باب تكبير المسافر إِذَا صعد الثنايا وشبهها، وتسبيحه إِذَا هبط الأودية ونحوها، والنهي عن المبالغة برفع الصوتِ بالتكبير ونحوه


975 - عن جابر - رضي الله عنه - قَالَ: كُنَّا إِذَا صَعِدْنَا كَبَّرْنَا، وَإِذَا نَزَلْنَا سَبَّحْنَا. رواه البخاري.
قال ابن عثيمين ﵀:
- من آداب السفر أنّه إذا صعد الإنسان شيئا مرتفعًا كالجبل، وكذلك الطائرة، فإنه يكبر يقول: الله أكبر، إما مرة، أو مرتين، أو ثلاثًا، وإذا نزل: سبَّح قال: سبحان الله، مرة، أو مرتين، أو ثلاثًا، ووجه ذلك: أنّ الإنسان إذا علا فإنه يرى نفسه في مكان عال، فقد يستعظم نفسه، فيقول: الله أكبر، يعني يرد نفسه إلى الاستصغار أمام كبرياء الله ﷿، أما إذا نزل فالنزول سفول ودنو وذل فيقول: سبحان الله، يعني أنزه الله سبحانه وتعالى عن السفول والنزول، لأنّه سبحانه وتعالى فوق كل شيء.
قال ابن باز ﵀:
- فيه دلالةٌ على شرعية التكبير عند صعود الثنايا، والجبال، والروابي في الأسفار، والتسبيح عند هبوط الأودية، والسهول من الأرض، تنزيهاً لله عن السهول وتعظيماً لله وتقديساً له؛ لأنه العالي فوق خلقه جل وعلا، ويسبحوا عند النزول للأودية مطمئنين إلى الأرض، وأن تكون أصواتهم وسطاً؛ ولهذا لما رفعوا أصواتهم قال ﷺ: (يا أيّها النّاس اربعوا على أنفسكم، إنّكم لا تدعون أصمّ ولا غائباً ، إنَّما تدعون سميعاً قريباً وهو معكم) .

976 - وعن ابن عمرَ رضي اللهُ عنهما، قَالَ: كَانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وجيُوشُهُ إِذَا عَلَوا الثَّنَايَا كَبَّرُوا، وَإِذَا هَبَطُوا سَبَّحُوا. رواه أَبُو داود بإسناد صحيح.
977 - وعنه، قَالَ: كَانَ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - إِذَا قَفَلَ مِنَ الحَجِّ أَوْ العُمْرَةِ، كُلَّمَا أوْفَى عَلَى ثَنِيَّةٍ أَوْ فَدْفَدٍ كَبَّرَ ثَلاثًا، ثُمَّ قَالَ: «لاَ إلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. آيِبُونَ، تَائِبُونَ، عَابِدُونَ، سَاجِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ، صَدَقَ اللهُ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأحْزَابَ وَحْدَهُ». متفقٌ عَلَيْهِ.
وفي رواية لمسلم: إِذَا قَفَلَ مِنَ الجيُوشِ أَو السَّرَايَا أَو الحَجِّ أَو العُمْرَةِ.
قَوْلهُ: «أوْفَى» أيْ: ارْتَفَعَ، وَقَوْلُه: «فَدْفَدٍ» هُوَ بفتح الفائَينِ بينهما دال مهملة ساكِنة، وَآخِره دال أخرى وَهُوَ: «الغَليظُ المُرْتَفِعُ مِنَ الأرضِ».
قال ابن باز ﵀:
- عند القفول من الحج، أو العمرة، أو المغازي، والسرايا، يكبرون، ويسبحون، ويقولون أيضاً زيادة: (آيبون، تائبون، عابدون، ساجدون لربّنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده)، الآيب: الراجع، فالمشروع للمؤمن عمارة أوقاته بالذكر في الحضر، والسفر، في كل وقت، ولكن في الأسفار تكون لها خصوصية، إذا ارتفعوا كبروا، وإذا نزلوا الأودية سبحوا.
- أمّا في البيوت يكثر من ذكر الله قائماً، وقاعداً، ومضطجعاً، وجالساً، مثلما قال جل وعلا في كتابه العزيز: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيِّمًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ [آل عمران: 191]، فالمؤمن في جميع حالاته يستحب له ذكر الله.

978 - وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه: أنَّ رجلًا قَالَ: يَا رسول الله، إنّي أُريدُ أَنْ أُسَافِرَ فَأوْصِني، قَالَ: «عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللهِ، وَالتَّكْبِيرِ عَلَى كلِّ شَرَفٍ» فَلَمَّا وَلَّى الرَّجُلُ، قَالَ: «اللَّهُمَّ اطْوِ لَهُ البُعْدَ، وَهَوِّنْ عَلَيْهِ السَّفَرَ». رواه الترمذي، وقال: «حديث حسن».
قال ابن باز ﵀:
- المقصود أنّ الإنسان إذا أوصى أخاه عند السفر يقول له: اتَّقِ الله، وأكثر من التكبير والتهليل، يدعو له بأن الله يعينه ويسهل أمره ويزوده من التقوى ويعينه على الخير، يغفر له ذنوبه يسهل سفره وإيابه، والإنسان يدعو لأخيه بما يدعو لنفسه.

979 - وعن أَبي موسى الأشعريِّ - رضي الله عنه - قَالَ: كنّا مَعَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في سَفَرٍ، فَكُنَّا إِذَا أشْرَفْنَا عَلَى وَادٍ هَلَّلْنَا وَكَبَّرْنَا وَارتَفَعَتْ أصْوَاتُنَا، فَقَالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم: «يَا أيُّهَا النَّاسُ، ارْبَعُوا عَلَى أنْفُسِكُمْ، فَإنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أصَمَّ وَلاَ غَائِبًا، إنَّهُ مَعَكُمْ، إنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ». متفقٌ عَلَيْهِ.
(ارْبَعُوا) بفتحِ الباءِ الموحدةِ أيْ: ارْفُقُوا بِأَنْفُسِكُمْ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- ينبغي للمسافر إذا علا وارتفع أن يكبر، وإذا هبط ونزل أن يسبح، ولكن ينبغي للإنسان إذا فعل هذا ألا يجهد نفسه، ولا يشق عليها، ولا يرفع صوته رفعًا بالغًا؛ لأنّ الله تعالى يسمع، ويبصر، وهو قريب ﷿، مع أنّه فوق السماوات، لكنه محيط بكل شيء جل وعلا.
- فيه دليلٌ أنه لا ينبغي للإنسان أن يشق على نفسه في العبادة، متى ما تسهلت فليحمد الله، بعض الناس في أيام الشتاء يكون عنده الماء الساخن والبارد، يتوضأ بالبارد ويترك الساخن، إذا لم يكن عندك إلا الماء البارد استعملته وشق عليك، فلك أجر، أما أن تعدل عن السهل إلى الصعب، طلبًا للأجر، فهذا ليس بصواب، متى تسهل الأمر فافعله، ولكن لا تقصر، أما إذا لم يمكن إلا مع تعب، فهذا الأمر إلى الله، ومتى تعبت في العبادة فلك أجر.
قال ابن باز ﵀:
- السنة للمؤمن في ذكره أن يكون صوته متوسط، إذا صعد الروابي كبر، وإذا هبط الأودية سبح.

باب استحباب الدعاء في السفر


980 - وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم: «ثلاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَات لاَ شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ المَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ المُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ». رواه أَبُو داود والترمذي، وقال: «حديث حسن». وليس في رواية أَبي داود: «عَلَى وَلَدِهِ».
قال ابن عثيمين ﵀:
- المسافر: هو الذي فارق وطنه، يكون مسافرًا حتى يرجع إليه، ودعوة المسافر دعوة محتاج في الغالب، والإنسان إذا احتاج ودعا ربه أوشك أن يستجاب له؛ لأن الله سبحانه وتعالى يجيب دعوة المضطر، ودعوة المحتاج أكثر مما يستجيب لغيرهما.
- ذكر الحديث ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد:
• الأولى: دعوة المظلوم فمعناها إذا ظلمك أحد فأخذ مالك أو غير ذلك فهذا ظلم، فإذا دعوت الله عليه استجاب الله دعاءك، لكن أن يكون الدعاء بمثل ما ظلمه أو أقل، أما إذا تجاوز، فإنه يكون معتديًا، فلا يستجاب له.
• الثانية: دعوة المسافر، إذا دعا الله عز وجل أن ييسر سفره أو يعينه عليه، أو غير ذلك من الدعوات، فإن الله تعالى يستجيب له، ولذا ينبغي أن يغتنم فرصة الدعاء في السفر، وإذا كان السفر سفر طاعة كعمرة وحج فإنه يزداد ذلك قوة في إجابة الدعاء.
• الثالثة: دعوة الوالد، سواء دعا لولده أو عليه.
قال ابن باز ﵀:
- الدلالة على أن المظلوم، والمسافر، والوالد له دعوة مستجابة، وهكذا الصائم، فينبغي تحري هذه الأوقات: المظلوم، والصائم، والمسافر، والوالد، دعوة هؤلاء ترجى إجابتها، فليتحروا الدعوات الطيبة التي تنفعهم، أما المظلوم فيدعو بقدر المظلمة أنّ الله يخلصه من الظلم، يرد عليه حقه، يكفيه شره، وينتصر له من المظلوم، والوالد يحرص أن يكون دعواته طيبة لأولاده، وأن يحذر الدعاء عليهم، ويضرهم، يدعو لهم بالهداية والتوفيق والصلاح والاستقامة؛ لأن دعوتهم ترجى إجابتها .

باب مَا يدعو بِهِ إِذَا خاف ناسًا أَوْ غيرهم


981 - عن أَبي موسى الأشعريِّ - رضي الله عنه: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا خَافَ قَوْمًا، قَالَ: «اللَّهُمَّ إنَّا نَجْعَلُكَ في نُحُورِهِمْ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهِمْ». رواه أَبُو داود والنسائي بإسنادٍ صحيحٍ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- مثلاً قابلك أناس تخشى منهم، قابلك شخص تخشى من شره فقل: (اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم)، إذا قلت ذلك بصدق وإخلاص ولجوء إلى الله، كفاك الله شرهم.
- (اللهم إنا نجعلك في نحورهم)، أي: أمامهم، تدفعهم عنا، وتمنعنا منهم، (ونعوذ بك من شرورهم)، ففي هذه الحال يكفيك الله شرهم، كلمتان يسيرتان إذا قالهما الإنسان بصدق وإخلاص، فإن الله تعالى يستجيب له.
قال ابن باز ﵀:
- النبي ﷺ إذا خاف قوماً كان يقول: (اللَّهم إنّا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم)، خاف عدواً، أو أهل البلد، أو غيرهم ممن يخشى شره، والعبد ليس له ملجأ إلا الله سبحانه، بيده أزمة الأمور، وهو الذي بيده كل شيء، هو النافع الضار، والمانع المعطي، هو القادر على كل شيء جل وعلا.

باب مَا يقول إِذَا نزل منْزلًا


982 - عن خولة بنتِ حَكِيمٍ رضي الله عنها، قالت: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا ثُمَّ قَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ». رواه مسلم.
قال ابن عثيمين ﵀:
- (نزل منزلًا) يشمل من نزل منزلًا في السفر، إذا كان مسافرًا، ثم نزل ليستريح لغداء، أو عشاء، أو نوم، أو غير ذلك، فإنه إذا نزل يقول: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق).
- (أعوذ) أي: أعتصم بكلمات الله التامات، وكلمات الله التامات تشمل كلماته الكونية، والشرعية. فأما الكونية: فهي التي ذكرها الله في قوله: ﴿إِنَّمَآ أَمْرُهُۥٓ إِذَآ أَرَادَ شَيْـًٔا أَن يَقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ﴾ [يس: 83]، فيحميك الله تعالى بكلماته الكونية، يدفع عنك ما يضرك إذا قلت هذا الكلام. كذلك الكلمات الشرعية: وهي الوحي، فيها وقاية من كل سوء وشر، وقاية من الشر قبل نزوله، أما قبل نزوله فقد ثبت عن النبي ﷺ: (أنّ من قرأ آية الكرسي في ليلةٍ، لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح)، وأما بعد نزوله، فقد ثبت عنه ﷺ أن الفاتحة إذا قرئ بها على المريض فإنّه يبرأ بها.
- احرص يا أخي المسلم إذا نزلت منزلًا في بر، أو بحر، أو منزلًا اشتهيته للنوم، وما أشبه ذلك، فقل: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق فإنّه لا يضرك شيء حتى ترتحل من منزلك ذلك).

983 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قَالَ: كَانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِذَا سَافَرَ فَأقْبَلَ اللَّيْلُ، قَالَ: «يَا أرْضُ، رَبِّي وَرَبُّكِ اللهُ، أعُوذُ بِاللهِ مِنْ شَرِّكِ وَشَرِّ مَا فِيكِ، وَشَرِّ مَا خُلِقَ فِيكِ، وَشَرِّ مَا يَدِبُّ عَلَيْكِ، وَأعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ أسَدٍ وَأسْوَدٍ، وَمِنَ الحَيَّةِ وَالعَقْرَبِ، وَمِنْ سَاكِنِ البَلَدِ، وَمِنْ وَالِدٍ وَمَا وَلَدَ». رواه أَبُو داود.
وَ «الأَسْوَدُ»: الشَّخْصُ، قَالَ الخَطَّابِيُّ: وَ «سَاكِنُ البَلَدِ»: هُمُ الجِنُّ الَّذِينَ هُمْ سُكَّانُ الأرْضِ. قَالَ: وَالبَلَد مِنَ الأرْضِ: مَا كَانَ مَأْوَى الحَيَوانِ، وَإنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ بِنَاءٌ وَمَنَازلُ. قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أنَّ المُرَادَ: «بِالوَالِدِ» إبليسُ: «وَمَا وَلَدَ»: الشَّيَاطِينُ .
قال ابن باز ﵀:
- المؤمن يشرع له التعوذات الشرعية في ليله ونهاره تأسياً بالنبي ﷺ وعملاً بسنته.
- القاعدة هي: اللجوء إلى الله في كل شيء، والاعتصام به، والتعوذ به، والأخذ بالأسباب الشرعية التي شرعها لعباده.

باب استحباب تعجيل المسافر الرجوع إِلَى أهله إِذَا قضى حاجته


984 - عن أَبي هريرة - رضي الله عنه: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ العَذَابِ، يَمْنَعُ أحَدَكُمْ طَعَامَهُ وَشَرابَهُ وَنَوْمَهُ، فَإذَا قَضَى أحَدُكُمْ نَهْمَتَهُ مِنْ سَفَرِهِ، فَلْيُعَجِّلْ إِلَى أهْلِهِ». متفقٌ عَلَيْهِ.
«نَهْمَتهُ»: مَقْصُودهُ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- المسافر إذا سافر فإنه يترك أهله، وربما يحتاجون إليه في تعليمهم، ورعايتهم، وغير ذلك، وربما يحدث لهم أشياء توجب أن يكون عندهم، ولهذا أمر النبي ﷺ: (إذا قضى نهمته من سفره فليرجع إلى أهله).
- (السفر قطعة من العذاب)، ويعني ذلك: عذاب الضمير، وعذاب الجسم، ولاسيما الذي كان في الزمن السابق حيث يسافرون على الإبل، ويكون فيها مشقات كبيرة، حر في الصيف، وبرد في الشتاء، ولهذا قال ﷺ: إنّه قطعة من العذاب.
- (يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه)، لأنّه أي المسافر مشغول البال، ولا يأكل ويشرب كطعامه وشربه العادي في أيامه العادية، وكذلك في النوم، فإذا كان كذلك، فليرجع الإنسان إلى الراحة إلى أهله وبلده، ليقوم على أهله بالرعاية والتأديب وغير ذلك.
- فيه دليلٌ على أنّ إقامة الإنسان في أهله أفضل من سفره، إلا أن يكون هناك حاجة، ووجهه أن أهله يحتاجون إليه، ولهذا لما قدم مالك بن الحويرث ﵁ ومعه عشرون رجلًا من قومه إلى النبي ﷺ وأقاموا عنده نحو عشرين ليلة، فرأى أنهم قد اشتاقوا إلى أهلهم قال: (ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم، وعلّموهم، ومروهم)، فدل ذلك على أنّ الإنسان لا ينبغي أن يغيب عن أهله إلا بقدر الحاجة، هذا هو الأفضل.
قال ابن باز ﵀:
- يبين ﷺ أنّ السفر فيه مشقة في الغالب يمنع الإنسان طعامه المعتاد وشرابه المعتاد ونومه المعتاد، فالسنة أن يعجل بالإياب إذا قضى حاجته ونهمته؛ لما في تعجيل الإياب من الراحة والاجتماع بالأهل، والسلامة من بقية تعب السفر.

باب استحباب القدوم عَلَى أهله نهارًا وكراهته في الليل لغير حاجة


985 - عن جابر - رضي الله عنه: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِذَا أطال أحَدُكُمُ الغَيْبَةَ فَلاَ يَطْرُقَنَّ أهْلَهُ لَيْلًا».
وفي روايةٍ: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نَهَى أَنْ يَطْرُقَ الرَّجُلُ أهْلَهُ لَيْلًا. متفقٌ عَلَيْهِ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- الإنسان إذا غاب عن أهله وطالت غيبته، فلا يطرقهم ليلًا، مثل: أن يحصل عليه في السفر مشقة لو انتظر إلى الصباح، فهذه حاجة يقدم عليهم في الليل ولا حرج، وكذلك أيضًا إذا كان قد أعلمهم أنه سيقدم عليهم الليلة الفلانية، فلا بأس أن يقدم عليهم ليلًا، أما إذا كان أطال الغيبة فإنّه لا يطرقهم ليلًا، لأنّ النبي ﷺ علل ذلك فقال: (لكي تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة)، يعني لأجل أن المرأة تتجمل وتتزين لزوجها، لئلا يقدم عليها وهي شعثة، غير ماشطة، أو لم تستحد، أي: لم تحلق عانتها، فلهذا قيد المسألة إذا أطال السفر، أما إذا لم يطل السفر، كسفر يوم، أو يومين، أو ما أشبه ذلك، فلا حرج عليه أن يقدم إلى أهله متى شاء.
قال ابن باز ﵀:
- نهى ﷺ عن الطروق ليلاً، بل كان يقدم أول النهار أو آخر النهار، وفي الصحيحين أنه قدم ذات يوم في بعض الأسفار في آخر النهار، فقال: (أمهلوا حتّى ندخل ليلاً، أي: عشاءٌ، كي تمتشط الشّعئة وتستحدّ المغيبة)؛ لأنّ المرأة إذا درت عن حضور زوجها استعدت لما ينبغي من التنظف والتطيب ولبس الثياب الحسنة، وإبعاد ما قد يحسن إبعاده في البيت من أشياء لا يرضاها الزوج.

986 - وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لا يَطْرُقُ أهْلَهُ لَيْلًا، وَكَانَ يَأتِيهمْ غُدْوَةً أَوْ عَشِيَّةً. متفقٌ عَلَيْهِ.
«الطُّرُوقُ»: المَجيءُ فِي اللَّيْلِ.

باب مَا يقول إِذَا رجع وإذا رأى بلدته


فِيهِ حَدِيثُ ابنِ عمرَ السَّابِقُ في باب تكبيرِ المسافِر إِذَا صَعِدَ الثَّنَايَا.
987 - وعن أنس - رضي الله عنه - قَالَ: أقْبَلْنَا مَعَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى إِذَا كُنَّا بِظَهْرِ الْمَدِينَةِ، قَالَ: «آيِبُونَ، تَائِبُونَ، عَابِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ» فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُ ذَلِكَ حَتَّى قَدِمْنَا المَدِينَةَ. رواه مسلم.
قال ابن باز ﵀:
- السنة، في جميع السفر الإكثار من الذكر والتكبير والتسبيح، وفي الرجوع إلى الوطن يقول: (آيبون، تائبون، عابدون، ساجدون لربّنا حامدون، صدق اللهُ وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده)، يكثر من هذا حتى يصل بلده.

باب استحباب ابتداء القادم بالمسجد الذي في جواره وصلاته فيه ركعتين


988 - عن كعب بن مالِك - رضي الله عنه: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، بَدَأ بِالْمَسْجِدِ فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ. متفقٌ عَلَيْهِ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- إذا قدم الإنسان من السفر فليبدأ قبل كل شيء بالمسجد، قبل أن يدخل على أهله يبدأ بالمسجد، ويصلى فيه ركعتين، لأن النبي ﷺ سن ذلك لأمته، في قوله، وفعله، فكان ﷺ إذا قدم أول ما يبدأ به هو المسجد، يصلي فيه ركعتين، ولما جاءه جابر ﵁ ليأخذ ثمن جمله الذي باعه عليه، قال له: (أدخلت المسجد وصليت؟) قال: لا قال: (ادخل المسجد وصل ركعتين)، وهذه السنة قد غفل عنها كثير من الناس، إما جهلاً بذلك، وإما تهاونًا، ولكن ينبغي للإنسان أن يحيي هذه السنة.
قال ابن باز ﵀:
- السنة إذا وصل البلد يبدأ من المسجد، ويصلي فيه ركعتين، كما كان النبي ﷺ يفعل، ثم يسلم على الناس، يذهب إلى أهله، هذا هو الأفضل.

باب تحريم سفر المرأة وحدها


989 - عن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَومِ الآخِرِ تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إِلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ عَلَيْهَا». متفقٌ عَلَيْهِ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- ظاهر الحديث أنه لا فرق بين المرأة الشابة، والكبيرة، والحسناء، والقبيحة، ومن معها نساء، ومن لا نساء معها، ومن هي آمنة، وغير آمنة، فالحديث عام، وإذا قدر أن يوجد في سفر من الأسفار السلامة يقينًا، فإن ذلك لا يوجد في كل سفر، ولما كانت المسألة خطيرة منعت المرأة منعًا باتًا من السفر بلا محرم.
- تهاون بعض الناس اليوم في السفر بلا محرم، ولاسيما في سفر الطائرة، وكذلك النقل الجماعي، وهذا غلط، وتهاون في طاعة الله ورسوله، فلا يحل للمرأة أن تسافر بلا محرم، ولو بالطائرة، حتى لو كان محرمها سيمشي معها إلى أن تركب الطائرة، ومحرمها الثاني يقابلها في البلد الآخر، فإن ذلك لا يجوز.
- المـَحرَم هو: من تحرم عليه تحريمًا مؤبدًا، بنسب، أو مصاهرة، أو رضاعة.
- ما يظنه بعض العوام من أن الإنسان إذا أنقذ امرأة من هلاك صار محرمًا لها، فهذا ليس له أصل، كأن يقول: إذا غرقت امرأة ثم جاء إنسان وأنقذها، أو شبت حريق بالبيت، فجاء إنسان فأنقذها، يدعي بعض العوام أنه يصير محرمًا لها، وهذا ليس له أصل، وغير صحيح.
قال ابن باز ﵀:
- المرأة ليس لها أن تسافر إلا مع المحرم، مع أبيها، مع أخيها، عمها، خالها ابنها، من تحرم عليه على التأبيد يقال له محرم، ومن ذلك: أبوها، وأولادها، وإخوتها، وأخوالها، وأعمامها.

990 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنَّهُ سَمِعَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ، وَلاَ تُسَافِرُ المَرْأةُ إِلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ» فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رسولَ الله، إنَّ امْرَأتِي خَرَجَتْ حَاجَّةً، وَإنِّي اكْتُتِبْتُ في غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا؟ قَالَ: «انْطَلِقْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ». متفقٌ عَلَيْهِ.
قال ابن باز ﵀:
- لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، هذا يعم جميع الأسفار، (فقال له رجلٌ: يا رسول الله، إنّ امرأتي خرجت حاجةً، وإنِّي اكتتبتُ في غزوة كذا وكذا؟ قال: انطلق فحُجَّ مع امرأتكَ) أمره ﷺ أن يترك الغزو ويذهب مع امرأته لئلا تحج وحدها؛ لأن حجها وحدها فيه خطر، وفيه تعريض لها للفتن.