مُؤْتَةَ تِسْعَةُ أسْيَافٍ، فَمَا بَقِيَ فِي يَدِي إِلاَّ صَفِيحَةٌ يَمَانِيَّةٌ. رواه البخاري.
1856 - وعن عمرو بن العاص - رضي الله عنه: أنَّه سَمِعَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: «إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ، ثُمَّ أَصَابَ، فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ وَاجْتَهَدَ، فَأَخْطَأَ، فَلَهُ أَجْرٌ». متفق عَلَيْهِ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- المراد بالحاكم هنا القاضي، والظاهر أنّ المفتي مثله، يعني أن الإنسان إذا اجتهد في طلب الحق وتبين له شيء من الحق ثم أفتى به أو حكم به فهو على خير، إن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد، ولا يضيع الله تبارك وتعالى أجر من أحسن عملا.

1857 - وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عنها: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فَأَبْرِدُوهَا بِالمَاءِ». متفق عَلَيْهِ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- كيف وصل فيح جهنم إلى بدن الإنسان فهذا أمره إلى الله ولا نعرفه، لكن نقول كما قال النبي ﷺ (إنّ الحمى من فيح جهنم).
- الماء من أسباب الشفاء لمن أصيب بالحمى، وقد شهد الطب الحديث بذلك؛ فكان من جملة علاجات الحمى أنّهم يأمرون، أي الأطباء، المريض أن يتحمم بالماء، وكلما كان أبرد على وجه لا مضرة فيه فهو أحسن، وبذلك تزول الحمى بإذن الله.

1858 - وعنها رَضِيَ اللهُ عنها، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَومٌ، صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» متفق عَلَيْهِ.
وَالمُخْتَارُ جَوَازُ الصَّومِ عَمَّنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ لِهَذَا الحَدِيثِ، وَالمُرادُ بالوَلِيِّ: القَرِيبُ وَارِثًا كَانَ أَوْ غَيْرَ وَارِثٍ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- إذا قدر أنّ رجلاً أفطر في رمضان لأنّه مسافر، ثم تهاون بعد رمضان ولم يقض؛ لأنه يجوز أن يؤخر القضاء إلى شعبان ولكنه مات قبل القضاء، فإن وليه، أي وارثه، يصوم عنه من أم، أو أب، أو ابن، أو بنت، أو زوجة، وهذا ليس على سبيل الوجوب بل الاستحباب فإن لم يصم وليه أطعم عنه عن كل يوم مسكيناً.
- لو كان عليه كفارة ومات قبل أن يؤديها مع تمكنه منها فإنّه يصوم عنه وليه، وكذلك لو نذر أن يصوم ثلاثة أيام ومات قبل أن يصوم فإنه يصوم عنه وليه، فإن لم يفعل فإنّه يطعم عن كل يوم مسكيناً.

1859 - وعن عوف بن مالِك بن الطُّفَيْلِ: أنَّ عائشة رَضِيَ اللهُ عنها، حُدِّثَتْ أنَّ عبدَ اللهِ بن الزبير رضي الله عنهما، قَالَ في بَيْعٍ أَوْ عَطَاءٍ أعْطَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عنها: واللهِ لَتَنْتَهِيَنَّ عَائِشَةُ أَوْ لأَحْجُرَنَّ عَلَيْهَا، قالَتْ: أَهُوَ قَالَ هَذَا! قالوا: نَعَمْ. قَالَتْ: هُوَ للهِ عَلَيَّ نَذْرٌ أَنْ لا أُكَلِّمَ ابْنَ الزُّبَيْرِ أَبَدًا، فَاسْتَشْفَعَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِلَيْهَا حِيْنَ طَالَتِ الهِجْرَةُ. فَقَالَتْ: لاَ، واللهِ لاَ أشْفَعُ فِيهِ أبدًا، وَلاَ أَتَحَنَّثُ إِلَى نَذْرِي. فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيرِ كَلَّمَ المِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ، وَعبدَ الرحْمَانِ ابْنَ الأسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ وقَالَ لَهُمَا: أنْشُدُكُمَا اللهَ لَمَا أدْخَلْتُمَانِي عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها، فَإنَّهَا لاَ يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَنْذِرَ قَطِيعَتِي، فَأقْبَلَ بِهِ المِسْوَرُ، وَعَبدُ الرحْمَانِ حَتَّى اسْتَأذَنَا عَلَى عَائِشَةَ فَقَالاَ: السَّلاَمُ عَلَيْكِ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، أنَدْخُلُ؟ قالت عَائِشَةُ: ادْخُلُوا. قالوا: كُلُّنَا؟ قالتْ: نَعَمْ ادْخُلُوا كُلُّكُمْ، وَلاَ تَعْلَمُ أَنَّ معَهُمَا ابْنَ الزُّبَيرِ، فَلَمَّا دَخَلُوا دَخَلَ ابْنُ الزُّبَيرِ الحِجَابَ فَاعْتَنَقَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها، وَطَفِقَ يُنَاشِدُهَا وَيَبْكِي، وَطَفِقَ المِسْوَرُ، وَعَبدُ الرَّحْمَانِ يُنَاشِدَانِهَا إِلاَّ كَلَّمَتْهُ وَقَبِلَتْ مِنْهُ، وَيَقُولانِ: إنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَمَّا قَدْ عَلِمْتِ مِنَ الهِجْرَةِ؛ وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَى عَائِشَة مِنَ التَّذْكِرَةِ وَالتَّحْرِيجِ، طَفِقَتْ تُذَكرُهُمَا وَتَبْكِي، وَتَقُولُ: إنِّي نَذَرْتُ وَالنَّذْرُ شَدِيدٌ، فَلَمْ يَزَالاَ بِهَا حَتَّى كَلَّمَتِ ابْنَ الزُّبَيرِ، وأعْتَقَتْ فِي نَذْرِهَا ذَلِكَ أرْبَعِينَ رَقَبَةً، وَكَانَتْ تَذْكُرُ نَذْرَهَا بَعدَ ذَلِكَ فَتَبكِي حَتَّى تَبِلَّ دُمُوعُهَا خِمَارَهَا. رواه البخاري.
قال ابن عثيمين ﵀:
- (لئن لم تنته لأحجرن عليها) هذه كلمة شديدة بالنسبة لأم المؤمنين عائشة ﵂؛ لأنها خالته، وعندها من الرأي والعلم والحلم والحكمة ما لا ينبغي أن يقال فيها ذلك القول، والحجر عليها يعني: منعها من التصرف في مالها أو التبرع الكبير.
- أخبرها بذلك الواشون، الذين يشون بين الناس ويفسدون بينهم بالنميمة والعياذ بالله، والنميمة من كبائر الذنوب وقد حذر الله من النمام وإن حلف، فقال: ﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ ‎١٠‏ هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ‏﴾ [القلم: 10-11].
- الكذب في الإصلاح بين الناس باللسان جائز، فكيف بالأفعال.
- كل من كان بالله أعرف كان منه أخوف، كلما تذكرت عائشة أم المؤمنين هذا النذر وأنّها انتهكته، بكت ڤ.
- في هذا دليلٌ على شدة إيمان أمهات المؤمنين وحرصهن على العتق من النار، والبراءة من عذاب الكفار.
- الإنسان لا يحل له أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام؛ ولاسيما إذا كان قريباً، وأنه يجب عليه أن يحنث ويكفر، لقول النبي ﷺ: (من حلف على يمين فرأى خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير) والله ﷿ غفور رحيم.
- فضيلة الإصلاح بين الناس، ومعلوم أنّ الإصلاح بين الناس من أفضل الأعمال، قال الله تعالى ﴿لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 114].
- جواز الحيل إذا لم تصل إلى شيء محرم؛ لأنّ عائشة ﵂ تحيل عليها الرجلان في الدخول عليها ومعهما عبد الله بن الزبير.
- رقة قلوب الصحابة وسرعة بكائهم ﵃ من خشية الله ﷿، وهذا دليلٌ على لين القلب وخشيته لله، وكلما كان قلب الإنسان أقسى كان من البكاء أبعد والعياذ بالله.
- الناس لما كانوا أقرب للآخرة من اليوم نجد فيهم الخشوع والبكاء وقيام الليل واللجوء إلى الله والصدقة وفعل الخير، لكن لما قست القلوب صارت المواعظ تمر عليها مرور الماء على الصفا لا تنتفع به إطلاقا، نسأل الله لنا ولكم العافية.

1860 - وعن عُقْبَةَ بن عامِرٍ - رضي الله عنه: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ إِلَى قَتْلَى أُحُدٍ، فَصَلَّى عَلَيْهِمْ بَعْدَ ثَمَانِ سِنينَ كَالمُوَدِّعِ لِلأَحْيَاءِ وَالأَمْوَاتِ، ثُمَّ طَلَعَ إِلَى المِنْبَرِ، فَقَالَ: «إنِّي بَيْنَ أيْدِيكُمْ فَرَطٌ وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ وإنَّ مَوْعِدَكُمُ الحَوْضُ، وإنِّي لأَنْظُرُ إِلَيْهِ مِنْ مَقَامِي هَذَا، أَلاَ وإنِّي لَسْتُ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا، وَلَكِنْ أخْشَى عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا أَنْ تَنَافَسُوهَا» قَالَ: فَكَانَتْ آخِرَ نَظْرَةٍ نَظَرْتُهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم. متفق عَلَيْهِ.
وفي رواية: «وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا، وَتَقْتَتِلُوا فَتَهْلِكُوا كما هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ». قَالَ عُقْبَةُ: فكانَ آخِرَ مَا رَأيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى المِنْبَرِ.
وفي روايةٍ قَالَ: «إنِّي فَرَطٌ لَكُمْ وَأنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ وإنِّي واللهِ لأَنْظُرُ إِلَى حَوْضِي الآنَ، وإنِّي أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الأَرْضِ، أَوْ مَفَاتِيحَ الأرْضِ، وإنِّي واللهِ مَا أخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي، وَلَكِنْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا».
وَالمُرَادُ بِالصَّلاَةِ عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ: الدُّعَاءُ لَهُمْ، لاَ الصَّلاَةُ المَعْرُوفَةُ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- هذا الحوض يرده الناس وهم عطاش من طول المقام يوم القيامة ويشرب منه المؤمنون، جعلنا الله وإياكم ممن يشربون منه بمنه وكرمه، ويذاد عنه الكافرون فمن شرب من شريعته في الدنيا واهتدى بسنته واتبع آثاره؛ فليبشر أنه سيشرب من حوضه يوم القيامة، ومن لم يكن كذلك حرم إياه والعياذ بالله.
- كان الرسول ﷺ يقول إنه ينظر إلى حوضه الآن، كشف له عنه في الدنيا كما كشف عنه حين رأى الجنة والنار في صلاة الكسوف، وهذه أمور غيبية لا نعرف كيف كذلك، ولكن الله ورسوله أعلم، المهم علينا أن نؤمن ونصدق.
- قال ﷺ: (لا أخاف) وهذا بناء على وقوع الدعوة في عهده ﷺ، وبيان التوحيد وتمسك الناس به، لكن لا يلزم من هذا أن يستمر ذلك إلى يوم القيامة، ويدل لهذا أنه صح عن الرسول ﷺ: (لا تقوم الساعة حتى تعبد فئام من أمتي الأوثان) أي جماعات كبيرة.
- أصبح الناس الآن يتقاتلون على الدنيا، والعجب أنّ الإنسان يسعى وراء الدنيا التي خلقت له، فيكون كأنه هو الذي خلق لها والعياذ بالله! يخدمها خدمة عظيمة، يرهق فيها بدنه وعقله وفكره وراحته والأنس بأهله، ثم ماذا؟ قد يفقدها في لحظة، يخرج من بيته ولا يرجع إليه، ينام على فراشه ولا يستيقظ، والعجب أن هذه الآيات نشاهدها.
- ما فائدة الدنيا وهي إلى هذا الحد في الغرور، لذلك أخبر النبي ﷺ وهو الرحيم بالمؤمنين الرؤوف بهم الشفيق عليهم، إنّما يخشى علينا أن تفتح الدنيا فنتنافس فيها، وهذا هو الواقع! فاحذر يا أخي لا تغرنك الحياة الدنيا ولا يغرنك بالله الغرور.
- إن وسع الله عليك الرزق وشكرته فهو خير لك، وإن ضيق عليك وشكرت فهو خير لك، أما أن تجعل الدنيا أكبر همك ومبلغ علمك؛ فهذا خسار في الدنيا والآخرة، أعاذنا الله وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
قال ابن باز ﵀:
- حديثه ﷺ في صلاته على أهل أحد في آخر حياته: صلاة على الميت، المشهور عند العلماء معناه: أنه دعا لهم دعاؤه للميت، لأن الشهيد لا يصلى عليه كما تقدم، فدعا لهم، يعني دعا لهم بالمغفرة والرحمة، كما يدعو للميت عند فراقه الدنيا في آخر حياته ﷺ.
- قوله ﷺ في الحديث الآخر: (إنّ الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن بالتحريش بينكم)، لا ينافي ما أخبر به النبي ﷺ من وقوع الشرك في هذه الأمة، وأنها لا تقوم الساعة حتى يلحق حي من المشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان، وأن الإسلام يكون غريبًا، كل هذا ثابت، ولكن الصحابة لكمال علمهم وفقههم وفضلهم لم يخاف عليهم هذا، ولكن خشي عليهم من أن يحرش الشيطان بينهم، كما قد وقع في فتنة عثمان، وفتنة علي ومعاوية ﵃.

1861 - وعن أَبي زيد عمرِو بن أخْطَبَ الأنصاريِّ - رضي الله عنه - قَالَ: صلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الفَجْرَ، وَصَعِدَ المِنْبَرَ، فَخَطَبَنَا حَتَّى حَضَرَتِ الظُّهْرُ، فَنَزَلَ فَصَلَّى، ثُمَّ صَعِدَ المِنْبَرَ فَخَطَبَنَا حَتَّى حَضَرَتِ العَصْرُ، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى، ثُمَّ صَعِدَ المِنْبَرَ فَخَطَبَنَا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَأَخْبَرَنَا بِمَا كَانَ وَبِمَا هُوَ كَائِنٌ، فَأَعْلَمُنَا أَحْفَظُنَا. رواه مسلم.
قال ابن عثيمين ﵀:
- يوم كامل من صلاة الفجر إلى غروب الشمس وهو ﷺ يخطب، ولم يذكر أنه خرج إلى البيت ليتغدى، أو نحو ذلك. فإما أن يكون صائما وإما أن يكون قد انشغل بما هو أهم.
- لم يذكر أنّه ﷺ صلى راتبة الظهر، فيكون هنا اشتغل عن الراتبة بما هو أهم؛ لأنّ موعظة الناس وتعليم الناس أهم من الراتبة، فإن دار الأمر بين أداء الراتبة والتعليم فالتعليم أفضل.
- في هذا دليل على قوة النبي ﷺ، ونشاطه، وحرصه على إبلاغ الرسالة حتى قام يوما كاملا.

1862 - وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: قَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللهَ فَلاَ يَعْصِهِ». رواه البخاري.
قال ابن عثيمين ﵀:
- بعض العلماء يرى أن النذر حرام، وأنّه لا يحل للإنسان أن ينذر؛ لأنّه يكلف نفسه ما هو في غنى عنه، وكم من إنسان نذر ولم يوف، وكم من إنسان نذر وتعب في الوفاء، وكم من إنسان نذر وذهب إلى أبواب العلماء يستفتيهم لعله يجد رخصة، المهم أن النبي ﷺ نهى عن النذر، واختلف علماء المسلمين في هذا النهي؛ فمنهم من قال إنّه للتحريم، ومنهم من قال إنه للكراهة.
- بعض الناس، نسأل الله لنا ولهم الهداية، إذا كان مريضا قال: لله علي نذر إن عافاني الله لأفعلن كذا وكذا، سبحان الله! الله لا يعافيك إلا إذا أعطيت الشرط؟.
- أشار النبي ﷺ فقال: (إن النذر لا يرد قضاء)، إذا أراد الله أمرا سواء نذرت أو لم تنذر سيتم، وقال: (إنه لا يأتي بخير) وصدق ﷺ.
- اعلم أنّك إذا نذرت على شرط فلم توف إذا حصل الشرط، فإنك مهدد بأمر عظيم! مهدد بنفاق يجعله الله في قلبك حتى تموت، قال الله ﷿: ﴿وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [التوبة: 75]، عاهدوا الله إن أعطانا مالا لنتصدق منه ونقوم بطاعة الله ﴿فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ﴾ [التوبة: 76]، وتم لهم مطلوبهم ﴿بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا﴾ [التوبة: 76]، ما وفوا بما عاهدوا الله عليه ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ﴾ [التوبة: 77]، نفاق دائم لا يوفقون إلى التوبة منه، ولا تنسلخ قلوبهم منه، بل يبقى في قلوبهم إلى أن يموتوا، والعياذ بالله.
- احذر النذر، وحذر إخوانك المسلمين، وقل للمريض إن أراد الله لك شفاء شفاك بدون نذر، وقل للتلميذ إن أراد الله أن تنجح نجحت بدون نذر، وقل لمن ضاع منه شيء إن أراد الله آتاك به من غير نذر، واصدق الله في نفسك إذا حصل ذلك الشيء؛ فحينئذ أشكر الله، تصدق بما شئت، صم، صل، أما أن تنذر وكأن الله ﷿ لا يأتي إلا إذا شرط له شرط! نسأل الله العافية.
- من نذر أن يعصي الله فلا يعص، ولكن ماذا يفعل؟ قال أهل العلم: "إنّه لا يعصِ الله، ويكفر كفارة يمين؛ يطعم عشرة مساكين، أو يكسوهم، أو يعتق رقبة، فإن لم يجد صام ثلاثة أيام متتابعة؛ لحديث ورد في ذلك عن النبي ﷺ".

1863 - وعن أمِّ شَرِيكٍ رَضِيَ اللهُ عنها: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أمرها بِقَتْلِ الأَوْزَاغِ وقال: «كَانَ يَنْفُخُ عَلَى إبْرَاهِيمَ» متفق عَلَيْهِ.
1864 - وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَتَلَ وَزَغَةً فِي أَوَّلِ ضَرْبَةٍ فَلَهُ كَذَا وَكَذَا حَسَنَةً، وَمَنْ قَتَلَهَا في الضَّرْبَةِ الثَّانِيَةِ فَلَهُ كَذَا وَكَذَا حَسَنَةً دُونَ الأولَى، وَإنْ قَتَلَهَا فِي الضَّرْبَةِ الثَّالِثَةِ فَلَهُ كَذَا وَكَذَا حَسَنَةً».
وفي رواية: «مَنْ قَتَلَ وَزَغًا في أَوَّلِ ضَرْبَةٍ كُتِبَ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وفي الثَّانِيَةِ دُونَ ذَلِكَ، وفي الثَّالِثَةِ دُونَ ذَلِكَ». رواه مسلم.
قَالَ أهلُ اللُّغة: «الوَزَغُ» العِظَامُ مِنْ سَامَّ أَبْرَصَ.