باب فضل الصف الأول والأمر بإتمام الصفوف الأُوَل وتسويتها والتراصّ فِيهَا


1082 - عن جابر بن سَمُرَة رضي الله عنهما، قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «ألاَ تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ المَلائِكَةُ عِندَ رَبِّهَا؟» فَقُلنَا: يَا رَسُول اللهِ، وَكَيفَ تُصَفُّ المَلائِكَةُ عِندَ رَبِّهَا؟ قَالَ: «يُتِمُّونَ الصُّفُوفَ الأُوَلَ، وَيَتَرَاصُّونَ في الصَّفِّ». رواه مُسلِم.
1083 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إلاَّ أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاسْتَهَمُوا». متفقٌ عَلَيهِ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- الملائكة لها عبادات متنوعة، وهم عليهم الصلاة والسلام لا يستكبرون عن عبادته، ولا يستحسرون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وتأمل قوله ﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ﴾ [الأنبيا: 20]، ولم يقل يسبحون في الليل والنهار؛ لأنّهم يستوعبون الوقت كله في التسبيح، ومن عباداتهم عند ربهم أنهم يصفون عند الله، كما قال تعالى ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ‎﴿١٦٥﴾﴿‏ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ﴾ [الصافات: 165-166].
- كيف صفوف الملائكة؟ قال النبي ﷺ: (يتمّون الصّفوف الأول، ويتراصّون في الصّفّ)، إذًا فنحن إذا صففنا بين يدي الله في صلاتنا، ينبغي أن نكون كالملائكة، يكملون الأول فالأول، ويتراصون الأول فالأول، كما أنه من سنة الملائكة عند الله، ومما رغب فيه النبي ﷺ ، فهو من الأمور التي ينبغي أن يتزاحم الناس عليها؛ لأن النبي ﷺ قال (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، يعني من الأجر، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا)، يعني لو لم يجدوا طريقًا يصلون إلى الصف الأول به، إلا أن يجروا قرعة لفعلوا، وهذا يدل على فضيلة الصف الأول، ويدل على أن الأفضل التراص في الصفوف، ويدل على أنّه يكمل الأول فلأول.
- ثلاث مسائل ينبغي للإنسان أن ينتبه لها:
• ألا يقف في صف حتى يكمل الذي قلبه.
• في الصلاة يتراصون يلصق بعضهم كعبه بكعب أخيه، ومنكبه بمنكبه، حتى تتم المراصة؛ لأنّهم إذا لم يتراصوا تدخل الشياطين بينهم، كأولاد الغنم الصغار، ثم يشوشون عليهم صلاتهم، ولكن يجب التنبه: أنّه ليس المراد بالمراصة، المراصة التي تشوش على الآخرين، وإنما المراد منها ألا يكون بينك وبينه فرجة.
• الصف الأول لا يجوز التقدم إليه بوضع المنديل أو الكتاب أو ما أشبه ذلك، وكأنه أصبح ملكًا له يحجزه دائمًا، سواء جاء أو لا، من جاء الأول فهو أحق، وليس أحد أحق بمكانه من أحد أبدا، قال شيخنا عبد الرحمن بن سعدي: "أن التحجر حرام، وأنه لا يجوز"، حتى بعض الفقهاء قال: "يتوجه أن لا تصح صلاته؛ لأنه شبه مغصوب، حيث إنه جلس في مكان لا يستحقه".
- (ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه، لاستهموا) معناه أنهم يتقدمون، ويتسابقون، ثم إن حجز الأماكن فيه مضرة، فيقول الإنسان: إن مكاني مضمون، فينحرف عن الخير، بناء على أن مكانه مضمون، فالمعنى من يتقدم بنفسه إذا كان حاضر بالمسجد، ولكن إذا أراد أن يبتعد عن الصف الأول؛ لأجل أن يقرأ، أو يصلي، أو يراجع، أو ينام، فلا بأس؛ لأنّه يستحقه، لكن يجب أن يصل إلى مكانه قبل أن تتصل الصفوف، فيحتاج إلى تخطي الرقاب، وقد رأى النبي ﷺ رجلا يتخطى الرقاب فقال ﷺ: (اجلس فقد آذيت).
- فيه دليلٌ على جواز الاستهام في القرب، يعني لو تنازع اثنان في الأذان وليس بينهما مؤذن راتب، ومتساويان في الصفات المطلوبة في الأذان، فحينئذ نقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة هو الذي يؤذن، ومع الأسف أنك ترى بعض الناس الآن جماعة مسافرين أو ما أشبه ذلك، كل واحد يقول للثاني أذن أنت، وهو لا يعلم ما في الأذان من خير، فالأذان لا يسمعه شجر ولا مدَر ولا حجر إلا شهد لك يوم القيامة، فكيف تترك هذه الغنيمة التي ينبغي أن تبادر نحوها، فكل من هذين الرجلين، من يتنازل عن الأذان لغيره، أو من يتنازل عن الصف الأول، كلاهما مخطئ، ولو قدرنا أنه فعل ذلك حتى لا يغضب الآخرون، لماذا؟ لأنه ينبغي له أن يفعل السنة، أما إذا استنكف واستكبر فإنّه آثم.
- ملحوظة: بعض الأخوة تجده، ويظن أنّه من السنة، يباعد بين رجليه في الصف فتطابق رجله رجل الواقف بجواره، لكن كتفه بعيد عنه، وهذا خطأ، وليس من السنة، فالصحابة رضوان الله عليهم كانوا إذا وقفوا تراصّوا حتى يكون المنكب يمس المنكب، والكعب يمس الكعب، وكل شيء على طبيعته، فليس معنى التراص أن تلصق قدميك بقدم من بجوارك، فهذا فهم للسنة على غير حقيقتها.
قال ابن باز ﵀:
- (يتمون الصّفوف الأول، ويتراصون في الصّفّ) يعني: يجتهدون في إتمام الصفوف الأول، كلما تم صف أكملوا ما بعده، ثم يتراصون، هذه السنة، إكمال الصف الأول فالأول، مع التراص، فلا يبدأ الصف الثاني حتى يكمل الأول، ولا يبدأ في الثالث حتى يكمل الصف الثاني، وهكذا مع التراص، يعني التراص الذي لا يؤذي، تراص يسد الخلل، ولكن لا يؤذي أحداً؛ لأنّه لا يجوز للمسلم أن يؤذي أخاه، يكون تراص تقارب لكن ليس فيه أذى ولا مضايقة، يكون القدم مع القدم بدون مضايقة حتى يكمل الصفوف، هذا هو السُّنَّة، بل هذا هو الواجب؛ لأن الرسول ﷺ أمر به وأرشد إليه وقال: (صلوا كما رأيتموني أصلي).
- (ثمّ لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا) يعني: ما في الصف الأول من الأجر، وفضل النداء؛ يعني: الأذان، ثم لم يتمكنوا من القيام بذلك من أجل الاستهام لاقترعوا كل واحد يقول: لعلي أفوز، لعلي أكون أنا المؤذن، أو أكون في الصف الأول؛ لعظم الأجر، وعظم فضل الأذان والصف الأول، لو لم يتيسر ذلك إلا بالقرعة لاقترعوا.
- فيه الحث على المبادرة بالمسارعة في الصف الأول، وعلى العناية بالأذان والمسابقة إليه، وأنه دعوة إلى الخير، دعوة إلى الله؛ ولهذا يقول ﷺ: (المُؤذّنون أطول النّاس أعناقاً يوم القيامة).
- ينبغي للمؤمن أن يكون له حظ من هذا الخير، يسارع بها إلى الخير من جهة الصف الأول، من جهة الأذان، من جهة رص الصفوف، تكميل الأول فالأول، حتى يكون منافساً في الخير، ومرشداً إليه، مع المنافسة، يرشد الناس، ويعلم الناس، ويوجههم.

1084 - وعنه، قَالَ: قال رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا، وَشَرُّهَا آخِرُهَا، وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا، وَشَرُّهَا أوَّلُهَا». رواه مُسلِم.
1085 - وعن أبي سعيد الخدرِيِّ - رضي الله عنه: أنَّ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رأى في أصْحَابِهِ تَأَخُّرًا، فَقَالَ لَهُمْ: «تَقَدَّمُوا فَأتَمُّوا بِي، وَلْيَأتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ، لاَ يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ الله». رواه مُسلِم.
1086 - وعن أبي مسعود - رضي الله عنه - قال: كَانَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَمْسَحُ مَنَاكِبَنَا في الصَّلاَةِ، وَيَقُولُ: «اسْتَووا ولاَ تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ، لِيَلِيَنِي مِنْكُمْ أُولُو الأحْلاَمِ وَالنُّهَى ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» رَوَاهُ مُسلِم.
1087 - وعن أنس - رضي الله عنه - قَالَ: قال رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم: «سَوُّوا صُفُوفَكُمْ؛ فَإنَّ تَسْوِيَةَ الصَّفِّ مِنْ تَمَامِ الصَّلاَةِ». متفقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية للبخاري: «فَإنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ إقَامَةِ الصَّلاَةِ».
قال ابن عثيمين ﵀:
- صفوف النساء تكون خلف الرجال، هذا هو السنة، فإذا كان أولها، فهو قريب من الرجال، فيكون شرها، وآخرها بعيد عن الرجال فيكون خيرها، أما الرجال فكلما تقدموا فهو أفضل، كما قال النبي ﷺ محذرا عن التأخر (لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله)، وهذه خطيرة، أن الإنسان كلما تأخر عن الصف الأول، أو الثاني، أو الثالث، ألقى الله في قلبه محبة التأخر في كل عمل صالح والعياذ بالله، فأنت يا أخي تقدم في الصف الأول فالأول.
- (خير صفوف النساء آخرها وشرها أولها) ما لم يكن النساء في مكان خاص لهن، فإن خير صفوفهن أولها؛ لأنه أقرب من الإمام، ولا محذور فيه؛ لأنهن بعيدات عن الرجال.
- ثم ذكر أن النبي ﷺ كان يسوي مناكب أصحابه عند التكبير، مناكبهم يعني أكتافهم، ويقول ﷺ: (استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم)، يعني أن اختلاف الناس بعضهم متقدم وبعضهم متأخر يوجب اختلاف القلوب.
- الذي ينبغي لنا أن نقيم صفوفنا، وتكملة الأول فالأول، والتراص، حتى يكون ذلك من تمام صلاتنا.
قال ابن باز ﵀:
- (خير صفوف الرّجال أوّلها وشرّها آخرها) وجه ذلك: أنّ الرجال مشروع لهم أن يبادروا ويسارعوا إلى الصف الأول، وشر صفوفهم الآخر؛ لما فيه من الضعف والكسل والتأخر، أما النساء فمشروع لهن البعد عن الرجال وعن الفتنة، فشر صفوفهن أولها، وخيرها آخرها، لما كان أبعد عن الرجال، فهو أكمل، إذا كان ليس بينهم ساتر حاجز، إذا كان بينهن حاجز، أما إذا كان بينهم حاجز، وبين الرجال فالأقرب والله أعلم، فإن خير صفوفهن أولها؛ لزوال الحكمة والعلة، لو كانوا في محل مستورين يسمعون الصوت وبينهم وبين الرجال ساتر، ولكنهم في المسجد فخير صفوفهن أولها؛ لما فيه من المسابقة إلى الخير، والمسارعة إلى الصف، ولكن بيوتهن خير لهن.
- (حتّى يؤخّرهم الله) يعني: يتأخرون عن الصلاة، حتى يؤخرهم الله، يعني: عن كل خير. وفي رواية عائشة ﵂: (حتى يؤخرهم الله في النار).
- فيه الحث على التقدم، والمسارعة إلى الصلاة، وأن يكون المؤمن في الصف الأول، وفي حديث عائشة ﵂ عند أبي داود، رأى في أصحابه تأخراً عن الصف المقدم؛ يعني: الأول فقال ﷺ: (لا يزال قومٌ يتأخّرون عن الصّف الأوّل حتّى يؤخّرهم اللَّه في النّار).
- المقصود أن في هذا الحث والتحريض على المسارعة إلى الصلاة، حتى يكون في الصف الأول، وحتى يبتعد عن صفات الكسالى، ولا يزال الرجل يتكاسل ويتأخر حتى يؤخره الله، هذا عام، يعني: عن كل خير، أو عن التقدم إلى الخير، أو يؤخره في النار، فيجب الحذر من التكاسل والتثاقل عن الصلاة، كفعل المنافقين.
- (استووا ولا تختلفوا، فتختلف قلوبكم) يأمرهم بالاستواء، أن يستووا ولا يختلفوا، يعني يلمس مناكبهم ويقول: (استووا)، تقدم مع أخيك، استو مع أخيك حتى يستووا جميعاً على سمت واحد.
- فيه إشارة إلى أن الاختلاف في الوقوف مع الإمام من أسباب اختلاف القلوب، يتخالف ويتقدم قوم ويتأخر قوم ولا ينتظموا في الصف، من أسبابه أيضاً اختلاف القلوب، ومن أسباب التباغض، فالواجب الاستواء في الصف، وأن يكون على سمت واحد، متراصين يتسابقون إلى الصف الأول فالأول.
- هكذا ينبغي للمسلمين أن يرضوا الصفوف، وألا يأخذهم الكسل والتثاقل، بل يرصونها ويتساوون، فإن إقامتها من إقامة الصلاة، فالتأخر عنها من صفة المنافقين، واختلاف الصفوف من أسباب اختلاف القلوب.

1088 - وعنه، قَالَ: أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَأقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: «أقِيمُوا صُفُوفَكُمْ وَتَرَاصُّوا؛ فَإنِّي أرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي». رواه البُخَارِيُّ بلفظه، ومسلم بمعناه.
وفي رواية للبخاري: وَكَانَ أَحَدُنَا يُلْزِقُ مَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِ صَاحِبِهِ وَقَدَمَهُ بِقَدَمِهِ.
1089 - وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، قَالَ: سمعت رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ، أوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ». متفقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية لمسلم: أنَّ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُسَوِّي صُفُوفَنَا، حَتَّى كَأنَّمَا يُسَوِّي بِهَا القِدَاحَ حَتَّى رَأى أنَّا قَدْ عَقَلْنَا عَنْهُ، ثُمَّ خَرَجَ يَومًا فَقَامَ حَتَّى كَادَ يُكَبِّرُ، فَرَأى رَجُلًا بَادِيًا صَدْرُهُ مِنَ الصَّفِّ، فَقَالَ: «عِبَادَ اللهِ، لتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ، أو لَيُخَالِفَنَّ اللهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ».
قال ابن عثيمين ﵀:
- أمرهم ﷺ بإقامة الصفوف، وأخبر أنّه يراهم من وراء ظهره، وهذا من خصائص النبي ﷺ، أنّه في هذه الحالة المعينة يرى الناس من وراء ظهره، أما فيما سوى ذلك فإنّه لا يرى من وراء ظهره شيئا.
- (أو ليخالفن الله بين وجوهكم) اختلف العلماء في قوله بين وجوهكم: فقيل المعنى أنّ الله يعاقبهم بأن يجعل وجوههم نحو ظهورهم، فتلوى الأعناق، وقيل المعنى: أي بين وجهات نظركم، هو كالحديث الذي سبق لا تختلفوا فتختلف قلوبكم، وهذا المعنى أصح وأرجح، ومعلوم أن الاختلاف الظاهر يؤدي إلى اختلاف الباطن، فإذا اختلف الناس فيما بينهم ظاهرًا أدى ذلك إلى اختلاف القلوب، وإذا اختلفت القلوب صار الشر والفساد والعياذ بالله.
- نحن مأمورون بتسوية الصفوف على النحو التالي:
• تسوية الصف بالمحاذاة، بحيث لا يتقدم أحد على أحد، ولهذا كان الصحابة يلصق أحدهم قدمه بقدم صاحبه، ومنكبه بمنكبه، وفي هذا الوصف دليل على فساد فهم هؤلاء الذين إذا وقفوا في الصف فتحوا بين أرجلهم حتى تكون القدم لاصقة بالقدم، لكن المناكب متباعدة، وهذا بدعة، ليس من السنة، السنة أننا نتراص جميعا، بحيث يلصق الكعب بالكعب، والمنكب بالمنكب.
• تسوية الصف بإكمال الأول فالأول، بحيث لا يصف أحد في الصف الثاني، والأول لم يتم، أو في الثالث والثاني لم يتم.
• أنّ الأولى إذا اجتمع رجال ونساء أن تبتعد النساء عن الرجال فإن خير صفوف النساء آخرها وشرها أولها.
• سد الفرج، ألا ندع للشياطين فرجًا يدخلون من بينها؛ لأن الشياطين تسلط على بني آدم ابتلاء من الله وامتحانا، فإذا وجدوا فرجة في الصف تخللوا المصلين حتى يشوشوا عليهم صلواتهم.
- ومن تمام الصفوف إذا كانوا ثلاثة، فإنه يتقدم أحدهم إمامًا ويكون الباقيان خلفه، وإن كان بالغين أو صغيرين أو بالغ وصغير كلهم يكونون خلفه لأن ذلك ثبت عن النبي ﷺ في صلاة النفل وصلاة الفرض مثل صلاة النفل إلا إذا قام دليل على الفرق بينهما.
قال ابن باز ﵀:
- (يتمّون الصّفوف الأول، ويتراضون في الصّف) فالمعنى هكذا، يتم الصف الأول، ثم الصف الثاني، ثم الثالث، وهكذا، كلما كثرت الجماعة يكمل الصف الأول، ثم الذي يليه، وهكذا يسدون الخلل، ويتراصون، لكن من غير إيذاء تراص، يعني: يُسد الفرج؛ ولهذا قال ﷺ: (سدّوا الفرج، ولا تذروا فرجاتٍ للشّيطان)، فالمؤمن مأمور بالعناية بتسوية الصف، وسد الخلل.
- قال أنس ﵁: "وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدم صاحبه" يعني: حتى ما يترك فرجة، يسدون الخلل بتراص أقدامهم، ومناكبهم في الصف، وهذا من أسباب الخشوع في الصلاة، والإقبال عليها، إذا اختلفوا اختلفت القلوب، وصارت مشاحة ومشاحنة، فإذا استووا على نمط واحد صار ذلك أخشع للقلوب، وأبعد عن الاختلاف، والمرأة إذا أمَّت النساء كذلك تأمرهم بسد الخلل، وإقامة الصف، وتقف وسطهن، وهكذا إذا كانوا مع الرجال، صاروا صفوفاً، يسدون الخلل بينهم ويتراصون بينهم .

1090 - وعن البراءِ بن عازِبٍ رضي الله عنهما، قَالَ: كَانَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَخَلَّلُ الصَّفَّ مِنْ نَاحِيَةٍ إلى نَاحِيَةٍ، يَمْسَحُ صُدُورَنَا وَمَنَاكِبَنَا، وَيَقُولُ: «لا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ» وكانَ يَقُولُ: «إنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الصُّفُوفِ الأُوَلِ». رواه أبُو دَاوُدَ بإسناد حسن.
1091 - وعن ابن عمر رَضِيَ اللهُ عَنهُما: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أقيمُوا الصُّفُوفَ، وَحَاذُوا بَيْنَ المَنَاكِبِ، وَسُدُّوا الخَلَلَ، وَلِينوا بِأيْدِي إخْوانِكُمْ، ولاَ تَذَرُوا فُرُجَاتٍ للشَّيْطَانِ، وَمَنْ وَصَلَ صَفًّا وَصَلَهُ اللهُ، وَمَنْ قَطَعَ صَفًّا قَطَعَهُ اللهُ». رواه أبُو دَاوُدَ بإسناد صحيح.
1092 - وعن أنس - رضي الله عنه: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «رُصُّوا صُفُوفَكُمْ، وَقَارِبُوا بَيْنَهَا، وَحَاذُوا بِالأعْنَاقِ ؛ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنِّي لأَرَى الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ مِنْ خَلَلِ الصَّفِّ، كَأَنَّهَا الحَذَفُ» حديث صحيح رَوَاهُ أبُو دَاوُدَ بإسنادٍ عَلَى شرط مسلم.
«الحَذَفُ» بحاء مهملةٍ وذالٍ معجمة مفتوحتين ثُمَّ فاء وهي: غَنَمٌ سُودٌ صِغَارٌ تَكُونُ بِاليَمَنِ.
قال ابن عثيمين ﵀:
- هذه الأحاديث دليلا على مسائل:
• أن النبي ﷺ كان يمسح صدور أصحابه، ومناكبهم، ليسوي صفوفهم، ويقول: (لا تختلفوا فتختلف قلوبكم).
• كان ﷺ يتخلل الصف، من ناحية إلى ناحية، يسوي بيده الكريمة، وكان هذا عادته. ولما كثر الناس في زمن أمير المؤمنين عمر وفي زمن عثمان ﵁، صار هناك رجال موكلون من قبل الخليفة يسوون الصفوف، فإذا جاءوا إلى الإمام وقالوا: إن الصفوف قد تمت وكملت، كبّروا للصلاة.
- هذا دليل على عناية النبي ﷺ والخلفاء الراشدين بالصفوف، والتراص فيها، وتسويتها، وعدم فرجات الشيطان حتى تكون الصلاة تامة مستوية، فإن تسوية الصف من تمام الصلاة، ومن إقامة الصلاة.
قال ابن باز ﵀:
- (ولينوا بأيدي إخوانكم) لينوا، يعني: إذا جذبك أخوك لسد الخلل، خلك لين، لا تأبى، لِن في يده، حتى تسد الخلل، بعض الناس تشير إليه تجره قليلاً لأجل يسد الخلل، ولكن لا يتجاوب، السُّنَّة التجاوب.
- (ولينوا بأيدي إخوانكم) يعني: بالتقارب، وسد الخلل، ورص الصفوف، ومحاذاة بين الأعناق، حتى لا يتقدم أحد على أحد.
- (ومن وصل صفاً وصله الله) هذا فيه أمر عظيم، فائدة كبيرة، (ومن قطع صفاً قطعه اللَّه) كونه يترك فرجات للشيطان، هذا فيه الوعيد، فالواجب سد الخلل، والتراص، والتقارب فيما بينهم، تقارب بين الصفوف، في الصف يكون قريباً، حتى يسجد عند مؤخر الصف الذي قدامه، ولا يتساهل في هذا، أو يتكبر، بل يلين في الصف، ويسد الخلل طاعة الله ورسوله وحذراً من معصيته ومعصية الرسول ﷺ، وفي ذلك مصالح كثيرة للمسلمين من التقارب بينهم تواصل يزيل الشحناء، يقرب بين القلوب.

1093 - وعنه: أنَّ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أتِمُّوا الصَّفَّ المُقَدَّمَ، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ، فَمَا كَانَ مِنْ نَقْصٍ فَلْيَكُنْ في الصَّفِّ المُؤَخَّرِ». رواه أبُو دَاوُدَ بإسناد حسن.
1094 - وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عَنها، قالت: قال رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى مَيَامِنِ الصُّفُوفِ». رواه أبُو دَاوُدَ بإسنادٍ عَلَى شرط مسلم، وفيه رجل مُخْتَلَفٌ في تَوثِيقِهِ.
1095 - وعن البراء - رضي الله عنه - قَالَ: كُنَّا إذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أحْبَبْنَا أَنْ نَكُونَ عَنْ يَمِينهِ، يُقْبِلُ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «رَبِّ قِني عَذَابَكَ يَوْمَ تَبْعَثُ - أو تَجْمَعُ - عِبَادَكَ». رواه مُسلِمٌ.
1096 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قال رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم: «وَسِّطُوا الإمَامَ، وَسُدُّوا الخَلَلَ». رواه أبُو دَاوُد.
قال ابن عثيمين ﵀:
- (إنّ الله وملائكته يصلون على ميامين الصفوف) هذا الحديث فيه رجل مختلف في توثيقه، وعلى هذا فيكون ضعيفًا، وإن كان على شرط مسلم من حيث الإسناد، لكن إذا كان فيه رجل مختلف بتوثيقه يكون ضعيفًا.
- (وسّطوا الإمام) يعني: اجعلوه وسطًا، وهذا هو العدل، أن يكون الإمام ليس مائلا إلى اليمين ولا الشمال، بل يكون في الوسط، ولهذا لما كان في أول الإسلام أو الهجرة، وكان الناس يصفون، إذا كانوا ثلاثة صفًا واحدًا، كان المشروع أن الإمام يكون بينهم، لا يكون متطرفًا من حيث اليسار، بل يكون بينهم، فدل ذلك على أن توسيط الإمام له أهمية، وبه نعرف أن ما يفعله بعض الناس الآن، تجدهم يكملون الصف يمينًا، والصف الأيسر ليس فيه إلا القليل، هذا خلاف السنة، والسنة أن يكون اليمين واليسار متقاربين، فإذا تساويا فهنا نقول الأيمن أفضل، فإن زاد رجل أو رجلان في الأيمن فلا بأس، أما أن يكون الأيمن تامًا والأيسر ليس فيه إلا قليل، فهذا خلاف السنة؛ لأنه ليس فيه توسيط الإمام.
قال ابن باز ﵀:
- (إنّ الله وملائكته يصلون على ميامين الصفوف) هذا يدل على أنّ اليمين أفضل، أفضل من اليسار، وأن الواجب التكميل تكميل الصف الأول فالأول، فيسد الخلل ويكمل جانبي الصف الأيمن والأيسر، ثم يبدأ في الثاني وهكذا، فعلى الجميع تكميل الصف الأول فالأول مع ملاحظة أن يمين كل صف أفضل من يساره، لكن لا يبدأ في الصف الثاني حتى يكمل الأول يميناً وشمالاً، وهكذا لا يبدأ في الصف الثالث حتى يكمل الصف الثاني وهكذا.
- كان يقول ﷺ بعد الصلاة: (اللَّهُمَّ قني عذابك يوم تبعث عبادك) يعني: بعد الذكر، بعد قوله: (أستغفر الله، أستغفر اللَّه، أستغفر اللَّه، اللّهمّ أنت السّلام، ومنك السّلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلّا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كلّ شيءٍ قديرٌ) يقولها ويكررها ثلاثاً.
- السُّنَّة أن يكون الإمام وسطاً، يجعل المحراب وسط المسجد، لا في اليمين ولا الشمال، محل الإمام يكون في الوسط، وهكذا إذا كانوا جماعة وقدموه في السفر يكون وسطهم.