٥- بابٌ: في ذِكْر إبراهيمَ وإسماعيلَ وأمِّه، وقولِ اللهِ تعالَى:


﴿وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبۡرَ ٰ⁠هِیمَ خَلِیلࣰا﴾ [النساء:١٢٥]، وقولِهِ ﷿: ﴿إِنَّ إِبۡرَ ٰ⁠هِیمَ لَأَوَّ ٰ⁠هٌ حَلِیمࣱ﴾ [التوبة:١١٤]
• [خت] قال أبو مَيْسَرة: الرَّحيمُ بلسانِ الحَبَشةِ.
١٥٤٣. [ق] مِن حديث ابن عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ عُرَاةً حُفَاةً غُرْلًا». ثُمَّ قَرَأَ: «﴿كَمَا بَدَأۡنَاۤ أَوَّلَ خَلۡقࣲ نُّعِیدُهُۥ﴾ [الأنبياء:١٠٤]، وَأَوَّلُ مَنْ يُكْسَى يَوْمَ القِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ» الحديثَ[خ: ٣٣٤٩]، وسيأتي إنْ شاء الله تعالى [ر:١٥٧٥].
1. قال ابن هبيرة: «في الحديث أن ما يقع من بدن الآدمي في الدنيا يعاد إليه ولا يضاع بقوله: (غرلاً)».
2. قوله: (وَأَوَّلُ مَنْ يُكْسَى يَوْمَ القِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ)، قال ابن حجر: ««يقال إن الحكمة في خصوصية إبراهيم بذلك لكونه ألقي في النار عريانا، وقيل: لأنه أول من لبس السراويل، ولا يلزم من خصوصيته عليه السلام بذلك تفضيله على نبينا محمد ﷺ؛ لأن المفضول قد يمتاز بشيء يخص به ولا يلزم منه الفضيلة المطلقة».

١٥٤٤. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ، فَيَقُولُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ لَا تَعْصِني؟ فَيَقُولُ أَبُوهُ: فَاليَوْمَ لَا أَعْصِيكَ. فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: يَا رَبِّ إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ لَا تُخْزِيَنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ، فَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الأَبْعَدِ؟ فَيَقُولُ اللهُ: إِنِّي حَرَّمْتُ الجَنَّةَ عَلَى الكَافِرِينَ. ثُمَّ يُقَالُ: يَا إِبْرَاهِيمُ، مَا تَحْتَ رِجْلَيْكَ؟ فَيَنْظُرُ فَإِذَا هُوَ بِذِيخٍ مُلْتَطِخٍ، فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ». [خ: ٣٣٥٠]
1. قال ابن حجر: «إنّ إبراهيم تبرّأ من أبيه في الدنيا لمّا مات مشركًا فترك الاستغفار له، لكن لمّا رآه يوم القيامة أدركته الرّأفة والرّقّة فسأل فيه فلمّا رآه مسخ يئس منه حينئذٍ فتبرأ منه تبرؤاً أبديًّا».

١٥٤٥. وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ لَمَّا رَأَى الصُّوَرَ فِي البَيْتِ لَمْ يَدْخُلْ حَتَّى/ أَمَرَ بِهَا فَمُحِيَتْ، وَرَأَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ بِأَيْدِيهِمَا الأَزْلَامُ، فَقَالَ: «قَاتَلَهُمُ اللهُ، وَاللهِ إِنِ اسْتَقْسَمَا بِالأَزْلَامِ قَطُّ». [خ: ٣٣٥٢]
١٥٤٦. [ق] وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ النَّبيُّ ﷺ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً بِالقَدُّومِ». [خ: ٣٣٥٦] مشدَّدة الدَّال.
• وفي رواية: قال أبو الزِّناد: «بِالقَدُومِ» مُخَفَّفَةً. [خ: ٣٣٥٦]
1. فيه: أنّ الختان من سنن الفطرة، وأنّه يفعله الكبير والصّغير.

١٥٤٧. [ق] وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ، ثِنْتَيْنِ مِنْها فِي ذَاتِ اللهِ، قَوْلُهُ: ﴿إِنِّی سَقِیمࣱ﴾ [الصافات:٨٩]، وَقَوْلُهُ: ﴿بَلۡ فَعَلَهُۥ كَبِیرُهُمۡ هَـٰذَا﴾ [الأنبياء:٦٣]، وَقَالَ: بَيْنَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ وَسَارَةُ، إِذْ أَتَى عَلَى جَبَّارٍ مِنَ الجَبَابِرَةِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ هَاهُنَا رَجُلًا مَعَهُ امْرَأَةٌ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَسْأَلَهُ عَنْهَا، فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَ: أُخْتِي. فَأَتَى سَارَةَ فقَالَ: يَا سَارَةُ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرَكِ، وَإِنَّ هَذَا سَأَلَنِي فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّكِ أُخْتِي، فَلَا تُكَذِّبِينِي. فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ ذَهَبَ يَتَنَاوَلُهَا بِيَدِهِ فَأُخِذَ، فَقَالَ: ادْعِي اللهَ لِي وَلَا أَضُرُّكِ. فَدَعَتِ اللهَ فَأُطْلِقَ، ثُمَّ تَنَاوَلَهَا ثَانيةً فَأُخِذَ مِثْلَهَا أَوْ أَشَدَّ، فَقَالَ: ادْعِي اللهَ لِي وَلَا أَضُرُّكِ. فَدَعَتْ فَأُطْلِقَ، فَدَعَا بَعْضَ حَجَبَتِهِ، فَقَالَ: إِنَّكَ لَمْ تَأْتِنِي بِإِنْسَانٍ، إِنَّمَا أَتَيْتَنِي بشَيْطَانٍ. فَأَخْدَمَهَا هَاجَرَ، فَأَتَتْهُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ: مَهْيَم؟ قَالَتْ: رَدَّ اللهُ كَيْدَ الكَافِرِ -أَوِ الفَاجِرِ- فِي نَحْرِهِ، وَأَخْدَمَ هَاجَرَ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: تِلْكَ أُمُّكُمْ يَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ. [خ: ٣٣٥٨]
1. في الحديث بيان مشروعية أن يقال أخي في غير النسب ويراد به الأخوة في الإسلام.
2. وفيه قبول صلة الملك الظالم وقبول هدية المشرك.
3. وفيه إجابة الدعاء بإخلاص النية.
4. وفيه أن الله يبتلي الصالحين ليرفع درجاتهم.
5. وفيه أن من نابه أمر مهم من الكرب ينبغي له أن يفزع إلى الصلاة.
6. قوله: (قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: تِلْكَ أُمُّكُمْ يَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ) قال النووي: «قال كثيرون: المراد ببني ماء السماء العرب كلهم، لخلوص نسبهم، وصفائه، وقيل: لأن أكثرهم أصحاب مواشي، وعيشهم من المرعى والخصب، وما ينبت بماء السماء».
7. أنّ في المعاريض نجاةً من الوقوع في الكذب.

١٥٤٨. [ق] وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ ﷺ يَوْمًا بِلَحْمٍ فَقَالَ: «إِنَّ اللهَ يَجْمَعُ يَوْمَ القِيَامَةِ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي وَيُنْفِذُهُمُ البَصَرُ، وَتَدْنُو الشَّمْسُ مِنْهُمْ -فَذَكَرَ حَدِيثَ الشَّفَاعَةِ- فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ نَبِيُّ اللهِ وَخَلِيلُهُ مِنَ أَهْلِ الأَرْضِ، اّْشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، وَيَقُولُ: -فَذَكَرَ كَذَبَاتِهِ- نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى مُوسَى». تَابَعَهُ أَنَسٌ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ. [خ: ٣٣٦١]
١٥٤٩. وعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عن ابْنِ عَبَّاسٍ قال: أَوَّلَ مَا اتَّخَذَ النِّسَاءُ المِنْطَقَ مِنْ قِبَلِ أُمِّ إِسْمَاعِيلَ، اّْتَّخَذَتْ مِنْطَقًا لِتُعَفِّيَ أَثَرَهَا عَلَى سَارَةَ، ثُمَّ جَاءَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُرْضِعُهُ، حَتَّى وَضَعَهَا عِنْدَ البَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ فَوْقَ زَمْزَمَ فِي أَعْلَى المَسْجِدِ، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ، وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ، فَوَضَعَها هُنَالِكَ، وَوَضَعَ عِنْدَها جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ، وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ، ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا، فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ:/ يَا إِبْرَاهِيمُ، أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ أَنيسٌ وَلَا شَيْءٌ؟ فَقَالَتْ ذَلِكَ مِرَارًا، وَجَعَلَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: آللهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَتْ: إِذَنْ لَا يُضَيِّعُنَا. -وفي رواية [خ:٣٣٦٥]: حَتَّى لَمَّا بَلَغُوا كُدَىَ نَادَتْهُ مِنْ وَرَائِهِ: يَا إِبْرَاهِيمُ إِلَى مَنْ تَتْرُكُنَا؟ قَالَ: إِلَى اللهِ. قَالَتْ: رَضِيتُ.- قال: فرَجَعَتْ. فَانْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُ اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ البَيْتَ، ثُمَّ دَعَا بِهَؤُلَاءِ الدَّعَواتِ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: رَبِّ ﴿ إِنِّیۤ أَسۡكَنتُ مِن ذُرِّیَّتِی بِوَادٍ غَیۡرِ ذِی زَرۡعٍ ﴾حَتَّى بَلَغَ:﴿یَشۡكُرُونَ﴾[إبراهيم:٣٧] وَجَعَلَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ تُرْضِعُ إِسْمَاعِيلَ وَتَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ المَاءِ، حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا فِي السِّقَاءِ عَطِشَتْ وَعَطِشَ ابْنُهَا، وَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتَلَوَّى -أَوْ قَالَ: يَتَلَبَّطُ، وفي رواية [خ:٣٣٦٥]: كأنَّه ينْشَغُ للمَوْتِ- فَانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَوَجَدَتِ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ فِي الأَرْضِ إِليها، فَقَامَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتِ الوَادِيَ تَنْظُرُ هَلْ تَرَى أَحَدًا؟ فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَهَبَطَتْ مِنَ الصَّفَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الوَادِيَ رَفَعَتْ طَرَفَ دِرْعِهَا، ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الإِنْسَانِ المَجْهُودِ حَتَّى جَاوَزَتِ الوَادِيَ، ثُمَّ أَتَتِ المَرْوَةَ فَقَامَتْ عَلَيْهَا وَنَظَرَتْ هَلْ تَرَى أَحَدًا؟ فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ -قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «فَذَلِكَ سَعْيُ النَّاسِ بَيْنَهُمَا»- فَلَمَّا أَشْرَفَتْ عَلَى المَرْوَةِ سَمِعَتْ صَوْتًا، فَقَالَتْ: صَهٍ -تُرِيدُ: نَفْسَهَا-، ثُمَّ تَسَمَّعَتْ، فَسَمِعَتْ أَيْضًا، فَقَالَتْ: قَدْ أَسْمَعْتَ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ غِوَاثٌ. فَإِذَا هِيَ بِالمَلَكِ عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ، فَبَحَثَ بِعَقِبِهِ -أَوْ قَالَ: بِجَنَاحِهِ- حَتَّى ظَهَرَ المَاءُ، فَجَعَلَتْ تُحَوِّضُهُ وَتَقُولُ بِيَدِهَا هَكَذَا، وَجَعَلَتْ تَغْرِفُ مِنَ المَاءِ فِي سِقَائِهَا وَهُوَ يَفُورُ بَعْدَمَا تَغْرِفُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «يَرْحَمُ اللهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ، لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ -أَوْ قَالَ: لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنَ المَاءِ- لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا» -وفي رواية [خ:٣٣٦٥] أنَّها قالت بَعد السَّبع: لَو ذَهَبتُ فنَظَرَتُ مَا فَعلَ. فَإِذَا هِيَ بِصَوْتٍ، فَقَالَتْ: أَغِثْ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ خَيْرٌ. فَإِذَا جِبْرِيلُ، قَالَ: فَقَالَ بِعَقِبِهِ هَكَذَا، وَغَمَزَ عَقِبَهُ عَلَى الأَرْضِ، قَالَ: فَانْبَثَقَ المَاءُ، فَدَهَشَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ، فَجَعَلَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيل تَحْفِرُ، قَالَ: فَقَالَ أَبُو القَاسِمِ ﷺ: «لَوْ تَرَكَتْهُ/ كَانَ المَاءُ ظَاهِرًا»- قال: فَشَرِبَتْ وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا، فَقَالَ لَهَا المَلَكُ: لَا تَخَافُوا الضَّيْعَةَ، فَإِنَّ هَاهُنَا بَيْتَ اللهِ، يَبْنِيه هَذَا الغُلَامُ وَأَبُوهُ، وَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَهْلَهُ. وَكَانَ البَيْتُ مُرْتَفِعًا مِنَ الأَرْضِ كَالرَّابِيَةِ، تَأْتِيهِ السُّيُولُ فَتَأْخُذُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَن شِمَالِهِ، فَكَانَتْ كَذَلِكَ حَتَّى مَرَّتْ بِهِمْ رُفْقَةٌ مِنْ جُرْهُمَ -أَوْ: أَهْلُ بَيْتٍ مِنْ جُرْهُمَ- مُقْبِلِينَ مِنْ طَرِيقِ كَدَاءٍ، فَنَزَلُوا فِي أَسْفَلِ مَكَّةَ، فَرَأَوْا طَائِرًا عَائِفًا، فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا الطَّائِرَ لَيَدُورُ عَلَى مَاءٍ، لَعَهْدُنَا بِهَذَا الوَادِي وَمَا فِيهِ مَاءٌ. فَأَرْسَلُوا جَرِيًّا أَوْ جَرِيَّيْنِ فَإِذَا هُمْ بِالمَاءِ، فَرَجَعُوا فَأَخْبَرُوهُمْ بِالمَاءِ فَأَقْبَلُوا، وَأُمُّ إِسْمَاعِيلَ عِنْدَ المَاءِ، فَقَالُوا: أَتَأْذَنِينَ لَنَا أَنْ نَنْزِلَ عِنْدَكِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، وَلَكِنْ لَا حَقَّ لَكُمْ فِي المَاءِ. قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «فَأَلْفَى ذَلِكَ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُحِبُّ الأُنْسَ»، فَنَزَلُوا وَأَرْسَلُوا إِلَى أَهْلِيهِمْ فَنَزَلُوا مَعَهُمْ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِهَا أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْهُمْ، وَشَبَّ الغُلَامُ وَتَعَلَّمَ العَرَبِيَّةَ مِنْهُمْ، وَأَنْفَسَهُمْ وَأَعْجَبَهُمْ حِينَ شَبَّ، فَلَمَّا أَدْرَكَ زَوَّجُوهُ امْرَأَةً مِنْهُمْ، وَمَاتَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ، فَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ بَعْدَمَا تَزَوَّجَ إِسْمَاعِيلُ يُطَالِعُ تَرِكَتَهُ، فَلَمْ يَجِدْ إِسْمَاعِيلَ، فَسَأَلَ امْرَأَتَهُ عَنْهُ فَقَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا، ثُمَّ سَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ، فَقَالَتْ: نَحْنُ بِشَرٍّ، نَحْنُ فِي ضِيقٍ وَشِدَّةٍ. وَشَكَتْ إِلَيْهِ، قَالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ اقْرَئِي﵇، وَقُولِي لَهُ يُغَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِهِ. فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ كَأَنَّهُ آنَسَ شَيْئًا، فَقَالَ: هَلْ جَاءَ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، جَاءَنِي شَيْخٌ كَذَا وَكَذَا، فَسَأَلَنَا عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ، وَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا، فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا فِي جَهْدٍ وَشِدَّةٍ. قَالَ: فَهَلْ أَوْصَاكِ بِشَيْءٍ؟ قَالَتْ: أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ السَّلَامَ، وَيَقُولُ: غَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِكَ. قَالَ: ذَاكِ أَبِي، وَقَدْ أَمَرَنِي أَنْ أُفَارِقَكِ، الحَقِي بِأَهْلِكِ. فَطَلَّقَهَا، وَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ أُخْرَى، فَلَبِثَ عَنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ أَتَاهُمْ بَعْدُ فَلَمْ يَجِدْهُ، وَدَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ فَسَأَلَهَا عَنْهُ، فَقَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا. قَالَ: كَيْفَ أَنْتُمْ؟ وَسَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهِمَّتِهِمْ، فَقَالَتْ: نَحْنُ بِخَيْرٍ وَسَعَةٍ. وَأَثْنَتْ عَلَى اللهِ، قَالَ: مَا طَعَامُكُمْ؟ قَالَتِ: اللَّحْمُ. قَالَ فَمَا شَرَابُكُمْ؟ قَالَتِ: المَاءُ. قَالَ: اللهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي اللَّحْمِ وَالمَاءِ. قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ/ حَبٌّ، وَلَوْ كَانَ لَهُمْ دَعَا لَهُمْ فِيهِ». قَالَ: فَهُمَا لَا يَخْلُو عَلَيْهِمَا أَحَدٌ بِغَيْرِ مَكَّةَ إِلَّا لَمْ يُوَافِقَاهُ، قَالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي﵇، وَمُرِيهِ يُثْبِتُ عَتَبَةَ بَابِهِ. فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ قَالَ: هَلْ أَتَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، أَتَانَا شَيْخٌ حَسَنُ الهَيْئَةِ -وَأَثْنَتْ عَلَيْهِ- فَسَأَلَنِي عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا؟ فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا بِخَيْرٍ. قَالَ: فَأَوْصَاكِ بِشَيْءٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، هُوَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ، وَيَأْمُرُكَ أَنْ تُثْبِتَ عَتَبَةَ بَابِكَ. قَالَ: ذَاكِ أَبِي وَأَنْتِ العَتَبَةُ، أَمَرَنِي أَنْ أُمْسِكَكِ. ثُمَّ لَبِثَ عَنْهُمْ مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِسْمَاعِيلُ يَبْرِي نَبْلًا لَهُ تَحْتَ دَوْحَةٍ قَرِيبًا مِنْ زَمْزَمَ، فَلَمَّا رَآهُ قَامَ إِلَيْهِ، فَصَنَعَا كَمَا يَصْنَعُ الوَالِدُ بِالوَلَدِ وَالوَلَدُ بِالوَالِدِ، ثُمَّ قَالَ: يَا إِسْمَاعِيلُ، إِنَّ اللهَ أَمَرَنِي بِأَمْرٍ. قَالَ: فَاصْنَعْ مَا أَمَرَكَ رَبُّكَ، قَالَ: وَتُعِينُنِي؟ قَالَ: وَأُعِينُكَ. قَالَ: فَإِنَّ اللهَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ هَاهُنَا بَيْتًا. وَأَشَارَ إِلَى أَكَمَةٍ مُرْتَفِعَةٍ عَلَى مَا حَوْلَهَا، قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ رَفَعَا القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ، فَجَعَلَ إِسْمَاعِيلُ يَأْتِي بِالحِجَارَةِ وَإِبْرَاهِيمُ يَبْنِي، حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَ البِنَاءُ، جَاءَ بِهَذَا الحَجَرِ فَوَضَعَهُ لَهُ، فَقَامَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَبْنِي وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الحِجَارَةَ، وَهُمَا يَقُولَانِ: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلۡ مِنَّاۤ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِیعُ ٱلۡعَلِیمُ﴾ [البقرة:١٢٧]. [خ: ٣٣٦٤]
• وفي رواية: قال حَتَّى ارْتَفَعَ البِنَاءُ، وَضَعُفَ الشَّيْخُ عَنْ نَقْلِ الحِجَارَةِ، فَقَامَ عَلَى حَجَرِ المَقَامِ، فَجَعَلَ يُنَاوِلُهُ الحِجَارَةَ وَيَقُولَانِ: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلۡ مِنَّاۤ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِیعُ ٱلۡعَلِیمُ﴾ [البقرة:١٢٧]. [خ:٣٣٦٥]
الغريب: (غُرْلًا): غير مَخْتُونين. والغُرْلَة: ما يقطعهُ الخاتن، وَهي القُلْفَة. و(الذِّيخ) بالذَّال والخاء المعجمتين مِن فوقهما: ذَكَر الضِّبْعَان. (يُناولها) بضمِّ الياء، أي: يُعْطيها يده لتواقعه. و(تَنَاوَلَها) بالتَّاء باثنتين مِن فوقها، مدَّ يده ليأخذها، والله أعلم. و(المِنْطَقُ): الثَّوب يُشدُّ على الوَسط، وربَّما ينجرُّ على الأرض. و(تُعْفِّي): تُخفي وتمحو لأجل غَيْرة سَارة. (قَفَّى): ولَّاها قفاه، وهي مشدَّدة الفاء. و(كُدَىَ): الأوَّل موضع بأسفل مكَّة، وهو بضمِّ الكاف والقَصر. و(كَدَاء) الثَّاني ثَنِيَّة بأعلى مكَّة، وهي بفتح الكاف والمدِّ. و(يَنْشَغُ للمَوت): يشهقُ وتَضِيق نَفْسهُ. و(المجهود): الذي بلَغَ منه التَّعب والجهد. و(صَهْ): اسكت، تقول ذلك لنفسها. (فبَحَثَ): يحكُّ بجناحه ويمسحُ. و(تُحَوِّضُه): تُصَيِّرُه كالحوض، وهو مجتمع الماء./ (مَعينًا) بفتح الميم، كثيرًا طيِّبًا. و(عائفًا): طالبًا للماء هنا. و(الدَّوحة): الشَّجرة العظيمة. و(أَنْفَسهم): أي: صَار نفيسًا فيهم، أي: رفيعًا بحيث يُتنافس في الوصول إليه. و(الجَرِيُّ): بالياء المشدَّدة: الرَّسول المسرع؛ لأنَّه يَجْرِي.
1. (اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ البَيْتَ) فيه دليل على استحباب استقبال القبلة عند الدعاء، وكذلك رفع اليدين فيه.
2. قال ابن الجوزي: «كان ظهور زمزم نعمة من الله لا دخل للبشر فيه، وهي نعمة محضة بغير عمل عامل، فلمّا خالطها تحويط هاجر خالطها عمل الناس وداخلها كسب البشر، فقصرت على ذلك، وتوقفت».
3. وفيه: ما يدلّ على أنّ إبراهيم عليه السّلام خليل الله حقًّا، وأنّ محبّته لله قد تغلّبت على كلّ مشاعره، فأطاعه في كلّ شيءٍ حتّى في مفارقة ولده.
4. وفيه: أصل مشروعيّة السّعي بين الصّفا والمروة، وأنّ هاجر كانت أوّل من سعى بينهما.
5. وفيه: أنّ العرب ليسوا جميعًا من نسل إسماعيل عليه السّلام؛ لأنّ قبيلة جرهم العربيّة كانت قبل إسماعيل عليه السّلام.
6. وفيه: أنّ المرأة كثيرة الشّكوى والتّبرّم من عيشها، والجاحدة لنعمة الله عليها؛ هي في الحقيقة امرأة سوء.

٦- بابٌ: في ذِكْر صالحٍ،


وقولِهِ تَعالى: ﴿كَذَّبَ أَصۡحَـٰبُ ٱلۡحِجۡرِ ٱلۡمُرۡسَلِینَ﴾ الآيات [الحِجْر: ٨٠]
١٥٥٠. [ق] عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَمْعَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ، وَذَكَرَ الَّذِي عَقَرَ النَّاقَةَ فقَالَ: «انْتَدَبَ لَهَا رَجُلٌ ذُو عِزٍّ وَمَنَعَةٍ فِي قَوْمِهِ كَأَبِي زَمْعَةَ». [خ: ٣٣٧٧]
١٥٥١. [ق] وعَنِ ابنِ عُمَرَ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ لما نَزَلَ الحِجْر -في رواية [خ:٣٣٧٩]: أَرْضَ ثَمُودَ، الحِجْرَ- فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ أَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَشْرَبُوا مِنْ بِئْرِهَا، وَلَا يَسْتَقُوا مِنْهَا، فَقَالُوا: قَدْ عَجَنَّا مِنْهَا وَاسْتَقَيْنَا. فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَطْرَحُوا ذَلِكَ العَجِينَ، وَيُهَرِيقُوا ذَلِكَ المَاءَ. [خ: ٣٣٧٨]
• وفي رواية: وَأَنْ يَعْلِفُوا الإِبِلَ العَجِينَ، وَأَنْ يَسْتَقُوا مِنَ البِئْرِ الَّتِي كَانَ تَرِدُهَا النَّاقَةُ. [خ:٣٣٧٩]
• [خت] وفي رواية: أَمَرَنَا بِإِلْقَاءِ الطَّعَامِ. [خت: ٣٣٧٨]
١٥٥٢. [ق] وعنه أنَّ النَّبيَّ ﷺ لما مرَّ بالحِجْرِ قال: «لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ»، ثُمَّ تَقَنَّعَ بِرِدَائِهِ وَهُوَ عَلَى الرَّحْلِ. [خ: ٣٣٨٠]
الغريب: (الحِجْر): المَحْجُور عليه؛ أي: المُحاط به، ومنه الحُجْرَة، وأصله: البناء المحيط، وقد يُقال على الحرام، ومنه: ﴿حِجۡرࣰا مَّحۡجُورࣰا﴾ [الفرقان:٢٢] وهو بكسر الحاء، وكذلك العَقْل، والأنثى مِن الخيل، فأمَّا حَجْرُ اليمامة فهو بفتح الحاء، وهو المنزل فيها. و(أبو زَمعة) قيل: اسمه: عُبَيد، وهو بَلَويٌّ صحابيٌّ ممَّن بايع عند الشَّجرة، قالَه أَبو عُمرَ.

٧- بابٌ: في ذِكْر يُوسُفَ وأيُّوبَ ﵉،


وقوله تعالى: ﴿لَّقَدۡ كَانَ فِی یُوسُفَ وَإِخۡوَتِهِۦۤ ءَایَـٰتࣱ لِّلسَّاۤىِٕلِینَ﴾ [يوسف:٧]
١٥٥٣. [ق] عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ؟ قَالَ: «أَتْقَاهُمْ لِلَّهِ». قَالُوا:/ لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ. قَالَ: «فَأَكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ اللهِ، ابْنُ نَبِيِّ اللهِ، ابْنِ نَبِيِّ اللهِ، ابْنِ خَلِيلِ اللهِ». قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ، قَالَ: «فَعَنْ مَعَادِنِ العَرَبِ تَسْأَلُونَنِي؟ النَّاسُ مَعَادِنُ، خِيَارُهُمْ فِي الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإِسْلَامِ، إِذَا فَقُهُوا». [خ: ٣٣٨٣]
1. قوله: (قالوا يا نبي الله! ليس عن هذا نسألك، قال: فأكرم الناس يوسف)، قال ابن حجر: «الجواب الأول: من جهة الشرف بالأعمال الصالحة، والثاني: من جهة الشرف بالنسب الصالح».
2. قال النووي: «قد جمع يوسف ﷺ مكارم الأخلاق، مع شرف النبوة، مع شرف النسب، وكونه نبيا ابن ثلاثة أنبياء متناسلين أحدهم خليل الله ﷺ، وانضم إليه شرف علم الرؤيا وتمكنه فيه، ورياسة الدنيا، وملكها بالسيرة الجميلة، وحياطته للرعية، وعموم نفعه إياهم، وشفقته عليهم، وإنقاذه إياهم من تلك السنين».
3. قال النووي: «قال العلماء: لما سئل ﷺ: أي الناس أكرم؟ أخبر بأكمل الكرم وأعمه، فقال: أتقاهم لله، والكرم كثرة الخير، ومن كان متقيا كان كثير الخير وكثير الفائدة في الدنيا، وصاحب الدرجات العلا في الآخرة، فلما قالوا: ليس عن هذا نسألك قال: فأكرم الناس يوسف الذي جمع خيرات الآخرة والدنيا وشرفهما».
4. وفيه دليل على شرف الفقه في الدين.

١٥٥٤. [ق] وعنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «يَرْحَمُ اللهُ لُوطًا، لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ، وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ يُوسُفُ، ثُمَّ أَتَانِي الدَّاعِي لَأَجَبْتُهُ». [خ: ٣٣٨٧]
1. قوله: (يَرْحَمُ اللهُ لُوطًا، لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ): قال النووي: «المراد بالركن الشديد، هو الله سبحانه وتعالى، فإنه أشد الأركان وأقواها وأمنعها، ومعنى الحديث والله أعلم، أن لوطاً عليه السلام لما خاف على أضيافه، ولم يكن له عشيرة تمنعهم من الظالمين، ضاق ذرعه واشتد حزنه عليهم، فغلب ذلك عليه، فقال في ذلك الحال: لو أن لي بكم قوة في الدفع بنفسي أو آوي إلى عشيرة تمنع لمنعتكم، وقصد لوط عليه السلام إظهار العذر عند أضيافة، وأنه لو استطاع دفع المكروه عنهم بطريق ما لفعله، وأنه بذل وسعه في إكرامهم والمدافعة عنهم، ولم يكن ذلك إعراضاً منه ﷺ عن الاعتماد على الله تعالى، وإنما كان لما ذكرناه من تطييب قلوب الأضياف».
2. قوله: (وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ يُوسُفُ، ثُمَّ أَتَانِي الدَّاعِي لَأَجَبْتُهُ) قال النووي: «هو ثناء على يوسف عليه الصلاة والسلام، وبيان لصبره وتأنيه، والمراد بالداعي رسول الملك الذي أخبر الله سبحانه وتعالى أنه قال: {وَقَالَ ٱلۡمَلِكُ ٱئۡتُونِی بِهِۦۖ فَلَمَّا جَاۤءَهُ ٱلرَّسُولُ قَالَ ٱرۡجِعۡ إِلَىٰ رَبِّكَ فَسۡـَٔلۡهُ مَا بَالُ ٱلنِّسۡوَةِ ٱلَّـٰتِی قَطَّعۡنَ أَیۡدِیَهُنَّۚ} [سورة يوسف:50]. فلم يخرج يوسف عليه السلام مبادراً إلى الراحة ومفارقة للسجن الطويل، بل تثبت وتوقر وراسل الملك في كشف أمره الذي سجن بسببه، ولتظهر براءته عند الملك وغيره، ويلقاه مع اعتقاده براءته مما نسب إليه، ولا خجل من يوسف ولا غيره، فبين نبينا ﷺ فضيلة يوسف عليه السلام في هذا وقوة نفسه في الخير وكمال صبره وحسن نظره، وقال النبي ﷺ عن نفسه ما قال تواضعاً وإيثاراً للإبلاغ في بيان كمال فضيلة يوسف عليه السلام».

تنبيه: ظاهره عتبٌ على لوط؛ إذِ التفتَ إلى مَن يُركن إليه مِن الخَلْق، ويحتمل أن يكون قوله: (يَرْحَمُ اللهُ لُوطًا) افتتاحًا للكلام بالدُّعاء له بالرَّحمة، فإنَّه قد كان مِن شأنه أن يقول إذا أراد ذِكْرَ نبيٍّ: (رحمة الله علينا وعلى فلان) ، وحينئذٍ يكون قوله: (لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ) خبرًا عن قوَّة اعتماد لوطٍ على الله تعالى، لكنَّه اعتذر للضَّيف بذلك القول، والله أعلم.
١٥٥٥. وعنهُ عَنِ النَّبيِّ ﷺ قال: «بَيْنَمَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا، خَرَّ عَلَيْهِ رِجْلُ جَرَادٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ يَحْثِي فِي ثَوْبِهِ، فَنَادَاهُ رَبُّهُ: يَا أَيُّوبُ، أَلَمْ أَكُنْ أَغْنَيْتُكَ عَمَّا تَرَى؟ فَقَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، وَلَكِنْ لَا غِنَى لِي عَنْ بَرَكَتِكَ». [خ: ٣٣٩١]
1. قال الطّيّبي: «هذا ليس بعتابٍ منه تعالى، إنّ الإنسان وإن كان مثريًا لا يشبع بثراه؛ بل يريد المزيد عليه، بل من قبيل التّلطّف والامتحان بأنّه هل يشكر على ما أنعم عليه، فيزيد في الشّكر، وإليه الإشارة بقوله: (ولكن لا غنى)؛ أي: لا استغناء (بي عن بركتك)؛ أي: عن كثرة نعمتك، وزيادة رحمتك».
2. سمي هذا الذهب بركة؛ لأنه أرسل على أيوب ﷺ بدون صنع آدمي أو تعبه؛ بل هو من عند الله تعالى، ففي ذلك طلب الزيادة من الخير.
3. في الحديث: مشروعيّة الحرص على المال الحلال
4. وفيه: بيان فضل الغنى لمن شكر؛ لأنّه سمّاه بركةً.

٨- ذِكْر موسى ﵇


١٥٥٦. [ق] عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبيُّ ﷺ: «لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رَأَيْتُ مُوسَى وَإِذَا هُوَ رَجُلٌ ضَرْبٌ رَجِلٌ، كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَرَأَيْتُ عِيسَى، فَإِذَا هُوَ رَجُلٌ رَبْعَةٌ أَحْمَرُ، كَأَنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ، وَأَنَا أَشْبَهُ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ بِهِ، ثُمَّ أُتِيتُ بِإِنَاءَيْنِ: فِي أَحَدِهِمَا لَبَنٌ وَفِي الآخَرِ خَمْرٌ، فَقَالَ: اّْشْرَبْ أَيَّهُمَا شِئْتَ. فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ فَشَرِبْتُهُ، فَقِيلَ: أَخَذْتَ الفِطْرَةَ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَخَذْتَ الخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ». [خ: ٣٣٩٤]
1. قال ابن حجر: «يؤخذ من قول جبريل عليه السلام (غَوَتْ أُمَّتُكَ)، أن الخمر ينشأ عنها الغي، ولا يختص ذلك بقدر معين».

١٥٥٧. [ق] وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْريِّ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «النَّاسُ يَصْعَقُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ العَرْشِ، فَلَا أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي أَمْ جُوزِيَ بِصَعْقَةِ الطُّورِ؟». [خ: ٣٣٩٨]
• وقد تقدَّم حديث موسى مع الخَضِر في الإيمان.
الغريب: (الدِّيماس): الحَمَّام. (الصَّعْقَة): صيحةٌ مُنكرةٌ، يكون معها موتٌ أو غَشْية. و(جُوزِيَ): أي: حُوسب بها، فلم يُصْعَق/ مع الأحياء حين صَعِقوا، ويُفهم منه أنَّ موسى وإن كان غائبًا عن عالمنا أنَّه حيٌّ ممَّن يمكن أن يُصعقَ مع مَن صَعِقَ مِن أحياء النَّاس في وقت نفخة الصَّعق، والله أعلم. ويدلُّ على هذا دلالة واضحة الحديث الآتي في وفاة موسى.

٩- بابٌ: في براءةِ مُوسَى مِن العُيوبِ واصْطفائِهِ ووَفاتِهِ


١٥٥٨. [ق] عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلًا حَيِيًّا سِتِّيرًا، لَا يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ، فَآذَاهُ مَنْ آذَاهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالُوا: مَا يَسْتَتِرُ هَذَا التَّسَتُّرَ إِلَّا مِنْ عَيْبٍ بِجِلْدِهِ: إِمَّا بَرَصٌ، وَإِمَّا آفَةٌ، وَإِمَّا أَدَرَةٌ. وَإِنَّ اللهَ ﷿ أَرَادَ أَنْ يُبَرِّئَهُ مِمَّا قَالُوا بِمُوسَى، فَخَلَا يَوْمًا وَحْدَهُ، فَوَضَعَ ثِيَابَهُ عَلَى الحَجَرِ، ثُمَّ اغْتَسَلَ، فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ إِلَى ثِيَابِهِ لِيَأْخُذَهَا، وَإِنَّ الحَجَرَ عَدَا بِثَوْبِهِ، فَأَخَذَ مُوسَى عَصَاهُ وَطَلَبَ الحَجَرَ، فَجَعَلَ يَقُولُ: ثَوْبِي حَجَرُ، ثَوْبِي حَجَرُ. حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَلَأِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَرَأَوْهُ عُرْيَانًا أَحْسَنَ مَا خَلَقَ اللهُ، وَأَبْرَأَهُ مِمَّا يَقُولُونَ». [خ: ٣٤٠٤]
1. في تتمة الحديث (وأخذ ثوبه، فطفق بالحجر ضربًا فقال أبو هريرة: واللّه إنّه لندبٌ بالحجر، ستّةٌ أو سبعةٌ، ضربًا بالحجر) قال النووي: «في الحديث معجزتين ظاهرتين لموسى ﷺ إحداهما مشي الحجر بثوبه إلى ملأ بني إسرائيل، والثانية حصول الندب في الحجر، ومنها وجود التمييز في الجماد كالحجر ونحوه، ومثله تسليم الحجر بمكة، وحنين الجذع».
2. قال النووي: «وفيه جواز الغسل عريانا في الخلوة، وإن كان ستر العورة أفضل، وبهذا قال الشافعي ومالك وجماهير العلماء».
3. قال النووي: «وفيه ما ابتلي به الأنبياء والصالحون من أذى السفهاء والجهال، وصبرهم عليهم».
4. قال القاضي عياض: «وفيه أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم منزهون عن النقائص في الخلق والخلق، سالمون من العاهات والمعايب».
5. قال النووي: «قالوا: ولا التفات إلى ما قاله من لا تحقيق له من أهل التاريخ في إضافة بعض العاهات إلى بعضهم، بل نزههم الله تعالى من كل عيب، وكل شيء يبغض العيون، أو ينفر القلوب».

١٥٥٩. [ق] وعنه قال: قال رَسولُ الله ﷺ: «احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ له مُوسَى: أَنْتَ آدَمُ الَّذِي أَخْرَجَتْك خَطَيْئَتُكَ مِنَ الجَنَّةِ؟ قَالَ له آدَمُ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاه اللهُ بِرِسَالَاتِهِ وَبكَلَامِهِ، ثُمَّ تَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قُدِّرَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ». فَقَالَ رَسولُ اللهِ ﷺ: «فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى». [خ: ٣٤٠٩]
1. قال ابن القيم: «الاحتجاج بالقدر على الذنب ينفع في موضع ويضر في موضع، فينفع إذا احتج به بعد وقوعه والتوبة منه وترك معاودته، كما فعل آدم فيكون في ذكر القدر إذ ذاك من التوحيد ومعرفة أسماء الرب وصفاته وذكرها ما ينتفع به الذاكر والسامع، وأما الموضع الذي يضر الاحتجاج به ففي الحال والمستقبل، بأن يرتكب فعلاً محرماً أو يترك واجباً فيلومه عليه لائم فيحتج بالقدر على إقامته عليه وإصراره، فيبطل بالاحتجاج به حقاً ويرتكب باطلاً، كما احتج به المصرون على شركهم وعبادتهم غير الله فقالوا: (لو شاء الله ما أشركنا ).
2. قال الخطابي: «يحسب كثير من الناس أن معنى القضاء والقدر يستلزم الجبر وقهر العبد، ويتوهم أن غلبة آدم كانت من هذا الوجه، وليس كذلك وإنما معناه الإخبار عن إثبات علم الله بما يكون من أفعال العباد وصدورها عن تقدير سابق منه»
.
3. قال ابن حجر: «في الحديث مناظرة العالم من هو أكبر منه، والابن أباه، ومحل مشروعية ذلك إذا كان لإظهار الحق، أو الازدياد من العلم والوقوف على حقائق الأمور».
4. قال ابن حجر: «في الحديث أنه يغتفر للشخص في بعض الأحوال ما لا يغتفر في بعض كحالة الغضب والأسف، وخصوصاً ممن طبع على حدّة الخلق وشدة الغضب، فإن موسى ﵇ لما غلبت عليه حالة الإنكار في المناظرة خاطب آدم مع كونه والده باسمه مجرداً وخاطبه بأشياء لم يكن ليخاطب بها في غير تلك الحالة، ومع ذلك أقرّه على ذلك وعدل إلى معارضته فيما أبداه من الحجة في دفع شبهته».

١٥٦٠. [ق] وعنه قال: أُرْسِلَ مَلَكُ المَوْتِ إِلَى مُوسَى، فَلَمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ، فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ، فَقَالَ: أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَا يُرِيدُ المَوْتَ. قَالَ: ارْجِعْ إليه، فَقُلْ لَهُ: يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ، فَلَهُ بِمَا غَطَّتْ يَدُهُ بِكُلِّ شَعَرَةٍ سَنَةٌ. قَالَ: أَيْ رَبِّ، ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: المَوْتُ. قَالَ: فَالآنَ. قَالَ: فَسَأَلَ اللهَ يُدْنِيَهُ مِنَ الأَرْضِ المُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ. قَالَ أَبو هُريرَةَ عَنِ النَّبيِّ ﷺ: «فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ عِنْدَ الكَثِيبِ الأَحْمَرِ». [خ: ٣٤٠٧]
تنبيه: (حَجَرُ): مضموم الرَّاء، على أنَّه منادى مفرد، محذوف حَرف النِّداء على الشَّاذِّ؛ كقولهم: أَطْرِق كَرَا، واّْفْتَدِ مَخْنُوقُ، والقياس أن لا يُحذف حرف النِّداء مع النَّكرات ولا مع المبهم./ وقوله: (فحجَّ آدمُ موسىَ) أي: غلبه بالحُجَّة، ووجهها أنَّ موسى قد أعلمه الله في التَّوراة بقضيَّة آدم، وبأنَّ الله تاب عليه منها، ورفع عنه المعاتبة والمؤاخذة، وأنَّه قد ردَّه إلى أحسنَ ممَّا كان قبل، فعتاب موسى لا موقعَ له، فكأنَّه قال له: كيف تُعتبني وتؤاخذني وقد علمتَ أنَّ الله أسقط عني ذلك. وكان بعض العارفين يقول: ذِكْرُ الجفاء في محلِّ الصَّفاء جفاء. والله أعلم. وصَكُّ موسى لملَك الموت إنَّما كان لأنَّه جاء ليقبض روحه ولم يُخيِّره، وكان موسى قد عَلِم أنَّ الله لا يقبض نبيًّا حتى يُخيَّر في الحياة وفي الموت كما قال نبيُّنا ﷺ: «إن الله لا يقبِضُ نبيًّا حتَّى يخيِّره»^([حم:٢٦٣٤٦]). فلمَّا جاء ملَك الموت بغير تخيير، فعل موسى معه فعل المؤدِّب، والله أعلم. وقد قيل غير ذلك على ما ذكرناه في كتابنا «المُفْهِم»^([٦/٢٢١]). وما ذكرناه في هذه المواضع المذكورة في هذا التَّنبيه هو أشبه ما قيل فيها إنْ شاء الله.

١ قال النبي ﷺ: "إنكم محشورون عراة حفاة غرلا … وأول من يكسى يوم القيامة (…)":

٥/٠