باب فضل الرجاء


قَالَ الله تَعَالَى إخبارًا عن العبدِ الصالِحِ: ﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا﴾ [غافر: 44، 45]
440 - وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «قَالَ الله - عز وجل: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنا معه حَيْثُ يَذْكُرنِي، وَاللهِ، للهُ أَفْرَحُ بِتَوبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أحَدِكُمْ يَجِدُ ضَالَّتَهُ بِالفَلاَةِ، وَمَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِذَا أَقْبَلَ إِلَيَّ يَمْشِي أَقْبَلْتُ إِلَيْهِ أُهَرْوِلُ». متفقٌ عليه،وهذا لفظ إحدى روايات مسلم. وتقدم شرحه في الباب قبله.
ورُوِيَ في الصحيحين: «وأنا معه حين يذكرني» بالنون، وفي هذه الرواية «حيث» بالثاء وكلاهما صحيح.
441 - وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبلَ مَوْتِه بثَلاثَةِ أَيّام، يقولُ: «لاَ يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلاَّ وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بالله - عز وجل». رواه مسلم.
442 - وعن أنس - رضي الله عنه - قَالَ: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «قَالَ الله تَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ، إنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ وَلاَ أُبَالِي. يَا ابْنَ آدَمَ، لَوْ بَلَغَت ذُنُوبُك عَنَانَ السَّماءِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلاَ أُبَالِي. يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا، ثُمَّ لَقَيْتَنِي لاَ تُشْرِكُ بِي شَيْئًا، لأَتَيْتُكَ بقُرَابِها مَغْفِرَةً». رواه الترمذي، وقال: «حديث حسن».
«عَنَانُ السَّماءِ» بفتح العين، قيل: هو مَا عَنَّ لَكَ مِنْهَا، أيْ: ظَهَرَ إِذَا رَفَعْتَ رَأَسَكَ، وقيل: هو السَّحَابُ. وَ «قُرابُ الأَرض» بضم القاف، وقيل: بكسرها، والضم أصح وأشهر، وَهُوَ: مَا يقارب مِلأَهَا، والله أعلم.
قال ابن عثيمين ﵀:
- متى يحسن الظن بالله عز وجل؟ يحسن الظن بالله إذا فعل ما يوجب فضل الله ورجاءه، فيعمل الصالحات ويحسن الظن بأن الله تعالى يقبله، أما أن يحسن الظن وهو لا يعمل؛ فهذا من باب التمني على الله، ومن أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني فهو عاجز.
- حسن الظن بأن يوجد من الإنسان عمل يقتضي حسن الظن بالله عز وجل، فمثلاً إذا صليت أحسن الظن بالله بأن الله يقبلها منك، إذا صمت فكذلك، إذا تصدقت فكذلك، إذا عملت عملاً صالحاً أحسن الظن بأن الله تعالى يقبل منك، أما أن تحسن الظن بالله مع مبارزتك له بالعصيان فهذا دأب العاجزين الذين ليس عندهم رأس مالٍ يرجعون إليه.
- الله سبحانه وتعالى أكرم من عبده، فإذا تقرب الإنسان إلى الله شبراً؛ تقرب الله منه ذراعاً، وإن تقرب منه ذراعا ً، تقرب منه باعاً، وإن أتاه يمشي أتاه يهرول عز وجل، فهو أكثر كرمًا وأسرع إجابة من عبده.
- هذه الأحاديث وأمثالها مما يؤمن يه أهل السنة والجماعة على أنه حق حقيقة لله عز وجل، لكننا لا ندري كيف تكون هذه الهرولة، وكيف يكون هذا التقرب، فهو أمر ترجع كيفيته إلى الله، وليس لنا أن نتكلم فيه، لكن نؤمن بمعناه ونفوض كيفيته، إلى الله عز وجل.

باب الجمع بين الخوف والرجاء


اعْلَمْ أَنَّ المُخْتَارَ لِلْعَبْدِ في حَالِ صِحَّتِهِ أَنْ يَكُونَ خَائفًا رَاجِيًا، وَيَكُونَ خَوْفُهُ وَرَجَاؤُهُ سَواءً، وفي حَالِ المَرَضِ يُمحَّضُ الرَّجاءُ، وقواعِدُ الشَّرْع مِنْ نصُوصِ الكِتَابِ والسُّنَةِ وغَيْرِ ذَلِكَ مُتظاهِرَةٌ عَلَى ذلك.
قَالَ الله تَعَالَى: ﴿فَلاَ يَأمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القَوْمُ الخَاسِرونَ﴾ [الأعراف: 99]، وقال تَعَالَى: ﴿إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ القَوْمُ الكافِرُونَ﴾ [يوسف: 87]، وقال تَعَالَى: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وَجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ [آل عمران: 106]، وقال تَعَالَى: ﴿إنَّ رَبَكَ لَسَرِيعُ العِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الأعراف: 166]، وقال تَعَالَى: ﴿إنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾ [الانفطار: 13 - 14]، وقال تَعَالَى: ﴿فَأمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَأمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأمُّهُ هَاوِيَةٌ وما أدراك ما هيه نارُ حاميه﴾ [القارعة: 6 - 9] والآيات في هذا المعنى كثيرةٌ. فَيَجْتَمعُ الخَوفُ والرجاءُ في آيَتَيْنِ مُقْتَرِنَتَيْنِ أَو آيات أَو آية.
443 - وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤمِنُ مَا عِنْدَ الله مِنَ العُقُوبَةِ، مَا طَمِعَ بِجَنَّتِهِ أَحَدٌ، وَلَوْ يَعْلَمُ الكَافِرُ مَا عِنْدَ الله مِنَ الرَّحْمَةِ، مَا قَنَطَ مِنْ جَنَّتِهِ أحَدٌ». رواه مسلم.
قال ابن عثيمين ﵀:
- يجب على الإنسان أن يجمع بين الخوف والرجاء.
- المراد لو يعلم علم حقيقة وعلم كيفية، لا أن المراد لو يعلم علم نظر وخبر؛ فإن المؤمن يعلم ما عند الله من العذاب لأهل الكفر والضلال، لكن حقيقة هذا لا تدرك الآن، لا يدركها إلا من وقع في ذلك.

444 - وعن أَبي سعيد الخدرِيِّ - رضي الله عنه: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِذَا وُضِعَتِ الجنازةُ واحْتَمَلَهَا النَّاسُ أَوِ الرِّجَالُ عَلَى أَعناقِهِمْ، فَإنْ كَانَتْ صَالِحَةً، قَالَتْ: قَدِّمُونِي قَدِّمُونِي، وَإنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ، قالتْ: يَا وَيْلَهَا! أَيْنَ تَذْهَبُونَ بِهَا؟ يَسْمَعُ صَوْتَها كُلُّ شَيْءٍ إِلاَّ الإنْسانُ، وَلَوْ سَمِعَهُ صَعِقَ». رواه البخاري.
445 - وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «الجَنَّةُ أقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ، وَالنَّارُ مِثْلُ ذلك». رواه البخاري.
قال ابن عثيمين ﵀:
- شراك النعل يضرب به المثل في القرب؛ لأن الإنسان لابس نعله، فالجنة أقرب إلى أحدنا من شراك نعله؛ لأنها ربما تحصل للإنسان بكلمة واحدة، والنار مثل ذلك، ربما تحدث النار بسبب كلمة يقولها القائل، مثل الرجل الذي كان يمر على صاحب معصية فينهاه ويزجره، فلما تعب قال: والله لا يغفر الله لفلان. فقال الله تعالى: (من ذا الذي يتألى علىَ ألا أغفر لفلان؛ قد غفرت له وأحبطت عملك)، قال أبو هريرة ﵁: تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته.
- الواجب على الإنسان أن يكون طبيب نفسه في كونه يغلب الخوف أو الرجاء، إن رأى نفسه تميل إلى الرجاء وإلى التهاون بالواجبات وإلى انتهاك المحرمات استناداً إلى مغفرة الله ورحمته؛ فليعدل عن هذا الطريق، وإن رأى أن عنده وسواساً، وأن الله لا يقبل منه؛ فإنه يعدل عن هذا الطريق.