باب الصدق


قَالَ الله تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة: 119]، وَقالَ تَعَالَى: ﴿وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ﴾ [الأحزاب: 35]، وَقالَ تَعَالَى: ﴿فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ [محمد:21].
وأما الأحاديث:
54 - فالأول: عن ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّ الصِّدقَ يَهْدِي إِلَى البرِّ، وإنَّ البر يَهدِي إِلَى الجَنَّةِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَصدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا. وَإِنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ، وَإِنَّ الفُجُورَ يَهدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكتَبَ عِنْدَ الله كَذَّابًا». مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
قال ابن عثيمين ﵁ :
- الرجل الذي يتحرى الصدق يكتب عند الله صديقا، ومعلوم أن الصديقية درجة عظيمة لا ينالها إلا أفذاذ من الناس، وتكون في الرجال وتكون في النساء، قال الله تعالى: ﴿مَّا ٱلۡمَسِیحُ ٱبۡنُ مَرۡیَمَ إِلَّا رَسُولࣱ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُ وَأُمُّهُۥ صِدِّیقَةࣱۖ ﴾ [المائدة: 75].
- أفضل الصديقين على الإطلاق أصدقهم، هو أبو بكر ﵁.
- أعظم الفجور الكفر -والعياذ بالله- فإن الكفرة فجرة، كما قال الله: ﴿أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَفَرَةُ ٱلۡفَجَرَةُ﴾ [عبس: 42]، فالكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار نعوذ بالله منها.
قال ابن باز ﵁:
- الصدق ليس خاصاً بالأقوال؛ بل يكون في الأعمال والأقوال جميعاً، في أعمال القلوب، وأعمال الجوارح.

55 - الثاني: عن أبي محمد الحسن بنِ عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنهما، قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ؛ فإنَّ الصِّدْقَ طُمَأنِينَةٌ، وَالكَذِبَ رِيبَةٌ». رواه الترمذي، وَقالَ: «حديث صحيح».
قوله: «يَريبُكَ» هُوَ بفتح الياء وضمها: ومعناه اتركْ مَا تَشُكُّ في حِلِّهِ وَاعْدِلْ إِلَى مَا لا تَشُكُّ فِيهِ.
قال ابن باز ﵁:
- الحسن ﵁ كان صغيرًا في عهد النبي ﷺ حين توفي النبي ﷺ وهو في الثامنة، وهذا يدل على حذقه وفطنته وضبط ما حفظ من النبي ﷺ من الأحاديث وهو في سن التمييز.
- دع ما يريبك مثل ما في الحديث الآخر: (اتق الشبهات)، (من اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه)، يعني الشيء الذي فيه ريبة وشك دعه واطلب الشيء الواضح؛ لأن الذي فيه ريبة يجرك إلى المحرم الذي لا ريبة فيه، والبعد عن ذلك مما يقيم إيمانك ويريح قلبك وضميرك.
قال ابن عثيمين ﵁:
- هذا الحديث من أحاديث الأربعين النووية، وهو حديث جامع مهم، وهو باب من أبواب الورع والاحتياط.
- في قوله ﷺ (فإن الصدق طمأنينة)، تجد الصادق دائما مطمئناً، لأنه لا يتأسف على شيء حصل أو شيء يحصل بالمستقبل، لأنه قد صدق، ومن صدق نجا أما الكذب فبين النبي ﷺ أنه ريبة، ولهذا تجد أول من يرتاب في الكاذب نفسُه، نفس الكاذب يرتاب هل يصدقه الناس أو لا يصدقونه.

56 - الثالث: عن أبي سفيانَ صَخرِ بنِ حربٍ - رضي الله عنه - في حديثه الطويلِ في قصةِ هِرَقْلَ ، قَالَ هِرقلُ: فَمَاذَا يَأَمُرُكُمْ - يعني: النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ أبو سفيانَ: قُلْتُ: يقولُ: «اعْبُدُوا اللهَ وَحدَهُ لا تُشْرِكوُا بِهِ شَيئًا، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ، ويَأْمُرُنَا بالصَلاةِ، وَالصِّدْقِ، والعَفَافِ، وَالصِّلَةِ» مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
قال ابن عثيمين ﵁:
- الصلاة صلة بين العبد وبين ربه، وهي آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين، وبها يتميز المؤمن من الكافر، فهي العهد الذي بيننا وبين المشركين والكافرين، كما قال النبي ﷺ: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر).
- كان النبي ﷺ يأمر أمته بالصدق، والصدق خلق فاضل، ينقسم إلى قسمين: صدق مع الله، وصدق مع عباد الله، وكلاهما من الأخلاق الفاضلة.
- العفة نوعان: عفة عن شهوة الفرج، وعفة عن شهوة البطن.
- الصلة: أن تصل ما أمر الله به أن يوصل من الأقارب الأدنى فالأدنى، وأعلاهم الوالدان، فإن صلة الوالدين بر وصلة. والأقارب لهم من الصلة بقدر ما لهم من القرب.

57 - الرابع: عن أبي ثابت، وقيل: أبي سعيد، وقيل: أبي الوليد، سهل ابن حُنَيْفٍ وَهُوَ بدريٌّ رضي الله عنه: أنَّ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ سَأَلَ اللهَ تَعَالَى الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ». رواه مسلم.
- في هذا الحديث: أن من نوى شيئا من أعمال البر صادقاً من قلبه أثيب عليه، وإن لم يتفق له ذلك.

58 - الخامس: عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم: «غَزَا نبيٌّ مِنَ الأنْبِياءِ - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهمْ - فَقَالَ لِقَومهِ: لا يَتْبَعَنِّي رَجُلٌ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأةٍ وَهُوَ يُريدُ أَنْ يَبْنِي بِهَا وَلَمَّا يَبْنِ بِهَا، وَلا أحَدٌ بَنَى بُيُوتًا لَمْ يَرْفَعْ سُقُوفَهَا، وَلا أحَدٌ اشْتَرَى غَنَمًا أَوْ خَلِفَاتٍ وَهُوَ يَنْتَظِرُ أَوْلادَها . فَغَزا فَدَنَا مِنَ القَرْيَةِ صَلاةَ العَصْرِ أَوْ قَريبًا مِنْ ذلِكَ، فَقَالَ لِلشَّمْسِ: إِنَّكِ مَأمُورَةٌ وَأنَا مَأمُورٌ، اللَّهُمَّ احْبِسْهَا عَلَيْنَا، فَحُبِسَتْ حَتَّى فَتَحَ اللهُ عَلَيهِ، فَجَمَعَ الغَنَائِمَ فَجَاءتْ - يعني النَّارَ - لِتَأكُلَهَا فَلَمْ تَطعَمْها، فَقَالَ: إنَّ فِيكُمْ غُلُولًا، فَلْيُبايعْنِي مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ، فَلَزِقَتْ يَدَ رَجُلٍ بِيَدِهِ فَقَالَ: فِيكُمُ الغُلُولُ فَلتُبَايِعْنِي قَبِيلتَكَ، فَلَزقَت يَدُ رَجُلَين أو ثَلاَثة بيده، فقال: فيكم الغُلُولَ، فَجَاؤُوا بِرَأْس مثلِ رَأسِ بَقَرَةٍ مِنَ الذَّهَبِ، فَوَضَعَهَا فَجَاءَت النَّارُ فَأكَلَتْها. فَلَمْ تَحلَّ الغَنَائِمُ لأحَدٍ قَبْلَنَا، ثُمَّ أحَلَّ الله لَنَا الغَنَائِمَ لَمَّا رَأَى ضَعْفَنا وَعَجْزَنَا فَأحَلَّهَا لَنَا». مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
«الخَلِفَاتُ» بفتحِ الخَاءِ المعجمة وكسر اللامِ: جمع خِلفة وهي الناقة الحامِل.
قال ابن عثيمين ﵁:
- الجهاد ينبغي أن يكون الإنسان فيه متفرغاً، ليس له هم إلا الجهاد، ولهذا قال الله سبحانه: ﴿فَإِذَا فَرَغۡتَ فَٱنصَبۡ﴾ [الشرح: 7] أي: إذا فرغت من شؤون الدنيا بحيث لا تنشغل بها فانصب للعبادة، وينبغي للإنسان إذا أراد طاعة أن يفرغ قلبه وبدنه لها، حتى يأتيها وهو مشتاق إليها، وحتى يؤديها على مهل وطمأنينة وانشراح صدر.
- دليل على عظمة الله ﷿، وأنه هو مدبر الكون، وأنه ﷿ يجري الأمور على غير طبائعها، إما لتأييد الرسول، وإما لدفع شر عنه، وإما لمصلحة في الإسلام.
قال ابن باز ﵁:
- كان فيمن قبلنا علامة قبولهم في جهادهم أن تأكل النار غنائمهم، أما هذه الأمة فأحل الله لها المغانم.
- في هذا الحديث أيضا دليل على قدرة الله من جهة أن هذه النار لا يدرى من أين جاءت، بل تنزل من السماء، لا هي من أشجار الأرض، ولا من حطب الأرض، بل من السماء يأمرها الله فتنزل فتأكل هذه الغنيمة التي جمعت.

59 - السادس: عن أبي خالد حَكيمِ بنِ حزامٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم: «البَيِّعَانِ بالخِيَار مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإنْ صَدَقا وَبيَّنَا بُوركَ لَهُمَا في بيعِهمَا، وإنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بركَةُ بَيعِهِما». مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.