باب في الاقتصاد في العبادة


قَالَ الله تَعَالَى: ﴿طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾ [طه: 1]، وَقالَ تَعَالَى: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185].
142 - وعن عائشة رضي الله عنها: أنَّ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - دخل عَلَيْهَا وعِندها امرأةٌ، قَالَ: «مَنْ هذِهِ؟» قَالَتْ: هذِهِ فُلاَنَةٌ تَذْكُرُ مِنْ صَلاتِهَا. قَالَ: «مَهْ، عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ، فَواللهِ لاَ يَمَلُّ اللهُ حَتَّى تَمَلُّوا» وكَانَ أَحَبُّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَا دَاوَمَ صَاحِبُهُ عَلَيهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وَ «مهْ»: كَلِمَةُ نَهْي وَزَجْر. ومَعْنَى «لاَ يَمَلُّ اللهُ»: لاَ يَقْطَعُ ثَوَابَهُ عَنْكُمْ وَجَزَاء أَعْمَالِكُمْ ويُعَامِلُكُمْ مُعَامَلةَ المَالِّ حَتَّى تَمَلُّوا فَتَتْرُكُوا، فَيَنْبَغِي لَكُمْ أَنْ تَأخُذُوا مَا تُطِيقُونَ الدَّوَامَ عَلَيهِ لَيدُومَ ثَوابُهُ لَكُمْ وَفَضْلُهُ عَلَيْكُمْ.
قال ابن عثيمين ﵁:
- ينبغي للإنسان أن يعمل العبادة على وجه مقتصد، لا غلو ولا تفريط، حتى يتمكن من الاستمرار عليها، وأحب العمل إلى الله أدومه وإن قلّ.
قال ابن باز ﵁:
- (فَوَاللَّه لا يَمَلُّ اللَّهُ حتَّى تَمَلُّوا) هذه من صفات الله ﷿؛ ملل يليق بالله لا يشابه خلقه في شيء من صفاته لا في ملل ولا في غيره ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى:11].

143 - وعن أنس - رضي الله عنه - قَالَ: جَاءَ ثَلاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أزْوَاجِ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا أُخْبِروا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا وَقَالُوا: أَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَقدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأخَّرَ. قَالَ أحدُهُم: أمَّا أنا فَأُصَلِّي اللَّيلَ أبدًا. وَقالَ الآخَرُ: وَأَنَا أصُومُ الدَّهْرَ أَبَدًا وَلا أُفْطِرُ. وَقالَ الآخر: وَأَنا أعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أتَزَوَّجُ أبَدًا. فجاء رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم، فَقَالَ: «أنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ أَمَا واللهِ إنِّي لأخْشَاكُمْ للهِ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أصُومُ وَأُفْطِرُ، وأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّساءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي». مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
قال ابن باز ﵁:
- الواجب على أهل الإيمان التأسي بالنبي ﷺ والحذر من الغلو والتكلف وما يؤدي إلى المشقة التي نهى الله عنها سبحانه.
قال ابن عثيمين ﵁:
- في هذا دليل على أنه ينبغي للإنسان أن يقتصد في العبادة، بل ينبغي له أن يقتصد في جميع أموره، لأنه إن قصر فاته خير كثير ، وإن شدد فإنه سوف يكل ويعجز.

144 - وعن ابن مسعود - رضي الله عنه: أنّ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «هَلَكَ المُتَنَطِّعُونَ» قالها ثَلاثًا. رواه مسلم.
«المُتَنَطِّعونَ»: المتعمقون المشددون في غير موضِعِ التشديدِ.
قال ابن عثيمين ﵁:
- كل من شدد على نفسه في أمر قد وسع الله له فيه فإنه يدخل في هذا الحديث.

145 - عن أَبي هريرةَ - رضي الله عنه - عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّيْنُ أحدا إلاَّ غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ». رواه البخاري.
وفي رواية لَهُ: «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاغْدُوا وَرُوحُوا، وَشَيءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ، القَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغُوا».
قوله: «الدِّينُ»: هُوَ مرفوع عَلَى مَا لَمْ يسم فاعله. وروي منصوبًا وروي «لن يشادَّ الدينَ أحدٌ». وقوله - صلى الله عليه وسلم: «إلا غَلَبَهُ»: أي غَلَبَهُ الدِّينُ وَعَجَزَ ذلِكَ المُشَادُّ عَنْ مُقَاوَمَةِ الدِّينِ لِكَثْرَةِ طُرُقِهِ. وَ «الغَدْوَةُ»: سير أولِ النهارِ. وَ «الرَّوْحَةُ»: آخِرُ النهارِ. وَ «الدُّلْجَةُ»: آخِرُ اللَّيلِ.
وهذا استعارة وتمثيل، ومعناه: اسْتَعِينُوا عَلَى طَاعَةِ اللهِ - عز وجل - بِالأَعْمَالِ في وَقْتِ نَشَاطِكُمْ وَفَرَاغِ قُلُوبِكُمْ بِحَيثُ تَسْتَلِذُّونَ العِبَادَةَ ولا تَسْأَمُونَ وتبلُغُونَ مَقْصُودَكُمْ، كَمَا أنَّ المُسَافِرَ الحَاذِقَ يَسيرُ في هذِهِ الأوْقَاتِ ويستريح هُوَ وَدَابَّتُهُ في غَيرِهَا فَيَصِلُ المَقْصُودَ بِغَيْرِ تَعَب، واللهُ أعلم.
قال ابن عثيمين ﵁:
- الرسول ﷺ أمرنا ألا نجعل أوقاتنا كلها دأباً في العبادة، لأن ذلك يؤدي إلى الملل والاستحسار والتعب والترك في النهاية.

146 - وعن أنس - رضي الله عنه - قَالَ: دَخَلَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المَسْجِدَ فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ، فَقَالَ: «مَا هَذَا الحَبْلُ؟» قالُوا: هَذَا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ، فَإِذَا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ بِهِ. فَقَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم: «حُلُّوهُ، لِيُصلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَرْقُدْ». مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
قال ابن عثيمين ﵁:
- في هذا دليل على أنه لا ينبغي للإنسان أن يتعمق وأن يتنطع في العبادة، أن يكلف نفسه ما لا تطيق، بل يصلي ما دام نشيطاً، فإذا تعب فليرقد ولينم.

147 - وعن عائشة رضي الله عنها: أنَّ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ يُصَلِّي فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّومُ، فإِنَّ أحَدَكُم إِذَا صَلَّى وَهُوَ نَاعِسٌ لا يَدْرِي لَعَلَّهُ يَذْهَبُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبُّ نَفْسَهُ». مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
قال ابن عثيمين ﵁:
- لذلك أرشد النبي ﷺ من غلب عليه النعاس وهو يصلي أن ينصرف من صلاته، ولا يصلي وهو ناعس، ثم علل ذلك بقوله: (فإن أحدهم إذا صلى وهو ناعس لا يدري لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه).
- يؤخذ من هذا الحديث أنه لا ينبغي للإنسان أن يحمل نفسه ويشق عليها في العبادة، وإنما يأخذ ما يطيق.

148 - وعن أَبي عبد الله جابر بن سمرة رضي الله عنهما، قَالَ: كُنْتُ أصَلِّي مَعَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الصَّلَوَاتِ، فَكَانتْ صَلاتُهُ قَصْدًا وَخُطْبَتُهُ قَصْدًا. رواه مسلم.
قوله قصدا: أي بين الطول والقصر.
قال ابن باز ﵁:
- يعني وسطًا ليس فيها تكلف، هذه السنة أن المؤمن يقتصد في عباداته وفي أعماله حتى لا يضر نفسه ولا يضر غيره.

149 - وعن أبي جُحَيْفَة وَهْب بنِ عبد اللهِ - رضي الله عنه - قَالَ: آخَى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبي الدَّرْداءِ، فَزارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرداءِ فَرَأى أُمَّ الدَّرداءِ مُتَبَذِّلَةً ، فَقَالَ: مَا شَأنُكِ؟ قَالَتْ: أخُوكَ أَبُو الدَّردَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ في الدُّنْيَا، فَجاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فَقَالَ لَهُ: كُلْ فَإِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: مَا أنا بِآكِلٍ حَتَّى تَأكُلَ فأكل، فَلَمَّا كَانَ اللَّيلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّردَاءِ يَقُومُ فَقَالَ لَهُ: نَمْ، فنام، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ فَقَالَ لَهُ: نَمْ. فَلَمَّا كَانَ من آخِر اللَّيلِ قَالَ سَلْمَانُ: قُم الآن، فَصَلَّيَا جَمِيعًا فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيكَ حَقًّا، وَلأَهْلِكَ عَلَيكَ حَقًّا، فَأعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَأَتَى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَ ذلِكَ لَهُ فَقَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم: «صَدَقَ سَلْمَانُ». رواه البخاري.
قال ابن باز ﵁:
- هذا فيه الحث على الاقتصاد في العبادة وإعطاء الأهل حقهم من المبيت عندهم وقضاء الوطر وعدم هجر الفراش بالتهجد أو الصوم.

150 - وعن أَبي محمد عبدِ اللهِ بنِ عَمْرو بن العاصِ رضي الله عنهما، قَالَ: أُخْبرَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنِّي أقُولُ: وَاللهِ لأَصُومَنَّ النَّهَارَ، وَلأَقُومَنَّ اللَّيلَ مَا عِشْتُ. فَقَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم: «أنتَ الَّذِي تَقُولُ ذلِكَ؟» فَقُلْتُ لَهُ: قَدْ قُلْتُهُ بأبي أنْتَ وأمِّي يَا رسولَ الله. قَالَ: «فَإِنَّكَ لاَ تَسْتَطِيعُ ذلِكَ فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَنَمْ وَقُمْ، وَصُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلاثةَ أيَّامٍ، فإنَّ الحَسَنَةَ بِعَشْرِ أمْثَالِهَا وَذَلكَ مِثلُ صِيامِ الدَّهْرِ»، قُلْتُ: فَإِنِّي أُطيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذلِكَ، قَالَ: «فَصُمْ يَومًا وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ»، قُلْتُ: فَإنِّي أُطِيقُ أفضَلَ مِنْ ذلِكَ، قَالَ: «فَصُمْ يَومًا وَأفْطِرْ يَومًا فَذلِكَ صِيَامُ دَاوُد - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ أعْدَلُ الصيامِ».
وفي رواية: «هُوَ أفْضَلُ الصِّيامِ» فَقُلْتُ: فَإِنِّي أُطيقُ أفْضَلَ مِنْ ذلِكَ، فَقَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم: «لا أفضَلَ مِنْ ذلِكَ»، وَلأنْ أكُونَ قَبِلْتُ الثَّلاثَةَ الأَيّامِ الَّتي قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - أحَبُّ إليَّ مِنْ أهْلي وَمَالي.
وفي رواية: «أَلَمْ أُخْبَرْ أنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وتَقُومُ اللَّيلَ؟» قُلْتُ: بَلَى، يَا رَسُول الله، قَالَ: «فَلاَ تَفْعَلْ: صُمْ وَأَفْطِرْ، وَنَمْ وَقُمْ؛ فإنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنَيكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإنَّ بِحَسْبِكَ أَنْ تَصُومَ في كُلِّ شَهْرٍ ثَلاثَةَ أيَّامٍ، فإنَّ لَكَ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أمْثَالِهَا، فَإِنَّ ذلِكَ صِيَامُ الدَّهْر» فَشَدَّدْتُ فَشُدِّدَ عَلَيَّ، قُلْتُ: يَا رَسُول الله، إنِّي أجِدُ قُوَّةً، قَالَ: «صُمْ صِيَامَ نَبيِّ الله دَاوُد وَلاَ تَزد عَلَيهِ» قُلْتُ: وَمَا كَانَ صِيَامُ دَاوُد؟ قَالَ: «نِصْفُ الدَّهْرِ» فَكَانَ عَبدُ الله يقول بَعدَمَا كَبِرَ: يَا لَيتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَة رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية: «أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ الدَّهرَ، وَتَقْرَأُ القُرآنَ كُلَّ لَيْلَة؟» فقلت: بَلَى، يَا رَسُول الله، وَلَمْ أُرِدْ بذلِكَ إلاَّ الخَيرَ، قَالَ: «فَصُمْ صَومَ نَبيِّ اللهِ دَاوُد، فَإنَّهُ كَانَ أعْبَدَ النَّاسِ، وَاقْرَأ القُرْآنَ في كُلِّ شَهْر»، قُلْتُ: يَا نَبيَّ اللهِ، إنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذلِكَ؟ قَالَ: «فاقرأه في كل عشرين» قُلْتُ: يَا نبي الله، إني أطيق أفضل من ذلِكَ؟ قَالَ: «فَاقْرَأهُ في كُلِّ عَشْر» قُلْتُ: يَا نبي اللهِ، إنِّي أُطيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذلِكَ؟ قَالَ: «فاقْرَأهُ في كُلِّ سَبْعٍ وَلاَ تَزِدْ عَلَى ذلِكَ» فشدَّدْتُ فَشُدِّدَ عَلَيَّ وَقالَ لي النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم: «إنَّكَ لا تَدرِي لَعَلَّكَ يَطُولُ بِكَ عُمُرٌ» قَالَ: فَصِرْتُ إِلَى الَّذِي قَالَ لي النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم. فَلَمَّا كَبِرْتُ وَدِدْتُ أنِّي كُنْتُ قَبِلتُ رُخْصَةَ نَبيِّ الله - صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية: «وَإِنَّ لِوَلَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا».
وفي رواية: «لاَ صَامَ مَنْ صَامَ الأَبَدَ» ثلاثًا.
وفي رواية: «أَحَبُّ الصِيَامِ إِلَى اللهِ تَعَالَى صِيَامُ دَاوُد، وَأَحَبُّ الصَّلاةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى صَلاةُ دَاوُدَ: كَانَ ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، وكان يصوم يومًا ويفطر يومًا، وَلاَ يَفِرُّ إِذَا لاقَى».
وفي رواية قال: «أنْكَحَني أَبي امرَأةً ذَاتَ حَسَبٍ وَكَانَ يَتَعَاهَدُ كنَّتَهُ - أي: امْرَأَةَ وَلَدِهِ - فَيَسْأَلُهَا عَنْ بَعْلِهَا. فَتقُولُ لَهُ: نِعْمَ الرَّجُلُ مِنْ رَجُلٍ لَمْ يَطَأْ لَنَا فِرَاشًا، وَلَمْ يُفَتِّشْ لَنَا كَنَفًا مُنْذُ أتَيْنَاهُ. فَلَمَّا طَالَ ذلِكَ عَلَيهِ ذَكَرَ ذلك للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «القِنِي بِهِ» فَلَقيتُهُ بَعد ذلك، فَقَالَ: «كَيْفَ تَصُومُ؟» قُلْتُ: كُلَّ يَومٍ، قَالَ: «وَكَيْفَ تَخْتِمُ؟» قُلْتُ: كُلَّ لَيْلَةٍ، وَذَكَرَ نَحْوَ مَا سَبَقَ، وَكَانَ يَقْرَأُ عَلَى بَعْضِ أهْلِهِ السُّبُعَ الَّذِي يَقْرَؤُهُ، يَعْرِضُهُ مِنَ النَّهَارِ ليَكُونَ أخفّ عَلَيهِ باللَّيلِ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَقَوَّى أفْطَرَ أيَّامًا وَأحْصَى وَصَامَ مِثْلَهُنَّ كرَاهِيَةَ أَنْ يَترُكَ شَيئًا فَارَقَ عَلَيهِ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم.
كل هذِهِ الرواياتِ صحيحةٌ، مُعظمُها في الصحيحين، وقليل مِنْهَا في أحدِهِما.
قال ابن باز ﵁:
- في حديث ابن عمرو يتضح للمؤمن أن المشروع عدم التكلف وعدم الغلو وعدم المشقة على النفس، وأن المسلم يأتي من النوافل بما ينشط عليه وبما يقوى عليه من النوافل، ولا يحجزه عما هو أفضل ولا يشق عليه، ولا يحجزه عن ضيفه ولا عن أهله، بل يعطي كل ذي حق حقه، هكذا السنة أن يعطي المؤمن كل ذي حق حقه.

151 - وعن أبي رِبعِي حنظلة بنِ الربيعِ الأُسَيِّدِيِّ الكاتب أحدِ كتّاب رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: لَقِيَنِي أَبُو بَكر - رضي الله عنه - فَقَالَ: كَيْفَ أنْتَ يَا حنْظَلَةُ؟ قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ! قَالَ: سُبْحَانَ الله مَا تَقُولُ؟! قُلْتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يُذَكِّرُنَا بالجَنَّةِ وَالنَّارِ كأنَّا رَأيَ عَيْنٍ فإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - عَافَسْنَا الأَزْواجَ وَالأَوْلاَدَ وَالضَّيْعَاتِ نَسينَا كَثِيرًا، قَالَ أَبُو بكر - رضي الله عنه: فَوَالله إنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا، فانْطَلَقْتُ أَنَا وأبُو بَكْر حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم. فقُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُول اللهِ! فَقَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم: «وَمَا ذَاكَ؟» قُلْتُ: يَا رَسُول اللهِ، نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ والجَنَّةِ كأنَّا رَأيَ العَيْن فإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الأَزْواجَ وَالأَوْلاَدَ وَالضَّيْعَاتِ نَسينَا كَثِيرًا. فَقَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسي بِيَدِهِ، لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونونَ عِنْدِي، وَفي الذِّكْر، لصَافَحَتْكُمُ الملائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفي طُرُقِكُمْ، لَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وسَاعَةً» ثَلاَثَ مَرَات. رواه مسلم.
قولُهُ: «رِبْعِيٌّ» بِكسر الراء. وَ «الأُسَيِّدِي» بضم الهمزة وفتح السين وبعدها ياء مكسورة مشددة. وقوله: «عَافَسْنَا» هُوَ بِالعينِ والسينِ المهملتين أي: عالجنا ولاعبنا. وَ «الضَّيْعاتُ»: المعايش.
قال ابن عثيمين ﵁:
- هذا من عدل الشريعة الإسلامية وكمالها، أن الله عز وجل له حق فيعطى حقه عز وجل، وكذلك للنفس حق فتعطى حقها، وللأهل حق فيعطون حقوقهم، وللزوار والضيوف حق فيعطون حقوقهم، حتى يقوم الإنسان بجميع الحقوق التي عليه على وجه الراحة، ويتعبد لله عز وجل بالراحة، لأن الإنسان إذا أثقل على نفسه وشدد عليها مل وتعب، وأضاع حقوقاً كثيرة.

152 - وعنِ ابن عباس رضي الله عنهما، قَالَ: بينما النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يخطب إِذَا هُوَ برجلٍ قائم فسأل عَنْهُ، فقالوا: أَبُو إسْرَائيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ في الشَّمْسِ وَلاَ يَقْعُدَ، وَلاَ يَسْتَظِل، وَلاَ يَتَكَلَّمَ، وَيَصُومَ، فَقَالَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم: «مُرْهُ، فَلْيَتَكَلَّمْ، وَلْيَسْتَظِلَّ، وَلْيَقْعُدْ، وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ». رواه البخاري.
قال ابن عثيمين ﵁:
- ليعلم أن النذر أصله مكروه، بل قال بعض العلماء: أنه محرم، وأنه لا يجوز للإنسان أن ينذر؛ لأن الإنسان إذا نذر كلف نفسه ما لم يكلفه الله، ولكن إذا قدر أن الإنسان نذر فالنذر أقسام: قسم حكمه حكم اليمين، وقسم آخر نذر معصية، وقسم ثالث نذر طاعة.