باب فضل ضعفة المسلمين والفقراء والخاملين


قَالَ الله تَعَالَى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ﴾ [الكهف: 28].
252 - وعن حارثة بن وهْبٍ - رضي الله عنه - قَالَ: سمعت رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: «ألاَ أُخْبِرُكُمْ بِأهْلِ الجَنَّةِ؟ كُلُّ ضَعِيف مُتَضَعَّف، لَوْ أقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ، أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأهْلِ النَّارِ؟ كُلُّ عُتُلٍّ جَوّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ». مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
«العُتُلُّ»: الغَلِيظُ الجَافِي. «وَالجَوَّاظُ»: بفتح الجيم وتشديد الواو وبالظاء المعجمة: وَهُوَ الجَمُوعُ المَنُوعُ، وَقِيلَ: الضَّخْمُ المُخْتَالُ في مِشْيَتِهِ، وَقِيلَ: القَصِيرُ البَطِينُ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- من علامات أهل الجنة؛ أن الإنسان يكون ضعيفاً متضعفاً، أي: لا يهتم بمنصبه أو جاهه، أو يسعى إلى علو المنازل في الدنيا، ولكنه ضعيف في نفسه متضعف، يميل إلى الخمول وإلى عدم الظهور؛ لأنه يرى أن المهم أن يكون له جاه عند الله ﷿، لا أن يكون شريفاً في قومه أو ذا عظمة فيهم، ولكن يرى أن الأهم كله أن يكون عند الله ﷿ ذا منزلة كبيرة عالية.
- الجواظ هو الجزوع الذي لا يصبر، دائماً في أنين وحزن وهمّ وغمّ، معترضاً على القضاء والقدر، لا يخضع له، ولا يرضى بالله رباً، وأما المستكبر فهو الذي جمع بين وصفين: غمط الناس، وبطر الحق، فهذه علامات أهل النار.
قال ابن باز ﵀:
- بين ﷺ أن أصحاب الجنة من الفقراء والمساكين أكثر.

253 - وعن أَبي العباس سهل بن سعد الساعِدِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ عَلَى النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ لرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٌ: «مَا رَأيُكَ في هَذَا؟»، فَقَالَ: رَجُلٌ مِنْ أشْرَافِ النَّاسِ، هَذَا واللهِ حَرِيٌّ إنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ. فَسَكَتَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ لَهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم: «مَا رَأيُكَ في هَذَا؟» فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَراءِ المُسْلِمِينَ، هَذَا حَرِيٌّ إنْ خَطَبَ أَنْ لا يُنْكَحَ، وَإنْ شَفَعَ أَنْ لا يُشَفَّعَ، وَإنْ قَالَ أَنْ لاَ يُسْمَعَ لِقَولِهِ. فَقَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم: «هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلءِ الأرْضِ مِثْلَ هَذَا». مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
قوله: «حَرِيٌّ» هُوَ بفتح الحاءِ وكسر الراء وتشديد الياءِ: أي حَقيقٌ. وقوله: «شَفَعَ» بفتح الفاءِ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- يؤخذ من هذا فائدة عظيمة وهي أن الرجل قد يكون ذا منزلة عالية في الدنيا، ولكنه ليس له قدر عند الله، وقد يكون في الدنيا ذا مرتبة منحطة وليس له قيمة عند الناس وهو عند الله خير من كثير ممن سواه.
قال ابن باز ﵀:
- الفقر لا يضر العبد في الدنيا ولا في الآخرة عند الله ﷿ وإنما يضره الخلاف عن طاعة الله وركوبه لمحارم الله وتكبره عن طاعة الله.

254 - وعن أَبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «احْتَجَّتِ الجَنَّةُ والنَّارُ، فقالتِ النَّارُ: فِيَّ الجَبَّارُونَ وَالمُتَكَبِّرُونَ. وَقَالتِ الجَنَّةُ: فِيَّ ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَمَسَاكِينُهُمْ، فَقَضَى اللهُ بَيْنَهُمَا: إنَّكِ الجَنَّةُ رَحْمَتِي أرْحَمُ بِكِ مَنْ أشَاءُ، وَإنَّكِ النَّارُ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أشَاءُ، وَلِكلَيْكُمَا عَلَيَّ مِلْؤُهَا». رواه مسلم.
قال ابن عثيمين ﵀:
- أهل الجبروت وأهل الكبرياء هم أهل النار والعياذ بالله، وربما يكون صاحب النار لين الجانب للناس، حسن الأخلاق، لكنه جبار بالنسبة للحق، مستكبر عن الحق، فلا ينفعه لينه وعطفه على الناس، بل هو موصوف بالجبروت والكبرياء ولو كان لين الجانب للناس؛ لأنه تجبر واستكبر عن الحق.
- دليلٌ على أن الفقراء والضعفاء هم أهل الجنة؛ لأنهم في الغالب هم الذين ينقادون للحق، وأن الجبارين المتكبرين هم أهل النار والعياذ بالله؛ لأنهم مستكبرون على الحق وجبارون. لا تلين قلوبهم لذكر الله، ولا لعباد الله.
قال ابن باز ﵀:
- الجنة دار المتقين دار المؤمنين وإن كانوا فقراء وإن كانوا مساكين، والنار دار الجبارين والمتكبرين والكافرين وإن كانوا أغنياء وإن كانوا من أشرف الناس.

255 - وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - عن رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّهُ لَيَأتِي الرَّجُلُ العَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ القِيَامَةِ لاَ يَزِنُ عِنْدَ اللهِ جَناحَ بَعُوضَةٍ». مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- ذكر المؤلف هذا الحديث في باب المستضعفين والفقراء من المسلمين، وذلك لأن الغالب أن السمنة إنما تأتي من البطنة أي: من كثرة الأكل، وكثرة الأكل تدل على كثرة المال والغنى، والغالب على الأغنياء البطر والأشر وكفر النعمة، حتى إنهم يوم القيامة يكونون بهذه المثابة، يؤتى بالرجل العظيم السمين يعني كثير اللحم والشحم.
- إن الوزن حسي بميزان له كفتان، توضع في إحداهما السيئات وفي الأخرى الحسنات، وتثقل الحسنات، وتخف السيئات إذا كانت الحسنات أكثر، والعكس بالعكس.
- في هذا الحديث التحذير من كون الإنسان لا يهتم إلا بنفسه أي بتنعيم جسده، والذي ينبغي للعاقل أن يهتم بتنعيم قلبه، ونعيم قلب الإنسان بالفطرة وهي التزام دين الله ﷿، وإذا نعم القلب نعم البدن ولا عكس.
قال ابن باز ﵀:
- هذا الجسم لا قيمة له إن لم يستعمل في طاعة الله والقرب لديه.

256 - وعنه: أنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ المَسْجِدَ، أَوْ شَابًّا، فَفَقَدَهَا، أَوْ فَقَدَهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلَ عَنْهَا، أو عنه، فقالوا: مَاتَ. قَالَ: «أَفَلا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي» فَكَأنَّهُمْ صَغَّرُوا أمْرَهَا، أَوْ أمْرهُ، فَقَالَ: «دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ» فَدَلُّوهُ فَصَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ: «إنَّ هذِهِ القُبُورَ مَمْلُوءةٌ ظُلْمَةً عَلَى أهْلِهَا، وَإنَّ اللهَ تعالى. يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلاتِي عَلَيْهِمْ». مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
قوله: «تَقُمُّ» هُوَ بفتح التاءِ وضم القاف: أي تَكْنُسُ. «وَالقُمَامَةُ»: الكُنَاسَةُ، «وَآذَنْتُمُونِي» بِمد الهمزة: أيْ: أعْلَمْتُمُونِي.
قال ابن عثيمين ﵀:
- أن النبي ﷺ إنما يعظم الناس بحسب أعمالهم، وما قاموا به من طاعة الله وعبادته.
- جواز تولي المرأة لتنظيف المسجد، وأنه لا يحجر ذلك على الرجال فقط؛ بل كل من احتسب ونظف المسجد فله أجره؛ سواء باشرته المرأة، أو استأجرت من يقم المسجد على حسابها.
- مشروعية تنظيف المساجد، وإزالة القمامة عنها، وقد قال النبي ﷺ: (عرضت عليّ أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد)، القذاة: الشيء الصغير، يخرجه الرجل من المسجد فإنه يؤجر عليه.
- مشروعية الصلاة على القبر لمن لم يصل عليه قبل الدفن؛ لأن النبي ﷺ خرج فصلى على القبر حيث لم يصلّ عليها قبل الدفن، ولكن هذا مشروع لمن مات في عهدك وفي عصرك، أما من مات سابقاً فلا يشرع أن يصلي عليه، ولهذا لا يشرع لنا أن نصلي على النبي ﷺ على قبره، أو على قبر أبي بكر، أو عمر، أو عثمان، أو غيرهم من الصحابة، أو غيرهم من العلماء والأئمة.
- حسن رعاية النبي ﷺ لأمته، وأنه كان يتفقدهم ويسأل عنهم، فلا يشتغل بالكبير عن الصغير؛ كل ما يهم المسلمين فإنه يسأل عنه ﷺ.
- جواز سؤال المرء ما لا تكون به منّة في الغالب؛ لأن الرسول ﷺ قال: (دلوني على قبرها) وهذا سؤال، لكن مثل هذا السؤال ليس فيه منّة، بخلاف سؤال المال فإن سؤال المال محرم، يعني لا يجوز أن تسأل شخصاً مالاً وتقول أعطني عشرة ريالات أو مائة ريال، إلا عند الضرورة، أما سؤال غير المال مما لا يكون فيه منّة في الغالب؛ فإن هذا لا بأس به، ولعل هذا مخصص لما كان الرسول ﷺ يبايع أصحابه عليه حيث كان يبايعهم ألا يسألوا الناس شيئاً.
- جواز إعادة الصلاة على الجنازة، لمن صلى عليها من قبل إذا وجد جماعة؛ لأن الظاهر أن الذين خرجوا مع النبي ﷺ صلوا معه، وعلى هذا فتشرع إعادة صلاة الجماعة إذا صلى عليها جماعة آخرون مرة ثانية، وإلى هذا ذهب بعض أهل العلم، وقالوا: كما أن صلاة الفريضة تعاد إذا صليتها ثم أدركتها مع جماعة أخرى، فكذلك صلاة الجنازة، وبناءً على ذلك لو أن أحداً صلى على جنازة في المسجد، ثم خرجوا بها للمقبرة، ثم قام أناس يصلون عليها جماعة؛ فإنه لا حرج ولا كراهة في أن تدخل مع الجماعة الآخرين فتعيد الصلاة؛ لأن إعادة الصلاة هنا لها سبب ليست مجرد تكرار بل لها سبب، وهو وجود الجماعة الأخرى.
قال ابن باز ﵀:
- أكرم الناس عند الله أتقاهم له وأقومهم بحقه وأبعدهم عن محارمه وإن كان مولى عتيقا أو مملوكا، وأبعدهم من الله من كفر به وتعدى حدوده وإن كان من أولاد الأنبياء.
- ينبغي احترام المسلم الفقير وألا يحتقر لقلة ماله، بل يُعرف لهم قدره ويُعرف له منزلته بتقواه وإيمانه وإن كان قليل المال.

257 - وعنه، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم: «رُبَّ أشْعَثَ أغبرَ مَدْفُوعٍ بِالأبْوابِ لَوْ أقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ». رواه مسلم.
258 - وعن أسامة - رضي الله عنه - عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «قُمْتُ عَلَى بَابِ الجَنَّةِ، فَإِذَا عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا المَسَاكِينُ، وَأصْحَابُ الجَدِّ مَحْبُوسُونَ، غَيْرَ أنَّ أصْحَابَ النَّارِ قَدْ أُمِرَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ. وَقُمْتُ عَلَى بَابِ النَّارِ فَإِذَا عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا النِّسَاءُ». مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
«وَالْجَدُّ»: بفتح الجيم: الحَظُّ وَالغِنَى. وَقوله: «مَحْبُوسُونَ» أيْ: لَمْ يُؤْذَنْ لَهُمْ بَعْدُ في دُخُولِ الجَنَّةِ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- يجب على الإنسان أن يحترز من فتنة الغنى، فإن الغنى قد يطغي، وقد يؤدي بصاحبه إلى الأشر، والبطر، ورد الحق، وغمط الناس، فاحذر نعمتين: الغنى والصحة. والفراغ أيضاً سبب للفتنة، فهذه الثلاث: الغنى والصحة. والفراغ، مما يغبن فيها كثير من الناس، (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ) والفراغ في الغالب يأتي من الغنى؛ لأن الغني منكف عن كل شيء ومتفرغ، نسأل الله أن يعيذنا وإياكم من فتنة المحيا والممات وفتنة المسح الدجال.
قال ابن باز ﵀:
- هذا يفيد أن الفقراء أسرع دخولًا إلى الجنة؛ لقلة حسابهم، وقلة تبعاتهم التي تلحقهم، وأن أهل الجد والغنى يتأخرون عنهم، بسبب ما يتعلق بأموالهم وأعمالهم التي يحتاجون معها إلى حساب وجزاء.
- لا ينبغي للعاقل أن يحزن عندما يصيبه الفقر والحاجة وليأخذ بالأسباب ويتقي الله ويجتهد في طلب الرزق، ولكن لا يحزن، فربما كان خيراً له، فقد يكون الفقر خيراً له من الغنى، وقد يكون الغنى لبعض الناس خيراً له من الفقر؛ فلهذا يُروى عن الله ﷿ أنه قال: (إن من عبادي من لا يصلح له إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح له إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك)، فالعبد بين يدي الله، والله يصرفه كما يشاء، فقد تكون الحاجة والمسكنة أصلح في حقه، وقد يكون الغنى أصلح في حقه، فلا ينبغي للعبد أن يحزن وليصبر على ما أصابه ويأخذ بالأسباب في طلب الرزق وطلب الغنى، ولكنه لا يحزن عندما تصيبه الفاقة من الحاجة، فربما كان خيراً له.

259 - وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَمْ يَتَكَلَّمْ في المَهْدِ إلاَّ ثَلاثَةٌ: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ، وَكَانَ جُرَيْجٌ رَجُلًا عَابِدًا، فَاتَّخَذَ صَوْمَعَةً فَكَانَ فِيهَا، فَأَتَتْهُ أُمُّهُ وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، فَقَالَ: يَا رَبِّ أُمِّي وَصَلاتِي فَأَقْبَلَ عَلَى صَلاتِهِ فَانْصَرَفَتْ. فَلَمَّا كَانَ مِنَ الغَدِ أتَتْهُ وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، فَقَالَ: أيْ رَبِّ أمِّي وَصَلاتِي، فَأقْبَلَ عَلَى صَلاتِهِ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ الغَدِ أتَتْهُ وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، فَقَالَ: أيْ رَبِّ أمِّي وَصَلاتِي، فَأقْبَلَ عَلَى صَلاَتِهِ، فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لاَ تُمِتْهُ حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى وُجُوهِ المُومِسَاتِ. فَتَذَاكَرَ بَنُو إسْرائِيل جُرَيْجًا وَعِبَادَتَهُ، وَكَانَتِ امْرَأةٌ بَغِيٌّ يُتَمَثَّلُ بحُسْنِهَا، فَقَالَتْ: إنْ شِئْتُمْ لأَفْتِنَنَّهُ، فَتَعَرَّضَتْ لَهُ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا، فَأتَتْ رَاعِيًا كَانَ يَأوِي إِلَى صَوْمَعَتِهِ، فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا فَوقَعَ عَلَيْهَا، فَحَمَلَتْ، فَلَمَّا وَلَدَتْ، قَالَتْ: هُوَ مِنْ جُريج، فَأتَوْهُ فَاسْتَنْزَلُوهُ وَهَدَمُوا صَوْمَعَتَهُ، وَجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُ، فَقَالَ: مَا شَأنُكُمْ؟ قَالُوا: زَنَيْتَ بهذِهِ البَغِيِّ فَوَلَدَتْ مِنْكَ. قَالَ: أيْنَ الصَّبيُّ؟ فَجَاؤُوا بِهِ فَقَالَ: دَعُوني حَتَّى أصَلِّي، فَصَلَّى فَلَمَّا انْصَرفَ أتَى الصَّبيَّ فَطَعنَ في بَطْنِهِ، وَقالَ: يَا غُلامُ مَنْ أبُوكَ؟ قَالَ: فُلانٌ الرَّاعِي، فَأَقْبَلُوا عَلَى جُرَيْجٍ يُقَبِّلُونَهُ وَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ، وَقَالُوا: نَبْنِي لَكَ صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَب. قَالَ: لاَ، أعِيدُوهَا مِنْ طِينٍ كَمَا كَانَتْ، فَفَعلُوا. وبَينَا صَبِيٌّ يَرْضَعُ منْ أُمِّهِ فَمَرَّ رَجُلٌ رَاكِبٌ عَلَى دَابَّةٍ فَارِهَةٍ وَشَارَةٍ حَسَنَةٍ، فَقَالَتْ أُمُّهُ: اللَّهُمَّ اجْعَل ابْنِي مِثْلَ هَذَا، فَتَرَكَ الثَّدْيَ وَأقْبَلَ إِلَيْهِ فَنَظَرَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، ثُمَّ أقْبَلَ عَلَى ثَدْيه فَجَعَلَ يَرتَضِعُ»، فَكَأنِّي أنْظُرُ إِلَى رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَحْكِي ارْتضَاعَهُ بِأصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ في فِيه، فَجَعَلَ يَمُصُّهَا، قَالَ: «وَمَرُّوا بِجَارِيَةٍ وَهُم يَضْرِبُونَهَا، ويَقُولُونَ: زَنَيْتِ سَرَقْتِ، وَهِيَ تَقُولُ: حَسْبِيَ اللهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ. فَقَالَتْ أمُّهُ: اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَل ابْنِي مِثْلَهَا، فَتَركَ الرَّضَاعَ ونَظَرَ إِلَيْهَا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مثْلَهَا، فَهُنَالِكَ تَرَاجَعَا الحَديثَ، فَقَالَتْ: مَرَّ رَجُلٌ حَسَنُ الهَيْئَةِ، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ ابْنِي مِثْلَهُ، فَقُلْتَ: اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، وَمَرُّوا بهذِهِ الأمَةِ وَهُمْ يَضْرِبُونَهَا وَيَقُولُونَ: زَنَيْتِ سَرَقْتِ، فقلتُ: اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهَا، فَقُلْتَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا؟! قَالَ: إنَّ ذلك الرَّجُل كَانَ جَبَّارًا، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، وَإنَّ هذِهِ يَقُولُونَ: زَنَيْتِ، وَلَمْ تَزْنِ وَسَرقْتِ، وَلَمْ تَسْرِقْ، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا» مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
«المُومسَاتُ» بِضَمِّ الميمِ الأُولَى، وَإسكان الواو وكسر الميم الثانية وبالسين المهملة؛ وهُنَّ الزَّواني. وَالمُومِسَةُ: الزَّانِيَةُ. وقوله: «دَابَّةٌ فَارِهَةٌ» بِالفَاءِ: أي حَاذِقَةٌ نَفيسةٌ. «وَالشَّارَةُ» بالشين المعجمة وتخفيف الرَّاءِ: وَهيَ الجَمَالُ الظَّاهِرُ في الهَيْئَةِ والمَلبَسِ. ومعنى «تَراجَعَا الحَديث» أي: حَدَّثت الصبي وحَدَّثها، والله أعلم.
قال ابن عثيمين ﵀:
- يستفاد من هذه الجملة من هذا الحديث أن الوالدين إذا نادياك وأنت تصلي، فإن الواجب إجابتهما، لكن بشرط ألا تكون الصلاة فريضة، فإن كانت فريضة فلا يجوز أن تجيبهما، لكن إذا كانت نافلة فأجبهما. إلا إذا كانا ممن يقدرون الأمور قدرها، وأنهما إذا علما أنك في صلاة عذراك فهنا أشر إليهما بأنك في صلاة؛ إما بالنحنحة، أو بقول: سبحان الله، أو برفع صوتك في آية تقرؤها، أو دعاء تدعو به، حتى يشعر المنادي بأنك في صلاة، فإذا علمت أن هذين الأبوين: الأم والأب عندهما مرونة؛ يعذرانك إذا كنت تصلي ألا تجيب؛ فنبههم على أنك تصلي الفريضة فلا تقطعها لأحد، إلا عند الضرورة، كما لو رأيت شخصاً تخشى أن يقع في هلكة؛ في بئر، أو في بحر أو في نار، فهنا اقطع صلاتك للضرورة، وأما لغير ذلك فلا يجوز قطع الفريضة.
- يستفاد من هذا أن دعاء الوالد إذا كان بحق؛ فإنه حريّ بالإجابة، فدعاء الوالد على ولده إذا كان بحق؛ فهو حري أن يجيبه الله، ولهذا ينبغي لك أن تحترس غاية الاحتراس من دعاء الوالدين، حتى لا تعرض نفسك لقبول الله دعاءهما فتخسر.
- دليلٌ على أن الشفقة التي أودعها الله في الوالدين قد يوجد ما يرفع هذه الشفقة؛ لأن هذه الدعوة عظيمة من هذه المرأة؛ أن تدعو على ولدها أن لا يموت حتى ينظر في وجوه المومسات، لكن شدة الغضب والعياذ بالله أوجب لها أن تدعو بهذا الدعاء.
- أن الإنسان إذا تعرف إلى الله تعالى في الرخاء؛ عرفه في الشدة، فإن هذا الرجل كان عابداً يتعبد لله ﷿، فلما وقع في الشدة العظيمة، أنجاه الله منها.
- استدل بعض العلماء بهذا الحديث على أن ولد الزنى يلحق الزاني؛ لأن جريجاً قال: من أبوك؟ قال: لأبي فلان الراعي، وقد قصها النبي ﷺ علينا للعبرة، فإذا لم ينازع الزاني في الولد واستلحق الولد فإنه يلحقه، وإلى هذا ذهب طائفة يسيرة من أهل العلم. وأكثر العلماء على أن ولد الزنى لا يلحق الزاني؛ لقوله النبي ﷺ: (الولد للفراش وللعاهر الحجر) لكن الذين قالوا بلحوقه قالوا هذا إذا كان له منازع كصاحب الفراش، فإن الولد لصاحب الفراش، وأما إذا لم يكن له منازع واستلحقه فإنه يلحقه؛ لأنه ولده قدراً، فإن هذا الولد لا شك أنه خلق من ماء الزاني فهو ولده قدراً، ولم يكن له أب شرعي ينازعه، وعلى هذا فيلحق به.
قال ابن باز ﵀:
- في هذا أن الله ﷿ يفرج كرب المظلومين، ويرحم الفقراء، ويظهر براءتهم إذا ظلمهم غيرهم بسبب تقواهم، وعبادتهم لله ﷿، وانقطاعهم عن الدنيا ومغرياتها، والله ﷿ هو القادر على كل شيء، الذي أنطق الكبير ينطق الصغير، وهو على كل شيء قدير.